لمحات في أحكام الشريعة الإسلاميّة

السيد فاضل الموسوي الجابري

لمحات في أحكام الشريعة الإسلاميّة

المؤلف:

السيد فاضل الموسوي الجابري


الموضوع : الفقه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-31-5
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الثاني والعشرون ـ الوصية :

الوصية في اصطلاح الفقهاء : تمليك عين أو منفعة ، أو تسليط على تصرف بعد الموت (١) ، ولها تعاريف أخرىٰ متقاربة في المعنىٰ (٢).

وتنقسم الوصية إلى قسمين : تمليكية ، وعهدية. فالتمليكية تتحقق بجعل شيء من تركته لشخص أو اشخاص معينين أو غير معيين بعد وفاته. وأما العهدية فهي أمر الموصي بالتصرف بشيء يتعلق به من بدن أو مال ، كأن يأمر بدفنه في مكان مخصوص ، أو يأمر بأن يعطى من ماله لأحد ، أو يستناب عنه في صوم أو صلاة أو غير ذلك.

والعهدية لا تحتاج إلى قبول خلافاً للوصية التمليكية ، فإن الفقهاء اختلفوا في احتياجها إلى القبول أو عدمه. ويكفي في تحقق الوصية كل مادل عليها. ويجب الإيصاء إذا كانت في ذمة الموصي حقوق للناس ، أو لله تعالى كالواجبات الدينية أو غيرها إذا لم يتمكن من أدائها في وقت حياته لضيق وقت أو عجز أو غيره. ولا يجوز للورثة التصرف في العين الموصى بها قبل أن يختار الموصى له أحد الأمرين من الرد والقبول ، وليس لهم إجباره على الاختيار بسرعة ، وحينئذ إذا تلقى الموصى له المال بعد موت الموصي فيخرج منه ديونه ووصاياه وغير ذلك من الأمور المتعلقة بذمة الموصي.

ويشترط في الموصي اُمور : البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، والحرية ، وأن لا يكون قاتل نفسه. ويشترط في الموصى به أن يكون مما له نفع محلل معتد به ،

______________

(١) شرائع الإسلام / المحقق الحلي ٢ : ١٨٩ ، والمختصر النافع : ٢٦٣.

(٢) جامع المقاصد ١٠ : ٧ ـ ٨.

١٠١

وأن لا يكون زائداً على الثُلث إلا مع إجازة الورثة ، وأما الواجبات المالية كالديون وغيرها فأنها تخرج من أصل التركة ، سواءً وصّى بها أم لم يوصِ ، وهذا الإخراج واجب حتى وإن تلفت التركة ولم يبقَ منها إلّا ما يسع ذلك أو دونه ، ولا تصح الوصية في المعصية ، فإذا أوصى بصرف ماله في اُمور محرمة شرعاً بطلت الوصية ، وكذا تبطل إذا ما أوصى بحرمان أحد الورثة من الميراث. ولا يشترط في الموصى له أن يكون موجوداً حال الوصية ، إذ تصح الوصية للمعدوم الذي يوجد في المستقبل ، كأحفاده أو غير ذلك هذا في ما يخص الوصية العهدية.

أما الوصية التمليكية فلا تصح للمعدوم إلى زمان موت الموصي ، وإذا وصى إلى جماعة من الذكور والإناث ، فيوزّع بينهما بالسوية إلّا مع إرادة تفضيل.

أما الوصي فيشترط فيه : البلوغ ، والعقل ، والإسلام ، ويكفي فيه الوثوق ، والأمانة ، ولا يشترط أكثر من ذلك ، إلّا على بعض الآراء لا سيما في الأمور المتعلقة بالواجبات الدينية وأمثالها ، وإذا عجز الوصي عن تنفيذ الوصية ضمّ إليه الحاكمُ الشرعي من يساعده ، وإذا ظهرت منه الخيانة ضمّ إليه أميناً يمنعه عن الخيانة ، فإن لم يمكن ذلك عزله ونصّب غيره.

وفي حالة وفاة الوصي قبل إتمام ما أُوصِي إليه به ، نصّب الحاكم الشرعي وصياً لتنفيذها ، وليس للوصي أن يوصي إلى أحدٍ في تنفيذ ما أوصي إليه به إلّا أن يكون مأذوناً من الموصي في ذلك. والوصي أمينٌ لا يضمن إلّا بالتعدي أو التفريط (١).

______________

(١) الدروس ٢ : ٢٩٣ ، السرائر ٣ : ١٨٢ ، جامع المقاصد ١١ : ٢٥٧.

١٠٢

جدير بالذكر ، أن بعض الفقهاء يرىٰ أن قوام الوصية بالعهد ففي تمليك العين والمنفعة عهدٌ من الموصي بتمليكها ، وفي الوصاية بالقيمومة والولاية عهد بهما ، وإن اختلاف متعلق العهد إلى أمور وأقسام لا يوجب الاختلاف في حقيقة الوصية (١).

الثالث والعشرون ـ النكاح :

النكاح ثلاثة : دائم ، ومنقطع ، وملك يمين وسوف نتكلم عن الدائم والمنقطع تاركين ملك اليمين لعدم الابتلاء به.

