موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

ولقد كان اليهود على فرقتين : فرقة تؤمن بالكتابة والتدوين وهم الفرّيسيون ، وفرقة اخرى تؤمن بوجوب الحفظ وعدم جواز كتابة شيء غير التوراة ، ويقال لهؤلاء : القرّاء (١) وضعف أمر الفريسيين وكثر القرّاء ، ويظهر أنّ كعب الأحبار كان من القرّاء ، كما يظهر من جوابه لعمر حينما سأله عن الشعر ، فكان ممّا قاله عن العرب : «قوما من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم (أي يحفظونها على ظهر القلب) ينطقون بالحكمة» وقد كان كعب عند حسن ظن الخليفة به فكان مقرّبا عنده ، فلعلّه قبل هذه النظريّة من كعب الأحبار.

ويشهد لذلك ما رواه ابن سعد في «الطبقات» والخطيب البغدادي في كتابه «تقييد العلم» ونقله عنهما الشيخ أبو ريّة في كتابه «أضواء على السّنة المحمّدية» قالوا : كثرت الأحاديث على عهد عمر بن الخطاب ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها ثمّ قال : مشنّاة كمشنّاة أهل الكتاب (٢) أو قال : ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فاكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، واني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا! فمنع من الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بشاهد ، ومنع كبار الصحابة عن الخروج من المدينة ، واستعمل على الأمصار صغارهم ممّن لا اطلاع له في الدّين ولا معرفة له بأحكامه (٣). وروى ابن سعد في «الطبقات» والخطيب البغداديّ في كتابه الآخر «جامع بيان العلم وفضله» ونقله عنهما الشيخ أبو ريّة في كتابه

__________________

(١) شرح ذلك النوري في كتابه الفارسي : لؤلؤ ومرجان : وفصله محمّد حسن ضاضا في كتابه : التفكير الديني عند اليهود.

(٢) تقييد العلم : ٥٢ والطبقات ٥ : ١٤٠ والأضواء : ٤٧ والنص المثنّاة والصحيح ما أثبتناه وهي : الروايات الشفوية.

(٣) كأبي موسى الأشعري حيث استعمله واليا على البصرة سنة ١٨ ه‍ وله ثمان عشرة سنة إذ ولد في السنة الاولى للهجرة.

٤١

«أضواء على السّنة المحمّدية» : إنّ الّذين جاءوا بعد عمر ساروا على نهجه في المنع عن الحديث إلّا حديثا كان على عهد عمر (١).

فنتج عن سياسة المنع عن الحديث وعن كتابته أن نسي الناس سنن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى في الصلاة الّتي هي عمود الدّين وركن الإسلام والكتاب الموقوت الّذي يؤدّيه المسلمون في كلّ يوم خمس مرات ، أصبحوا لا يعرفون أحكامها وحدودها ، حتّى أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل الّذين يفترض فيهم أن يكونوا أعرف بأحكام الإسلام وشرائع الدّين ... إذن فكيف بحال غيرهم من عوام الناس؟! وما هو مدى معرفتهم بدينهم وشريعتهم والحال كذلك؟! ولا سيّما الناس البعداء عن منابع الثقافة الإسلامية ، وبالأخصّ فيما يقلّ الابتلاء به.

فقد روى البلاذري في «أنساب الأشراف» والبيهقي في سننه والمتّقي الهندي في «كنز العمّال» عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة : أنّ عمران بن الحصين صلّى خلف علي عليه‌السلام فأخذ بيد مطرّف بن عبد الله وقال : لقد صلّى صلاة محمّد ولقد ذكّرني صلاة محمّد (٢).

ولا شكّ في أنّ من سنن الرسول في الصّلاة الجهر بالبسملة في الصّلاة فكان علي عليه‌السلام يجهر بها ، فبالغ بنو اميّة في المنع عن الجهر بها سعيا في إبطال آثار علي عليه‌السلام (٣) حتّى روى النسائي والبيهقي في سننهما عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : اللهمّ العنهم فقد تركوا السّنّة من بغض عليّ (٤) حتّى بلغ الحال بالناس على عهد عليّ بن الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) الطبقات ٣ ق ١ : ٢٠٦ وجامع بيان العلم ١ : ٦٤ والأضواء : ٤٧.

(٢) انساب الاشراف ٢ : ١٨ وسنن البيهقي ٢ : ٦٨ ، وكنز العمّال ٨ : ١٤٣.

(٣) تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١ : ٧٩.

(٤) تعليقة السندي بهامش سنن النسائي ٥ : ٢٥٣.

٤٢

أن كانوا لا يعرفون كيف يحجّون بل حتّى كيف يصلّون (١) ولذلك تجرّأ ابن الزبير على أن يقدّم الصّلاة قبل الخطبة يوم الجمعة ، كما رواه الشافعي في كتابه «الامّ» عن وهب بن كيسان ، ثمّ قال : كلّ سنن رسول الله قد غيّرت حتّى الصّلاة (٢).

ولذلك نجد الإمام السجّاد عليه‌السلام يقول في دعائه يوم الجمعة ويوم الأضحى : «اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ، ومواضع امنائك في الدرجة الرفيعة الّتي اختصصتهم بها قد ابتزّوها. حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين ، يرون حكمك مبدّلا وكتابك منبوذا ، وفرائضك محرّفة عن جهات شرعك ، وسنن نبيّك متروكة» (٣).

