موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وهذه الرواية أتم واكمل ، وليس فيها أن الاستثناء نزل بعد اعتراض ابن الزبعرى ، بل فيها أن الاستثناء كان من قبل وأن الرسول أشار إليه في حديثه.

والخبر ـ كسابقه ـ بظاهره لا ينسجم مع أيام حصار الشعب ، الّا اذا كان في أيام الموسم.

السورة التاسعة والسبعون ـ «المعارج» :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ...)(١) روى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الحسن قال : سأل المشركون النبيّ فقالوا : لمن هذا العذاب الّذي تذكر يا محمّد! فجاء جوابه بأنه (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) وعن مجاهد قال : انّ السائل هو النضر بن الحارث بن كلدة وقال : اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فيكون المعنى : دعا داع على نفسه بعذاب واقع ، مستعجلا له ، وهو واقع بهم لا محالة (٢). والظاهر أنّ مجاهد نقل ذلك عن شيخه ابن عباس ، كما روى عنه ذلك السيوطي في «الدر المنثور» بأسناده. ورواه عن السدي قال : نزلت بمكّة في النضر بن الحارث ، وكان عذابه يوم بدر (٣) وفي بعض الروايات أن القائل هو الحارث لكنّه ابن علقمة من بني عبد الدار ، وفي بعضها أنّه هو أبو جهل بن هشام المخزومي.

وعليه فلا محلّ لما رواه الطبرسي في «مجمع البيان» عن الحاكم الحسكاني بسنده عن سفيان بن عيينة عن الصادق عليه‌السلام : أنّ الآية نزلت في النعمان بن الحارث الفهري حينما أنكر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نصبه لعلي عليه‌السلام يوم الغدير (٤) اللهم الّا أن تكون حادثة ثانية مشابهة تليت فيها الآيات بالمناسبة.

__________________

(١) المعارج : ١ ، ٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٥٢٩.

(٣) التبيان ٨ : ٢٢٨.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٥٣٠.

٦٠١

السورة الرابعة والثمانون ـ «الروم» :

(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ)(١).

قال الشيخ الطوسي في «التبيان» : روي : أن سبب ذلك هو أنّ الروم لمّا غلبتها فارس فرح المشركون بذلك وقالوا : أهل فارس لا كتاب لهم غلبوا أهل الروم وهم أهل كتاب ، فنحن لا كتاب لنا نغلب محمّدا الّذي معه كتاب. فأنزل الله تعالى هذه الآيات تسلية للنبيّ والمؤمنين بأن الروم وان غلبتها فارس فانّها ستغلب فارس في ما بعد بضع سنين. قال أبو سعيد الخدري : كان النصر يوم بدر للفريقين : للنبيّ على قريش وللروم على فارس ، ففرح المؤمنون بالنصرين. وقيل : كان يوم الحديبية (٢).

ونقل الطبرسيّ القول الأوّل عن مقاتل قال : فلمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكّة وأخبر رسول الله : أنّ الروم غلبت فارسا ففرح المؤمنون بذلك. ونقل القول الثاني عن الزهري قال : كان ظهور فارس على الروم في تسع سنين ، ثمّ أظهر الله الروم على فارس زمن الحديبية ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب (٣).

امّا عن معنى «أدنى الأرض» فقد نقل عن الزجّاج قال : أي في أدنى الأرض من أرض العرب. ثمّ عيّنها عن عكرمة فقال : يريد أذرعات وكسكر (٤)

__________________

(١) الروم : ١ ـ ٤.

(٢) التبيان ٨ : ٤٦١.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٤٦١.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٤٦٠.

٦٠٢

ونقل الطبري عن عطاء عن يحيى بن يعمر أن أذرعات وبصرى هي أدنى أرض الشام الى العرب (١).

وعن أذرعات قال الطبري في تأريخه : مدينة أذرعات وبصرى من كور حوران من الشام (٢) بينما قال الحموي في «معجم البلدان» : بلد في أطراف الشام ممّا يلي البلقاء وعمّان (٣). وهذا هو الأدنى من أرض العرب في الحجاز دون بصرى وحوران الشام. وأمّا كسكر فانها من أرض السواد أي العراق كانت في أسفل دجلة بعد المدائن قرب الواسط ، ولعلّها هي أو قريبة من قلعة سكر ، وكانت الأدنى من أرض العرب من جهة العراق.

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن مجاهد أن المقصود من «أدنى الأرض» هو أدنى الأرض من أرض الشام الى أرض فارس يريد الجزيرة ، فهي أقرب أرض الروم الى فارس (٤) وقال الشيخ الطوسي في «التبيان» : والمراد أدنى الأرض الى جهة عدوّهم (٥) بينما قال الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» : كان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعتهم فارس عنه ، وهو قوله (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ)(٦).

وما أسرع ما يتبادر الى الذاكرة تذكّر أن القرآن قد عبّر عن مسجد بيت المقدس بالمسجد الأقصى ، فليس مقبولا أن تكون الأرض أدنى والمسجد فيها المسجد الأقصى.

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٨٥.

(٢) الطبري ١٠ : ١٢٢.

(٣) معجم البلدان ١ : ١٦٢.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٤٦٠.

(٥) التبيان ٨ : ٢٢٩.

(٦) مجمع البيان ٨ : ٤٦٠.

