إذن ، من هذا المنطلق سنحاول في بحثنا هذا أن نقترب من هذا الإمام العظيم باعتباره حركة في الواقع وتجسيداً للمثال ، وقدوة حسنة ، ونموذجاً حركياً عاش علىٰ الأرض وتحرك مع الناس وأنزل المفاهيم السماوية مصاديق متحركة تمشي علىٰ أقدامها في الأسواق ومع الفقراء والعبيد وعوامّ الناس ، لتؤكد للجميع أنّ الإمام شعار وشعور ، مفاهيم ومصاديق ، أقوال وأفعال ، موعظة وسلوك ، توجيه وممارسة ، يواسي الفقير ، وينتصر للمظلوم ، ويصفح عن المسيء ، يعدل بين المتخاصمين ، ويدعو علىٰ الظالمين ، ويدعو للمظلومين ، يبكي نبلاً ، ويتهجّد صدقاً ، وينشج حزناً ، ويقرأ القرآن اعتقاداً وتصديقاً ، ويرتّله إيماناً ويقيناً ، ويعمل به أخلاقاً وسلوكاً ، فلسفة وعرفاناً ، نظرية وتطبيقاً...
ولعلّ ما أردنا إثباته بل تأكيده في هذه الدراسة التحليلية الموجزة للإمام السجاد عليهالسلام هو هذا وليس أكثر ، مؤكدين أيضاً أن الخلود ليس من نصيب الحاكم صاحب السلطة والصولجان مهما تماهىٰ مع ذاته في كتابة تأريخه وأغدق علىٰ شعرائه وكتّاب دواوينه ، وإنّما المجد والخلود يكون عادةً من نصيب المعارض الصادق ، وإن كان ملاحقاً أو سجيناً أو شهيداً ولو بعد حين.
وحين نقول إنّ عظمة (البيان) جاءت في القرآن الكريم بعد عظمة (خلق الإنسان).. ( الرَّحْمَٰنُ * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) ، فإنّ بيان الإمام السجاد عليهالسلام كان بياناً ما بعده بيان ، وامتداداً لبيان جدّه أمير المؤمنين عليهالسلام الذي عُدّ دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، فضلاً عن كونه إنساناً لا كالناس ، بل لم يترك له الناس في زمانه دوراً إلّا أن يكون محوراً لتذكيرهم بربهم ، يكبح تهالكهم علىٰ الدنيا وتهافتهم عليها حين يرونه قد اصفر وجهه (١) عند وضوئه وقبل الوقوف بين يدي ربه... وكفاه
_______________________
(١) الصواق المحرقة : ٣٠٢.