وحيث تبلغ الروح الحلقوم يتيقن الإنسان بكثير من الحقائق التي طالما داهن بها وكذّب واسترزق ، فيذهل عن كلّ شيء ، ويأسف على ما فرط ، ويرى أنّ الواقع الذي يعانيه هو نفسه الذي جاء في حديث الله ورسالته للعالمين. «وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ، ويسمع بإذنه ، على صحّة من عقله ، وبقاء من لبّه ، يفكّر فيم أفنى عمره ، وفيم أذهب دهره ، ويتذكّر أموالا جمعها ، أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمه تبعات جمعها ، وأشرف على فراقها ، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، ويتمتعون بها ، ... ثم ازداد الموت التياطا به فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده ، فصار جيفة بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قربه» (١)
هكذا قهر الله عباده بالموت ، وبه يتحدّى غرور البشر وضلالهم ، ويعالج كفرهم بالجزاء فيقول :
(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ)
أي إن زعمتم أنّكم غير مجزيّين بأعمالكم ، وقيل : أنّكم غير مملوكين.
(تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
ولكن كيف يكون الموت دليل الجزاء؟ والجواب : إنّ هذا وذاك حق واقع مفروض ، والموت كما الجزاء يخشاه الإنسان فيتهرّب من الاعتراف به حتى يكذّبه ، حتى جاء في الحديث أنّه الحق الذي يشبه الباطل حيث لا يكاد يصدّق به أحد لعظيم شأنه في نفوس الناس ، ولكن هل ينتفي الموت بتكذيبه ، أو يمكن الفرار منه؟ كلّا .. كذلك الجزاء. إنّ الله يأخذ الروح ويدفعها للجزاء ، فإذا كان أحد يدّعي قدرة على تحدي سنّة الجزاء فليردّها ممّن أخذها؟
__________________
(١) نهج / خ ١٠٩ ص ١٦١