فمن ذلك أن يزدجرد لما غلب سعد على مدينة نهرسير واعتقد أهل غربى دجلة منه الذمة نقل خزائنه وأمواله ودواوينه إلى حلوان ، وأقام فى الإيوان فى مقاتلته ، وسعد والمسلمون فى دير المنازل ، فبينما هم به ودجلة قد طماها ماؤها يتدفق جانباها ، إذ سمعوا ليلا قائلا يقول : يا معشر المسلمين ، هذه المدائن غلقت أبوابها ، وغيبت السفن ، وقطعت الجسور ، فما تنتظرون ، فربكم الذي يحملكم فى البر يحملكم فى البحر؟ فندب سعد الناس إلى العبور ، ثم ساق الحديث فى ركوبهم دجلة على ظهور خيلهم نحوا مما تقدم ، ثم قال : ونظر ضرار بن الخطاب والمسلمون فرأوا بناء أبيض ، فقال ضرار : الله أكبر ، أبيض المدائن ورب الكعبة ، وهرب أهل المسالح حين عبر المسلمون ، واعروها وقالوا : هؤلاء من السماء ، وخرج أهل الرومية ومن كان فيها من الأساورة معهم الفيلة فقاتلهم المسلمون ، فكانت الفيلة تهم فى وجوه الخيل ، والمسلمون قليل ليست لهم رجالة تقاتل عن خيلهم ، فكانت الخيل تنفر ، فأتى رجل سعدا فقال : تؤمننى على نفسى وأهلى ومالى وأدلك على ما ترد به الفيلة؟ قال : نعم. قال : الخنازير. قال : وأنى لى بها؟ قال : أنا أجيئك بها ، فجاءه بخنازير فضربت فجعلت تقيع فى وجوه الفيلة ، فولت وانهزم المشركون. فوقف رجل يحميهم واعترض الطريق فلما دنا منه المسلمون ضرب فرسه ليقدم عليهم ، فاعتاص وضربه ليهرب ، فاعتاص فطعنه رجل من المسلمين فقتله ، ودخل الآخرون الرومية ، ومضى الأساورة إلى يزدجرد بالإيوان ، فهرب هو وأساورته ومقاتلته ، وسمعوا صوتا من ورائهم علام تقتلون أنفسكم وقد ذهبت مدة ملككم.
ومضى سعد إلى المدينة العتيقة ، فمر المسلمون بمجلس لكسرى كان يسمى بهشت إيوان ، فوقفوا ينظرون إليه وقد تقدم سعد فانطوى عليه ، فظن أنهم اقتطعوا ، فسأل عنهم ، فأخبر ، فقال لبعض من معه من العجم : ما هذا المجلس؟ قالوا : بهشت إيوان. قال : وما تفسيره؟ قالوا : الجنة. فأرسل سعد قوما فأحرقوه ، وخرج أهل المدائن إلى سعد فتلقوه بجامات الذهب والفضة مملوءة دنانير ودراهم يسألونه الأمان على أن يعطوا الجزية ، فقبل ذلك منهم ، ونزل القصر الأبيض ، وأمر أهل المدائن فعقدوا الجسر ، فعبر المسلمون جميعا وأثقالهم وإبلهم ، وتحول سعد فعسكر فى مكانين على الناقوس وعلى نهر أبغش ، بين العسكرين ميل ، وكان أكثر العسكرين أهلا الذين على نهر أبغش ، واتخذ سعد مسجدا على الناقوس فهو إلى اليوم يسمى مسجد العسكر ، وصلى فيه على بن أبى طالب حين قدم المدائن وهو يريد صفين.
ولم يأخذ سعد من المدينة ومن أهلها إلا ما كان للملك وأهل بيته ولمن هرب ،