دعائكم : ربنا لا تؤاخذنا ، والدعاء مخّ العبادة ، إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار ، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال ، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع ، وافتتحت كل جملة منها بقولهم : ربنا ، إيذانا منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم ، ومصلح أحوالهم ، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار ، ولم يأت لفظ : ربنا ، في الجمل الطلبية أخيرا لأنها نتائج ما تقدّم من الجمل التي دعوا فيها : بربنا ، وجاءت مقابلة كل جملة من الثلاث السوابق جملة ، فقال (لا تُؤاخِذْنا) بقوله (وَاعْفُ عَنَّا) وقابل (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً). بقوله : (وَاغْفِرْ لَنا) وقابل قوله (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) بقوله : (وَارْحَمْنا) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تكليف ما لا يطاق الرحمة.
ومعنى : المؤاخذة ، العاقبة. وفاعل هنا بمعنى الفعل المجرد ، نحو : أخذ ، لقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (١) وهو أحد المعاني التي جاءت لها فاعل ، وقيل : جاء بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحد ، لأن المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقب بذنبه كالمعين لنفسه في إيذائها ، وقيل انه تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، والمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم ، إذ لا يجد من يخلصه من عذاب الله إلّا هو تعالى ، فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة والنسيان الذي هو : عدم الذكر ، والخطأ موضوعان عن المكلف لا يؤاخذ بهما ، فقال عطاء : نسينا : جهلنا ، وأخطأنا : تعمدنا ، وقال قطرب ، والطبري : نسينا : تركنا وأخطأنا. قال الطبري : قصدنا. وقال قطرب : أخطأنا في التأويل. قال الأصمعي : يقال أخطأ : سها وخطيء تعمد. قال الشاعر :
والناس يلحون الأمير إذا هم |
|
خطئوا الصواب ولا يلام المرشد |
ومن المفسرين من حمل النسيان هنا والإخطاء على ظاهرهما ، وهما اللذان لا يؤاخذ المكلف بهما ، وتجوّز عنهما إن صدرا منه ، وإياه أجاز الزمخشري في آخر كلامه في هذه الآية ، واختاره ابن عطية. قال الزمخشري : ذكر النيسان والخطأ والمراد بهما ما هما منسيان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ)؟ (٢) والشيطان
__________________
(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٠.
(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٦٣.