الغريب ، وأقعدت أبراجها من بعد القيام والانتصاب ، وأضرعت مسايفها (١٢) لهول المصاب ، انصرف عنها المسلمون بالفتح الذي عظم صيته ، والعز الذي سما طرفه واشرأب ليته ، والعزم الذي حمد مسراه ومبيته ، والحمد لله ناظم الأمر وقد راب شتيته ، وجابر الكسر وقد أفات الجبر مفيته.
«ثم كان الغزو إلى أم البلاد ، ومثوى الطارف والتلاد ، قرطبة ، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل ، والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل ، والمصرالذي له في خطة المعمور الناقة والجمل ، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية (١٣) الحمل ، فخيم الإسلام بعقوتها (١٤) المستباحة ، وأجاز نهرها المعيي على السّباحة ، وعم دوحها الأشب بوارا ، وأدار المحلّات بسورها سوارا ، وأخذ بمخنّفها حصارا ، وأعمل النصر بشجر بصلها (١٥) اجتناء ما شاء واهتصارا ، وجدّل من أبطالها من لم يرض انجحارا ، فأعمل إلى المسلمين إصحارا ، حتى فرغ بعض جهاتها غلابا جهارا ، ورفعت الأعلام إعلاما بعز الإسلام وإظهارا ، فلو لا استهلاك الغوادي ، وأن أتى الوادي ، لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي ، ولقضى تفثه (١٦) العاكف والبادي ، فاقتضى الرأي ولذنب الزمان في اغتصاب الكفر إياها متاب ، تعمل ببشراه بفضل الله تعالى أقتاد وأقتاب ، ولكل أجل كتاب ـ أن يراض صعبها حتى يعود ذلولا ، وتعفى معاهدها الآهلة فتترك طلولا ، فإذا فجع الله تعالى بمارج النار طوائفها المارجة ، وأباد بخارجها الطائرة والدارجة ، خطب السيف منها أمّ خارجة (١٧) ، فعند ذلك أطلقنا بها ألسنة النار ومفارق الهضاب بالهشيم قد شابت ، والغلات المستغلات قد دعا بها القصل فما ارتابت ، وكأن صحيفة نهرها لما أضرمت النار في (١٨) ظهرها ذابت ، وحييته فرّت أمام الحريق فانسابت ، وتخلفت لغمائم الدخان عمائم تلويها برءوس الجبال أيدي الرياح ، وتنشرها بعد الركود أيدي الاجتياح ، وأغريت بأقطارها الشاسعة ، وجهاتها الواسعة ، جنود الجوع ، وتوعدت بالرجوع ، فسلب أهلها لتوقع الهجوم
__________________
(١٢) المسايف : جمع مسيف ، ويعني بها لسان الدين في الأرجح ؛ المدماك (أي السطر من البناء)
(١٣) العبشمية : نسبة إلى عبد شمس.
(١٤) العقوة : الساحة. وفي ق : بعقرتها.
(١٥) في نسخة : فأعمل النصر ... نصها ، والمراد أن النصر حطم رماحها.
(١٦) التفث في الحج : الحلق والتقصير وقص الأظفار ونحر البدن وغير ذلك مما يفعله الحاج إذا حل من إحرامه ، والمراد أنه استوفى حجه ، فكنى به لسان الدين عن بلوغ غاية الأرب.
(١٧) أم خارجة : كانت سريعة الخطبة ولذلك قيل في المثل «أسرع من نكاح أم خارجة» وقد شبه قرطبة بها لتداول الغلبة عليها دهرا بعد دهر ، وألمح ابن شهيد إلى هذا حين نزل بقرطبة فقال :
زنت بالرجال على سنها |
|
فيا حبذا هي من زانيه!! |
(١٨) في نسخة : حافي ، ولعلها : حامي.