النّبي صلىاللهعليهوسلم التّبتّل على ابن مظعون (١) ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده ، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وسنّه لأمته ، واتّبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدي هدي نبيّنا محمدصلىاللهعليهوسلم ، فإذا كان كذلك تبيّن خطأ من آثر لباس الشعر والصّوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حلّه ، وآثر أكل الخشن من الطّعام ، وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.
وتأكّد مفهوم أوّل الآية بآخرها : (وَلا تَعْتَدُوا) فقد تضمن ذلك النّهي عن أمرين : أي لا تشددوا فتحرموا حلالا ، ولا تترخّصوا فتحلّوا حراما ، كما قال الحسن البصري.
وقال الإمام مالك : من حرّم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له ، أو شيئا مما أحلّ الله ، فلا شيء عليه ، ولا كفارة في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة : إنّ من حرّم شيئا صار محرّما عليه ، وإذا تناوله لزمته الكفارة. قال القرطبي : وهذا بعيد والآية تردّ عليه. وقال الشافعي وسعيد بن جبير : لغو اليمين تحريم الحلال.
وقوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) يشتمل التّمتّع بالأكل والشرب واللّباس والرّكوب ونحو ذلك. وخصّ الأكل بالذّكر ؛ لأنّه أعظم المقصود وأخصّ الانتفاعات بالإنسان. أمّا التّمتّع بالكماليات والتّرفه بالفاكهة ونحوها ، فرأى بعضهم صرف النفس عنها ، حتى لا يصير أسير شهواتها ، ومنقادا بانقيادها ، ورأى آخرون : أن تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها
__________________
(١) أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل ، فنهاه النّبي صلىاللهعليهوسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.