فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين. كما ذهبوا إليه.
(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته ، والاشتمال عليه ، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، كما جاء في حديث موسى والخضر : ما نقص علمي وعلمك من علمه إلّا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات ، وقالوا : اللهم اغفر علمك فينا ، أي معلومك ، والمعنى : لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم الله شيئا إلّا ما شاء أن يعلمهم ، قاله الكلبي. وقال الزجاج : إلّا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتا لنبوتّهم.
و : بشيء ، وبما شاء ، متعلقان : بيحيطون ، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل ، نحو قولك : لا أمر بأحد إلّا بزيد ، والأولى أن تقدّر مفعول شاء أن يحيطوا به ، لدلالة قوله : ولا يحيطون على ذلك.
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قرأ الجمهور وسع بكسر السين ، وقرىء شاذا بسكونها ، وقرىء أيضا شاذا وسع بسكونها وضم العين ، والسموات والأرض بالرفع مبتدأ ، وخبرا ، والكرسي : جسم عظيم يسع السموات والأرض ، فقيل : هو نفس العرش ، قاله الحسن. وقال غيره : دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقيل : تحت الأرض كالعرش فوق السماء ، عن السدّي وقيل : الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم ، أو : ملك آخر عظيم القدر. وقيل : السلطان والقدرة ، والعرب تسمي أصل كل شيء الكرسي ، وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز. قال الشاعر :
قد علم القدّوس مولى القدس |
|
أن أبا العباس أولى نفس |
في معدن الملك القديم الكرسي
وقيل : الكرسي العلم. لأن موضع العالم هو الكرسي ، سميت صفة الشيء باسم مكانه على سبيل المجاز ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، ومنه الكراسة ، وقال الشاعر :
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة |
|
كراسي بالأحداث حين تنوب |