وروى ابن سعد في «الطبقات» عن الزهريّ قال : دخلت على أنس ابن مالك بدمشق وهو وحده يبكي ، فقلت : ما يبكيك؟ قال : لا أعرف شيئا ممّا أدركت ، إلّا هذه الصّلاة وقد ضيعت (٤).

وروى الإمام مالك بن أنس بن مالك في كتابه «الموطّأ» عن جده مالك قال : ما أعرف شيئا ممّا أدركت الناس إلّا النداء بالصلاة (٥). واستثنى الحسن البصري القبلة فقط فقال : لو خرج عليكم أصحاب رسول الله ما عرفوا منكم إلّا قبلتكم (٦).

__________________

(١) كشف القناع عن حجية الاجماع : ٦٧.

(٢) كتاب الام للشافعي ١ : ٢٠٨ وهو رواه في صلاة العيدين! ولكنه لا يناسب كلام وهب ، ولم يتعقبه المحقق النجار الازهري. وروى خبر وهب النسائي في سننه ٣ : ١٩٤ ، والطوسي في الخلاف ١ : ٦٧٤ مختلفاً عما هنا عن الشافعي.

(٣) الصحيفة السجادية : الدعاء ٤٨.

(٤) الطبقات ٧ : ٢٠ وصحيح الترمذي : ٣ : ٣٠٢ وجامع بيان العلم ٢ : ٢٤٤ والزهد والرقائق : ٥٣١ وضحى الإسلام ١ : ٣٦٥.

(٥) الموطأ ١ : ٧٢ الباب ١ ، الحديث ٨ ، وشرحه ١ : ١٢٢.

(٦) جامع بيان العلم ٢ : ٢٤٤.

٤٣

ولم يستثن عبد الله بن عمرو بن العاص شيئا إذ قال : لو أنّ رجلين من أوائل هذه الامة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا ممّا كان عليه (١).

ومع هذه الحال فمن الطبيعي أن يروج سوق الوضّاعين الكذّابين وأن يصبحوا هم مصدر العلم والمعرفة والثقافة للامة المسلمة. هكذا شاء الحكّام ، وهكذا استحقّ المحكومون إذ ابتعدوا عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

أمّا لما ذا حاول بنو اميّة ورواتهم أن يستفيدوا من هذا الفراغ المفتعل بفضل المنع عن الحديث ، للنيل من كرامة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر المقدّسات الإسلامية؟ فإنّ ذلك يعود إلى :

أ ـ أنّ الحقد والعداء الاموي الموروث من القديم ضد بني هاشم ـ بما فيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لم يدعهم يقتنعوا بأنّه نبيّ مرسل حقّا :

فقد قال أبو سفيان للعبّاس لمّا رأى كثرة زحام الناس على التبرك بماء وضوء النبيّ يوم فتح مكّة : يا عبّاس! والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما! فقال : ويحك إنّها النبوة! فقال : نعم!

وقال معاوية لمّا سمع المؤذّن يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله : لله أبوك يا بن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلّا أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين (٣).

__________________

(١) الزهد والرقائق : ٦١.

(٢) والموضوع مهم وبحاجة إلى تحقيق وبحث ، آمل أن اوفق لاخراج كتاب لي في هذا الموضوع.

(٣) انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ : ١٠١ عن أحمد بن أبي طاهر في كتاب «أخبار الملوك».

٤٤

وقال للمغيرة بن شعبة ـ بعد أن ذكر ملك أبي بكر وعمر وعثمان وأنّهم هلكوا فهلك ذكرهم ـ : وإنّ أخا هاشم! يصرخ به في كلّ يوم خمس مرات : أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، فأيّ عمل يبقى مع هذا؟! لا أمّ لك ... لا والله إلّا دفنا دفنا (١) ، ولمّا سمع المأمون بالخبر أمر بلعنه (٢).

وقال ـ أو تمثّل ـ ابنه يزيد بقول ابن الزبعرى :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل (٣)

وتبعه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان يقول :

تلعّب بالخلافة هاشميّ

بلا وحي أتاه ولا كتاب

فقل لله : يمنعني طعامي

وقل لله يمنعني شرابي (٤)

واستفتح المصحف وقرأ فیه : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ)(٥) فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنشّاب وأقبل يرميه وهو يقول :

أتوعد كلّ جبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل : يا ربّ خرّقني الوليد (٦)

__________________

(١) الموفقيات للزبير بن بكار : ٥٧٧ ومروج الذهب ٣ : ٤٥٤ وشرح نهج البلاغة ٥ : ١٢٠.

(٢) الطبري ١٠ : ٢٨٤ ومروج الذهب ٤ : ٤١١.

(٣) الطبري ١٠ : ٢٨٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٢٨.

(٥) إبراهيم : ١٥ ، ١٦.

(٦) مروج الذهب ٣ : ٢٢٩.