ولابد فيهما من العقد الشرعي المتمثل بالإيجاب والقبول بلفظ الماضي بأن تقول المرأة زوجتك نفسي بمهر كذا فيقول الزوج قبلت ، ولابد أن تكون الصيغة اللفظية في إنشاء العقد باللغة العربية ، ولا يجري غيرها إلّا مع العجز التام ، ويشترط في تزويج البكر إذنُ وليّها وهو الأب ، والجد للأب ، ويسقط هذا الشرط فى حالات خاصة ويضاف إلى الصيغة المذكورة في العقد المنقطع تعيين المدة كما سوف نبينه لاحقاً.

وعقد الزواج غير مشروط بالشهود ، بخلاف الطلاق الذي يشترط فيه الشهود على عكس ما عند العامة تماماً ، والقول لمنكر الزوجية مع عدم البينة ، ويجوز للزوج أن ينظر إلى من يريد التزويج بها ، وأما في غير ذلك فلا يجوز النظر إلى ما عدا الوجه والكفين ، ويجب على المرأة ستر ما زاد على ذلك.

وأما العقد المنقطع أو ما يسمى بزواج المتعة فيشترط فيه ذكر الأجل ، ______________

(١) راجع : مهذب الأحكام / السيد السبزواري ٢٢ : ١٣٢.

١٠٣

والمهر ، ولو نسي الأجل فالعقد باطل ، وقيل بأنقلابه دائمًا. ولا يجوز عقد المتعة على غير المسلمة أو الكتابية ، ويجوز للرجل أن يتمتع بماشاء من النساء من غير تحديد ، والمتمتع بها زوجة شرعاً ، يجب عليها صيانة الزوجية ، ويلحق الولد المترتب من هذا العقد بالزوج (١) وهي تملك المهر بالعقد ، ويجب عليها تسليم نفسها للاستمتاع بها. وهذا الزواج ليس فيه طلاق ، وإنما تنقطع العلقة الزوجية بأحد أمرين : انتهاء المدة ، أو أن يهبها الزوج ما تبقى منها ، ولا يجوز للزوج تجديد عقد الزواج على المتمتع بها قبل انقضاء الأجل ، ولا يجوز كذلك أن يعقد عليها آخر إلّا بعد انقضاء أجل الأول ، والاستبراء بحيضتين.

وتختلف الزوجة المتمتع بها عن الدائم بعدم وجوب النفقة على الزوج وإنهما لا يتوارثان ، زيادة على الجوانب الاُخرى : من المدة ، وعدم الطلاق ، وعدم وجوب المبيت أو الوطئ كل أربعة أشهر كحد أقل كما هو الحال عند الدائمة.

واعلم أن الزواج المؤقت أكدت عليه الشريعة المقدسة من لدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة الأطهار عليهم‌السلام وقد مارسه الصحابة بشكل واسع وانجبوا بهذا الزواج ، فعبد الله بن الزبير ـ مثلاً ـ ابن متعة بلا خلاف ، ومن ثم فهو مشرع في القرآن الكريم ؛ لأنه جاء لكي يحل مشكلة كبيرة تواجه الإنسان في حياته الجنسية ، وعلى الرغم من كل أدلته الشرعية إلّا انا نجد العامة تنكر مشروعيته اقتداء بعمر فقط لا غير حتى لكأنهم يرون أن من صلاحيات عمر بن الخطاب تبديل ما شرعه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله !!.

______________

(١) مسالك الافهام ٧ : ٧ ، رياض المسائل ١١ : ٣١٣ ، جامع المقاصد ١٣ : ٧ و ٣١.

١٠٤

نعم تظافرت الأدلة الشرعية على حلية هذا النوع من الزواج ، لوجود المقتضي له من حاجة الإنسان في الموارد التي لا يتمكن فيها من ذلك ، فقد أنزل الله عزّوجلّ قرآنا يبين فيه هذا الزواج ، وهو قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (١) ، حيث يذكر معظم مفسري العامة أن الاستمتاع المقصود في هذه الآية هو نكاح المتعة ، وقد صرحت مصادرهم بان حبر الأمة ابن عباس ، والقرّاء الكبار كأُبيّ بن كعب ، وسعيد بن جبير كانوا يقرأون هذه الآية بأضافة جملة : « أجل مسمى » فتكون الآية بالشكل التالي : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ [ إلى أجل مسمىٰ ] فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (٢) ، ومن هنا ندرك بأنه لا خلاف كبير بين المسلمين في أصل تشريعها في صدر الإسلام ، وإنما اختلفوا في نسخها ، حيث زعم العامة بأنها نُسخت أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !! وهو تبرير لما قام به عمر ، إذ الصحيح الثابت عند البخاري وغيره ممن هم حجة على العامة أن المتعة كانت معروفة ومعمولاً بها إلى زمان عمر ، وهو وحده الذي ابتدع تحريمها بمقولته التي ما أنزل الله بها من سلطان : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما » (٣) جرأة منه على الله ورسوله ! وثمة أدلة كثيرة على أن تحريم هذا الزواج كان في عهد عمر وإنه لم تكن هناك أدنىٰ إشارة إلى تحريمها في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا في زمان أبي بكر ، ولا في السنوات الأولى من تسلط عمر نفسه ، وهو ما شهد به إمامهم

______________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٤.

(٢) راجع الآية في تفسير ابن كثير ، وصحيح مسلم بشرح النووي ٣ : ٥٥٢.

