موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

واتباع الصراط المستقيم ، واتباع هذا الكتاب المبارك الكريم ، وتقوى الله. وفي الآية : ١٦١ ذكر أن الصراط المستقيم والدين القيّم هو ملة ابراهيم الحنيف والطاهر من الشرك ، وأن رسول الله ممّن هداه الله الى ذلك الصراط المستقيم والدين القيم فمحياه ومماته لله تعالى.

وهنا قال الطبرسي : قيل : انّ الكفار قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اتّبعنا وعلينا وزرك ان كان خطأ! فأنزل الله هذا (١).

هذا وقد روي في أوّل تفسيره للسورة عن قتادة وعكرمة عن ابيّ ابن كعب وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّها نزلت بمكّة جملة واحدة ليلا (٢) فكيف التوفيق بين هذا وبين أخبار أسباب نزول الآيات من هذه السورة؟ ويصدق هذا القول قبل الطبرسي على القميّ والعياشي أيضا وكثير من المفسّرين الآخرين كذلك.

أمّا العلّامة الطباطبائي فقد خصّص الجزء السابع من تفسيره «الميزان» بتفسير سورة الأنعام ، وقطّعها الى أكثر من عشرة مقاطع وختم كلّ مقطع ببحث روائي شمل عددا غير قليل من أخبار شأن نزول آيات منها ، وعلّق في موارد متعددة عليها بأنّها تنافي نزول السورة جملة واحدة بمكّة ، منها فيما رواه ـ ورويناه ـ عن القميّ عن الامام الباقر عليه‌السلام : أنّ رسول الله كان يحب اسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ... فقال : إنّها لا تلائم الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة. ولكنّه عاد فقال : وان كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثمّ الاشارة بالآية الى السبب المحقّق (٣) ويمكن هذا التوجيه في جميع ما نقلناه من أخبار أسباب النزول لآيات هذه السورة.

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٦٠٦.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٤٢١.

(٣) الميزان ٧ : ٦٨.

٥٠١

السورة السابعة والخمسون ـ «لقمان» :

وفيها قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١)

في تفسير القميّ : في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الامام الباقر عليه‌السلام قال : هو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ، وكان راويا لأحاديث الناس وأشعارهم (٢). ولعلّه هو الرجل الّذي روى فيه الكليني في «اصول الكافي» بسنده عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟ فقيل : علّامة ، فقال : وما العلّامة؟ فقالوا له : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ، ولا ينفع من علمه ، ثمّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنة قائمة ، وما خلاهنّ فهو فضل (٣).

وروى الخبر الأوّل الطبرسي عن الكلبي قال : نزل قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ، كان يتّجر فيخرج الى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيحدّث بها قريشا ويقول لهم : انّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا احدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة. فيتركون استماع القرآن ليستمعوا الى حديثه (٤)

__________________

(١) لقمان : ٦ ، ٧.

(٢) تفسير القميّ ٢ : ١٦١.

(٣) اصول الكافي ١ : ٣٢.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٤٩٠ وروى الخبر عن ابن عبّاس في التفسير المنسوب إليه : تنوير المقباس : ٣٤٤. ورواه ابن اسحاق في سيرته ١ : ٣٢١. ورواه الواحدي في أسباب النزول عن مقاتل والكلبي : ٢٨٧ ط الجميلي. السيوطي عنه في الدر المنثور سورة لقمان.

٥٠٢

وروى مثله ابن شهرآشوب في «المناقب» (١).

وكان قد دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الإسلام ، ففي رواية أبي الجارود في «تفسير القميّ» عن الامام الباقر عليه‌السلام أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للنضر بن الحارث : اتّبع ما انزل إليك من ربّك. فقال : بل أتبع ما وجدت عليه آبائي ، وذلك قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٢).

ومنها قوله سبحانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(٣) في رواية أبي الجارود في «تفسير القميّ» : بلغنا ـ والله أعلم ـ عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : إنّهم قالوا : يا محمّد! خلقنا أطوارا : نطفا ثمّ علقا ، ثمّ انشئنا خلقا آخر كما تزعم ، وتزعم وتزعم أنّا نبعث في ساعة واحدة! فقال الله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ)(٤).