٦٠٣

أمّا تمام الخبر عن عكرمة فهو ما رواه الطبري في تفسيره وتأريخه بسنده عنه قال : اقتتل فارس والروم في أدنى الأرض وهي يومئذ أذرعات فهزمت الروم ، فبلغ ذلك النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وأصحابه وهم بمكّة ، فشقّ ذلك عليهم. وكان النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ يكره أن يظهر الامّيون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، وفرح الكفار بمكّة وشمتوا ، فلقوا أصحاب النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فقالوا : انكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن امّيّون ، وقد ظهر اخواننا من أهل فارس على اخوانكم من أهل الكتاب ، وانكم ان قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم فأنزل الله : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ).

فخرج أبو بكر الى الكفّار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا! فلا تفرحوا ولا يقرّنّ الله أعينكم ، فو الله ليظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبيّنا.

فقام إليه ابيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت يا أبا فصيل!

فقال له أبو بكر : أنت اكذب يا عدوّ الله!.

فقال : اناحبك (اراهنك) عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك ، فان ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت ، الى ثلاث سنين.

ثمّ جاء أبو بكر الى النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فأخبره.

فقال : ما هكذا ذكرت ، انما البضع : ما بين الثلاث الى التسع ، فزايده في الخطر (أي الرهن) ومادّه في الأجل.

فخرج أبو بكر فلقي ابيّا فقال : لعلك ندمت ، قال : لا ، تعال ازايدك في الخطر (الرهن) ومدّني في الأجل ، فنجعلها مائة قلوص الى تسع سنين ، فقبل ابيّ (١).

__________________

(١) تأريخ الطبري ٢ : ١٨٤ ـ ١٤٥ وفي التفسير ٢٠ : ١٣ ط بولاق.

٦٠٤

روى الطبري ذلك وقال : قيل : ان قول الله تعالى (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) نزل فيما كان بين ملك الروم هرقل وملك فارس پرويز (١).

وقال عنه : هو خسرو پرويز بن هرمز. وكان جميع مدة ملك هرمز اثنتي عشرة سنة (٢) وروى عن هشام الكلبي قال : في سنة احدى عشرة من ملك هرمز ، خرج عليه الترك في ثلاثمائة الف مقاتل حتّى صاروا الى هراة وبادغيس ، وان ملك الروم (موريقي قيصر (٣)) صار الى الضواحي في ثمانين الف مقاتل قاصدا إليه. وان ملك الخزر صار في جمع عظيم الى باب الأبواب (دربند) فعاث وأخرب ، وإن رجلين من العرب أحدهما : عباس الأحول ، وعمرو الأزرق ، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطئ الفرات وشنّوا الغارة على أهل السواد ...

فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك وشاور فيه فاجمعوا على أن يبدأ بملك الترك (شابه) فوجّه إليه رجلا من أهل الريّ هو بهرام چوبين في اثني عشر الف رجل اختارهم بهرام من الكهول دون الشباب. فجرت بينهما حروب حتّى قتل بهرام شابه برمية رماه اياها ، فوافاه برموذة بن شابه وكان يعدل بأبيه ، فحاربه فانهزم وتحصّن في حصن فحاصره (٤) فطلب برموذة بن شابه الأمان على أن يكون ذلك من هرمز الملك ، فكتب بهرام الى هرمز فأجابه وكتب له كتاب أمان ، وكتب الى بهرام أن يسرّحه إليه. فخرج برموذة بن شابه من الحصن وصار الى هرمز ، فاكرمه وبرّه واجلسه معه على السرير (٥).

__________________

(١) تأريخ الطبري ٢ : ١٨٤.

(٢) الطبري ٢ : ١٧٦.

(٣) مختصر الدول لابن العبري : ٩٠ في السنة السادسة من ملكه وملك عشرين سنة.

(٤) الطبري ٢ : ١٧٤.

(٥) اليعقوبي ١ : ١٦٧.

٦٠٥

وغنم بهرام ما كان في الحصن ، وكانت كنوزا عظيمة ، فحملها الى هرمز على مائتين وخمسين الف بعير ، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه وللغنائم الّتي صارت إليه (١).

وأخبر برموذة هرمز بما صار الى بهرام من الأموال والكنوز العظام ، وأنّه قد كتم ذلك عن امناء هرمز ، وأن الّذي بعث به قليل من كثير. فكتب هرمز الى بهرام يأمره أن يحمل إليه ما في يده من الأموال. فغلظ ذلك على بهرام وأخبر به جنده ، فذكروا هرمز أقبح ذكر ، وخلعوه. وبعث الى هرمز بسفط فيه سكاكين معوجّة الرءوس ، فلمّا رآها هرمز علم أنّه قد عصى فقطّع أطراف السكاكين وردّها إليه ، فعلم بهرام ما أراد ، فارسل الى خاقان ملك الترك يطلب صلحه على أن يردّ عليه كل أرض حازها من بلاده ، فقبل خاقان ، ففعل بهرام ذلك ، ثمّ سار حتّى صار الى الريّ.