(٣) تفسير الرازي ٢ : ١٦٧ ، شرح معاني الآثار : ٣٧٤ ، سنن البيهقي ٧ : ٢٠٦.

١٠٥

وحجّتهم البخاري.

١ ـ أخرج البخاري وغيره عن عمران بن حصين ، قال : « نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء » (١). يعني : عمر بن الخطاب. ولا ندري ، هل يوجد أوضح من هذا النص الذي لا يقبل تأويلاً ولا جدلاً بأنّ عمر بن الخطاب وحده هو الذي غير الشريعة وبدّل السنة في زواج المتعة ؟!

٢ ـ وأخرج مسلم في صحيحه وغيره ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : « كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق ، الأيّامَ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث » (٢).

٣ ـ وأخرج مسلم عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت ، فقال : ان ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر : « فعلناهما مع

______________

(١) صحيح البخاري حديث ١٥٧١ باب ٣٦ باب التمتع من كتاب الحج ، وحديث ٤٥١٨ باب ٣٣ باب ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) من كتاب التفسير ، مسند أحمد ٧ : ٢١٦ / ١٩٩٥٣ و ١٩٨ / ١٩٨٧١ ، صحيح مسلم النيسابوري حديث ١٢٢٦ / ١٧٣ باب ٢٣ باب جواز التمتع من كتاب الحج ، السنن الكبرى ٥ : ١٩ ، شرح مسلم النووي ٨ : ٢٠٥ ، تفسير القرطبي ٢ : ٣٨٨ ، الدر المنثور ١ : ٢١٦ ، تفسير ابن كثير ١ : ٢٤٠.

(٢) صحيح مسلم النيسابوري حديث ١٤٠٥ / ١٦ باب ٣ باب نكاح المتعة وبيان أنه اُبيح ثم نُسخ ، ثم اُبيح ثم نُسخ ... ، السنن الكبرى / البيهقي ٧ : ٢٣٧ ، شرح مسلم / النووي ٩ : ١٨٣ ، فتح الباري / ابن حجر ٩ : ١٧٣ ، عون المعبود ٦ : ١٠١.

١٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما » (١) وفي بعض الروايات ان ابن عباس قال لابن الزبير : سل اُمك فإنها أول من سطعت من تحتها المجامر. كناية عن تمتعها بالزبير !.

٤ ـ وأخرج مسلم عن عطاء قال : قدم جابر بن عبدالله معتمرا ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة ، فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وعمر (٢).

ولا حاجة للاطالة برواياتهم الصريحة بحلية المتعة وتحريم عمر وحده لها !! بعد شهادتي البخاري ومسلم علىٰ ذلك ، وهما من أكبر المحدّثين عندهم ، وفيه الكفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وبهذا نعود إلى موضوع النكاح بصورة عامة فنقول : يشترط في نكاح البكر والصغيرة والمجنون والعبد والأمة إذن الولي ، وولي العبد والأمة مولاهما ، وولي من ذكرنا الأب والجد للأب وغيرهما من الأولياء بحسب الترتيب.

وأما المحرمات التي لا يجوز نكاحهن فهن على قسمين : نسب ، وسبب ، أما النسب فكما يلي : الاُم وإن علت ، والبنت وإن سفلت ، وبنت الأخ والأخت وبناتها وإن نزلن ، والعمة والخالة وإن علتا. وأما السبب فكما يلي : ما يحرم بالمصاهرة ، فمن وطأ امرأة بالعقد أو الملك حرمت عليه أمها وإن علت ، وبناتها

______________

(١) صحيح مسلم النيسابوري حديث ١٢٤٩ / ٢١٢ باب ٣٣ باب التقصير في العمرة من كتاب الحج ، وحديث ١٤٠٥ / ١٧ باب ٣ باب نكاح المتعة وبيان انه اُبيح ثمّ نُسخ ، ثم اُبيح ثمّ نُسخ ... ، السنن الكبرى ٧ : ٢٠٦.

(٢) صحيح مسلم النيسابوري حديث ١٤٠٥ / ١٥ باب ٣ باب نكاح المتعة وبيان أنه اُبيح ثم نُسخ ، ثمّ اُبيح ثمّ نُسخ ، وشرح صحيح مسلم / النووي ٣ : ٥٥٥.

