التقويم «الآثار الباقية عن القرون الخالية» الذى انتهى من تصنيفه وهو فى سن السابعة والعشرين تقريبا بجرجان ؛ وقد أصبح فى متناول الأيدى منذ السنوات السبعينات للقرن الماضى بفضل مجهودات العلامة زاخاوSachau. وفى الآونة الحاضرة اشتدت الحاجة إن لم يكن لطبعة جديدة فعلى الأقل إلى إضافة زيادات جوهرية إلى المتن الذى طبعه زاخاو. ويمكن بفضل المخطوطات التى كشفت منذ عهد غير بعيد ، ومن بينها واحدة بالاتحاد السوفيتى ، تدارك جميع الفجوات (Lacunae) الموجودة فى الأصول التى اعتمد عليها زاخاو والتى ترجع فى معظمها إلى عهود حديثة ، هذا بينما ترتفع المخطوطات التى تم العثور عليها أخيرا إلى القرن السابع (الثالث عشر الميلادى) وكثيرا ما تبين القراءة الصحيحة (٤٩). والكتاب فى جوهره خلاصة للتقاويم المختلفة فلكية كانت أم شعبية ؛ وهو يقدم لنا وصفا كاملا لجميع التوقيتات والأعياد المعمول بها عند الشعوب وفى الأديان المعروفة له كاليونان والرومان والفرس والصغد والخوارزميين والحرانيين والقبط والنصارى واليهود وعرب الجاهلية والمسلمين. ومصادره فى هذا الميدان غاية فى التنوع فهو يعتمد من ناحية على مؤلفات خاصة مفقودة بالنسبة لنا ، ومن ناحية أخرى على الرواية المتواترة التى تمتاز فى بعض الأحوال بقيمة نادرة. ويكفى فى هذا الصدد أن نلاحظ أنه وهو المسلم يقدم لنا أول وصف مفصل لنظام التوقيت عند اليهود (٥٠). أما فى مجال الجغرافيا الرياضية فلا تقتصر الأهمية على المادة نفسها بل تنتظم أيضا المنهج الأصيل الذى اتبعه البيرونى كتحليله المفصل لفكرته عن مساقط الخارطات (Cartographic Projections) الذى دفع أحد الأخصائيين المعاصرين إلى الاعتراف بأنه قد جمع إلى سعة العلم خيالا خصبا (٥١). وكما هو الشأن مع بقية مصنفاته فكذلك تبرز هنا بجلاء المميزات التى تنفرد بها معطيات البيرونى التى أخذ الاهتمام يزداد بها وفقا لاطراد الاكتشافات الجديدة وتقدم العلم المعاصر. ويمكن إدراك ذلك فى الآونة الحاضرة من الاهتمام المتزايد بحضارة الخوارزميين القدماء عندما وكدت الاكتشافات والأبحاث الأخيرة أهمية معطياته فيما يتعلق بلغتهم وتقويمهم.
ويلاحظ بوضوح فى هذا المصنف المبكر إحدى العلامات المميزة للبيرونى فيما بعد ، ذلك هو إحساسه القوى بقوميته الإيرانية. فالتراث الإيرانى فى تاريخ الحضارة البشرية يستأثر باهتمامه ، بينما يبدو العرب قبل الإسلام وكذلك دورهم فى الفتوحات الإسلامية فى صورة سلبية ؛ وهو يوجه نقده بصورة خاصة إلى فاتح بلاد ما وراء النهر المشهور قتيبة الباهلى لقضائه على حضارة خوارزم (٥٢). ولما كان البيرونى يحرص دائما على التزام الموضوعية (OBjectivity) فمن العسير اتهامه بمعاداة العرب (٥٣) ، فهو مثلا يعتقد أن اللغة العربية هى اللغة الوحيدة الجديرة بأن تكون لغة العلم (٥٤). وتقف تجربة حياته بأكملها برهانا على هذا ؛ وقد عبر عن رأيه فى اللغة العربية فى آخر مصنفاته وهو كتاب «الصيدنة» الذى وضعه بعد خمسين عاما تقريبا من تأليفه «للآثار الباقية». ففيه يقول :
«وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت إلى الأفئدة وسرت محاسن اللغة