وكان قد بلغ هرمز أن قوما قد حملوا ابنه پرويز على أن يثور على أبيه ، وكان بهرام يعلم بذلك ، فدبّر ليوقع شرا بين هرمز وبين ابنه خسرو پرويز ، فضرب دراهم كثيرة كتب عليها اسم پرويز وبعث بها الى مدينة هرمز فكثرت في أيدي الناس حتّى بلغ هرمز خبرها ، فأراد أن يحبس ابنه خسرو پرويز ، فلمّا بلغ الخبر پرويز هرب الى آذربايجان ، فاجتمع إليه من بها من رؤسائها والمرازبة أهل الثغور فبايعوه. وكان جند هرمز كارهين لولايته فكتبوا الى ابنه پرويز ، فقدم بجيش من آذربايجان ، فخلعوا هرمز ، وملّكوا پرويز ، وسملوا عين هرمز وحبسوه. واستقام الأمر لپرويز. فقصده بهرام بجنده ، فخرج پرويز إليه حتّى تواقفوا في النهروان ، فكلمه پرويز وعظّم عليه الأمر ، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد ، والتحموا

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٧٥.

٦٠٦

فانكشف عن پرويز جنده وأسلمه أصحابه ، فهرب ومضى حتّى صار الى «الرّها» يريد موريقي ملك الروم ، فكتب صاحب «الرها» الى موريقي ملك الروم يخبره أنّه أتاه لينصره. فأجابه ملك الروم فوجّه إليه پرويز بثلاثة نفر من أصحابه فشرط عليهم كل ما أراد ، وزوّج پرويز ابنته ووجّه معهم بجيش عظيم ، وعليهم أخ له يقال له ثيادوس ، فابتنى پرويز بابنة ملك الروم موريق ثمّ سار بجيشه الى ناحية آذربايجان ، وكان خاله بندي صار الى آذربايجان ليجد جندا ، فلمّا علم بمكان پرويز لقيه في جيش عظيم ، فزحف پرويز بهم الى بهرام فحاربه محاربة شديدة وأخذت الحرب من الفريقين ، واشتدت الحرب حتّى انهزم پرويز وصعد في الجبل وكاد يهلك ، ثمّ ثاب إليه جنده ، فثابوا الى الحرب حتّى انهزم بهرام چوبين فمضى منصرفا لا يلوي على شيء متوجها الى ملك الترك.

واستقام الأمر لخسرو پرويز ، فكتب الى صاحب الروم بذلك ، وكتب في النصارى أن يكرّموا ويقدّموا ويبرّزوا ويخبروا بما قد جرى بينه وبين الرومي من العصمة واللحمة والموادعة. وأهدى إليه ملك الروم ثوبين فيهما الصلب فلبسهما (١).

ويقال : إن پرويز كتب للنصارى كتابا أطلق فيه عمارة بيعهم ، وأن يدخل في ملّتهم من أحبّ الدخول فيها من غير المجوس ، واحتجّ في ذلك أن أنوشيروان كان هادن قيصر في الأتاوة الّتي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده واتخاذ بيوت النيران هنالك ، وإنّ قيصر (موريقي) اشترط مثل ذلك في النصارى. ولم يزل پرويز يبرّ بموريقي ويلطف له (٢).

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٢) الطبري ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١.

٦٠٧

كان هذا ما في تأريخي اليعقوبي والطبري المسلمين ، أمّا ابن العبري المسيحي فقد أرّخ للموضوع بالسنة الثامنة من ملك موريقي ، قال : وفي السنة الثامنة لموريقي وثب الفرس على هرمز فسملوا عينيه ثمّ قتلوه وملّكوا عليهم بهرام المرزبان. وكان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى (پرويز) فتنكّر كأنّه سائل وشق سلطان الفرس حتّى جاء نصيبين وصار الى الرّها ومنها الى منبج ، وكتب الى موريقي كتابا نسخته :

«للأب المبارك والسيد المقدّم موريقي ملك الروم ، من كسرى بن هرمز ابنه ، السلام. أمّا بعد فاني اعلم الملك : أن بهرام ومن معه من عبيد أبي ، جهلوا قدرهم ونسوا أنهم عبيد وأنا مولاهم ، وكفروا نعم آبائي لديهم ، فاعتدوا عليّ وأرادوا قتلي : فهممت أن أفزع الى مثلك فأعتصم بفضلك وأكون خاضعا لك ، لأن الخضوع لملك مثلك وإن كان عدوا أيسر من الوقوع في أيدي العبيد المردة ، ولئن يكون موتي على أيدي الملوك أفضل وأقل عارا من أن يجري على أيدي العبيد. ففزعت إليك ثقة بفضلك ورجاء أن تترأف على مثلي ، وتمدّني بجيوشك لأقوى بهم على محاربة العدو وأصير لك ولدا سامعا ومطيعا ، إن شاء الله تعالى».