١٠٧

وإن نزلن تحريماً مؤبداً سواء سبقن على الوطأ أم تأخرن عنه. وكذا بالنسبة إلى أبي الواطئ وإن علا على الموطوءة ، ومن عقد على امرأة وإن لم يدخل بها حرمت عليه أمها وإن علت ابداً ، وتحرم بنتها وإن نزلت إذا دخل والّا فلا ، وتحرم أخت الزوجة جمعاً لا عيناً ، وكذا بنت أختها إلّا مع إذن الخالة ، وبنت أخيها إلّا مع إذن العمّة. وكذلك يحرم في الدائم ما زاد على أربع حرائر ، وفي الإماء ما زاد على الأمتين. ويحرم العقد على ذات البعل أو المعتدة ما دامتا كذلك. ولو عقد المحرم على امرأة مع علمه بالتحريم حرمت عليه أبداً ، ولو طلقت الحرّة ثلاثاً حرمت حتى تنكح زوجاً غيره.

ومن أسباب التحريم أيضاً الرضاع حيث يحرم بالرضاع ما يحرم من النسب بلا فرق ، بشرط أن يكون اللبن ناتجاً عن وطءٍ صحيح يوماً وليلة ، أو ما أنبت اللحم وشد العظم ، أو كان خمس عشرة رضعة كاملة متوالية من الثدي ، بحيث لا يفصل بينها برضاع آخر.

وحينئذ إذا تمت العلاقة الزوجية الشرعية الصحيحة بين الرجل والمرأة تترتب جملة من الأمور على كلا الزوجين ، كوجوب النفقة ، والمبيت ، والوطئ ، والحاق الولد بأبيه ( الزوج ) ، كل ذلك بشروط معينة ذكرت في الكتب الفقهية المطولة (١).

* * *

______________

(١) مستند الشيعة ١٦ : ٧ ، كتاب النكاح / الشيخ الانصاري : ٢٤ ، بلغة الفقيه : ١٢١.

١٠٨



الفصل الثاني / الإيقاعات

أولاً ـ الإقرار :

الإقرار يعني إخبار عن حق ثابت على الُمخبِر ، أو نفي حق له على غيره. ويتحقق بكل ما يفيد ذلك ، ولكن يعتبر في المقرّ به إن يكون مما لو كان المقر صادقاً في إخباره كان للمقرّ له إلزامه ومطالبته به ، وذلك بأن يكون المقرّ به مالاً في ذمته أو عيناً خارجية أو منفعة أو عملاً أو حقاً إلى غير ذلك. فإذا أقرَّ بشيء أُلزم به ، ويبقى هذا الإلزام حتى وإن تراجع بعد ذلك عن إقراره الأول. ولابد في المقرّ أن يكون : مكلفاً ، حراً ، عاقلاً ، ولابد في المقر له أن تتوفر فيه أهلية التملك إذا كان الشيء مما يملك بالمباشرة ، أو يستلزم الملك كالإقرار بالولد أو الزوجية التي تسلتزم وجوب النفقة أو الإرث (١).

ثانياً ـ الطلاق وتوابعه :

من الثابت أن الإسلام دين يتناسب مع الواقع الإنساني بكل أطيافه ومعطياته وليس بعيداً عن مشاكل الإنسان في كل جوانبه ، فهو كما شرع ______________

(١) النهاية : ٣٢٥ ، جامع المقاصد ٩ : ١٨٩.

١٠٩

الزواج وجعله علاقة كريمة وطيبة بين الزوجين ، وعدّه من السنن المؤكدة ؛ كذلك شرع الطلاق الذي هو عبارة عن انفكاك العلاقة الزوجية إذا كانت هذه العلاقة ذات معطيات سلبية تؤدي إلى تدمير الحياة الزوجية لكلا الطرفين بسبب عدم الانسجام والتفاهم وغير ذلك.

ومن هنا فإن الإسلام لا يريد أن يجبر كلا الطرفين على الاستمرار بعلاقة الزوجية إذا تعذر ذلك كما فعلت بعض الأديان ! لأن هذا معناه العبث بمستقبل الحياة الإنسانية وتدمير للكيان الاجتماعي ، وسيؤدي ذلك إلى مشاكل لا تحصى ، لأن أساس العلاقة الزوجية هي الانسجام والمودة والتفاهم ، فإذا انتفت انتفى كل شيء ، ومن هنا فان الشريعة الغراء جعلت الطلاق هو الحل النهائي الذي يكون بعد اليأس التام من إمكانية الاستمرار في العلاقة الزوجية. فإذا قررا ذلك فثمة جملة من الشرائط والمسائل المتعلقة بالطلاق لابد من مراعاتها.

فيشترط في المطلق : البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، والقصد. ويشترط في المطلقة : دوام الزوجية ، وخلوها من الحيض والنفاس ، فيما إذا كانت مدخولاً بها وكانت حاملاً ، ولو كانت غير مدخول بها أو حاملاً جاز طلاقها وإن كانت حائضاً. ويشترط في صحة الطلاق تعيين المطلقة مع تعدد الزوجات. وعدم تعليقه على الشرط المحتمل الحصول أو الصفة المعلومة الحصول متأخراً ، وسماع رجلين عدلين صيغة الطلاق التي هي قول الزوج : انت طالق أو هي طالق أو غير ذلك.

