لأراكم ستتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم. فقال أبو عبيدة : لا والله ، لا نقبل هذا منك ولا من غيرك أبدا ، فانصرف الرومى رافعا يديه إلى السماء يقول : اللهم إنا قد أنصفناهم فأبوا ، اللهم فانصرنا عليهم. ووثب أبو عبيدة مكانه ، فسار فى الناس ، وقال : أصبحوا أيها الناس وأنتم تحت راياتكم وعلى مصافكم. فأصبح الناس وخرجوا على تعبئتهم ومصافهم (١).
وكتب أبو عبيدة إلى عمر : لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح. سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإن الروم قد أقبلت ، فنزلت طائفة منهم فحلا مع أهلها ، وقد سارع إليهم أهل البلد ، ومن كان على دينهم من العرب ، وقد أرسلوا إلىّ : أن اخرجوا من بلادنا ، فإنكم لستم لهذه البلاد التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب أهلا ، والحقوا ببلادكم ، بلاد الشقاء والبؤس ، فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به ، ثم أعطينا الله عهدا أن لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف ، فأرسلت إليهم :
أما قولكم : اخرجوا من بلادنا ، فلستم لما تنبت أهلا ، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله تعالى ، ونزعها من أيديكم ، وإنما البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، وهو سبحانه ملك الملوك ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء.
وأما ما ذكرتم من بلادنا ، وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء ، فقد صدقتم ، وقد أبدلنا الله بها بلادكم ، بلاد العيش الرفيع ، والسعر الرخيص ، والجناب الخصيب ، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها ، ولكن أقيموا لنا ، فو الله لا نجشمكم إتياننا ولنأتينكم إن أقمتم لنا.
وكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلا على الله ، راضيا بقضاء الله ، واثقا بنصر الله ، فكفانا الله وإياك كيد كل كائد ، وحسد كل حاسد ، ونصر الله أهل دينه نصرا عزيزا ، وفتح لهم فتحا يسيرا ، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا ، والسلام عليك.
ودفع أبو عبيدة هذا الكتاب إلى نبطى من أنباط الشام ، وقال له : ائت به أمير المؤمنين ، ثم نهض هو إلى الروم بجماعة المسلمين ، فدنا منهم ، وتعرضت خيل المسلمين لهم ، فلم يخرجوا يومئذ ، فانصرف المسلمون عنهم من غير قتال ، وتأخر النبطى عن
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (١١٤) وما بعدها.