والثالث : أنّ تكون بمعنى البدل كقوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] أي : بدلا من الآخرة وموضعها حال ، ومنه قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) أي : بدلا منكم.
والرابع : أن تكون لبيان الجنس كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] وهذه أشبه بالتي هي للابتداء ، فأمّا قولك : زيد أفضل من عمرو ف (من) فيه لابتداء الغاية والمعنى ابتداء معرفة فضل زيد من معرفة فضل عمرو ، أي : لمّا قيس فضله بفضل عمرو بانت زيادته عليه.
والخامس : أن تكون زائدة ، وذلك في غير الواجب نحو : ما جاءني من أحد و (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [مريم : ٩٨] ، وإنّما زيدت هنا للتوكيد فقط ؛ لأن أحدا من أسماء العموم.
فأمّا قولك : ما جاءني من رجل ف (من) زائدة من وجه لأنّك لو حذفتها لاستقام الكلام وغير زائدة من وجه ؛ لأنها تفيد استغراق الجنس ، ألا ترى أنّك لو حذفتها لنفيت رجلا واحدا كقولك : ما جاءني رجل بل رجلان ، وإذا أثبتّها دللت بذلك على أنّه لم يأتك رجل ولا أكثر.
مسألة : لا تجوز زيادة : (من) في الواجب وأجازها الأخفش ، ودليلنا أنّ (من) حرف والأصل في الحروف أنّها وضعت للمعاني اختصارا من التصريح بالاسم أو الفعل الدالّ على ذلك المعنى كالهمزة ؛ فإنّها تدلّ على استفهام ؛ فإذا قلت : أزيد عندك؟ أغنت الهمزة عن : (أستفهم) وأخذت من المال أي بعضه وما قصد به الاختصار لا ينبغي أن يجيء زائدا ؛ لأن ذلك عكس الغرض ، وإنّما جاز في مواضع لمعنى من تأكيد ونحوه ولا يصحّ ذلك المعنى هنا ألا ترى أنّك لو قلت : (ضربت من رجل) لم تكن مفيدا ب (من) شيئا بخلاف قولك : ما ضربت من رجل.
واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) [البقرة : ٢٧١] و (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٤] والمراد الجميع.
والجواب : أنّ (من) هنا للتبعيض ، أي : بعض سيئاتكم ؛ لأن إخفاء الصدقّة لا يمحّص كل السيئات ، وأمّا (من ذنوبكم) فالتبعيض أيضا ؛ لأن الكافر إذا أسلم قد يبقى عليه ذنب وهو مظالم العباد الدنيويّة أو تكون : (من) هنا لبيان الجنس.