لم يرد أن يشبه فترته بانتفاض العصفور حين يبله القطر ، لكونهما حركة وسكونا ، فهما ضدان ، ولكن تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر ، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض ، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه. وهذه الأقوال كلها في التشبيه ، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به. وأمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة ، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر فيه إلى المعنى. وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب ، قال الراغب : فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق ، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به. وعلى هذا (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١) ، وقوله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢). فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية.
وقد بقي شيء من الكلام عليها ، فنقول : ومثل الذين مبتدأ ، خبره كمثل ، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة ، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة ، فقوله ليس بشيء ، لأن الصفة ليست عين الصفة ، فلا بد من الكاف التي تعطى التشبيه. بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها ، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق ، لا يراد به مفرد ، بل المراد الجنس. وتقدّم أن المراد : كالناعق بالبهائم ، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا ، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ ، أو كالمنعوق به ، فيكون من باب القلب. وقيل : كالمصوت بشيء بعيد منه ، فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه. وقيل : وقع التشبيه بالراعي للضأن ، لأنها من أبله الحيوان ، فهي تحمق راعيها. وفي المثل : أحمق من راعي ضأن ثمانين. وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف ، يوم هوازن : راعي ضأن والله ، لأنه لما جاء إلى قتال النبي صلىاللهعليهوسلم ، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء ، فلما لقيه دريد قال : أراك سقت المال والنساء؟ فقال : يقاتلون عن أموالهم وحريمهم. فقال له دريد : أمنت أن تكون عليك راعي ضان والله لأصحبتك ، وقال الشاعر :
أصبحت هزأ لراعي الضان يهزأ بي |
|
ماذا يريبك مني راعي الضان |
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦١.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١١٧.