وقول الله جلَّ وعزَّ : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢]. وقُرىء (إنْ تَضِلَ) بالكسر ، فمن كسر «إنْ» فالكلام على لَفْظ الجزاء ومعناه.
وقال الزَّجاج : المعنى في (إن تضلّ) : إنْ تَنْسَ إحداهما تُذَكِّرْها الأخرى الذاكرة.
قال : وتُذَكِّرُ وتُذْكِرُ ، رفعٌ مع كسر «إنْ» لا غير. ومن قرأ (أَنْ تَضِلَ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ) ، وهي قراءة أكثر الناس.
قال : وذكر الخليل وسيبويه أن المعنى : اسْتَشهِدُوا امرأَتَين ، لأن تُذَكّرَ إحداهما الأخرى ، ومن أجل أن تُذَكّرها.
قال سيبويه : فإن قال إنسان : فلمَ جاز أن تضِلَ ، وإنما أُعِدَّ هذا للإذكار! ، فالجواب عنه أنّ الإذكار لما كان سبَبُه الإضلال ، جاز أن يذكر أن تَضِلَ ، لأن الإضلال هو السبب الذي به وجب الإذْكار. قال : ومثلُه أَعْدَدْتُ هذا أن يَمِيلَ الحائط فأَدْعَمه ، وإنما أَعْدَدْتُه للدَّعْم ، لا للميل ؛ ولكن الميل ذُكِرَ ، لأنه سبب الدَّعْم ، كما ذكر الإضلال ، لأنه سبب الإذكار ، فهذا هو الْبَيِّن إن شاء الله تعالى.
وقوله : عزوجل : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠]. معناه : أإذا مِتْنَا وصِرْنا تُراباً وعِظاماً ، فضللنا في الأرض فلم يتبيَّن شيءٌ من خَلْقِنا.
وقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦].
قال الزّجاجُ : أي ضَلُّوا بسببها ، لأن الأصْنام لا تعقل ولا تفعل شيئاً ، كما تقول : قد فتَنَتَنِي. والمعنى : إني أحببتها ، وافْتَتَنتُ بسببها.
وقوله جلّ وعزّ : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [النحل : ٣٧].
قال الزجاج : هو كما قال جلّ وعزّ : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦].
قلت : والإضلال في كلام العرب ضدّ الهِدَاية والإرشاد. يقال : أَضللْتُ فلاناً ، إذا وجهتَه للضلال عن الطريق ، وإياه أراد لبيد :
مَنْ هداه سُبُلَ الخَيْرِ اهْتَدَى |
ناعِمَ البالِ ومن شَاءَ أَضلّ |
وقال لبيد هذا في جاهليته ، فوافق قوله التنزيل يُضلّ مَنْ يشاء ، وللاضلال في كلام العرب معنى آخر.
يقال : أَضللْتُ الميِّتَ ، إذا دَفَنْتَهُ.
وقال المخَبَّلُ :
أَضلَّتْ بنو قَيْسِ بن سَعْدٍ عَميدَها |
وفارِسَها في الدَّهْرِ قَيْسَ بن عاصم |
وقال النابغة :
فَآبَ مُضِلُّوهُ بعَيْنٍ جَلِيّةٍ |
وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ |