موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

فكان من يدخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع بني هاشم شيئا ، ومن دخلها وباعهم شيئا انتهبوا ماله. وكانت خديجة لها مال كثير فانفقته على رسول الله في الشعب.

وبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلّا في الموسم ، ولا يشترون ولا يبايعون الّا في الموسم ، وكان يقوم بمكّة في كلّ سنة موسمان : موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكان اذا جاء الموسم خرج بنو هشام من الشعب فيشترون ويبيعون ، ثمّ لا يجسر أحد منهم أن يخرج ، الى الموسم الثاني : فأصابهم الجهد بذلك.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج في كلّ موسم ويدور على قبائل العرب فيقول لهم : تمنعون جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب الله ربّي ، وثوابكم على الله الجنة؟ وأبو لهب في أثره يقول : لا تقبلوا منه فانه ابن أخي وهو ساحر كذّاب.

وكان أبو العاص بن الربيع ـ وهو ختن رسول الله على ابنته زينب ـ يجيء بالعير بالليل عليها البر والتمر الى باب الشعب ثمّ يصيح بها فتدخل الشعب. ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لقد صاهرنا أبو العاص فأحمد صهرنا ، لقد كان يعمد الى العير ـ ونحن في الحصار ـ فيرسلها في الشعب ليلا».

إيمان أبي طالب رضي الله عنه :

وبعثت قريش الى أبي طالب : ادفع إلينا محمّدا لنقتله ونملّكك علينا! فقال ابو طالب قصيدته الطويلة الّتي يقول فيها :

ا لم تعلموا أن ابننا لا مكذّب

لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى ، عصمة للأرامل

يطوف به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

٥٤١

كذبتم ـ وبيت الله ـ نبزي محمّدا

ولمّا نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه ، حتّى نصرّع دونه

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمد

وأحببته حبّ الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه وحميته

ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها

وشينا لمن عادى ، وزين المحافل

حليما رشيدا حازما غير طائش

يوالي إله الحقّ ليس بماحل

فأيّده ربّ العباد بنصره

وأظهر دينا حقه غير باطل

فلما سمعوا هذه القصيدة أيسوا منه (١).

وذكر الخبر ابن شهرآشوب وأضاف : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاء أبو طالب فأنهضه عن مضجعه وأضجع عليا مكانه ووكّل عليه ولده وولد أخيه (؟) فقال علي عليه‌السلام : يا أبتاه انّي مقتول ذات ليلة. فقال أبو طالب :

اصبرن يا بني فالصبر أحجى

كلّ حيّ مصيره لشعوب (٢)

قد بلوناك والبلاء شديد

لفداء النجيب وابن النجيب

لفداء الأعز ذي الحسب الثا

قب والباع والفناء الرحيب

إن تصبك المنون بالنبل تبرى

فمصيب منها وغير مصيب

كلّ حيّ وإن تطاول عمرا

آخذ من سهامها بنصيب

فقال علي عليه‌السلام :

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد

ووالله ما قلت الّذي قلت جازعا

ولكنّني أحببت أن تر نصرتي

وتعلم أني لم أزل لك طائعا

وسعيي لوجه الله في نصر أحمد

نبيّ الهدى المحمود طفلا ويافعا

__________________

(١) إعلام الورى : ٥٠ ، ٥١. وذكرها تلميذه القطب الراوندي في : قصص الأنبياء : ٣٣٩.

(٢) الشعوب : الموت.

٥٤٢

وقبل هذا روى من شعر أبي طالب في الحصار :

وقالوا : خطّة جورا وحمقا

وبعض القول أبلج مستقيم :

لتخرج هاشم فيصير منها

بلاقع بطن مكّة والحطيم

فمهلا قومنا لا تركبونا

بمظلمة لها أمر وخيم

فيندم بعضكم ويذلّ بعض

وليس بمفلح أبدا ظلوم

فلا ـ والراقصات بكل خرق (١)

الى معمور مكّة لا يريم

طوال الدهر ـ حتّى تقتلونا

ونقتلكم وتلتقي الخصوم

ويعلم معشر قطعوا وعقّوا

بأنّهم هم الجلد الظليم

أرادوا قتل أحمد ظالميه

وليس لقتله فيهم زعيم

ودون محمّد فتيان قوم

هم العرنين والعضو الصميم

وروى من قصيدة اخرى له يقول :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا

نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

أليس أبونا هاشم شدّ أزره

وأوصى بنيه بالطّعان وبالضرب

وإنّ الّذي علّقتم من كتابكم

يكون لكم يوما كراغية السّقب (٢)

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى

ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب (٣)

وروى هذه القصيدة ابن اسحاق وأضاف :

ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا

أواصرنا بعد المودّة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربّما

أمرّ ـ على من ذاقه ـ جلب الحرب

__________________

(١) الخرق : القفر.

(٢) يشير بذلك الى قصة فصيل ناقة صالح عليه‌السلام ، فالراغية من الرغاء وهو صوت الابل ، والسقب : ولد الناقة.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ٦٣ ـ ٦٥.

٥٤٣

فلسنا ـ وربّ البيت ـ نسلم أحمدا

لعزّاء (١) من عضّ الزمان ولا كرب

ولما تبن منا ومنكم سوالف (٢)

وأيد اترّت بالقساسية الشهب (٣)

بمعترك ضيق ترى كسر القنا

به ، والنسور الطّخم يعكفن كالشّرب (٤)

ولسنا نملّ الحرب حتّى تملّنا

ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكنّنا أهل الحفائظ والنّهى

اذا طار أرواح الكماة من الرّعب

قال ابن اسحاق : ويذكرون أن أبا جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ، ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمّته خديجة بنت خويلد وهي مع رسول الله في الشعب ، فتعلق ابو جهل بحكيم وقال له : أتذهب بالطعام الى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتّى افضحك بمكّة! فجاء ابو البختريّ بن هشام فقال له : مالك وله؟ فقال : يحمل الطعام الى بني هاشم! فقال له أبو البختريّ : طعام كان لعمّته عنده فبعثت إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خلّ سبيل الرجل ، فأبى أبو جهل حتّى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجّه ووطأه وطأ شديدا.

قال : وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فدعا عليه رسول الله فشل بعض أصابعه (٥) وقال اليعقوبي : فشلّت يده. كما بالغ في عدد المتعاقدين المتعاهدين على الصحيفة فقال : وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما (٦) بينما قال الطبرسي :

__________________

(١) العزّاء : الشدة.

(٢) السوالف : صفحات الأعناق.

(٣) اترت : قطعت. والقساسية نسبة الى قساس جبل فيه معدن حديد.

(٤) الشرب : الجماعة من القوم ـ أو الحيوان ـ يشربون.

(٥) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٧٧ ـ ٣٨٠ وروى الخبر بألفاظه الطبري ٢ : ٣٣٦ بدون ما يتعلق بأبي طالب!.

(٦) اليعقوبي ٢ : ٣١.

٥٤٤

وختموا الصحيفة بأربعين خاتما ختمها كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلّقوها في الكعبة (١) ولا أرى رؤساء قريش يزيدون عن أربعين رجلا في مكّة.

وقال اليعقوبي في تأريخ الحصار ومدته : ثمّ حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب في الشعب الّذي يقال له : شعب بني هاشم ، بعد ست سنين من مبعثه. فأقام ـ ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب ـ في الشعب ثلاث سنين. حتّى انفق رسول الله ماله ، وأنفق ابو طالب ماله ، وانفقت خديجة مالها ، وصاروا الى حدّ الضرّ والفاقة (١) بينما قلل ابن اسحاق فقال : فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا ، حتّى جهدوا ، لا يصل إليهم شيء الّا سرّا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش (٢) وقد مرّ عن القمي والطبرسي انّها كانت أربع سنين انتهت قبل هجرته بقليل.

وحيث انتقلنا بالآية العاشرة من سورة الزمر الى حديث هجرة الحبشة ، ثمّ بتقريب أن بداية حصار الشعب كان قريبا من بدايات هجرة الحبشة انتقلنا الى حديث الشعب ، يلزمنا الاذعان بأن نزول السور بعد الزمر كان في أيام حصار الشعب ، الا ما كان نزوله أيام موسمي العمرة والحج وبعد الشعب قبل الهجرة ، اذن فما كان من الآيات يفيد حوارا بين النبي والمشركين كان ممّا يحتمل نزولها في أيام المواسم.