٤٥

وكان الوليد هذا مهملا لأمره قليل العناية بأطرافه ، وكان صاحب ملاه وقيان ، وإظهار للقتل والجور ، وتشاغل عن امور الناس بشرب ومجون ، فبلغ من مجونه أنّه أراد أن يبني على الكعبة بيتا يجلس فيه للهو ، ووجّه مهندسا لذلك (١) مجوسيا ليبني له على الكعبة مشربة للخمر ، وأراد أن ينصب قبّة ديباج على الكعبة ويجلس فيها ومعه الخمر ، فخوّفه أصحابه من ثورة الناس فامتنع (٢).

ب ـ ولذلك فهم ـ كما رأينا ـ كانوا يريدون القضاء على هذا الدّين ودفنه نهائيّا ، وذلك لأنّه كان يقف في وجه شهواتهم ومآربهم ويضرّ بمصالحهم.

ج ـ وبالتصوير المشوّه للرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإسلام العظيم كانوا يحاولون تبرير كلّ انحرافات وسخافات الجهاز الحاكم ، والتقليل من فضاعتها وبشاعتها في أعين الناس ، وذلك برفع الفوارق الكبيرة بين مواقفهم ومواقف النبيّ الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمّا ما يمثّل لنا شخصية الرسول الكريم المستهدفة للامويين فلنذكر منه نماذج :

١ ـ نسمع الكميت بن زيد الأسدي يمدح الرسول الكريم فيقول في قصيدته البائيّة :

إلى السراج المنير أحمد ، لا

يعدلني عنه رغبة ولا رهب

عنه إلى غيره ، ولو رفع النا

س إليّ العيون وارتقبوا

وقيل : افرطت. بل قصدت ولو

عنّفني القائلون ، أو ثلبوا!

إليك يا خير من تضمّنت الأر

ض وإن عاب قولي العيب

لجّ بتفضيلك اللسان ولو

اكثر فيك الضجاج واللجب

__________________

(١) اليعقوبي ٣ : ٧٥.

(٢) عن الأغاني والطبري في بهج الصباغة ٥ : ٣٤٠.

٤٦

فيا ترى من الّذي يحاول أن يعدل به عن مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالترغيب والترهيب؟ ومن يرتقبون أن يمدح عوضا عنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ؟ ويا ترى بما ذا خاطب الكميت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير أن يقال له : يا خير من تضمّنت الأرض! حتّى يقال له : أفرطت في مدحه! من الذي يعنّفه ويثلبه ويعيبه؟ ومن الّذي يكثر الضجاج واللجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

ولعلّه قد أحسّ بأمر خطير خلف هذه السياسة الاموية فقال في اخرى :

رضوا بخلاف المهتدين ، وفيهم

مخبّأة اخرى تصان وتحجب

فلعلّه يقصد بالمخبّأة الاخرى تخريب دين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد تشويه سمعة شخصه.

أو ما ذكره الرجاليّون وأصحاب الطبقات في ترجمة خالد بن سلمة المخزومي الشهير بالفأفاء : أنّه كان ينشد بني مروان هجو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقد سبق هذا ما ذكروه في ترجمة عمرو بن العاص أنّه لم يرض بضرب نصرانيّ سبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

ولحق هذا ما رواه المؤرّخون في علل خروج زيد بن علي بن الحسين رضى الله عنه : أنّه دخل على هشام بن عبد الملك فسمع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يسبّ عنده فلم يذكره ولم يغيّر على قائله (٣).

أو أنّه يقصد بالمخبّأة ما رواه ابن عبد ربّه الأندلسي في «العقد الفريد» :

__________________

(١) انظر دلائل الصدق للمظفر ١ : ٢٩ ، وراجع : بحوث مع أهل السّنة والسلفية : ١٠١.

(٢) الإصابة ٣ : ١٩٥ عن البخاري في تأريخه بإسناد صحيح ، والإستيعاب بهامش الإصابة ٣ : ١٩٣.

(٣) انظر كشف الغمة للاربلي ٢ : ٣٥٢ وكتب التراجم والرجال في ترجمة زيد رضي الله عنه.

٤٧

أنّ الحجاج كتب إلى عبد الملك : أنّ خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله إليهم ، وكذلك الخلفاء يا أمير المؤمنين أعلى منزلة من المرسلين (١).

ولئن كانت هذه مخبّأة يوما فإنّ ذلك لم يدم طويلا حتّى حجّ الحجّاج ورأى الحجّاج يطوفون بقبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنبره بالمدينة فقال : تبا لهم إنّما يطوفون بأعواد ورمة بالية! هلّا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟!

قال المبرّد : إنّ ذلك ممّا كفّرت به الفقهاء الحجّاج (٢).

وبهذه النظرة فلا مانع لديه أن يرمي الكعبة بالمنجنيق ـ بل كما قيل ـ بالعذرة أيضا (٣). ولا يرى أية حرمة لمقام إبراهيم عليه‌السلام فيحاول أن يضع رجله على المقام فيزجره عن ذلك محمّد بن الحنفية (٤).

وعلى هذه النظرة أيضا : «هلّا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك» فلا استبعاد لما احتمله السيد المرتضى العاملي : أن يكون الحجاج حين بنى مدينة (واسط) في العراق وسطا بين الكوفة والبصرة ، حوّل قبلتها من جهة الحجاز (الكعبة) إلى جهة الشام : إمّا قصر أمير المؤمنين (!) أو قبّة الصخرة الّتي بناها وأمر الناس بالحجّ إليها :

فقد ذكر اليعقوبي : أنّه لمّا استولى ابن الزبير على مكّة والحجاز كان يأخذ الحجّاج بالبيعة له فلمّا رأى ذلك عبد الملك منعهم من الخروج إلى الحج ، فضجّ الناس

__________________

(١) عن العقد الفريد ٢ : ٣٥٤.