فلمّا قرأ موريقي كتاب كسرى (پرويز) بن هرمز عزم على اجابة مسألته ... وكتب إليه كتابا نسخته : «من موريقي عبد ايشوع المسيح ، الى كسرى ملك الفرس ، ولدي وأخي ، السلام ، أمّا بعد ، فقرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر العبيد الّذين تمرّدوا عليك وكونهم غمطوا أنعم آبائك وأسلافك غمطا ، وخروجهم عليك ودحضهم إياك عن ملكك ، فداخلني من ذلك أمر حرّكني على الترؤّف بك وعليك وامدادك بما سألت. فأما ما ذكرت من أن الاستتار تحت جناح ملك عدو ، والاستظلال بكنفه آثر من الوقوع في أيدي العبيد المردة ، والموت على أيدي الملوك أفضل من الموت على أيدي العبيد. فانك اخترت أفضل الخصال ، ورغبت إلينا في

٦٠٨

ذلك ، فقد صدّقنا قولك وقبلنا كلامك وحقّقنا أملك وأتممنا بغيتك وقضينا حاجتك وحمدنا سعيك وشكرنا حسن ظنّك بنا. ووجّهنا إليك بما سألت من الجيوش والأموال ، وصيّرتك لي ولدا وكنت لك أبا. فاقبض الأموال مباركا لك فيها ، وقد الجيوش وسر على بركة الله وعونه ، ولا يعترينّك الضجر والهلع ، بل تشمّر لعدوك ولا تقصّر فيما يجب لك اذا تطأطأت من درجتك وانحططت عن مرتبتك ، فاني أرجو أن يظفرك الله بعدوّك ويكبّه تحت موطئ قدميك ويردّ كيده في نحره ويعيدك الى مرتبتك برجاء الله تعالى».

وأنجده بعشرين ألفا (لا ستون الف مقاتل كما سبق عن الطبري عن الكلبي) وسيّر له الأموال أربعين قنطارا ذهبا. فلمّا وردت الجيوش على كسرى وقبض الأموال وقرأ الكتاب سار مع جيوش الروم نحو بهرام فلقيه بين المدائن وواسط (لا النهروان ولا آذربايجان) فصارت الهزيمة على بهرام وقتل أصحابه كلهم ، واستباح كسرى پرويز عساكر بهرام ورجع الى مملكته فجلس فيها وبايعه الناس.

ثمّ دعا بالروم فاحسن جائزتهم وصرفهم الى صاحبهم ، وبعث معهم الى موريقي من الألطاف والأموال أضعاف ما كان أخذ منه ، وردّ دارا وميافارقين الى الروم ، وأمر ببناء هيكلين للنصارى بالمدائن وجعل أحدهما باسم السيدة (مريم) والآخر باسم مار سرجيس الشهيد.

أمّا موريقي فبعد مصالحته للفرس قطع أرزاق جنوده ، فاجتمع عظماء الروم الى مدينة هرقلة وأرادوا تمليك أخيه فطري فهرب ، وهرب موريقي الى خلقيدونية ، فلحقته الروم فألفوه وعليه خلقان في زي الفقراء والسؤال فقتلوه في العشرين من ملكه وملّكوا عليهم رجلا من بطارقتهم يقال له فوقا.

فلمّا بلغ كسرى بن هرمز قتل موريقي ، نقض العهد ، وغزا دارا فافتتحها ، وافتتح أيضا آمد وحلب ، ثمّ عطف على قنّسرين ورجع الى الرّها.

٦٠٩

وفي السنة الثامنة من ملك فوقا خرج عليه هرقل بن هرقل من افريقية ، وركب البحر بجيوشه والفاه هادئا ساكنا فسبق الى القسطنطينية ودخلها وقتل فوقا وتملك هو بمكانه بعده احدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر.

وفي أوّل سنة من ملكه أرسل وفدا الى ملك الفرس ليصالحه فلم يجبه الى ذلك بل غزا أنطاكية وفاميّة وحمص وقيسارية وافتتحها ، وفي السنة الخامسة من ملكه افتتح الفرس البيت المقدس ، وبعد ثلاث سنين افتتحوا الاسكندرية ومصر ووصلوا الى النوبة وغزوا خلقيدونية فافتتحوها ، وفي السنة الخامسة عشرة من ملكه غزا الفرس جزيرة روديسيا فافتتحوها ، وأمر كسرى (پرويز) أن يؤخذ رخام الكنائس الّتي في جميع المدن الّتي فتحها الى المدائن.

ولكن في آخر هذه السنة غزا هرقل الفرس فافتتحوا مدينة كسرى وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (١).

ويفيد تاريخ ابن العبري أن اجتماع عظماء الروم لخلع موريقي من الملك ونصب أخيه فطري بمكانه وفي النهاية تمليك البطريق فوقا كان بعد عشرين سنة من ملك موريقي واثنتي عشرة سنة من ملك خسرو پرويز (٢).

بينما يحكي الطبري عن الكلبي يقول : حتّى مرّ على ملك پرويز أربع عشرة سنة فخلع الروم موريقي وقتلوه وأبادوا ورثته ، وملّكوا عليهم رجلا يقال له فوقا.

فلمّا بلغ پرويز نكث الروم عهد موريقي وقتلهم اياه ، امتعض من ذلك وأنف منه ، وأخذته الحفيظة له ، وهرب ابن موريقي فالتجأ الى پرويز فآواه وملّكه على الروم ووجّه له الى بلاد الروم ثلاثة من قواده في جنود كثيفة (٣).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري الملطي ت ٦٨٥ ه‍ : ٩٠ ـ ٩٢.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ٩٠.

(٣) الطبري ٢ : ١٨١.