السورة الحادية والستون ـ «السجدة (فصّلت)» :

وفيها قوله سبحانه : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ

__________________

(١) إعلام الورى : ٥٠.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٣١.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٧٩.

٥٤٥

وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)(١).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن مقاتل : قال : إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمّد! أنت من ذلك الجانب ونحن من هذا الجانب ، فاعمل أنت على دينك ومذهبك انّنا عاملون على ديننا ومذهبنا (٢) فنزلت سورة السجدة. ونقل مثله ابن شهرآشوب في «المناقب» (٣).

وبعده قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(١).

وروى الطبرسي عن الفرّاء قال : كانت قريش تطعم الحاج وتسقيهم ، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهذا هو الزكاة في هذا الموضع (٢).

السورة الثالثة والستون ـ «الزخرف» :

وفيها قوله سبحانه : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(٣).

روى الطبرسي في «الاحتجاج» عن أبي محمّد الحسن العسكري أنّه قال : قلت لأبي علي بن محمّد عليه‌السلام : هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يناظر المشركين اذا عاتبوه ويحاجّهم؟

__________________

(١) فصّلت : ٣ ـ ٥.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٤ ، ٥.

(٣) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٥٦ ولا يخفى أنّ هذا ممّا يناسب التزامن مع بدء الحصار في شعب أبي طالب.

(٤) فصلت : ٦ ، ٧.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٦.

(٦) الزخرف : ٣١.

٥٤٦

قال : بلى مرارا كثيرة ، منها ما حكى الله من قولهم ... (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ... وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاعدا ذات يوم بمكّة بفناء الكعبة ، اذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم : الوليد بن المغيرة المخزومي (كذا) وأبو البختري ابن هشام ، وأبو جهل ، والعاص بن وائل السهمي ، وعبد الله بن أبي اميّة المخزومي ، وكان معهم جمع ممّن يليهم كثير. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ويؤدّي إليهم عن الله أمره ونهيه.

فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمّد وعظم خطبه ، فتعالوا نبدأ (كذا) بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وابطال ما جاء به ، ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم ، فلعله ينزع عمّا هو فيه من غيّه وباطله وتمرّده وطغيانه ، فان انتهى والّا عاملناه بالسيف الباتر!

قال أبو جهل : فمن ذا الّذي يلي كلامه ومجادلته؟

قال عبد الله بن أبي اميّة المخزومي : أنا لذلك ، أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيّا؟

فاتوه بأجمعهم ، فابتدأ عبد الله بن أبي اميّة المخزومي فقال :

يا محمّد! لقد ادّعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا : زعمت أنك رسول ربّ العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون رسوله : بشر مثلك تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي! وهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا الّا كثير المال عظيم الحال ، له قصور ودور ، وفساطيط وخيام ، وعبيد وخدام ، وربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم فهم عبيده ، فلو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده. بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا.

٥٤٧

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فهل بقي من كلامك شيء؟

قال : نعم ، لو أراد أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من فيما بيننا اكثرهم مالا وأحسنهم حالا ، فهلّا أنزل هذا القرآن ، ـ الّذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا ـ على رجل من القريتين عظيم : إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة ، وإمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله ، أمّا ما ذكرت ... الى أن قال : «وأمّا قولك : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) : الوليد ابن المغيرة بمكّة أو عروة بالطائف. فان الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك ، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء ، وليس قسمة الله إليك ، بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه ، وليس هو ممّن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله ، ولا ممّن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فيخصه بالنبوة لذلك ، ولا ممّن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت فيقدّم من لا يستحق التقديم ، وانما معاملته بالعدل ، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين وجلاله الّا الأفضل في طاعته والأجدّ في خدمته ، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله الّا أشدهم تباطؤا عن طاعته. واذا كان هذا صفته لم ينظر الى مال ولا الى حال ، بل هذا المال والحال من تفضّله ، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازبة ، فلا يقال له : اذا تفضّلت بالمال على عبد فلا بدّ أن تتفضّل عليه بالنبوة أيضا ، لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا الزامه تفضّلا ، لأنه تفضّل قبله بنعمه».

وذلك قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ

٥٤٨

مِمَّا يَجْمَعُونَ)(١) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا (٢).

هذا ، وقد روى فيه فيما أجاب به أبو الحسن علي بن محمّد العسكري عليه‌السلام نفسه في رسالته الى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أنّه قال : إليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده ، اصطفى محمّدا ـ صلوات الله عليه وآله ـ وبعثه بالرسالة الى خلقه ، ولو فوّض اختيار اموره الى عباده لأجاز لقريش اختيار اميّة بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي ، اذ كانا عندهم أفضل من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعنونهما بذلك (٣).

والخبر الأول في ذكره في رؤساء قريش الوليد بن المغيرة المخزومي يعارض ما رواه الطبرسي نفسه في «الاحتجاج» عن أمير المؤمنين عليه‌السلام اذ عدّه من المستهزئين الخمسة أو الستة (٤) وهو ما رواه الصدوق أيضا مسندا في «الخصال» (٥) وفيه أنهم ماتوا في يوم واحد حين نزول قوله سبحانه : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) من سورة الحجر النازلة قبل السجدة بخمس عشرة سورة. فيبقى الخبر الثاني عن الامام الهادي عليه‌السلام بلا معارض ، وفيه بدل الوليد اميّة بن أبي الصلت الثقفي نفسه.

ويشترك مع الخبر الأول من «الاحتجاج» في ذكر الوليد ، ما نقله الطبرسي في «مجمع البيان» عن قتادة عن ابن عباس. ووافق خبر قتادة خبري «الاحتجاج» في رجل الطائف أنّه : عروة بن مسعود الثقفي. وانفرد وانفرد ابن عباس في رجل الطائف :

__________________

(١) الزخرف : ٣١ ـ ٣٢.

(٢) الاحتجاج ١ : ٢٦ ـ ٣٢ باختصار.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٥٥. والطباطبائي نقل الخبر الأول ولم ينقل الثاني في الميزان ١٨ : ١٠٦.

(٤) الاحتجاج ١ : ٣٢١ و ٣٢٢.

(٥) الخصال ١ : ٢٨٠.

٥٤٩

أنّه حبيب بن عمرو الثقفي (١) ووافق القمي في تفسيره خبري «الاحتجاج» وقتادة في رجل الطائف أنّه عروة بن مسعود ، وقال : هو عمّ المغيرة بن شعبة الثقفي ، ولم يذكر رجل مكّة (٢) ومسعود وحبيب وعبد ياليل اخوة ابناء عمرو بن مسعود الثقفي كما في «مجمع البيان» (٣)

السورة الرابعة والستون ـ «الدخان» :

وفيها قوله سبحانه : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) وفي تفسير القمي قال : نزلت في أبي جهل (٤) وفي «مجمع البيان» : الأثيم أي الآثم وهو أبو جهل. روى : أن أبا جهل اتي بتمر وزبد فقال : هذا هو الزقوم الّذي يخوّفنا به محمّد (٥) وقد مرّ عنه تفصيله في سورة الصافات.

السورة السادسة والستون ـ «الأحقاف» :

وفيها قوله سبحانه : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)(٦).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الزهري قال : لما توفي ابو طالب اشتدّ البلاء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعمد لثقيف بالطائف ، رجاء أن يؤووه ...

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٦. وفي لباب النقول : ١٣٨ : ابو مسعود الثقفي.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٨٣.

(٣) مجمع البيان ٩ : ١٣٩.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٩٢.

(٥) مجمع البيان ٩ : ١٠٢ وابن اسحاق في سيرته ١ : ٣٨٨.

(٦) الأحقاف : ٢٩ ، ٣٠.

٥٥٠

ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مكّة حتّى اذا كان (بنخلة) قام في جوف الليل يصلي فمرّ به نفر من جن أهل (نصيبين) فوجدوه يصلي صلاة الغداة ويتلو القرآن فاستمعوا له. وهو مروي عن جماعة منهم سعيد بن جبير (١).