وفي آخر السورة : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٥). وفي «أسباب النزول» للواحدي : أن رجلا من بني مازن يقال له : الحارث بن عمرو جاء الى النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وقال له : يا محمّد! قد علمت بأيّ أرض ولدت فبأيّ أرض أموت؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٥٢.

(٢) تفسير القميّ ٢ : ١٦٦ والآية من لقمان : ٢٠ ، ٢١.

(٣) لقمان : ٢٨.

(٤) تفسير القميّ ٢ : ١٦٧.

(٥) لقمان : ٣٤.

٥٠٣

وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فما ذا اكسب غدا؟ ومتى تقوم الساعة؟ فنزلت هذه الآية (١).

السورة الستون ـ «الزمر» :

ويظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه صلى‌الله‌عليه‌وآله سألوه أن ينصرف عمّا هو عليه من التوحيد والدعوة إليه والتعرض لآلهتهم ، وخوّفوه بآلهتهم ، فنزلت السورة ... تؤكد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه ولا يعبأ بآلهتهم وأن يعلمهم أنّه مأمور بالتوحيد واخلاص الدين ... وذكرت المشركين وأنذرتهم بما سيلحقهم من الخسران وعذاب الآخرة مضافا الى ما يصيبهم في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أكبر ... ووصفت المؤمنين بأجمل أوصافهم وبشّرتهم بما سيثيبهم الله في الآخرة مرة بعد مرّة» (٢).

ومنها قوله سبحانه : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣) قال الطباطبائي : هذا حث وترغيب لهم في الهجرة من مكّة ، إذ كان التوقف فيها صعبا على المؤمنين بالنبيّ ، والمشركون يزيدون كل يوم في التشديد عليهم وفتنتهم ... والّذي ينطبق على مورد الآية هو الصبر على مصائب الدنيا وخاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر والفسوق من آمن بالله وأخلص له دينه واتقاه (٤) ولم ينسبه الى أحد. والظاهر أنّه أخذه من الطبرسي قال : هذا حث لهم على الهجرة من مكّة ، عن ابن عبّاس ، أي لا عذر لأحد في ترك طاعة الله ، فان لم يتمكن منها في أرض

__________________

(١) أسباب النزول : ٢٨٩ ورواه السيوطي في الدر المنثور عن عكرمة ، وسمّي الرجل : الورّاث.

(٢) الميزان ١٧ : ٢٣١ ، ٢٣٢.

(٣) الزمر : ١٠.

(٤) الميزان ١٧ : ٢٤٤.

٥٠٤

فليتحوّل الى اخرى يتمكن منها فيها ، كقوله : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(١) وقبله روى الطوسي معناه عن مجاهد (٢).

فالكلام رواية عن مجاهد عن ابن عبّاس ، وهي لا تصرّح بمقصد الهجرة من مكّة الى أين ، ولم يرد دليل أو اشارة الى أنّ تعيين الهجرة الى الحبشة كان وحيا ، بل الظاهر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى أنّ خير مصداق لسعة أرض الله لهم هي الحبشة ، وعبّر عن ذلك بقوله : «هي أرض صدق ؛ فإنّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد» (٣).

وعن ظروف نزول هذه الآية في سورة الزمر قال الطبرسي في «مجمع البيان» : قال المفسرون : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذّبونهم ، فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء. ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب. فلمّا رأى رسول الله ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج الى أرض الحبشة وقال : انّ بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتّى يجعل الله للمسلمين فرجا. وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة ـ وهو بالحبشة : عطية ـ وإنّما النجاشي اسم الملك كقولهم : كسرى وقيصر. فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة ... فخرجوا الى البحر وأخذوا سفينة الى أرض الحبشة بنصف دينار. وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله. وهذه هي الهجرة الاولى (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٧٦٧.

(٢) البيان ٩ : ١٣.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٤٤ ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٦٠ عن المفسّرين.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٦٠ وفي البحار عن المنتقى للكازروني قال : وكان مخرجهم في رجب في الخامسة ، وخرجت قريش في آثارهم ففاتوهم ، فأقاموا عند النجاشي شعبان ورمضان ورجعوا في شوال. البحار ١٨ : ٤٢٢.

٥٠٥

فالسورة نزلت في الخامسة. وبما أنّ هجرة المسلمين إنّما هي من جرّاء تعذيب قريش للمسلمين ، لذلك نبدأ هنا بذكر أخبار عن ذلك.

ظلم المشركين للمستضعفين من المسلمين :

قال ابن اسحاق : ثمّ إنّ المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله من أصحابه ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين من استضعفوه منهم ، فجعلوا يحبسونهم ويعذّبونهم ، بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكّة اذا اشتدّ الحر ، ليفتنوهم عن دينهم ، فمنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم ، ومنهم من يفتن من شدّة البلاء الّذي يصيبه ...

وكان أبو جهل الفاسق في رجال من قريش يغرون بالمسلمين ، وكان اذا سمع بالرجل أسلم وله شرف ومنعة ، أنّبه وأخزاه وقال له : تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفّهنّ حلمك ولنفيّلنّ (نخطّئنّ) رأيك ولنضعنّ شرفك! وان كان تاجرا قال له : لنكسّدنّ تجارتك ولنهلكنّ مالك! وان كان ضعيفا ضربه وأغرى به غيره.

حتّى أنّ الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي حين أسلم ، مشى رجال من بني مخزوم الى أخيه هشام بن الوليد (١) ليأخذه وفتية آخرين منهم قد أسلموا منهم : سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، فقالوا لهشام : إنّا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الّذي أحدثوه لنأمن بذلك من غيرهم. فقال هشام في أخيه الوليد : فعليكم به فعاتبوه واحذروا على نفسه! فتركوه.

وكانوا يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وامّه اذا حميت الظهيرة يعذّبونهم

__________________

(١) من هنا يعلم أنّ هذا كان بعد هلاك الوليد في المستهزئين الستة.

٥٠٦

برمضاء مكّة. فبلغني أنّ رسول الله كان يمرّ بهم فيقول لهم : صبرا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنة (١).

وعن ابن عبّاس قال : كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطّشونه حتّى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدّة الضرّ الّذي نزل به حتّى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ... افتداء منهم ممّا يبلغون من جهده ، حتّى ان الجعل يمرّ بهم فيقولون له : أهذا الجعل إلهك؟ فيقول : نعم! (٢).

وعن هشام بن عروة بن الزبير : أنّ عمر بن الخطاب ـ وهو يومئذ مشرك ـ كان يعذّب جارية مسلمة من حيّهم فيضربها لتترك الإسلام حتّى اذا ملّ قال لها مستهزئا! : إنّي أعتذر إليك! إنّي لم أتركك الّا ملالة ، فتقول له : كذلك فعل الله بك! فابتاعها أبو بكر فأعتقها.

واعتق النهديّة وبنتها ، وأمّ عبيس وزنّيرة ، واصيب بصرها حين اعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها الّا اللات والعزّى ، فقالت : كذبوا وبيت الله ما تضرّ اللات والعزّى وما تنفعان ، فردّ الله بصرها.

وأعتق عامر بن فهيرة وشهد بدرا واحدا وقتل شهيدا يوم بئر معونة.

ومرّ ببلال بن رباح ، وكان اميّة بن خلف الجمحي يخرجه اذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكّة ، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ويقول له : لا تزال هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمّد وتعبد اللات والعزّى! فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد. وكان دار أبي بكر في بني جمح ، فمرّ به وهم يصنعون به ذلك ، فقال لاميّة بن خلف : ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتّى متى! قال : أنت الّذي أفسدته فأنقذه ممّا ترى. فقال أبو بكر : أفعل ، عندي غلام أسود أجلد منه

__________________

(١) انظر رجال الكشي : ٣٠.

(٢) ولعل هذا كان بعد تصويب القرآن والرسول لتقية عمار بن ياسر ، كما سيأتي.