(٢) الكامل للمبرد ١ : ٢٢٢ وسنن أبي داود ٤ : ٢٠٩ وشرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٤٢ عن كتاب «افتراق هاشم وعبد شمس» لأبي العبّاس الدبّاس. والنصائح الكافية عن الجاحظ : ٨١ ، ونقل جدلا حوله الدكتور طه حسين في كتابه : الايام.

(٣) عن الفتوح لابن الأعثم الكوفي المتوفى ٣١٠ ج ٢ : ٤٨٢ وعقلاء المجانين : ١٧٨.

(٤) طبقات ابن سعد ٥ : ٨٤ والمصنف لعبد الرزاق ٥ : ٤٩ وربيع الابرار ١ : ٨٤٣.

٤٨

وقالوا : تمنعنا من حجّ بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا؟! فقال لهم : هذا ابن شهاب الزهري يحدّثكم : أنّ رسول الله قال «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس» فهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام! وهذه الصخرة الّتي يروى : أنّ رسول الله وضع قدمه عليها لمّا صعد إلى السماء ، تقوم لكم مقام الكعبة!. فبنى على الصخرة قبّة وعلّق عليها ستور الدّيباج وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة! وأقام بذلك أيام بني اميّة (١).

وإلى هذا أشار الجاحظ في بعض آثاره فقال في المفاضلة بين بني هاشم وبني اميّة : وتفخر هاشم بأنّهم لم يهدموا الكعبة ، ولم يحوّلوا القبلة ، ولم يجعلوا الرسول دون الخليفة (٢).

ويفصّل هذا أيضا في بعض رسائله فيقول : حتّى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو ، فهدموا الكعبة واستباحوا الحرمة ، وحوّلوا قبلة واسط ـ إلى أن قال ـ فأحسب أنّ تحويل القبلة كان غلطا ، وهدم البيت كان تأويلا ، وأحسب ما رووا من كلّ وجه : أنّهم كانوا يزعمون : أنّ خليفة المرء في أهله أرفع عنده من رسوله إليهم (٣) ...

واحتمل السيد المرتضى العاملي : أن يكون هذا هو سر استحباب التياسر في القبلة لأهل العراق دون غيرهم عند أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ويظهر أنّ خصوم الشيعة قد التفتوا إلى هذا منهم ، ولذلك كانوا يتّهمون من يتحرّى القبلة بالرفض.

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٣ : ٨ ، وحياة الحيوان ١ : ٦٦ والبداية والنهاية ٨ : ٢٨٠ والانافة في معالم الخلافة ١ : ١٢٩. وانظر بحثا في هذا في السّنة قبل التدوين : ٥٠٢ ـ ٥٠٦.

(٢) عن آثار الجاحظ : ٢٠٥.

(٣) عن رسائل الجاحظ ٢ : ١٦.

٤٩

فقد روى الخطيب البغدادي : أنّ قاضي واسط أسد بن عمرو قد رأى قبلة واسط رديئة فتحرّف فيها فاتّهم بالرفض (١).

٢ ـ والمقايسة بين الرسول والخليفة ، والتوهين بالكعبة لم يكن يقتصر على الحجّاج ، بل روى أبو الفرج الأصبهاني الأموي : أنّ خالد بن عبد الله القسري عامل هشام بن عبد الملك على مكّة ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أيّما أكرم : رسول الرجل في حاجته أو خليفته في أهله؟! يعرّض أن هشاما خير من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وروى عن أبي عبيدة قال : خطب خالد القسري يوما فقال : إنّ إبراهيم الخليل استسقى الله ماء فسقاه الله ملحا اجاجا (يقصد زمزم) وإنّ أمير المؤمنين استسقى الله ماء فسقاه عذبا نقاخا (٣) يقصد العين الّتي أجراها لسليمان بن عبد الملك بمكة قبل أن يحجّ إليها وأجراها إلى المسجد الحرام (٤).

وروى أنّه قال لغلامه يوما : ابن امّي! أيّما أعظم : ركيّتنا أم زمزم؟! فقال له : أيّها الأمير من يجعل الماء العذب النقاخ مثل الملح الاجاج؟! وكان يسمّي زمزم : أمّ الجعلان (٥).

وروى عن المدائني : أنّ خالدا كان يقول : لو أمرني أمير المؤمنين لنقضت الكعبة حجرا حجرا ونقلتها إلى الشام (٦).

وروى أنّه حبس بعض التابعين فأعظم الناس ذلك وأنكروه فبلغه ذلك ،

__________________

(١) عن تأريخ بغداد ٧ : ١٦ ونشوار المحاضرة ٦ : ٣٦.

(٢) الاغاني ١٩ : ٦٠.

(٣) الاغاني ١٩ : ٦٠. النقاخ : الماء البارد العذب الصافي الطيب ، كما في اللسان.

(٤) اليعقوبي ٣ : ٣٨.