هذا ما نقله هنا الطبرسي ممّا يقتضي وفاة أبي طالب رضى الله عنه قبل نزول سورة الأحقاف (السادسة والستين) وقد بقي من السور المكّية عشرون سورة يقتضي أنها نزلت بمكّة بعد وفاة أبي طالب وبعد الهجرة الى الطائف وقبل الهجرة الى المدينة ممّا يخالف خبري العياشي والصدوق (٢) أمّا القمي فقد قال : كان سبب نزول هذه الآية (كذا) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من مكّة الى سوق عكاظ ـ ومعه زيد بن حارثة ـ يدعو الناس الى الاسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله ، فرجع الى مكّة. فلمّا بلغ موضعا يقال له «وادي مجنة» تهجد بالقرآن في جوف الليل فمرّ به نفر من الجن فلمّا سمعوا قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استمعوا له ولما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض : أنصتوا ، فلمّا فرغ رسول الله من القراءة ولّوا الى قومهم منذرين قالوا : (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً ...) ثمّ قال القمّي : فأنزل الله على نبيه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) السورة كلّها وفيها حكى الله قولهم (٣).

وخلط القمّي بهذا بين السورتين : الأحقاف والجن ، وفي سورة الجن قال : وقد كتبنا خبرهم في سورة الأحقاف (٤) أي جعل السبب نفس السبب في السورتين ، بينما سورة الجن هي الأربعون في النزول والأحقاف السادسة والستون ، مع ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ١٣٩ ، ١٤٠.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٥٧ واكمال الدين : ١٧٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢٩٩ ، ٣٠٠.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٥٥٤.

٥٥١

في سورة الجن بأنها كانت الاولى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)(١).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» خبر سوق عكاظ عن البخاري ومسلم والواحدي باسنادهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في طائفة من أصحابه عامدين الى سوق عكاظ ، وكان قد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وارسلت عليهم الشهب ، فلمّا رجعوا الى قومهم قالوا : ما ذاك الّا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمرّ النفر الّذين أخذوا نحو تهامة بالنبي وهو بنخل (ومرّ في خبر الزهري : في نخلة) عامدين الى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الّذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا الى قومهم وقال : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأوحى الله الى نبيّه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ)(٢) اذن فخبر سوق عكاظ وبطن نخلة لسورة الجن لا الأحقاف.

وقال الطبرسي : قال آخرون : امر رسول الله أن ينذر الجن ويدعوهم الى الله ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفرا من الجن من نينوى (العراق) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : اني امرت أن أقرأ على الجن الليلة ، فأيكم يتبعني؟ فاتّبعه عبد الله بن مسعود. قال عبد الله : ولم يحضر معه احد غيري ، فانطلقنا حتّى اذا كنا

__________________

(١) الجن : ٩ ، ١٠.

(٢) مجمع البيان ١ : ٥٤٤. ولا يوجد الخبر في أسباب النزول المطبوع للواحدي في الأحقاف ، ولم يذكر الجن.

٥٥٢

بأعلى مكّة دخل رسول الله شعب الحجون وخطّ لي خطا أمرني أن أجلس فيه قال : لا تخرج منه حتّى أعود إليك. ثمّ انطلق حتّى قام فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كثيرة حتّى حالت بيني وبينه حتّى لم أسمع صوته ، ثمّ طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتّى بقي منهم رهط ، وفرغ رسول الله مع الفجر ، فانطلق وقال لي : هل رأيت شيئا؟ قلت : نعم ، رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض. قال : اولئك جن نصيبين (١).

ولكنه نفسه روى بعد ذلك عن علقمة بن قيس قال : قلت لعبد الله ابن مسعود : من كان منكم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الجن؟ فقال : ما كان منا معه أحد ، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة ، فقلنا اغتيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو استطير! فانطلقنا نطلبه من الشعاب. فلقيناه مقبلا من نحو حراء ، فقلنا : يا رسول الله! أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك وقلنا له : بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك! فقال لنا : إنّه أتاني داعي الجن فذهبت اقرئهم القرآن. ثمّ ذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. فأمّا أن يكون صحبه منا أحد فلم يصحبه (٢).

ويبدو أن المتعيّن للقبول من هذين الخبرين الأخيرين عن ابن مسعود هو الأخير ، إذ هو المنسجم مع الآية من سورة الأحقاف : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) : «أتاني داعي الجن» لا الخبر السابق : «إني امرت أن أقرأ على الجن الليلة». فلا داعي للأخذ بما مرّ عن الزهري تفسيرا للآية من الأحقاف ، فيما كان معنى الخبر هو خبر سعيد بن جبير المشتمل على بطن نخلة وقد مرّ عن البخاري ومسلم والواحدي أن خبره عن سورة الجن.