٦١٠

ثمّ تسمي رواية الطبري القواد الثلاثة على التوالي : دميران أو رميوزان ، والآخر : شاهين ، والثالث : فرّهان وتدعى مرتبته شهر براز. وتؤرخ لحملة القائد الأوّل : دميران على الشام وفلسطين وبيت المقدس خاصة بأربع وعشرين من ملك پرويز ، وهو يطابق ما في تأريخ ابن العبري : أن الفرس في السنة الخامسة من ملك هرقل افتتحوا البيت المقدس (١) وما في سائر التواريخ الفارسية والأجنبية : أنّ ذلك كان في السنة السادسة للبعثة و ٦١٥ م (٢).

وتؤرخ ـ رواية الطبري عن الكلبي ـ لحملة القائد الآخر ، شاهين على إفريقيا ومنها مصر والاسكندرية خاصة بسنة ثمان وعشرين من ملك پرويز ، وهذا يقارب من تأريخ ابن العبري لذلك حيث قال : وبعد ثلاث سنين ـ من فتح بيت المقدس ـ افتتحوا الاسكندرية ومصر ووصلوا الى بلاد النوبة (٣) (أي في سنة ٦١٨ م).

وتؤرخ رواية الطبري عن الكلبي لحملة القائد الثالث : فرّهان وتدعى مرتبته شهر براز متّجها الى القسطنطينية بأمرين : أولا بقتل فوقا الملك وتملك هرقل ، وهذا كان في سنة ٦١٠ م سنة البعثة ، بعد ثماني سنين من قتل موريقي وتملّك فوقا وبدء الحملات ٦٠٢ م. وتؤرّخ لها ـ ثانيا ـ بحملة هرقل على مملكة الفرس حتّى كان قريبا من المدائن ، ويؤرّخ ابن العبري لذلك بالسنة الخامسة عشرة من ملك هرقل ، أي سنة ٦٢٥ م ، والفاصل بين التأريخين : خمس عشرة سنة ، ممّا لا يحتمل

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ٩١.

(٢) بالفارسية : تاريخ ايران قديم : ٢٢٢ تأليف : پيرنيا ، وعن الترجمة الفارسية : تاريخ ايران للجنرال السير پرسي سايكس ١ : ٦٦٥ ـ ٦٧٠. هذا اذا بنينا على أن ميلاد الرسول كان في السنة الأربعين من ملك كسرى و ٥٧٠ م وأن بعثته كانت في ٦١٠ م.

(٣) مختصر تأريخ الدول : ٩١ ، ٩٢.

٦١١

معه أن تكون الحملة حملة واحدة ، بل حملتين هما مع حملتي القائدين السابقين تكون الحملات في رواية الطبري عن الكلبي أربع حملات على التوالي : شهر براز فرّهان في ٦١٠ م ودميران في ٦١٥ م وشاهين في ٦١٨ م وشهر براز فرّهان أيضا في ٦٢٥ م. اولى هذه الحملات في سنة ٦١٠ م أي بعد قتل موريقي واستخلاف فوقا بثمان سنين بينما الحملات ـ ولا سيّما الاولى ـ موصوفة بأنها كانت للانتقام لحمي پرويز موريقي ولتمليك ابنه اللاجئ الى پرويز بعد ابيه ، فهل كان ذلك بعد هذه المدة؟! ولا تذكر التواريخ الاسلامية حملة قبل ذلك.

ولكن التواريخ الفارسية والأجنبية تؤرّخ لحملة في سنة ٦٠٥ م حاصرت مدينة دارا فيما بين النهرين وافتتحتها بعد عدة أشهر. وفي سنة ٦٠٧ م لثلاث سنين قبل البعثة سخّرت مدن ديار بكر : آمد ، وإدس ، وحرّان ، وقلاعا روميّة اخرى ، وعبرت الفرات في سورية واستولت على مدينة حلب وتقدمت حتّى قرب بيروت الحالية (١) وعن هذه الحملات قال ابن العبري : فلمّا بلغ كسرى بن هرمز قتل موريقي ، نقض العهد وغزا دارا فافتتحها وافتتح أيضا آمد وحلب ، ثمّ عطف على قنسرين ورجع الى الرّها (٢).

وهنا تأتي الحملة الاولى الّتي ذكرتها رواية الطبري عن الكلبي للقائد الفارسي : فرّهان والّذي تدعى مرتبته : شهر براز : أمره كسرى (پرويز) فقصد القسطنطينية وخرّب بلاد الروم غضبا ممّا انتهكوا من موريقي وانتقاما له منهم حتّى أناخ في ضفة الخليج القريب من القسطنطينية وخيّم هناك ، ولم يخضع لابن موريقي

__________________

(١) بالفارسية : تاريخ ايران قديم : ٢٢٢ تاليف : پيرنيا ، وعن الترجمة الفارسية : تاريخ ايران للسير پرسي سايكس ١ : ٦٦٥ ـ ٦٧٠.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ٩١.