(٥) الاغاني ١٩ : ٥٩ ومثله قبله فی الیعقوبی ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٦) الاغاني ١٩ : ٦٠. انظر سفينة البحار ٢ : ٦٦١ ـ ٦٦٢.

٥٠

فخطب فقال : قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدوّ أمير المؤمنين ومن حاربه ، والله لو أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجرا حجرا لنقضتها! والله لأمير المؤمنين أكرم على الله من أنبيائه (١).

٣ ـ وتحامل ابن الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا وأظهر لهم العداوة والبغضاء ، حتّى بلغ ذلك منه أنّه ترك الصّلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته! فقيل له : لم تركت الصّلاة على النبيّ؟ فقال : إنّ له أهيل سوء يشرئبّون لذكره ويرفعون رءوسهم إذا سمعوا به! وأخذ أربعة وعشرين رجلا من بني هاشم منهم محمّد بن الحنفية وعبد الله بن عبّاس امتنعوا عن بيعته فحبسهم وهدّدهم أن يحرقهم بالنار : وقام خطيبا فنال من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولمّا عجز عنهم أخرجهم من مكّة ، فأخرج محمّد بن الحنفيّة إلى رضوى وعبد الله بن عبّاس إلى الطائف حتّى توفي ابن عبّاس بها سنة ٦٨ ه‍ (٢).

واعتبروا أقوال الصحابة حجة كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الشيخ أبو زهرة في كتابه عن الإمام مالك : ووجدنا مالكا يأخذ بفتواهم ـ أي الصحابة ـ على أنّها من السّنة ، ويوازن بينها وبين الأخبار المرويّة إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي! وهذا ينسحب على كلّ حديث عنه ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ حتّى ولو كان صحيحا (٣).

ونقل هذا السيد المرتضى العاملي في مقدمته لسيرته ثمّ علّق عليه يقول : وليس هذا إلّا لأنّ شأن رسول الله لم يكن عند هؤلاء في المستوى الطبيعي

__________________

(١) الاغاني ١٩ : ٦٠.

(٢) اليعقوبي ٣ : ٨.

(٣) عن كتاب : الإمام مالك لابي زهرة : ٢٩٠.

٥١

اللائق به كما هو ظاهر. ثمّ نقل عن «الرسائل المنيرية» قوله : والعجب منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنصّ له آخر في مسألة بخلافه ، ثمّ لا يرون مخالفته لأجل نصّ رسول الله (١).

هذه هي صورة عن مكانة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعاليمه وقيمة أقواله لديهم ، نكتفي منه بهذا.

ونقول : إنّ وجود هذه الخطط الّتي استهدفت شخصية الرسول الكريم بل كلّ المقدّسات الإسلامية ، توجب علينا أن نقوّم نصوص سيرته وروايات تأريخه وتأريخ الإسلام.

بما ذا نقوّم النصوص؟

وإن نحن أردنا ذلك فمن الضروريّ أن نعتمد فيه قبل كلّ شيء على :

١ ـ عرضه على القرآن الكريم ـ كما مرّ ـ فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما مرّ أيضا ـ أنّه قال : تكثر لكم الأحاديث بعدي ، فإذا روي لكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فاقبلوه ، وما خالف فردّوه (٢).

وعن عليّ بن الحسين عليه‌السلام قال عن القرآن : «وميزان قسط لا يحيف عن الحقّ لسانه ، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه ، وعلم نجاة لا يضلّ من أمّ قصد سنّته».

وروى الكلينيّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ما لم يوافق كتاب الله فهو زخرف (٣).

__________________

(١) الصحيح ١ : ٢٤ عن مجموعة الرسائل المنيرية : ٣٢.

(٢) عن اصول الحنفية للشاشي : ٤٣.

(٣) عن اصول الكافي ١ : ٥٥.

٥٢

وعن ابن عبّاس قال : إذا سمعتموني احدّث عن رسول الله فلم تجدوه في كتاب الله أو حسنا عند الناس ، فاعلموا أني كذبت عليه (١).

وعن ابن مسعود قال : فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (٢).

وعن معاذ بن جبل قال : فاعرضوا على الكتاب كلّ شيء من الكلام ولا تعرضوه على شيء من الكلام (٣).

وأوصى ابيّ بن كعب رجلا فقال له : اتّخذ كتاب الله إماما وارض به قاضيا وحكما (٤).

وعن أبي بكر في خطبة له : فإن كانت للباطل غزوة ولأهل الحقّ جولة يعفو لها الأثر وتموت السنن ، فالزموا المساجد واستشيروا القرآن (٥).

ولن ينقضي العجب من بعض أهل الزيغ حيث نسب هذا القول ـ وهو عرض الحديث على القرآن ـ إلى أهل الزيغ فقال : وقد أمر الله عزوجل بطاعته ـ أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ واتّباعه أمرا مطلقا لم يقيّد بشيء كما أمرنا باتّباع كتاب الله ، ولم يقل : ما وافق كتاب الله ، كما قال بعض أهل الزيغ (٦).

وأعجب من ذلك أنّ بعضهم نسب هذا الحديث إلى الزنادقة والخوارج! فقال : الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث ، يعني ما روي عنه أنّه قال :

__________________

(١) عن سنن الدارمي ١ : ١٤٦.

(٢) عن المصنف ٦ : ١١٢ وجامع بيان العلم ٢ : ٤٢ ، وحياة الصحابة ٣ : ١٩١.

(٣) حياة الصحابة ٣ : ١٩٧ عن كنز العمّال ٨ : ٨٧ عن ابن عساكر.

(٤) عن حياة الصحابة ٣ : ٥٧٦ عن حلية الاولياء ١ : ٢٥٣.

(٥) البيان والتبيين ٢ : ٤٤ وعيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٢٣٣. والعقد الفريد ٤ : ٦٠.

(٦) جامع بيان العلم ٢ : ٢٣٣ عن ابي عمر.

٥٣

ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله. و : إنّما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله.

وهذه الالفاظ لا تصحّ عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه ، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا : نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كلّ شيء ونعتمد على ذلك ، فلمّا عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله ، لأنّا لم نجد في كتاب الله : أن لا يقبل شيء من حديث رسول الله ، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسّي به والأمر بطاعته ، وكذا ينهى عن المخالفة عن أمره ، جملة على كلّ حال (١).

وقال أبو بكر البيهقي : والحديث الّذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل ، فإنّه ينعكس على نفسه بالبطلان ، فليس في القرآن دلالة على : عرض الحديث على القرآن (٢).

وقالوا بقول مطلق : السّنّة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السّنّة (٣).

وحاول الخطّابي في شرحه لسنن أبي داود أن يجد من الحديث ما ينفي أحاديث العرض على الكتاب ، وذلك في شرحه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : ما ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه».

__________________

(١) بحوث مع أهل السّنة والسلفية : ٦٨ نقلا عن جامع بيان العلم ٢ : ٢٣٣.

(٢) عن دلائل النبوة للبيهقي ١ : ٢٦.

(٣) سنن الدارمي ١ : ١٤٥ وتأويل مختلف الحديث : ١٩٩ ، جامع بيان العلم ٢ : ٢٣٤ ومقالات الاسلاميين ٢ : ٣٢٤.

٥٤

قال الخطّابي معلّقا على هذا الحديث : في الحديث دلالة على أن لا حاجة إلى عرض الحديث على الكتاب ، وأنّه مهما ثبت عن رسول الله شيء كان حجة بنفسه فأمّا ما رواه بعضهم أنّه قال : إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه ... فإنّه حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنّه قال : هذا حديث وضعته الزنادقة (١).

وقد بحث هذا الموضوع العلّامة المحقّق السيد مهدي الروحاني في كتابه «بحوث مع أهل السّنّة والسلفية» وخلص إلى القول : بأنّ هذه الأحاديث ـ أي أحاديث عرض الحديث على الكتاب ـ ناظرة إلى قبول الموافق وردّ المخالف ، أمّا ما لا يوافق ولا يخالف فهو باق تحت حجّية الأخبار ، فعدم وجود معنى حديث ما في كتاب الله لا يفيد مخالفة هذا الحديث له.

٢ ـ بالاعتماد على القرآن الحكيم علينا أن نحدّد معالم شخصية الرسول الكريم الّتي تمثّل أسمى إنسان وجد ويوجد على وجه الأرض ، متّصفا بصفات الفضل والكمال متخليا عمّا عداها ، حتّى جعله الله لنا اسوة وقدوة مطلقا فقال : و (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(٢) فهو كما وصفه حفيده الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة الجامعة : «عصمكم الله من الزلل وآمنكم من الفتن ، وطهّركم من الدنس ، وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيرا» فهو المعصوم عن المعاصي والمبرّأ من كلّ عيب وعاهة وآفة منفرة للناس عنه ، فلا يرى في اعماله أي تشتّت أو ضعف ، ولا في اقواله أي تناقض أو تهافت أو سخف ، بل الفضائل الكاملة ، والصفات الإنسانية الرفيعة الفاضلة : حكمة وعلما ، وشجاعة وحزما ، وسكينة ووقارا ، و ... وبكلمة : هو خليفة الله في أرضه وحجته على عباده.

__________________

(١) نقلا عن عون المعبود في شرح سنن ابي داود ٤ : ٣٢٩ من الطبعة الحجرية.

(٢) الممتحنة : ٦.

٥٥

فنلاحظ إن كان النصّ منسجما مع هذه الشخصية العظيمة قبلناه ، وإلّا رددناه. وإلّا فكيف ننسب إلى هذه الشخصية أنّه حمل حليلته عائشة على متنه لتشاهد أغاني السودان؟! أو أنّه شرب النبيذ؟! أو أنّه بال قائما؟! أو أنّه شكّ في نبوّته؟! أو أنّه أثنى على الأوثان تقريبا للمشركين إلى نفسه؟! وما شاكل ذلك.

٣ ـ وبالاقتداء بالقرآن الكريم الّذي إنّما خاطب اولي الألباب والعقول ، وجعل العقل ـ القطعيّ الاتفاقيّ ـ حكما فيما يقول وذمّ العقلاء على مخالفتهم لحكم عقولهم ... فليكن ذلك هو موقفنا في جميع القضايا التأريخية أيضا ، فنتأكد من إمكان حدوثه تأريخيا.

هذا بعد التأكد من سلامة النصّ من التناقض والمعارض ، والنظر في طبقات الرّواة وعلاقاتهم السياسية وغيرها ، والتأكد من سلامة سند النصّ من الوضّاعين والكذّابين وأصحاب الأهواء السياسية وغيرها.