٥٠٧

وأقوى ، على دينك ، اعطيكه به. قال : قد قبلت. فقال : هو لك. فأعطاه أبو بكر عنه غلامه وأخذه فأعتقه (١).

وقال اليعقوبي : وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين ؛ فأخذت قريش من استضعفت منهم الى الرجوع عن الاسلام والشتم لرسول الله ، فكان ممّن يعذّب في الله : عمّار بن ياسر وياسر أبوه وسمية امّه ... وخبّاب بن الأرت ، وصهيب بن سنان ، وابو فكيهة الأزدي ، وعامر بن فهيرة ، وبلال بن رباح واشتد على القوم العذاب ونالهم منه أمر عظيم ، فرجع عن الإسلام خمسة نفر ، منهم : أبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس الفاكه بن المغيرة (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٣ بتصرف. هذا وقد روى الإسكافي في نقض العثمانية عن ابن اسحاق والواقدي أن عامر بن فهيرة وبلالا اعتقهما رسول الله ، كما في شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٧٣. ولذلك عدّ ابن شهرآشوب بلالا من موالي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ج ١ : ١٧١. وقال ابن هشام في عامر بن فهيرة : أنّه كان أسود من مولدي الأسد ١ : ٢٧٧. ومعنى ما رواه ابن اسحاق هو أن أبا بكر لم يكن من المستضعفين فلم يعذّب في الله ، بل اطلق واعتق عددا منهم. ولكن ابن هشام ذكر أن نوفل بن خويلد بن أسد (ابن عم خديجة ، وهل هو أبو ورقة بن نوفل؟!) وكان من شياطين قريش ، قرن بين أبي بكر وطلحة بن عبد الله في حبل ، فبذلك كانا يسمّيان : القرينين ، كما في ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٠١. وأضاف الجاحظ في العثمانية قال : ضربه نوفل بن خويلد مرتين حتّى أدماه ، وشدّه مع طلحة بن عبيد الله في قرن. وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان ، ولذلك كانا يدعيان القرينين ، كما في العثمانية : ٢٨ وعنها في شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٥٣. وردّ عليه الإسكافي في نقض العثمانية فقال : انتم في أبكر بين أمرين : تارة تجعلونه رئيسا متّبعا وكبيرا مطاعا ، وتارة تجعلونه دخيلا ساقطا وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا ؛ فإنّا لا نعلم أن العذاب كان واقعا الّا بعبد أو عسيف (الأجير) أو لمن لا عشيرة له تمنعه. كما في شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٥٥.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٢٨.

٥٠٨

الفصل السّادس

الهجرة الاولى

٥٠٩
٥١٠

الهجرة الى الحبشة :

قال ابن اسحاق : فلمّا رأى رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب ، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم ممّا هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم الى أرض الحبشة ، فانّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتّى يجعل الله لكم فرجا ممّا أنتم فيه.

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله الى أرض الحبشة ، مخافة الفتنة ، وفرارا الى الله بدينهم ، فكانت أوّل هجرة في الإسلام.

وكان أوّل من خرج من المسلمين : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ومعه امرأته أمّ سلمة بنت أبي اميّة بن المغيرة المخزومي.

وعثمان بن عفّان بن أبي العاص بن اميّة ، ومعه امرأته رقيّة بنت رسول الله. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل ابن عمرو ، وولدت له بأرض الحبشة محمّد بن أبي حذيفة.

٥١١

وعامر بن ربيعة العدوي ، ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوي.

والزبير بن العوّام بن خويلد بن أسد.

ومصعب بن عمير ، من بني عبد الدار.

وعبد الرحمن بن عوف الزهري.

وأبو سبرة بن أبي رهم العامري.

وسهيل بن وهب الفهري.

وعثمان بن مظعون الجمحي (١) وكان عليهم عثمان بن مظعون ، في قول ابن هشام (٢) وروى الواقدي : أنّ الّذين هاجروا الهجرة الاولى خرجوا متسلّلين سرّا ، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة ، حتّى انتهوا الى الشعيبة ، منهم الراكب ومنهم الماشي ، ووفق الله للمسلمين ـ ساعة جاءوا ـ سفينتين للتّجار حملوهم فيهما الى أرض الحبشة بنصف دينار ، وكان مخرجهم في : رجب في السنة الخامسة من حين نبّئ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وخرجت قريش في آثارهم حتّى جاءوا البحر ، حيث ركبوا ، فلم يدركوا منهم أحدا (٣).

وقال اليعقوبي : لمّا رأى رسول الله ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الأمن بمنع أبي طالب عمّه اياه ، قال لهم : ارحلوا مهاجرين الى أرض الحبشة الى النجاشي ، فإنّه يحسن الجوار.

فخرج في المرة الاولى : اثنا عشر رجلا.

وفي المرة الثانية : سبعون رجلا ، سوى أبنائهم ونسائهم.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٢٢ ، ٣٢٣ عن ابن اسحاق ، وأضاف الواقدي : عبد الله بن مسعود كما في الطبقات ١ : ٢٠٤ وعنه في الطبري ٢ : ٣٣٠.

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٢٤ منه.

(٣) طبقات ابن سعد ١ : ٢٠٤ وعنه في الطبري ٢ : ٣٢٩.

٥١٢

وكان لهم عند النجاشي منزلة (١).

وقد مرّ خبر ابن اسحاق وقد وصف رحلة من عدّهم مع عثمان بن مظعون الى الحبشة بالهجرة الاولى ، ولكنّه بعد عدّهم قال : «ثمّ خرج جعفر ابن أبي طالب رضى الله عنه وتتابع المسلمون حتّى اجتمعوا بأرض الحبشة فكانوا بها ، منهم من خرج بأهله معه ، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه» ثمّ أخذ في عدّهم وأنسابهم ، فعدّ من بني هاشم رجلا واحدا هو : جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية ، وولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر. ثمّ عدّ من بني اميّة وحلفائهم سبعة نفر ، فعدّ أولهم : عثمان بن عفان ومعه رقية ابنة رسول الله ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وخالد بن سعيد بن العاص ، ومعهما نساؤهما. ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش وأخوه عبيد الله (وهو الّذي تنصّر في الحبشة) معه امرأته أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وقيس بن عبد الله ومعه امرأته بركة مولاة أبي سفيان.

ثمّ عدّ من بني نوفل رجلا ، ومن بني عبد بن قصي رجلا ، ومن بني عبد شمس رجلين ، ومن بني أسد من قريش أربعة نفر منهم الزبير بن العوام ابن خويلد بن أسد ، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد ، ويزيد بن زمعة ابن الأسود بن المطّلب بن أسد (وزمعة أو أبوه الأسود احد المستهزئين الستة). ومن بني عبد الدار خمسة نفر منهم : مصعب بن عمير. ومن بني زهرة وحلفائهم من بهراء وهذيل ستة نفر منهم : عبد الرحمن بن عوف ، وأبو وقاص وابنه عامر ، وعبد الله بن مسعود وأخوه عتبة ، والمقداد بن عمرو من قضاعة ، وكان قد تبنّاه في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث من بني زهرة ، فكان يقال له : المقداد بن الأسود. ومن بني تيم رجلين.

__________________

(١) اليعقوبي : ٢ : ٢٩.

٥١٣

ومن بني مخزوم وحلفائهم ثمانية نفر منهم : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ومعه امرأته أمّ سلمة هند بنت أبي اميّة بن المغيرة المخزومي ، وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وعيّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة. وسلمة بن هشام. ومن بني جمح أربعة عشر رجلا منهم : عثمان بن مظعون ، وابنه السائب بن عثمان ، وأخواه قدامة بن مظعون ، وعبد الله بن مظعون ، ومن بني سهم أربعة عشر رجلا. ومن بني عدي خمسة نفر. ومن بني عامر ثمانية نفر. ومن بني الحارث بن فهر ثمانية نفر منهم : أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح.

ثمّ قال ابن اسحاق : فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين ـ سوى أبنائهم الّذين خرجوا بهم معهم صغارا أو ولدوا بها ـ ثلاثة وثمانين رجلا ، ان كان عمّار بن ياسر فيهم ، وهو يشك فيه (١).

إذن فهو في هذا العدّ يعدّد أهل الهجرة الثانية الى الحبشة وعليهم جعفر بن أبي طالب ، ولعلّه في عدده ـ ثلاثة وثمانين رجلا ـ قد جمع أهل الهجرة الاولى مع الثانية ، بينما اليعقوبي جرّد أعداد الهجرة الثانية فقط فقال بالسبعين ، أو باستثناء النساء والأطفال كما قال.

وكذلك فعل القمي في تفسيره إذ قال : لمّا اشتدّت قريش في أذى رسول الله وأصحابه أمرهم رسول الله أن يخرجوا الى الحبشة ، وأمر جعفر ابن أبي طالب أن يخرج معهم ، فخرج جعفر وخرج معه سبعون رجلا من المسلمين حتّى ركبوا البحر (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٤٥ ـ ٣٥٣ ونقله الطبري بعبارة : وقال آخرون. وذكر العدد : اثنين وثمانين ، الطبري ٢ : ٣٣٠ ورواه عن محمّد بن اسحاق كذلك ٢ : ٣٣١.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٧٦.

٥١٤

كتاب النبيّ الى النجاشي :

وهنا روى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الحافظ الحسكاني عن ابن اسحاق ، والطبري عن ابن اسحاق أيضا قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمرو بن اميّة الضمري الى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه كتابا» ثمّ ذكر صورة الكتاب ، وجواب النجاشي (١).

ولا يوجد الخبر في ابن اسحاق في السيرة، وظاهر الطبرسي أنّ هذا الكتاب كان من مكّة حين خرج عمرو بن العاص مع عمارة بن الوليد الى الحبشة ، حسب خبر الطبرسي نفسه ، ومع عبد الله بن أبي ربيعة حسب خبر ابن اسحاق عن أمّ سلمة كما يأتي وفي الكتاب أمر بإكرام جعفر وأصحابه وقراهم ، فالمناسب أن يكون في بداية الهجرة مع جعفر ، أو مع خروج عمرو بن العاص الى الحبشة سفيرا من قبل معاندي مكّة لايذاء جعفر وأصحابه.

ويظهر من الحلبي في السيرة : أنّ عمرو بن العاص خرج الى الحبشة بعد غزوة بدر وانّ رسول الله لمّا بلغه ذلك بعث عمرو بن اميّة الى النجاشي بكتاب يوصي فيه بالمسلمين ، قال : «لمّا أوقع الله بالمشركين يوم بدر ورجعوا خائبين قالوا : إنّ ثارنا بأرض الحبشة ، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة الى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين ، فلمّا بلغ ذلك رسول الله بعث الى النجاشي عمرو بن اميّة الضمري بكتاب يوصي فيه بالمسلمين» (٢).

واتفقوا على أنّ الرسول الى النجاشي هو عمرو بن اميّة الضمري ، ولكنّهم اختلفوا في إسلامه : ففي «اسد الغابة» عن أبي نعيم : أنّه أسلم قديما وهاجر الى

__________________

(١) إعلام الورى : ٤٥ ، ٤٦ وفي مستدرك الحاكم ٢ : ٦٢٣ ، ٦٢٤ والطبري ٢ : ٦٥٢ ، ٦٥٣.

(٢) سيرة الحلبي ٣ : ٢١٢. وانظر : مكاتيب الرسول ١ : ١٢٠ ـ ١٣٠ ط الاولى.

٥١٥

الحبشة ، ثمّ هاجر الى المدينة وأوّل مشاهده بئر معونة (١) وعليه فلا اشكال لا في حمله الكتاب الأوّل ولا في حمله الكتاب الثاني بعد صلح الحديبية وقبل خيبر في تجهيز المسلمين من الحبشة الى المدينة. ولكن في «الاستيعاب» و «الاصابة» عن ابن سعد (٢) : أنّه شهد بدرا واحدا مع المشركين ، وأسلم بعد احد. وعليه فلم يكن وقتئذ مسلما ، فلا يصح حمله الكتاب الأوّل حتّى بعد بدر بناء على خبر الحلبي بإرسال المشركين لعمرو ابن العاص الى الحبشة بعد بدر. ولذا فقد أورد الحلبي على نفسه بذلك ، وفي الجواب رجّح خبر إرسال المشركين لعمرو الى الحبشة بعد الأحزاب ، في السنة الخامسة للهجرة.