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ١٤٠.

(٢) مجمع البيان ٩ : ١٤٠ و ١٠ : ٥٤٤.

٥٥٣

السورة التاسعة والستون ـ «الكهف» :

وروى القمّي في تفسيره بسنده عن الامام الصادق عليه‌السلام قال :

كان سبب نزولها (يعني الكهف) : أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر الى نجران : النضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط ، والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل يسألونها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرجوا الى نجران الى علماء اليهود فسألوهم فقالوا :

سلوه عن ثلاث مسائل ، فان أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ، ثمّ سلوه عن مسألة واحدة فان ادعى علمها فهو كاذب. قالوا : وما هذه المسائل؟ قالوا : سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا وكم بقوا في نومهم حتّى انتبهوا؟ وكم كان عددهم؟ وأيّ شيء كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصّتهم؟

واسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتّبع العالم ويتعلم منه ، من هو؟ وكيف تبعه؟ وما كانت قصّته معه؟

واسألوه عن طائف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتّى بلغ سدّ يأجوج ومأجوج ، من هو؟ وكيف كانت قصّته؟

ثمّ أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل وقالوا لهم : إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق ، وان أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه.

قالوا : فما المسألة الرابعة؟ قالوا : سلوه متى تقوم الساعة؟ فان ادعى علمها فهو كاذب ، فان قيام الساعة لا يعلمها الا الله تبارك وتعالى.

فرجعوا الى مكّة واجتمعوا الى أبي طالب رضى الله عنه فقالوا : يا أبا طالب! انّ ابن أخيك يزعم أنّ خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فان أجابنا عنها علمنا أنّه صادق ، وان لم يجبنا علمنا أنّه كاذب.

فقال أبو طالب : سلوه عمّا بدا لكم ، فسألوه عن الثلاث مسائل.

٥٥٤

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : غدا اخبركم. ولم يستثن (١) فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما حتّى اغتمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وشكّ أصحابه الّذين كانوا آمنوا به ، وفرحت قريش واستهزءوا وآذوا. وحزن أبو طالب.

فلمّا كان بعد أربعين يوما نزل عليه جبرئيل بسورة الكهف. فقال رسول الله : يا جبرئيل لقد أبطأت! فقال : انّا لا نقدر أن ننزل إلّا باذن الله (٢).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» مثله عن محمّد بن اسحاق عن سعيد ابن جبير وعكرمة عن ابن عباس : أن قريشا انفذوا النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط الى أحبار اليهود بالمدينة وقالا لهم : إنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا ، فصفا لهم صفة محمّد وخبّراهم بقوله وسلاهم عنه.

فخرجا حتّى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالا لهم ما قالت قريش. فقال لهما أحبار اليهود : اسألوه عن ثلاث فان أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل وان لم يفعل فهو رجل متقوّل ، فروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم ، فانه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فان أخبركم عن الثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبيّ.

فانصرفا الى مكّة فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد. وقصّا عليهم القصة.

__________________

(١) أي لم يقل : إن شاء الله.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٣١ ، ٣٢ وسند الخبر : حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عنه عليه‌السلام ، فهو صحيح لو لا ما يبدو فيه من الانقطاع بين ابراهيم بن هاشم وابن أبي عمير. والخبر يقتضي أن تكون فترة الوحي الأربعون يوما قبل نزول سورة الكهف ، وستأتي الفترة كذلك في خبر ابن اسحاق الّا أنها خمس عشرة ليلة.

٥٥٥

فجاؤوا الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه ، فقال : أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن : فانصرفوا عنه.

فمكث صلى‌الله‌عليه‌وآله خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبرئيل ، حتّى أرجف أهل مكّة وتكلموا في ذلك ، فشق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يتكلم به أهل مكّة عليه.

ثمّ جاءه جبرئيل عن الله سبحانه بسورة الكهف ، وفيها ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطوّاف ، وفيه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ). وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرئيل حين جاءه : لقد احتبست عني يا جبرئيل؟ فقال له جبرئيل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)(١).

