إناء قيمته : خمسمائة دينار ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه البتة ، فماذا تكون ثيابه ، وحليّ نسائه ، وفرش داره ، وغير ذلك من التجملات ، وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ، ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة؟ وما نسبة أعيان الدولة ، وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة ، وأبهتها إلّا يسير حقير.
وما زال الخليفة الآمر يتردّد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة يريد الهودج ، وقد كمن له عدّة من النزارية في فرن عند رأس الجسر من ناحية الروضة ، فوثبوا عليه ، وأثخنوه بالجراحة حتى هلك ، وحمل في العشاريّ إلى اللؤلؤة ، فمات بها ، وقيل : قبل أن يصل إليها ، وقد خرب هذا الهودج ، وجهل مكانه من الروضة ، ولله عاقبة الأمور.
قصر القرافة : وكان لهم بالقرافة قصر بنته : السيدة تغريد أم العزيز بالله بن المعز في سنة : ست وستين وثلثمائة ، على يد الحسين بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب هو ، والحمام الذي في غربيه ، وبنت البئر ، والبستان وجامع القرافة ، وكان هذا القصر نزهة من النزه من أحسن الآثار في إتقان بنيانه وصحة أركانه ، وله منظرة مليحة كبيرة محمولة على قبو مادّ تجوز المارّة من تحته ، ويقيل المسافرون في أيام القيظ هناك ، ويركب الراكب إليه على زلاقة ، وكان كأحسن ما يكون من البناء ، وتحته حوض لسقي الدواب يوم الحلول فيه ، وكان مكانه بالقرب من مسجد الفتح.
ولما كان في سنة عشرين وأربعمائة جدّده الخليفة الآمر ، وعمل تحته مصطبة للصوفية وكان يجلس في الطاق بأعلى القصر ويرقص أهل الطريقة من الصوفية ، والمجامر بالألوية موضوعة بين أيديهم والشموع الكثيرة تزهر ، وقد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط ، ومدّت لهم الأسمطة التي عليها كل نوع لذيذ ولون شهيّ من الأطعمة ، والحلوى أصنافا مصنفة ، فاتفق أن تواجد الشيخ أبو عبد الله بن الجوهريّ الواعظ ، ومزق مرقعته ، وفرّقت على العادة خرقا ، وسأل الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالقارح المقري خرقة منها ، ووضعها في رأسه ، فلما فرغ التمزيق ، قال الخليفة الآمر بأحكام الله : من طاق بالمنظرة يا شيخ أبا إسحاق ، قال : لبيك يا مولانا ، قال : أين خرقتي؟ فقال مجيبا له في الحال : ها هي على رأسي يا أمير المؤمنين ، فاستحسن الآمر ذلك ، وأعجبه موقعه فأمر في الساعة ، والوقت فأحضر من خزائن الكسوات ألف نصفية ، ففرّقت على الحاضرين ، وعلى فقراء القرافة ، ونثر عليهم متولي بيت المال من الطاق ألف دينار ، فتخاطفها الحاضرون ، وتعاهد المغربلون الأرض التي هناك أياما لأخذ ما يواريه التراب ، وما برح قصر الأندلس بالقرافة ، حتى زالت الدولة ، فهدم في شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة.