الشمالية وآسيا الشرقية كما كان عليه الحال تماما من قبل. أما البيرونى فقد كان لديه عن جميع هذه المناطق معلومات وافية تعتمد لا على إلمامه التام بمؤلفات السابقين عليه بل وأيضا على المعلومات التى حصل عليها من الرحالة والتجار. ولقد كانت لديه فكرة عن بحر البلطيق والبحر الأبيض الشمالى (٣٧) ، وعرف الكثير عن سكان شمالى وشرقى أوروبا (٣٨) خاصة النورمان الاسكندنافيين الذين يدعوهم لا باسمهم المعهود فقط وهو الروس بل باسم الورنك (٣٩) أيضا ، وهو قد سمع بقصة الملاح الذى ضرب فى الأصقاع الشمالية فبلغ بقعة لا تغرب فيها الشمس صيفا (٤٠) ؛ ويورد لنا تفاصيل فريدة عن صناعة السيوف لدى الفرنجة والروس (٤١). وفيما يتعلق بسيبريا فإنه أول من أورد لنا ذكر نهر أنغراAngara والأقوام التى تقطن منطقة بحيرة بايكال Baikal (٤٢). وقد كانت معروفة له أيضا بلدان أفريقيا الواقعة إلى الجنوب من خط الاستواء فهو يذكر أن هناك أصقاعا جنوبية «يكون فيها الوقت شتاء عندما يكون لدينا صيفا».
ونظرية البحار كما عرفها البيرونى قد ثبّتت هذه التصورات فى الجغرافيا العربية لمدة طويلة ، إن لم نقل على الدوام. فياقوت الذى كثيرا ما نقل عن هذا المصنف للبيرونى (٤٣) ينقل عنه أيضا بعد مضى قرنين الوصف المشار إليه عن البحار بحذافيره ودون أية تغييرات باعتباره أفضل ما عرفه عن توزيع البحار على الأرض (٤٤) ؛ ونفس القول يصدق على أبى الفدا (٤٥) وذلك بعد قرن من ياقوت. وتمتاز بالصحة والدقة آراء البيرونى الأصيلة حول عدد من المسائل الجغرافية. فمؤرخو علم الجغرافيا يشيرون بالكثير من الاحترام (٤٦) إلى بحثه لمسائل مثل دوران الأرض حول محورها ، وخضوع منابع المياه لقواعد الهيدروستاتيكاHydrostatics ؛ وأنه كان محقا عندما قال بأن وادى السند كان يوما ما قاعا للبحر ثم غطته الرواسب الفيضية بالتدريج.
وإلى جانب العدد الكبير من الرسائل المختلفة فى الجغرافيا الرياضية ، والتى لم تكن فيما يبدو كبيرة الحجم ، ندين للبيرونى بمصنفات تشير أسماؤها إلى اهتمامه بالأنماط الجغرافية المعروفة لنا. فياقوت مثلا كثيرا ما ينقل عن مصنف له يحمل عنوان «تقاسيم الأقاليم» (٤٧) وذلك من نسخة خطية بقلم المؤلف ترجع إلى عام ٤٢٢ ه ـ ١٠٣١ (٤٨). وجميع هذه المصنفات لم تصل إلينا ومن ثم فسنقتصر فى تحليل آرائه فى الجغرافيا على مؤلفاته الكبرى التى تحمل طابعا جغرافيا صرفا ؛ غير أن استيعاب جميع المادة الجغرافية الموجودة بها أمر يحتاج إلى دراسة خاصة مهد لها الطريق أبحاث فيدمان Wiedemann رغما من أن مؤلفات البيرونى التى تم الكشف عنها أخيرا لم تكن فى متناول يده. ولن نستطيع هنا سوى الإشارة إلى الخطوط الرئيسية لمؤلفاته مع الوقوف عند نقاط معينة لأهميتها بالنسبة لتاريخ الأدب الجغرافى العربى.
وأول مؤلفات البيرونى الكبرى من الناحية الزمنية وأكثرها شهرة فى العلم الأوروبى هو كتابه فى