ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم ، وكثرة من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم ، عظم ذلك عليهم ، ورعبهم وزادهم نزولهم القادسية رعبا وضيقا ، فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار ، وأرسلوا إليه : إن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب ، وأن فعلهم منذ نزلوها لا يبقى عليه شيء ، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ، فليس هنالك أنيس إلا فى الحصون ، وقد ذهبت الدواب وكل شيء لم تحمله الحصون من الأطعمة ، ولم يبق إلا أن يستنزلونا ، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطّفّ ، وأعانوهم عليه.
ولما كثرت الاستغاثة من أهل السواد على يزدجرد ، خشعت نفسه واتقى الحرب برستم فأرسل إليه ، فدخل عليه ، فقال : إنى أريد أن أوجهك فى هذا الوجه ، وإنما يعد للأمور على قدرها ، وأنت رجل أهل فارس اليوم ، وأنت لها ، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير.
فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه ، فقال له الملك : قد أحببت أن أنظر فيما لديك لأعلم ما عندك ، فصف لى العرب وفعلهم ، وصف لى العجم وما يلقون منهم ، فقال رستم : صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت ، فقال : ليس كذلك ، إنما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب ، فافهم عنى ، إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوى فى ذراة الطير تبيت فى أوكارها ، فإذا أصبحت الطير تجلت ، فأبصرت العقاب ترقبها ، فخافتها فلم تنهض ، وطمعت العقاب ، فلم ترم ، وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت عليه فاختطفتها حتى أفنتها ، فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت ، وأشد شيء يكون فى ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا ، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم ، فاعمل على قدر ذلك ، فإنى أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به.
فسجد له رستم ، وقال : الملك أفضل رأيا ، وأيمن أمرا ، وأسعد جدا ، وإن أذن لى تكلمت.
قال : قل ، قال : هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التي ليس بعدها مثلها ، فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب ، فقال له رستم : أيها الملك ، دعنى فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بى ، ولعل دولة تكون فيكون الله قد كفى ، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب ، فإن الرأى فيها والمكيدة