وقد روى الخبر هذا ابن اسحاق في السيرة بسنده الى عمرو بن العاص نفسه قال : لمّا انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون منّي ، فقلت لهم : تعلمون ـ والله ـ انّي أرى أمر محمّد يعلو الامور علوّا منكرا ، وانّي قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا : وما ذا رأيت؟ قلت : رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده ، فإن ظهر محمّد على قومنا كنّا عند النجاشي ، فإنّا أن نكون تحت يديه أحبّ إلينا من أن نكون تحت يدي محمّد ، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا ، فلن يأتينا منهم الّا خير. قالوا : انّ هذا الرأي. قلت : فاجمعوا لنا ما نهدي له. وكان أحبّ ما يهدى إليه من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدما كثيرا ، ثمّ خرجنا حتّى قدمنا عليه.

فو الله إنّا لعنده إذ جاءه عمرو بن اميّة الضمري ـ وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه ، فدخل عليه وخرج من عنده ـ فقلت لأصحابي : هذا

__________________

(٢) اسد الغابة ١ : ٦١ ، ٩٩.

(٣) الطبقات ١ : ٢٥٨.

٥١٦

عمرو بن اميّة الضمري ، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إيّاه فأعطانيه فضربت عنقه ، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمّد.

فدخلت عليه فسجدت له ـ كما كنت أصنع ـ فقال : مرحبا بصديقي ؛ أهديت إليّ من بلادك شيئا؟ قلت : نعم أيها الملك ، قد أهديت إليك أدما كثيرا ، ثمّ قرّبته إليه ، فأعجبه. ثمّ قلت له : أيّها الملك ، انّي قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدوّ لنا ، فأعطينه لأقتله ، فإنّه قد أصاب من أشرفنا وخيارنا.

قال : فغضب ثمّ مدّ يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنّه قد كسره ، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه. فقلت له : والله لو ظننت أنّك تكره هذا ما سألتكه. قال : أتسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الّذي كان يأتي موسى لتقتله! قلت : أيّها الملك ، أكذلك هو؟ قال : ويحك يا عمرو أطعني واتّبعه ، فإنّه والله لعلى الحق ، وليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ... فخرجت الى أصحابي وقد حال رأيي عمّا كان عليه.

ثمّ خرجت عامدا الى رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح ... فقدمنا المدينة على رسول الله (١).

هذا وقد قال من قبل : «لمّا انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق» ثمّ خرجنا فقدمنا عليه ، فو الله إنّا لعنده إذ جاءه عمرو بن اميّة الضمري ، وكان رسول الله قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه».

انّ ارسال رسول الله لعمرو بن اميّة الى النجاشي في شأن جعفر وأصحابه إمّا كان في بداية هجرتهم لطلب ايوائهم وحمايتهم والارفاق بهم ، أو في نهايتها في تجهيز المسلمين الى المدينة في السنة السابعة قبل خيبر. فرحلة عمرو بن العاص هذه أمّا كانت بعد الأحزاب في أواخر السنة الخامسة ، لأن غزوة الأحزاب كانت في شوال

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة٣ : ٢٨٩ ، ٢٩٠ بتلخيص آخر الخبر.

٥١٧

سنة خمس من الهجرة ، أو كانت رحلته في أوائل السادسة ، وبعد عام في أوائل السابعة ورد عليهم عمرو بن اميّة حاملا كتاب النبيّ الى النجاشي ، حينما كتب الى الملوك والرؤساء.