٦١٢

من الروم أحد ولم يمنحه الطاعة ، غير أنهم قتلوا فوقا الملك ، وملّكوا عليهم رجلا يقال له هرقل (١) وكان ذلك في سنة ٦١٠ م سنة البعثة ، وكان هرقل (هراكليوس) قائدا روميا في كاراتاز (تونس حاليا) ومنها قدم الى القسطنطينية وتقلد أزمة الامور بمساعدة الشعب (٢) وكان هرقل بن فوق (كذا) بن مرقس يختلف من مدينة سلونيقية ـ وهو من أهلها ـ الى القسطنطينية بالزاد في البحر وهم محاصرون (بحصار شهر براز) فبانت شهامته وظهرت شجاعته وأحبّه أهل القسطنطينية ، فخلا بالبطارقة وذوي المراتب فاغراهم بفوقاس ، وذكر لهم ما نزل بهم في أيامه وذكّرهم بسوء آثاره فيهم وغلبة الفرس على ملكهم بسوء تدبيره وقبح سياسته واقدامه على الدماء ، ودعاهم الى الفتك به ، فأجابوه الى ذلك فقتلوه. واجتمعت البطارقة وغيرهم من ذوي المراتب من الروم وغيرهم بعد قتل فوقاس لاختيار من يصلح للملك ، فوقع اختيارهم ـ بعد خطب طويل وتنازع كثير ـ على هرقل ، فملّكوه. ذكر ذلك المسعودي في «التنبيه والاشراف» ولكنه قال : كان ملكه (هرقل) لثلاث وثلاثين سنة خلت من ملك كسرى پرويز ملك بابل ، فملك خمسا وعشرين سنة ـ وقيل اكثر من ذلك ـ وفي أوّل سنة من ملكه كانت هجرة رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ (٣).

بينما قال قبل ذلك في «مروج الذهب» : ثمّ ملك هرقل وكان قبل ذلك بطريقا في بعض الجزائر ، ولسبع (أو تسع) سنين من ملكه كانت هجرة النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ من مكّة الى المدينة. وهو الّذي ضرب الدنانير والدراهم الهرقلية ،

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٨٢.

(٢) التاريخان الفارسيان السابقان.

(٣) التنبيه والإشراف : ١٣٣ ، ١٣٤.

٦١٣

وكان ملكه خمس عشرة سنة. وفي تواريخ أصحاب السير : أن رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ هاجر وملك الروم قيصر بن موريق. وفي تواريخ ملوك الروم ممن سلف وخلف : أن ملك الروم كان في وقت ظهور الاسلام «هرقل» (١).

ومن تواريخ الروم «تأريخ مختصر الدول» لغريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري المتوفى في سنة ٦٨٥ م قال : ملك هرقل قيصر احدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر ، وفي أوّل سنة من ملكه أرسل وفدا الى ملك الفرس ليصالحه فلم يجبه الى ذلك. بل غزا أنطاكية وفامية وحمص وقيسارية وافتتحها (٢).

وقال المسعودي : وسيّر (خسرو پرويز) شهريار مرزبان المغرب الى حرب الروم فنزل أنطاكية ، فكانت له مع الروم وپرويز أخبار ومكاتبات وحيل الى أن خرج ملك الروم الى حرب شهريار وقدّم خزائنه في البحر في الف مركب ، فألقتها الريح الى ساحل انطاكية ، فغنمها شهريار وحملها الى پرويز ، فسمّيت خزائن الريح (٣).

أمّا عن تاريخ هذه الحملة : فالذي يتفق مع تاريخ ابن العبري ولا يختلف مع المسعودي هو ما جاء في الترجمة الفارسية لتأريخ ايران للسير پرسي سايكس أن ذلك كان في سنة ٦١١ م أي السنة الثانية للبعثة.

وفي السنة الخامسة للبعثة (٦١٤ م) استولى الفرس على دمشق.

وفي السنة السادسة للبعثة (٦١٥ م) حاصروا بيت المقدس حتّى افتتحوها ونهبوها بمعونة ستة وعشرين الف يهودي فيها. وبحثوا عن الصليب الّذي

__________________

(١) مروج الذهب ١ : ٣٦١ ، ٣٦٢ ط بيروت.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ٩١.

(٣) مروج الذهب ١ : ٣٠٦.

٦١٤

كان النصارى يعتقدون أن المسيح صلب عليه ، فكان لهم أقدس شيء على وجه الأرض ، حتّى حصلوا عليه فبعثوا به الى عاصمتهم تيسفون (بغداد حاليا تقريبا) فأرسل پرويز رسالة الى هرقل قال فيها :

«من خسرو شاهنشاه : ملك الملوك وربّ الأرض ، الى هراگليوس عبده الحقير عديم الغيرة! أنتم الذين تقولون انكم معتمدون على ربّكم المسيح ومتوكّلون عليه ، فلمّا لم يقدر أن يخلّص بيت المقدس من يدي لا تخدعوا أنفسكم بالباطل بهذه العقيدة الفارغة الّتي لكم بالمسيح ، فانه لم يقدر حتّى على أن يخلص نفسه من مخالب اليهود ، حتّى صلبوه ووتّدوا بدنه وقتلوه بذلك الوضع الفضيع» (١).

وعن هذه الحملة حكى الطبري عن الكلبي قال : وجّه (پرويز) القائد دميران أو رميوزان الى بلاد الشام فدوّخها حتّى انتهى الى أرض فلسطين ، وورد مدينة بيت المقدس. وكانت خشبة الصليب قد وضعت في تابوت من ذهب وطمرت في بستان وزرع فوقه مبقلة ، فأخذ (دميران) اسقفها ومن كان فيها من القسّيسين وسائر النصارى وألحّ عليهم حتّى دلّوه على موضعها ، فاحتفر عنها بيده واستخرجها وبعث بها الى كسرى ، في أربع وعشرين من ملكه (٢).

