بعدد من الجغرافيين المعروفين لنا بل فى زيارة أضرحة الأولياء والمقامات الكثيرة التى سمع بها. وهذه التجوالات تقف أنموذجا حيا لتلك الرياضة الروحية التى سيطرت بمرور الزمن على دوائر عديدة والتى عرضها لنا بالكثير من المهارة جولدتسهرGoldziher (٣٩). وفى أواخر أيام حياته تمتع الهروى بنفوذ كبير لدى والى حلب وهو أحد أبناء صلاح الدين الأيوبى ، وشيد له الأمير مدرسة توفى بها ؛ وقد رأى قبره ابن خلكان (٤٠).
ونظرا لأنه اتخذ فى تجواله مسوح صوفى متسول فقد استطاع أن يحصل على ما يقيم أوده فى الطريق مستغلا فى ذلك أحيانا معرفته بالسحر وجميع ضروب المخاريق. ويبدو اهتمامه بعرض الدنيا أنه كتب اسمه أو نقشه فى كل مكان زاره ، وقد أبصر ابن خلكان بعينى رأسه أمثلة لذلك بعد نصف قرن من هذا (٤١). وعلى أية حال فقد كان الهروى كاتبا نقالة يرتبط اسمه ببعض المصنفات تارة من طراز «كتب الزيارات» المعروفة لنا وهى أشبه بمرشد للحجاج ، وطورا من طراز آخر معروف لنا أيضا وهو طراز «العجائب». وأشهر مصنفاته «كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات» الذى وإن لم يطبع إلى الآن (١) إلا أن الاقتباسات والترجمات العديدة منه تسمح بتكوين فكرة صحيحة عنه (٤٢). وتحيط بالكتاب ظاهرة فريدة هى أن المؤلف اعتمد على ذاكرته اعتمادا تاما أثناء تدوينه له ، ذلك أن الجانب الأكبر من أوراق الهروى ومدوناته فقد أثناء كارثة حلت بسفينته قرب عكا فى عام ١١٩٢ ؛ وهو يستدرك على نفسه أحيانا بقوله إن معلوماته عن بعض الأماكن التى لم يستطع زيارتها شخصيا قد أخذها ممن زاروها.
وقد بدأ الهروى تجواله من حلب فكانت الشام أولى الأقطار التى زارها ووصفها ، وقد حدث هذا بعد أعوام قليلة من زيارة ابن جبير. وأقام أثناء ١١٧٣ ـ ١١٧٤ ببيت المقدس تحت سلطان الصليبيين ، وهنا تظهر لنا جدوى اهتمامه بالنقوش فقد دون نقوشا ذات قيمة تاريخية كانت بمسجد عمر واختفت بعد ذلك. وزار على ممر الوقت أضرحة الأولياء وأماكن العبادة المعروفة بمصر وبلاد ق العرب والعرا وإيران والهند كما زار أيضا أراضى الدولة البيزنطية والقسطنطينية فى عهد الإمبراطور مانويل الأول من آل كومنين (١١٤٣ ـ ١١٨٠) وجرت له محادثة مع الإمبراطور كما يزعم. وفى صقلية سنحت له فرصة مراقبة ثوران بركان اتناEtna فى عام ١١٧٥ ؛ وهو وإن لم يزر الحبشة إلا أنه وصف الأماكن المشهورة بها عمن زاروا تلك البلاد.
وقد أسفر تحليل نقاط مختلفة من كتاب أنه لا يجب رفض مادة الهروى بحجة أنه رجل سهل التصديق لما يقال ومخادع ؛ وهذا هو موقف كاتب جغرافى واسع الاطلاع لا يخلو من الحذر مثل ياقوت. فهو رغما من أنه يشير إلى اسمه مرتين فقط (٤٣) إلا أنه كما ثبت من البحث الذى قام به بلوخ Bloch قد رجع إليه فيما يقرب من ثمانين مرة أمكن تحديدها بدقة تامة. والواقع أن ما نقله ياقوت عن الهروى يفوق
__________________
(*) نشره المعهد الفرنسى بدمشق سنة ١٩٥٣ بعناية جانين سورديل تومين Janine Sourdel ـ Thomine. (المترجم)