بعد كلّ ذلك وبالأخذ بنظر الاعتبار جميع تلك المقاييس ، يكون بإمكاننا أن نقوّم النصوص غير القليلة الّتي تسعى أن تصوّر الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمظهر صبيّ جاهل عاجز مهين! فلا ندع لها فرصة التسلّل إلى سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وحينئذ يكون بإمكاننا أن نتقدم إلى المسلمين بنصّ من ثروة التراث يكون مصدر فخر واعتزاز.

وهذه ميزة يمتاز بها تأريخ الإسلام ، وهي أنّه ينطلق عن قواعد بإمكانها أن تهدي الباحث إلى الطرق الامينة والّتي بإمكان سالكها أن يصل بها إلى الحقيقة الّتي يريدها مطمئنّ النفس راضي الضمير ، شريطة التزامه بتلك القواعد والضمانات المشار إليها فيما مرّ.

٥٦

واستدراكا لما فات :

واستدراكا لما مرّ نقول : إنّ المدوّن من تأريخ الإسلام ـ بما فيه ممّا مرّ ذكره ـ مع ذلك يعتبر أغنى تأريخ مطلقا ، ذلك لامتيازه بدقته وشموله ، فتراه يلمّح اللمحات ، ويلتفت مع اللفتات ، ويتحرك مع الحركات ، ويتحدث عن الأحداث ، ويتكلّم بالكلمات ، ويقف في المواقف بدقّة وشمول منقطع النظير ، ويملك لذلك من النصوص الشيء الكثير ، بحيث لا يشابهه أي تأريخ مطلقا ، فإنّه ليس بإمكان أي تأريخ آخر أن يثبت الكثير من أحاديثه عن الحوادث الكبرى بصورة قطعية فضلا عن الجزئيات من الامور.

لكن لا بدّ لمن يريد الإفادة من كتب التأريخ الإسلامي من أن يفتح عينه ووعيه لكلّ كلمة منه ، فيطالعها بوعي ويقظة وحذر ، يسعى لاستخلاص ما ينسجم منه مع الواقع ويردّ ما عداه ، ممّا مال به القائل أو لعبت به الأهواء ، ولا سيّما ما يتعلق منه بصدر الإسلام ، ممّا يتحكم فيه الهوى المذهبي والتزلّف إلى الخلفاء والامراء والحكّام فيذكر الأمر منقطعا عن علله وعوامله ومنفصلا عن أسبابه وجذوره ، وذلك بفعل التعصب البغيض والظلم الكثير. فالمؤرّخ كان لا يكتب ولا يثبت إلّا ما ينسجم مع نفسية الحاكم ، ويتّفق وقوله ، مهما كان مخالفا للواقع والحقيقة ، ولاتجاه المؤرّخ عقيدته أيضا ، فهو يشوّه امورا صدرت من الحاكم أو غيره ويحيطها بالغموض والإبهام ، أو يهمل أحداثا ويتجاهل شخصيات لها أثرها في التأريخ ، ويختلق أحداثا أو شخصيات لا وجود لها ، أو يسهب الكلام في وصف غرام أو مجلس رقص أو غناء وشراب ويعنى بامور حقيرة تافهة.

بينما مهمّة المؤرّخ أن يعكس حياة الامة وما عرض لها من أزمات فكريّة واجتماعية وسياسية واقتصادية ، وبصورة عامة كلّ ما مرّت به من أوضاع وأحوال ، وذلك بدقّة وأمانة. وليس بخاف ما في ذلك من الأثر الكثير في حياة الامّة

٥٧

ووضعها في الحال الحاضر : عقائديّا وعلميّا وادبيّا واجتماعيّا ، حسب اختلاف الأحداث عمقا وشمولا. ولا ينفي ترتّب هذا الأثر البارز أن يكون الحدث التأريخي قد مرّ على تأريخه أكثر من ألف عام.

قلنا : إنّ المسلمين اهتموا بتدوين تأريخهم ما لا نراه لغيرهم ، وإنّه بالرغم ممّا ذكر فهو أثرى تأريخ أمّة مطلقا. ولكنّ هذا لا يعني أنّ تدوينه لم يتأثّر بالأهواء السياسية ومختلف العصبيات المذهبية وغيرها ، ممّا أدخل فيه الأباطيل والموضوعات. الأمر الّذي فرض علينا أن نتّخذ من المبادئ القرآنية والإسلامية ، وشخصية الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مقياسا لتقييم كثير من النصوص والحكم عليها من خلال انسجامها مع كلّ ذلك ، وهكذا بالنسبة إلى كلّ شخصية من إمام معصوم وغيره حصلنا منه على علم عام بسيرته وأخلاقه ، مستعينين بالكثير من أدوات البحث الاخرى الّتي توفّرها الممارسة الطويلة في هذا الموضوع ، كتناقض النصوص ، أو التوصل إلى عدم إمكان وقوع ذلك الحدث في تلك الفترة الزمنية أو بالنسبة إلى الشخصية المنسوب إليها.