ومما ينبغي ذكره أن الطلاق على قسمين : بدعة ، وسنة. وطلاق البدعة هو : طلاق الحائض الحامل ، أو النفساء حال حضور الزوج مع امكان معرفة حالها أو مع غيبته كذلك أو قبل المدة المعتبرة ، والطلاق في طهر المواقعة مع عدم اليأس والصغر والحمل ، وطلاق المسترابة قبل انتهاء ثلاثة اشهر ، وطلاق الثلاث مرسلاً بأن يقول : هي طالق ثلاثاً كما يفعل ذلك أبناء العامة ، فإن هذه

١١٠

الثلاث لا تقع إلّا واحدة.

هذا ما يخص طلاق البدعة ، وأما طلاق السنة المطهّرة فهو قسمان : بائن ، ورجعي. أما البائن فهو طلاق اليائسة ، والصغيرة غير البالغة تسعاً ، وغير المدخول بها ، والمختلعة ، والمباراة مع الاستمرار على البذل ، والمطلقة ثلاثاً بينهما رجعتان. وأما غير ذلك فهو من الطلاق الرجعي الذي يجوز للزوج فيه الرجوع إلى زوجته في أثناء العدة خلافاً للبائن الذي لا يجوز له ذلك إلا بعقد جديد (١).

فإذا طلقت المرأة وجب عليها العدة وهي فترة من الزمان تقضيها المرأة المطلقة والمتوفى عنها زوجها. أما عدة الطلاق فهي اما انتظار المرأة ثلاثة حيضات أو ثلاثة أشهر ، واما عدة الوفاة فهي انتظار وتربص المرأة أربعة أشهر وعشرة أيام. ومعنى ذلك أن المرأة في هذه المدة لا يجوز لها الزواج فيها. هذا في غير اليائسة وهي المرأة التي بلغت من الكبر سناً انقطع فيه حيضها وهو في العادة خمسون سنة يزيد أو ينقص قليلاً ، وكذلك غير الصغيرة التي لم تبلغ السن الشرعي وهي تسع سنين هلالية. أما الحامل فعدتها هو وضع الحمل إذا كانت مطلقة ، وإذا كانت حاملاً فعدتها أبعد الأجلين : وضع الولد ، أو أربعة أشهر وعشرة أيام ، فأيهما الأبعد يمثل عدّتها.

ويجب على المعتدة عدة الوفاة الحداد ما دامت في العدة بترك الزينة في البدن واللباس وهذا الحكم ليس مختصاً بالزوجة الدائمة وانما هو شامل للمتمتع بها أيضاً. بل هو شامل أيضاً حتى للمطلقة بالطلاق الرجعي.

ومن الطلاق أيضاً ما يسمى بالخلع والمباراة ، فأما الخلع فهو أن تكره الزوجة زوجها بمعنى أنها لا ترغب في استمرار الحياة الزوجية معه فتبذل له مالاً

______________

(١) المبسوط ٥ : ٢ ، جواهر الفقه : ١٨٢ ، رياض المسائل ١٢ : ٢٤٢.

١١١

من أجل أن يطلقها أو يخلعها ، فإذا قبل الزوج بهذا العرض وقال لزوجته أنت طالق على كذا ـ بعد تحديد المال الذي بذلته المرأة له ـ أو خلعتك على كذا أو غير ذلك من العبارات التي تؤدي هذا المعنى فتنفصل العلقة الزوجية بينهما ولا يصح لهما التراجع إلا بعد أن ينكح المرأة زوجٌ آخر.

ومن الجدير بالذكر أن الخلع يشترط فيه جملة من الشرائط هي : الفدية المعلومة قدراً وصفة ، وأن تكون مما يصح أن يملك. وكذا يشترط أن يكون البذل باختيار المرأة ، وكراهة الزوجة للزوج ، وعدم كراهة الزوج لها ، وحضور شاهدين عادلين حال إيقاع الخلع ، وأن لا يكون معلقاً على شرط.

ويشترط في الخالع : البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، والقصد ، بخلاف المخلوعة فلا يشترط ذلك ، وإنما يشترط أن تكون في طهر لم يواقعها فيه إذا كانت مدخولاً بها ، وغير آيسة ، وأن لا تكون حاملاً ، ولا صغيرة دون التسع (١).

وأما المباراة فهي كالخلع تماماً بفارق بسيط وهو أن تكون الكراهة من كلا الزوجين ، فإذا كان الامر كذلك وقال الزوج بارأت زوجتي على كذا وهي طالق ، فقد بانت منه ، ويكفي أن يقتصر على الطلاق وتتحقق بذلك المباراة كما لا يجوز ان تكون الفدية هنا أكثر من المهر (٢) ، ولكن في كلا الأمرين ـ الخلع والمباراة ـ إذا رجعت الزوجة في البذل وهي في العدة جاز لزوجها الرجوع بها.

١ ـ الظهار :

وهو من العادات الجاهلية التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام ، وقد ______________

(١) رياض المسائل ١٢ : ٣٥١.

(٢) قواعد الاحكام ٢ : ٦٠ ، نهاية المرام ٢ : ٥ ، المهذب ٢ : ٢٩٧ ، رياض المسائل ١٢ : ٣٦٨.