وفي قوله سبحانه في السورة : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) قال : قد ذكرنا فيما قبل ما جاء في الرواية : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فقال : اخبركم عنه غدا. ولم يستثن ، فاحتبس الوحي عنه أياما حتّى شق عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية بأمره بالاستثناء بمشيئة الله تعالى (٣).

السورة السبعون ـ «النحل» :

قال القمّي في تفسيره : نزلت لما سألت قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينزّل عليهم العذاب ، فأنزل الله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)(٤).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الحسن البصري قال : إن المشركين

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٦٩٧. وفي ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٢١.

(٢) الكهف : ٢٣ ، ٢٤.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٧١٢. وفي ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٢٧.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٨٢.

٥٥٦

قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتنا بعذاب الله ، فقال سبحانه ما معناه : ان أمر الله آت وكل ما هو آت قريب ، فمعنى (أَتى أَمْرُ اللهِ) اي قرب أمر الله بعقاب هؤلاء المشركين المقيمين على الكفر والتكذيب بيوم القيامة وبعذاب الله ، وكانوا يستعجلونه كما حكى الله سبحانه عنهم قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فتقديره : قل لهؤلاء الكفار : لا تستعجلوا القيامة والعذاب فان الله سيأتي بكل واحد منهما في وقته وحينه كما تقتضيه حكمته (١).

ويدعم هذا المعنى ما رواه العياشي في تفسيره عن هشام بن سالم عن بعض أصحابه قال سألت الصادق عليه‌السلام عن قول الله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فقال : اذا أخبر الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيء الى وقت أنّه كائن فكأنه قد كان ، فهو قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) حتّى يأتي ذلك الوقت (٢).

ومنها قوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٣).

وروى الطبرسي عن الكلبي قال : نزلت في المقتسمين ، وهم ستة عشر رجلا خرجوا الى عقاب مكّة أيام الحج على طريق الناس ، على كل عقبة أربعة منهم ، ليصدّوا الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاذا سألهم الناس عمّا انزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : أحاديث الأوّلين وأباطيلهم (٤) ونقل مثله في «المناقب» (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٥٣٧.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٥٤.

(٣) النحل : ٢٤ ، ٢٥.

(٤) مجمع البيان ٦ : ٥٤٩.

(٥) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٤٩.

٥٥٧

روى السيوطي في «الدر المنثور» مفصّله عن السدي قال : اجتمعت قريش فقالوا : انّ محمّدا رجل حلو اللسان اذا كلّمه الرجل ذهب بعقله ، فانظروا اناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكّة ، على رأس كل ليلة أو ليلتين (كذا) فمن جاء يريده فردّوه عنه.

فخرج ناس منهم في كلّ طريق ، فكان اذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمّد فينزل بهم ، قالوا له : أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول : أنا اخبرك بمحمّد فلا يريد أن تعني إليه ، هو رجل كذّاب لم يتبعه على أمره الّا السّفهاء والعبيد ومن لا خير فيه ، وأمّا شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له. فيرجع بعضهم ، وذلك قوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

واذا كان الوافد ممّن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمّد قال : بئس الوافد أنا لقومي ان كنت جئت حتّى بلغت ، الّا مسيرة ليلة ، رجعت قبل أن القى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره. فيدخل مكّة فيلقى المؤمنين فيسألهم : ما ذا يقول محمّد؟ يقولون : (خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ)(١).

وخبر السدي هذا لا يبعد أن يعدّ تفصيلا لمختصر خبر الكلبي السابق قبله ، ولكن الكلبي قال «في عقاب مكّة أيام الحج» والسدي : «في كل طريق من طرق مكّة على رأس كلّ ليلة او ليلتين فاذا اقبل الرجل وافدا لقومه» ثم لا يذكر الحج والاعتبار يساعد على الاوّل لا الثاني. والثاني لا ينصّ على عنوان «المقتسمين» ولا على عددهم «الستة عشر رجلا» كما هو في الكلبي. هذا وقد مرّ خبر المقتسمين مع المستهزئين الستة الّذين كفى الله رسوله شرّهم بهلاكهم في يوم واحد باشارة جبرئيل إليهم ودعاء الرسول عليهم ، فهل يعني الكلبي أن المقتسمين كانوا

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١٦.