بحث الأسناد :

إنّ هذه الحالة ـ حالة عدم الأمانة التامة ـ لا تدعنا نعتمد على الأسانيد لتكون ميزانا نهائيا ومقياسا مطلقا في موضوع التأريخ ، إذ إنّ ذلك يعني أن نحصر أنفسنا في حصار نصوص يسيرة تكاد لا تفي حتّى بالفهرسة الإجمالية لسيرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومجمل تأريخ صدر الإسلام ، ويعني أن نفقد الكثير من النصوص الصحيحة الّتي لم تحتفظ بسند فيه أدنى شرائط القبول ، وسوف يفقد الناقد حريّة حركته بين النصوص للاستنتاج.

إذن ، فلا يمكن ملاحظة شروط الأسناد إلّا بالنسبة لما روي عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، أمّا في خصوص النصوص التأريخية فإنّه لا يتيسر ملاحظة ذلك ، ذلك

٥٨

لأنّ التأريخ قد دوّن بأيد قد تكون أمينة ولكن لا على الإطلاق ولا سيّما بالنسبة لأسناد ما دوّنوا من أخبار ، وعلى هذا ، فلا بدّ من ملاحظة أكثر ما يمكن للتأكد من عدم الجعل والتحريف فيها قبل قبولها على أنّها من التأريخ المعتمد عليه.

وبكثرة الأكاذيب والأباطيل في الأحاديث والأقاويل التأريخية ، بسبب تلاعب الأهواء المذهبية والسياسيّة كما سبق ، فانّ الاستناد إلى أفراد معيّنين من المؤرّخين أو نوعية معيّنة من الكتب التأريخيّة ربّما تحرم الباحث من كثير من الحقائق التأريخية المبعثرة هنا وهناك ، والّتي أمكن لها أن تصل إلينا عبر الموانع المتعددة سليمة من كثير من التحريف ، بما أنّ الساسة لم يروها ؛ أو لم يروا فيها ما يشكّل خطرا عليهم ، وكذلك المتعصّبون من أرباب المذاهب ، فبقيت بعيدة عن متناول أيديهم ورماحهم وغوغائهم ، وآمنة من تعنّت المتعصبين وجبروت الطواغيت كي نتلقفها اليوم بسلام.

دراستنا نحن للتأريخ :

ونحن هنا نحاول بدورنا أن نستخلص صورة نقية واضحة ما أمكننا من تأريخنا تأريخ الإسلام ، وبصورة أساسيّة نهتم لنبتعد عن ذلك القسم الموضوع المكذوب من النقول التأريخية ، والّتي لا تعدو في الحقيقة والواقع عن أوهام من خيالات أصحاب الأهواء والأغراض من المحدّثين والقصّاصين.

والبداية الطبيعية لتأريخ الإسلام هي سيرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه البداية الطبيعية تفرض علينا أن نلاحظ أوّلا شيئا عن تأريخ ما قبل البعثة النبوية الشريفة ، كي نتعرّف على المناخ والجوّ الّذي ظهر فيه الإسلام إلى العالم.

واعتمدنا فيما كتبناه هنا ـ حتّى الإمكان ـ على أسبق ما كتبه أو رواه السابقون الأولون ولا سيّما من مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام دون المتأخرين فضلا عن المعاصرين

٥٩

إلّا قليلا ، إذ هو علم نقليّ ليس للمتأخر إلّا ما كتبه المتقدم اللهمّ إلّا في كيفية الإخراج والتأليف والتصنيف والترتيب والتنظيم والتنسيق ، ثمّ توجيهه وتحليله كلّ في حدود إمكانه وطاقته.

وقد أمسك اولئك المؤرخون القدامى عن أية دراسة أو تحليل للحوادث والوقائع التأريخية ، ولعلّه صيانة لنصوص أحاديث تلك الحوادث ، لا بشأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب ، بل إنّ التأريخ الإسلامي بصورة عامّة كتب بدون دراسة أو تحليل أو تحقيق. أجل إنّ أوّل من فتح هذا الطريق بوجه المؤرّخين الإسلاميين هو العالم العربي القاضي عبد الرحمن بن محمّد الخضري المالكي المعروف بابن خلدون (ت ٨٠٨ ه‍) ، فإنّه أسّس في «مقدمته» اسس التأريخ التحليلي ، وهي بما فيها من اشتباهات كثيرة في تحليل بعض الحوادث تعدّ أثرا مفيدا جديدا مبتكرا في بابه.

وقد كتبت بشأن النبيّ العظيم من النوعين الأوّل والثاني ، أي التأريخ الوقائعي والتحليلي كتب كثيرة ، ولكن يعوز النوع الأوّل : التحليل ، ويعوز النوع الثاني في كثير من الأحيان أنّها على جانب كبير من الأخطاء العجيبة ، حيث إنّها اعتمدت على مصادر غير معتبرة أو على كتب المستشرقين.

فبالنظر إلى هذين الإشكالين الأساسيّين عمدنا في حدود إمكاننا في دراستنا هذه أن نتجنبهما ، وذلك بأن :

نسجّل الحوادث المهمّة الّتي تتميّز بدروس لنا فيها ، وأن ننقل ذلك من المصادر الأصلية الاولى المؤلّفة في القرون الاولى الإسلامية والشواهد التأريخية الناطقة.

والله الموفّق والمعين ، وهو الهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم ، فهو حسبي ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير.

اليوسفي الغروي

٦٠