١١٢

منعه الإسلام وحرّمه. ويتحقق الظهار بأن يقول الرجل لزوجته : انتِ عليّ كظهر أمي. يريد بذلك أنها محرمة عليه بزعمه كأمه تماماً لا يطأها رغم بقائها زوجة له. وقد يكون الظهار طول العمر وقد يحدده بمدة معينة وقد يعلقه على شرط ما وقد يكون مطلقاً. وهو يقع في الدائمة والمتمتع بها والامة من غير فرق. ومما ينبغي ذكره أن الظهار مختص بقول الرجل لزوجته لا العكس. ويعتبر فيه سماع شاهدي عدل ، وأن يكون المظاهر عاقلاً بالغاً مختاراً قاصداً ، وأن تكون الزوجة طاهرة من الحيض والنفاس طهراً لم يواقعها فيه وان تكون مدخولاً بها.

فإذا ظاهر زوجته أرتكب محرماً ، ولكن لا يجوز له حينئذ أن يطأ زوجته إلا بعد التكفير وهو ما نصت عليه آيات القرآن الكريم بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١).

هذا ، فإذا جامع زوجته قبل التكفير عامداً ، لزمته كفارتان : أحداهما للوطئ ، وأخرى لأرادة العود إليه ، وتتكرر الكفارة بتكرر الوطئ ، وتتكرر أيضا بتكرر الظهار مع تعدد المجلس.

هذا ما يخص الزوج وأما ما يخص الزوجة فتستطيع أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي الذي بدوره يمهل الزوج مدة اقصاها ثلاثة أشهر من حين المرافعة يخيره فيها بين الطلاق أو التكفير (٢).

______________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٣ ـ ٤.

(٢) السرائر ٢ : ٦٩٦ ، كشف الرموز ٢ : ٢٤٠ ، رياض المسائل ١٢ : ٣٧٥ و ٣٨٩.

١١٣

٢ ـ الإيلاء :

الإيلاء هو الحلف على ترك وطأ الزوجة ، ويشترط أن يكون الحلف بالله تعالى ، وأن يكون الغرض منه الإضرار بالزوجة. وأن يكون الزوج بالغاً كاملاً مختاراً قاصداً ، وأن تكون الزوجة منكوحة بالدائم مدخولاً بها ، وأن تكون مدة الإيلاء أزيد من أربعة أشهر أو يطلق في ايلائه.

فإذا فعل ذلك لزمه التكفير ، فإن فعل فبها ونعمت وإلا رفعت الزوجة إذا شاءت أمرها إلى الحاكم الشرعي ، فيقوم الأخير بإمهاله أربعة أشهر من حين المرافعة ، فإن رجع وكفر بعد الوطأ وإلّا ألزمه بالطلاق أو الفئة ، ومعنى الفئة هو الوطأ ، فإن أبى ضيق عليه الحاكم في الطعام والشراب حتى يرضخ ، فإن أصرّ على الامتناع طلقها الحاكم (١).

٣ ـ اللعان :

اللعان هو عبارة عن قذف الزوجة بالزنا مع ادعاء المشاهدة وعدم وجود بينة أو دليل يدعم هذا الادعاء. وفي المقابل إنكار المرأة لهذه التهمة. وحينئذ يتحاكمان إلى الحاكم الشرعي ، ويقوم الرجل بذكر الصيغة الخاصة بذلك بأن يقول أربع مرات : أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما قلته عن هذه المرأة. ثم يقول : أن لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين. وتقوم الزوجة بنفس الأمر ولكن بالعكس بأن تقول أربع مرات أيضاً : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين. ثم تقول : إن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين.

فإذا فعل الزوجان ذلك انفصلت العلقة الزوجية بينهما ، وتحرم تلك المرأة ______________

(١) الانتصار : ٣٢٦ ، المبسوط ٥ : ١١٤ ، شرائع الإسلام ٣ : ٦٤٢ ، رياض المسائل ١٢ : ٤٠٣.

١١٤

على ذلك الرجل تحريماً أبدياً. ولابد أن تتوفر الشروط اللازمة في ذلك من بلوغ الزوجين ، وسلامة الزوجة من الصمم والخرس ، ودوام النكاح ، فلا لعان في المنقطع ، ويشترط كذلك الدخول بها ، والتلفظ بالشهادة ، والقيام حال التشهد ، وتعيين المرأة ، والنطق بالعربية ، وغيرها من الشرائط الأخرى (١).

ثالثاً ـ الأَيْمَان :

قد يضطر الإنسان إلى اليمين في بعض الأحوال ، ولكن لا يعتبر هذا اليمين ذا أثر شرعي إلا إذا كان متوفراً لشرائط عديدة. منها أن يكون بالله عزّوجلّ واسمائه كأن يقول : بالله لأفعلن كذا ، وأما غير ذلك كالقسم بالمصحف ، أو أحد الأنبياء ، أو الكعبة ، أو غيرها فليس هذا يميناً شرعياً. وكذلك لابد أن يكون الحالف مكلفاً ، قاصداً ، مختاراً. وأن يكون متعلق اليمين : فعل الواجب ، أو المستحب ، أو المباح ، أو ترك الحرام ، أو المكروه ، أو المباح. وأن يكون متعلق اليمين كذلك فعله لأفعل غيره. وأن لا يكون اليمين معلقاً على شيء.