وأرّخها ابن العبري من جانبه قال : وفي السنة الخامسة لهرقل افتتح الفرس بيت المقدس (٣). وقال السير پرسي سايكس : في السنة ٦١٦ م (أي السابعة للبعثة) وصل القائد الايراني شهر براز الى مصر بالعبور من صحراء سيناء ، واستولى على

__________________

(١) عن الترجمة الفارسية لتأريخ ايران ١ : ٦٦٥ ـ ٦٧٠ للسير پرسي سايكس وتاريخ ايران قديم : ٢٢٢ تأليف پيرنيا.

(٢) الطبري ٢ : ١٨١.

(٣) تأريخ مختصر الدول : ٩١.

٦١٥

الاسكندرية ذلك الميناء التجاريّ الشهير ، وبلغ بحدود ايران الى حدودها على العهد الهخامنشي (١).

ولكن ابن العبري قال : وبعد ثلاث سنين (من فتح الفرس لبيت المقدس) افتتحوا الاسكندرية ومصر ، ووصلوا الى بلاد النوبة (افريقية) وغزوا خلقيدونية فافتتحوها (٢) وهذا يقرب ممّا حكاه الطبري عن الكلبي قال : وأمّا القائد الآخر ـ وكان يقال له شاهين وكان فادوسبان المغرب ـ فانّه سار حتّى احتوى على مصر والاسكندرية وبلاد نوبة ، وبعث الى كسرى بمفاتيح مدينة الاسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه (٣).

وقال السير پرسي سايكس : وفي السنة ٦١٧ م (أي الثامنة للبعثة) عبر قائد ايراني آخر باسم شاهين ، مدينة كاپادوكية واستولى على مدن تركية الحالية واحدة بعد اخرى حتّى وصل الى مدينة كالسدون قرب القسطنطينية. وفي لقاء بين هراگليوس وشاهين نصحه شاهين أن يرسل رسولا للصلح الى بلاط خسرو پرويز ، وقبل ذلك هراگليوس ففعل ...

ولكنّ خسرو پرويز وهو في سكر فتوحاته أمر بحبس سفير الروم ، وهددّ قائدة : لما ذا لم يبعث إليه بامبراطور الروم مقيّدا مغلولا!

وفي السنة الثامنة للبعثة سقطت مدينة كالسدونة ، ووصل الجيش الايراني الى أبواب مدينة القسطنطينية على ساحل بحر البوسفور (٤).

__________________

(١) تأريخ ايران ١ : ٦٦٥ ـ ٦٧٠.

(٢) تأريخ مختصر الدول : ٩١ ، ٩٢.

(٣) الطبري ٢ : ١٨٢.

(٤) التأريخان. الفارسيان السابقان.

٦١٦

ويبدو أن ابن العبري يشير الى هذه الحملة إذ يقول : وفي السنة الخامسة عشرة لهرقل غزا الفرس جزيرة رودس (روديسيا) فافتتحوها ، وأمر كسرى (پرويز) أن يؤخذ رخام الكنائس الّتي في جميع المدن الّتي فتحها وتحدّر الى المدائن ولقي فيه الناس جهدا جهيدا.

وفي هذه السنة غزا هرقل الفرس فافتتح مدينة كسرى وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (١).

وفي رواية الطبري عن الكلبي قال : فلمّا رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس اياها وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم ... ، [فشاور عظماء الروم ف] أشاروا عليه أن يغزوهم ، فاستعدّ لذلك.

وكان كسرى (پرويز) قد تقدم الى شهر براز أن يجثم مرابطا في الموضع الّذي كان فيه ، وكان قد غضب على شاهين فادوسبان المغرب فأحضره لديه وعزله عن ذلك الثغر. فاستخلف هرقل ابنا له على مدينة قسطنطينية ، وأخذ غير الطريق الّذي فيه شهر براز وسار حتّى أوغل في بلاد أرمينية ونزل نصيبين بعد سنة.

وكان كسرى يومئذ مقيما بدسكرة الملك فلمّا بلغه خبر تساقط هرقل في جنوده الى نصيبين ، وجّه لمحاربته رجلا من قواده يقال له : راهزار في اثني عشر ألف مقاتل ، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة الموصل على شاطئ دجلة ويمنع الروم أن يجوزوها. فنفّذ راهزار لامره وعسكر حيث أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر الى الناحية الّتي كان فيها جند فارس.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ٩٢.

٦١٧

ولما أخبرت العيون راهزار أن هرقل في سبعين الف مقاتل أيقن أنّه ومن معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين الف مقاتل ، فكتب الى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم لكثرتهم وحسن عدّتهم. وفي كل ذلك كان يجيبه كسرى في كتابه أنه : ان عجز عن اولئك الروم فلن يعجز عن بذل دمه ودمائهم في طاعته. فعبّأ جنده وناهض الروم فقتل وقتل معه ستة آلاف منهم وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم.

وبلغ كسرى ذلك فأغار من دسكرة الملك الى المدائن وتحصّن فيها ، وأخذ يستعد لقتال هرقل ، وسار هرقل حتّى كان قريبا من المدائن ثمّ انصرف الى أرض الروم (١) هكذا تذكر رواية الطبري عن الكلبي أنّ هرقل أخذ غير الطريق الّذي فيه شهر براز وهو مرابط للموضع الّذي هو فيه ، وكان شاهين فادوسبان المغرب قد عزله كسرى پرويز عن ثغر نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه ، فكان بباب كسرى حين سار هرقل حتّى أوغل في بلاد أرمينية ونزل نصيبين ، بعد سنة من مسيره.