٥٥٨

مستمرين على عملهم ذلك بعد هلاك المستهزئين ، من لدن نزول سورة الحجر الرابعة والخمسين حتّى بعد نزول سورة النحل وهي السبعون؟ أم يعني أنّ الآية نزلت تحكي شأنهم القديم غير المستمر؟ أو أنّه أمر حاضر متكرر؟ والظاهر الأخير.

وقد يبدو للنظر : أن تكون هذه الفترة بين نزولي سورتي الحجر الرابعة والخمسين والنحل السبعين ، هي فترة حصار الرسول وبني هاشم في شعب أبي طالب بالحجون ، وهي الفترة الفاصلة بين المقتسمين الأوائل وبين تجديد عملهم مرة اخرى حين نزول سورة النحل.

ويدفعه : أنّ موسم الحج في الأشهر الحرم كان مستثنى من حكم الحصار ، ولذلك كان الرسول يخرج من الحصار فيه بشيرا ونذيرا ، وقد ورد الخبر بالنصّ على مزاولة المشركين لعملهم ذلك في الصدّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أيام الموسم أيام الحصار في الشعب ، فلا فترة في البين.

وحصر المشركين للرسول وبني هاشم مدة ثلاث سنين أو نحوها من جملة الحوادث المهمّة في تأريخ الإسلام بعد البعثة وقبل الهجرة ، وهي : إنذار يوم الدار ، والاسراء والمعراج ، والهجرة الى الحبشة ، والهجرة الى الطائف ، ثمّ الهجرة الى المدينة. وقد وردت الاشارة في آيات القرآن الكريم الى الانذار والاسراء والمعراج بالاجمال في سورتي الاسراء والنجم ، وكذلك الهجرة الأخيرة الى المدينة ، أمّا حادث الحصار والهجرة الى الحبشة والهجرة الى الطائف فلا نجد في آيات القرآن الكريم إشارة إليها حسب التفسير المشهور.

ولتبيّن مدى صحة دعوى المرحلة السرّية مع نزول القرآن فيها ، استعرضت ما نزل من القرآن حتّى سورة الحجر الّتي فيها (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) وبعد ذلك اردت الدخول في سرد الحوادث ، ولكن حيث لاحظت الخلاف في ترتيبها وتواريخها رجعت الى مواكبة السور المكية حسب ترتيب النزول.

٥٥٩

وهنا في سورة النحل في الآية الحادية والأربعين نقف على ذكر الهجرة في قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١).

وهي أوّل آية تذكر الهجرة ، وهي في عداد آيات سورة النحل المكية ، وهي السورة السبعون ، وبعدها ستّ عشرة سورة نزلت في مكّة قبل الهجرة ، فهل المعنيّ بها الهجرة الاولى الى الحبشة؟ أم الثانية الى المدينة؟

نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن الحسن وقتادة : أنّ قوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) الى آخر السورة مدنية (٢) وكذلك نقل السيوطي في «الاتقان» (٣) ثمّ ذكر الطبرسي سائر الأقوال بسائر الاستثناءات في الآيات ، ولم يتظافر النقل باستثناء قتادة ، بل روى السيوطي في «الدر المنثور» عن قتادة نفسه أيضا أنها الهجرة الى الحبشة (٤).

وسنذكر أن هذه السورة هي آخر سورة نزلت في شعب أبي طالب ، ونذكر بعد ذلك أن بيعة العقبة الاولى أيضا كذلك كانت في آخر موسم عمرة قبل الخروج من الشعب ، وأنّ النبيّ أذن لأصحابه بعد ذلك بالهجرة الى المدينة تدريجيّا. فلو كانت الآية العاشرة من سورة الزمر بقوله سبحانه فيها (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) مبدأ إذن النبيّ بالهجرة الى الحبشة ، فمن المحتمل أن تكون هذه الآية مبدأ إذن الرسول هذه المرّة بالهجرة الى المدينة ، مع وضوح الفرق بين الفترتين في حال البلدين. ولكنّنا لا نجد شيئا في ذلك عند رواة الحديث والتفسير والتأريخ.

__________________

(١) النحل : ٤١.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٥٣٥.

(٣) الاتقان ١ : ١٥.

(٤) الدر المنثور ٥ : ١١٨ والتمهيد ١ : ١٥٣.

٥٦٠