ومما ينبغي ذكره أنه لا يمين للولد مع الأب ، ولا للزوجة مع الزوج ، ولا للعبد مع المولى ، بمعنى أن للأب حل يمين الولد وكذا البقية.

فإذا انعقد اليمين يجب الالتزام به وإلّا حنث ، فتجب حينذاك الكفارة وهي التي نصت عليها الآية المباركة بقوله تعالى : ( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ

______________

(١) الانتصار : ٣٣٠ ، المهذب ٢ : ٣٠٦ ، رياض المسائل ١٢ : ٤٨٥.

١١٥

فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ... ) (١).

رابعاً ـ النذور :

والنذر قول الشخص مثلاً : إذا حصل كذا فللّه عليّ كذا ، ومن شروط النذر أن يكون الناذر : مكلفاً ، مختاراً ، قاصداً ، مأذوناً من الوالد أو الزوج أو المولىٰ بالنسبة إلى الولد أو الزوجة أو العبد. وأن يكون النذر لله تعالىٰ دون غيره ، بمعنىٰ أنه إذا قال مثلاً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ كذا لم ينعقد نعم ، إذا قال لله عليَّ كذا إذا حصل الأمر الفلاني ـ مثلاً ـ أوقف داري للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله انعقد ولزم ، فإذا تحقق النذر الصحيح لا بد من الوفاء به عند تحقق الشرط الذي علق عليه ، ومع العجز يسقط.

خامساً ـ العهود :

ومعنى العهد : أن يقول الإنسان مثلاً : عاهدت الله ، أو عليّ عهد الله إذا تحقق كذا شيء فعليّ كذا شيء ، وهو شبيه بالنذر ، ويجب الوفاء به ، ومع عدم الالتزام به يستحق المعاهد العقوبة من الله تعالى (٢).

______________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٨٩.

(٢) الكافي / الحلبي : ٢٢٥ ، النهاية : ٥٥٥. قواعد الاحكام ٢ : ١٢٩ ، رياض المسائل ١٣ : ١٦٧ و ٢٠١.

١١٦



الفصل الثالث : الأحكام

أولاً ـ اللقطة :

اللقطة معناها المال الضائع ، المجهول مالكه. وهذا الضائع ـ بهذه القيود ـ إما أن يكون إنساناً فيسمى لقيطاً ، وإما حيواناً فيسمى ضالّة ، وأما غيرهما كالأموال ، فيسمى لقطة بالمعنى الأخص.

فإذا وجد طفل لا يعرف له أهل في البلاد الإسلامية فإنه يُحكَم بإسلامه ولابد من أخذه والعناية به ، ويتكفّل به من التقطه أو عموم المؤمنين أو الحاكم الشرعي ، وينفق عليه من بيت المال ، وأما إذا كان له مال فيمكن الانفاق عليه من ذلك المال.

وأما الحيوان فإنه يُكره أخذه ويبقى عنده وديعة يعرّف به إلى أن يؤديه إلى مالكه ، فإن يئس منه ، تصدق به بإذن الحاكم الشرعي. هذا إذا وجده في المواضع المسكونة وما حولها. وأما إذا وجده في غير ذلك كالبراري والجبال ونحوها ، فإن كان الحيوان يستطيع أن يدافع عن نفسه عن الوحوش كالفرس أو البعير ، لا يجوز أخذه مطلقاً ، وإذا أخذه حينئذ كان آثماً وضامناً ، وتجب عليه نفقته ، ولا يرجع بها على المالك. وأما إذا كان الحيوان لا يقوى على الحفاظ على

١١٧

نفسه من الوحوش كالشاة وصغار الإبل والبقر وغيرها جاز أخذه ، ولابد له حينئذ من تعريفه لمدة سنة ، فأن لم يأت صاحبه جاز له تملكه والتصرف فيه بالأكل والبيع.

وأما المال الذي يسمى لقطة بالمعنى الأخص ، فإنه يجوز أخذه على كراهة. واللقطة إما أن تكون مالاً حقيراً ، وهو ما كان أقلّ من الدرهم الشرعي ، أو خطيراً ، وهو ما زاد على الدرهم الشرعي وقد يكون المدار على العرف في تمييز المال الحقير من الخطير. فأما المال الحقير فيمكن أخذه وتملكه من دون حاجة إلى التعريف أو ما شابه ذلك ، وأما الخطير فلابد من التعريف به ، والبحث عن مالكه لمدة سنة كاملة ، فإن كان هذا المال الضائع في الحرم المكي الشريف فالأحوط أن يتصدق به عن مالكه وليس له تملكه ، وأما إذا وجده في بقاع الأرض الأخرىٰ ، فإنه يتخير بين أمور ثلاثة : إما تملّكه مع الضمان إذا ظهر صاحبه بعد ذلك. أو التصدق به مع الضمان أيضاً ، أو ابقاؤه أمانة في يده بلا ضمان. ولكن قد تكون اللقطة من الأمور التي تتلف بسرعة كالمواد الغذائية أو اللحوم ففي هذه الحالة يجوز له أن يقومها الملتقط على نفسه ، ويتصرف فيها بما شاء ، ولكن يبقى الثمن في ذمته للمالك (١).