بينما المسعودي يقول : كان جيش كسرى پرويز محاصرا للقسطنطينية ، وكان صاحب جيشه ذلك شهر براز ، وفسد الأمر بينه وبين كسرى پرويز ، فأتاه هرقل ومالأه على پرويز ، فخرج هرقل في مراكب كثيرة في الخليج الى بحر الخزر وسار الى طرابزندة وأبواب لازقة (كذا) واستنجد هناك ملوك الأعاجم من اللان والخزر والسير والأبخاز وكرزان والأرمن وغيرهم ، حتّى صار الى بلاد أران والبيلقان وآذربايجان والماهات من أرض الجبل ، واتصلت جيوشه بأرض العراق فشنّ الغارات وقتل وسبى ، فاحتال عليه پرويز بحيلة صرفته فرجع الى القسطنطينية (٢).

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٨٢ ، ١٨٣.

(٢) التنبيه والاشراف : ١٣٤.

٦١٨

وفي هذه العبارة كأن هرقل هو الّذي أفسد الأمر بين شهر براز وپرويز ، ومالأه عليه ، فخرج عليه ، وتغاضى عنه شهر براز فتجاوزه حتّى فعل ما فعل.

ولكنّه عكس الأمر قبل ذلك في «مروج الذهب» فيقول : ثمّ فسدت الحال بين پرويز وشهريار (كذا) ومايل شهريار ملك الروم ، فسيّره شهريار نحو العراق ، الى أن انتهى الى النهروان ، فاحتال عليه پرويز بكتب كتبها إليه مع بعض من كان في ذمته من أساقفة النصارى في العراق ، فأفسد الحال بينه وبين شهريار حتّى ردّه الى القسطنطينية (١) والأوّل أولى من هذا الثاني البعيد جدّا : أن يكون شهر براز أو شهريار هو الّذي سيّر هرقل نحو العراق. ويترجّح ما في «التنبيه والاشراف» على ما في «مروج الذهب» اذ نسخة الثاني الموجودة والمتداولة هي نسخة سنة ٣٣٢ ه‍. في موارد متعددة من الكتاب ، والأوّل ألفه سنة ٣٤٥ كما في موارد متعددة من الكتاب أيضا ، وهي سنة وفاة المسعودي ، قد نبّه في «التنبيه» على أنّه حين تأليفه قد بدّل كثيرا من العبارات والمعاني من نسخة «مروج الذهب» التي ألّفها سنة ٣٣٢ ه‍ وزاد فيها كثيرا بحيث اصبحت اضعاف النسخة الاولى (٢) ومعنى ذلك أن ما في «المروج» منسوخ بما في «التنبيه» وأن الثاني تنبيه على ما في الأوّل من منسوخ قد رجع عنه.

ولكنّ الصحيح هو ما في «مروج الذهب» : أن هرقل سار نحو العراق حتّى انتهى الى النهروان ثمّ انصرف راجعا الى القسطنطينية ، لا ما مرّ عن ابن العبري ، فأحرجهم بهذا الكتاب الى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ١ : ٣٠٦.

(٢) التنبيه والاشراف : ٨٤ ، ٨٥ و : ١٤٩.

(٣) الطبري ٢ : ١٨٣.

٦١٩

وللطبري رواية عن عكرمة تفصّل السبب في فساد الحال بين كسرى وشهربراز وأخيه فرّخان فتقول : بلغ كسرى أن فرّخان شرب خمرا وقال : لقد رأيتني جالس على سرير كسرى ، فكتب الى شهربراز : اذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرّخان.

فكتب شهربراز الى پرويز : أيها الملك ، إنك لن تجد مثل فرّخان ، إن له نكاية وصوتا في العدو ، فلا تفعل. فكتب إليه پرويز : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجّل عليّ برأسه. فراجعه شهربراز أيضا ، فغضب كسرى فلم يجبه.

ثمّ استعمل فرّخان على فارس وأمره بقتل أخيه شهربراز ، فلمّا قرأ الكتاب قدّم أخاه شهربراز ليضرب عنقه ، فقال له : لا تعجل حتّى اكتب وصيّتي ، قال : نعم ، فدعا بسفط فاعطاه ثلاث صحائف وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد. فامتنع فرّخان ، واتّفقا على التمرد على كسرى ، فكتب شهربراز الى قيصر ملك الروم (هرقل) : ان لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف ، فالقني ولا تلقني الا في خمسين روميا ، فاني القاك في خمسين فارسيا.

فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق مخافة أن يكون قد مكر به ، فأتاه عيونه أن شهربراز ليس معه الا خمسون رجلا. فبسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، مع كل واحد منهما سكّين. ودعوا ترجمانا بينهما. فقال شهربراز لهرقل : ان الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وانّ كسرى حسدنا فأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثمّ أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك.

قال هرقل : قد أصبتما. ثمّ أشار أحدهما الى صاحبه : أن السّر بين اثنين فاذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان بسكّينهما.

٦٢٠