تحوير الهياكل العسكرية والإدارية
لا تشغل بالنا الهياكل العسكرية والإدارية والمالية بصفتها تلك ، في هذا القسم من الدراسة لأنها تتعلق أصلا بالعمران والتنظيم البشري والسياسي ، لكن علينا الإشارة إليها نوعا ما لفهم المظهر الحضري والطوبوغرافيا وتوزيع القطائع وتطورها ، والظروف التي مكّنت الناس من الاستقرار والعيش. وإذا ما فكرنا من جهة أخرى أن هيكلة المدينة ارتبطت ارتباطا عميقا بالمنشآت القبلية والعشائرية في شكل قطائع متميزة في الحزام وخارج المركز ، فإننا سنجبر حقا على الرجوع إلى كل ما يتصل بتنظيم الجموع القبلية ضمن دراسة حضرية صرف.
وقد بيّنا كيف وزّعت الخطط في بداية الأمر ـ أي منذ حلول سنة ١٧ ه ـ ولا يمكن تجاهل هذا الإستقرار الأول ، حتى لو فرضنا أن تغييرات ناتجة عن تدفق جموع المهاجرين المسترسلة قد طرأت عليه بسرعة كبيرة وتسببت في مصاعب. كان التنظيم الأول يتضمن منطقيا قوة الجمود ، إذ كان دقيقا وملزما لا محالة ، وقد اتضح أن المصادر التاريخية التالية ، ومنها روايات الثورات التي نقلت عن أبي مخنف ، أكدت الأمر إلى حد بعيد. مثلا مر علي بمواقع عشائر همدان (١) التي كانت في الشمال كما قال سيف (٢) ، وهو في طريق العودة من الجزيرة والشام ، بعد وقعة صفين ، أي من الشمال الغربي ؛ وخلال ثورة المختار عبر ابراهيم بن الأشتر المركز للحاق بالمختار وكان الأول مقيما بالنخع في الجنوب. والمرجح أن الثاني كان يقيم بشمال المسجد : كان وصفا ملحميا وغامضا أيضا عند أبي مخنف (٣) ذاك الذي خصّصه لهذه الرحلة عبر المركز. هذه حجة أن النخع كانت تشكل مجموعة معتبرة ضمن قبيلة مذحج ، كانت تقيم باستمرار في الجنوب حسب ما رسمه سيف أول مرة لخارطة القبائل. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع ، على أن التصميم الأول يمكن أيضا ألا يطابق تحركات الجيوش التي تابعها أبو مخنف.
نجد في هذا الصدد التواء ينبغي تعليله قدر المستطاع ويعني ذلك أنه يصعب التغاضي عن التصور الشامل الأول ، ومن المهم تكييفه بصفة أو بأخرى مع روايات أبي مخنف. أما كتاب اليعقوبي ، فهو قليل الفائدة بخصوص العصر الأموي إلا أنه يوضح توضيحا مهما التحويرات المتأخرة التي جرت في العصر العباسي (٤). ولنذكر أن النقص الرئيسي الذي
__________________
(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦٢. مر بثور ثم فائش وأخيرا شبام.
(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.
(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ ـ ٢٢.
(٤) كتاب البلدان ، ص ٣١١ : يقول «انتشرت همدان في الكوفة». كما أقامت تميم ، بكر وأسد «في الأطراف».