قال المسور بن مخرمة : فنزلنا المنزل ، وأصبنا من فضل زادنا ، وكأنّي أنظر إلى عمر متعبا على قارعة الطريق ، آخذا بزمام ناقته ، لم نطعم طعاما ما ننتظر للشيخ ونرمقه ، فلمّا رحل الناس دعا عمر صاحب الماء ، فوصف له الشيخ ، وجلّاه له ، وقال : إذا أتى عليك فأنفق عليه وعلى آله حتى أعود إليك إن شاء الله.
قال المسور : فقضينا حجّنا ، وانصرفنا ، فلمّا نزلنا المنزل دعا عمر صاحب الماء ، فقال : هل أحسست الشيخ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أتاني وهو موعوك ، فمرض عندي ثلاثا ، فمات ، ودفنته ، وهذا قبره ، فكأنّي أنظر إلى عمر وقد وثب مباعدا بين خطاه حتى وقف على القبر ، فصلّى عليه ، ثم انضجع فاعتنقه ، وبكى حتى سمعنا لبكائه شحيجا (١) ، ثم قال : كره الله له منتكم ، وسبق به ، واختار له ما عنده ، إن شاء الله ، ثم أمر بأهله ، فحملوا (٢) معه ، فلم يزل ينفق عليهم حتى قبض.
أبو القاسم علي بن إبراهيم ، أنا رشأ بن نظيف ، أنا الحسن بن إسماعيل ، أنا أحمد بن مروان ، نا محمّد بن سليمان الواسطي ، نا سعيد بن منصور ، نا عطّاف بن خالد ، عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه أسلم.
أن عمر بن الخطّاب طاف ليلة فإذا هو بامرأة في جوف دار لها ، وحولها صبيان يبكون ، وإذا قدر على النار قد ملأتها ماء ، فدنا عمر بن الخطاب من الباب ، فقال : يا أمة الله ، أيش بكاء هؤلاء الصبيان؟ فقالت : بكاؤهم من الجوع ، قال : فما هذه القدر التي على النار؟ فقالت : قد جعلت فيها ماء هو ذا أعللهم به حتى يناموا ، وأوهمهم أن فيها شيئا ، فجلس عمر ، فبكى قال : ثم جاء إلى دار الصدقة ، وأخذ غرارة ، وجعل فيها شيئا من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ، ثم قال : يا أسلم ، احمل عليّ ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنا أحمله عنك ، فقال لي : لا أمّ لك يا أسلم ، بل أنا أحمله ، لأني أنا المسئول عنهم في الآخرة ، قال : فحمله على عنقه حتى أتى به منزل المرأة ، قال : وأخذ القدر فجعل فيها دقيقا ، وشيئا من شحم ، وتمر ، وجعل يحركه بيده ، وينفخ تحت القدر ، قال أسلم : وكانت لحيته عظيمة ، فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته ، حتى طبخ لهم ، ثم جعل يغرف بيده (٣) ويطعمهم حتى شبعوا ، ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سبع ، وخفت منه أن
__________________
(١) الأصل وم و «ز» : سححا.
(٢) بالأصل : «فجعلوا» والمثبت عن م و «ز».
(٣) «بيده» كتبت فوق الكلام بين السطرين في «ز».