ثانياً ـ الغصب :

الغصب هو الاستيلاء على مال الغير ظلماً ، سواءً أكان ذلك المال نقداً أو عيناً ، والغصب حرام في شرع الله ، وهو كذلك بحكم العقل ؛ لأنه ظلم وتعدٍ ،

______________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ٧٩٩ ، تحرير الأحكام ٢ : ١٢٣ ، الدروس ١ : ٧٣.

١١٨

والعقل يعلم قبحه ، فإذا غصب شخص شيئاً ضمن ذلك الشيء.

ولو أن الغاصب غُصِبَ منه ما اغتصبه ، فإن المالك في الخيار في تحميل مسؤولية الضمان لأي واحد منهما. وهذا الحكم ليس خاصاً بأموال المسلمين ، وإنما هو شامل لكل مال محترم عند أصحابه ، ولذلك لو غصب المسلم أو أتلف من الذمي ـ وهو الكتابي المعاهد الذي يعيش في الدولة الإسلامية ـ خمراً أو خنزيراً فهو ضامن لهما بقيمتهما المتعارفة عندهم إذا كان ذلك الذمي مستتراً بمعنى عدم الإجهار بهما ، ويجب رد المغصوب ، فإن أصابه عيب ضمن الأرش ، فأن تعذّر الرد ، ضمن مثله أو قيمته إذا لم يكن له مِثْلٌ ، ويكون في سعر يوم الغصب لا الأداء. وكل زيادة تطرأ على العين المغصوبة فهي للمالك وإن كانت بسبب الغاصب ، كمن غصب شاة فاطعمها جيداً فزاد وزنها أو لبنها. وأما لو غصب أرضاً فزرعها فإن الزرع للغاصب ، ولكن عليه إجرة المثل للمالك بالنسبة إلى الأرض. ومن وجد ماله عند الغاصب جاز له أخذه ولو قهراً ، وإذا وقع في يده مال الغاصب جاز أخذه مقاصة واستيفاءاً لحقه ، ولا يتوقف ذلك على إذن من الحاكم الشرعي ، على أن لا يأخذ أكثر من حقه (١).

ثالثاً ـ إحياء الموات :

المراد بالموات : الأرض المتروكة التي لا يُنتَفَع بها ، إما لعدم المقتضي لاحيائها ، وإما لوجود المانع عنها ، كانقطاع الماء عنها ، أو كثرة ملوحتها ، أو رمالها إلى غير ذلك.

______________

(١) جامع المقاصد ٦ : ٢٠٦ ، مسالك الافهام ١٢ : ١٤٥.

١١٩

والموات على نوعين :

١ ـ الموات بالأصل وهو ما لم يعلم بعروض الحياة عليه ، أو علم عدمه ، كأكثر البراري والمفاوز والبوادي وسفوح الجبال ونحو ذلك.

٢ ـ الموات بالعارض وهو ما عرض عليه الخراب بعد الحياة والعمران.

وتترتب على هذا التفريق بين النوعين المذكورين أحكام ، فمثلاً يجوز لكل أحد أن يحيي الأرض الموات بالأصل بزرع أو بناء أو غير ذلك ويستطيع امتلاك الأرض الموات بالإحياء ولا فرق بين المسلم والكافر في هذا الحكم. وأما النوع الثاني فليس الأمر فيه على نحو واحد حيث ينقسم بدوره إلى ثلاث صور :

١ ـ ما لا يكون له مالك كالأراضي المتروكة والخربة وحكمها حكم من كانت ميتة بالأصل ، فيمكن ـ حينئذ ـ إحياؤها وتملكها.

٢ ـ ما كان له مالك ولكنه مجهول لا يعرف شخصه ، وهنا يوجد اختلاف بين الفقهاء في امكان إلحاقها بالقسم الأول من عدمه ، ولكن المشهور هو الإلحاق.

٣ ـ ما يكون له مالك معلوم ، وهذا القسم إن أعرض عنه صاحبه جاز لكل أحد إحياؤه ، وإن لم يعرض عنه ففيه احتمالان :

الأول : أن يبقيه مواتاً للانتفاع به على تلك الحال من حشيشه أو قصبه ، أو جعله مرعى لدوابه ، أو أنه ينتظر الفرصة المناسبة لكي يحييه ، فحكمه حينئذ هو عدم جواز إحيائه من قبل أي شخص أو التصرف به إلا بإذن المالك.

الاحتمال الثاني : أن يعلم إن بقاءه لا من جهة الانتفاع به ، وإنما بسبب عدم الاعتناء به ، وحينئذ فلا إشكال في جواز إحيائه من قبل أي شخص آخر ، ولكن هذا الحكم متوقف على أن يكون سبب ملكية الأول هو نفس

١٢٠