عمله في السّر ، فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على الفراش ؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال : «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني أصلّي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».
وخرّجه البخاري عن أنس أيضا بلفظ آخر ، قال : «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبي صلىاللهعليهوسلم يسألون عن عبادته ؛ فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها ، فقالوا : وأين نحن من النّبي صلىاللهعليهوسلم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر ، فقال أحدهم : أما أنا ، فإنّي أصلّي الليل أبدا. وقال آخر : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوّج أبدا. فجاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله ، إنّي لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلّي وأرقد ، وأتزوّج النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».
وهذا صريح في نبذ التّزمّت والتّشدّد والمبالغة في التّديّن ، وهو صريح أيضا في أنّ الإسلام دين اليسر والسّماحة ، أخرج الإمام أحمد عن أنس أنّ النّبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن هذا الدّين متين ، فأوغلوا فيه برفق». وأخرج أحمد أيضا عن أبي أمامة الباهلي أنّ النّبيصلىاللهعليهوسلم قال : «إنّي لم أبعث باليهوديّة ولا النّصرانية ، ولكنّي بعثت بالحنيفية السّمحة».
وقال علماء المالكية : في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها ردّ على غلاة المتزهّدين ، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين ؛ إذ كلّ فريق منهم قد عدل عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه (١) ؛ قال الطّبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيّبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقّة ، ولذلك ردّ
__________________
(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٢٦٢