وهنا تختلف نسخ الكتاب : فأكثر نسخ الكتاب يشتمل على الوصية بجعفر وأصحابه ، وبعضها خلو عنها : «كصبح الأعشى» (١) للقلقشندي (ت ٨٢١) و «المواهب اللدنية في السيرة النبوية» (٢) للقسطلاني (ت ٩٢٣) و «انسان العيون في سيرة الأمين المأمون» (٣) المعروف بالسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي (ت ١٠٤٤) وهذا ما تأيّد به البروفيسور حميد الله المستوفي في كتابه القيّم «الوثائق السياسية» فقال : «وممّا يجدر ذكره أن الحلبي والقسطلاني والقلقشندي لا يذكرون عبارة : وقد بعثت إليك ابن عمي ...» في متن المكتوب ، وهي لا توجد في متن المكتوب الّذي اكتشف حديثا ... فنظن : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اعطى ابن عمه جعفرا كتابا الى النجاشي وقت هجرته الى الحبشة ...» (٤).

بينما سائر المصادر تذكر هذه العبارة ، وكلها بما فيها هذه الثلاثة تذكر جواب النجاشي الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه : «وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمّك واسلمت على يديه لله رب العالمين» (٥).

__________________

(١) صبح الأعشى في صناعة الانشاء ٦ : ٣٧٩.

(٢) المواهب اللدنية بشرح الزرقاني ٣ : ٣٧٩.

(٣) السيرة الحلبية ٣ : ٢٧٩.

(٤) الوثائق السياسية : ٤٦ ـ ٤٨ رقم ٢٣.

(٥) الطبري ٢ : ٦٥٢ ، ٦٥٣ واعلام الورى : ٤٥ ، ٤٦ والكامل ٢ : ٦٣ واسد الغابة ١ : ٦٢ والبداية ٣ : ٨٤ وزاد المعاد ٣ : ٦١ وصبح الأعشى ٦ : ٤٦٦ والسيرة الحلبية وزيني دحلان وإعلام السائلين.

٥١٨

ثمّ الكتاب خلو عن تجهيز المسلمين من الحبشة إليه الى المدينة ، كما هو خلو عن خطبته لأمّ حبيبة ابنة أبي سفيان بواسطة النجاشي ، بينما من المستبعد جدّا أن يكون كلا الأمرين متأخرين عن عهد هذه الرسالة.

ولعلّ الجواب الصحيح هو ما رواه الطبري عن الواقدي قال : أرسل رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ الى النجاشي ليزوّجه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين (١) من دون ذكر كتاب في ذلك.

ولم يذكر الواقدي ولا الطبري اسم الرسول بهذه الرسالة الشفوية ولا ألفاظها ، ولكن ابن سعد ذكر أن الرسول هو عمرو بن اميّة نفسه وذكر شطرا من رسالته الشفوية الى النجاشي ولكن من دون ذكر خطبة النبيّ لأمّ حبيبة ولا طلب تجهيز المسلمين إليه الى المدينة ، قال :

قال عمرو بن اميّة : يا أصحمة! (كذا) انّ عليّ القول وعليك الاستماع! إنّك كأنّك في الرقة علينا منّا ، وكأنّا في الثقة بك منك ، لأنّا لم نظنّ بك خيرا قطّ الّا نلناه ولم نحفظك على شرّ قط الّا أمنّاه ، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم ، والانجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجور [فأسلم] وفي ذلك موقع الخير واصابة الفضل ، وإلّا فأنت في هذا النبيّ الاميّ كاليهود في عيسى بن مريم ، وقد فرّق رسله الى الناس ، فرجاك لمّا لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه ، لخير سالف وأجر ينتظر.

فقال النجاشي : أشهد بالله أنّه النبيّ الّذي ينتظره أهل الكتاب ، وأنّ بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل ، وانّه ليس الخبر كالعيان ، ولكن أعواني من الحبشة قليل ، فأنظرني حتّى اكثر الأعوان وأليّن القلوب ، ولو استطيع أن آتيه لأتيته (٢).

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٥٣.

(٢) الطبقات ١ : ٢٥٩ وعنه في سيرة الحلبي ٣ : ٢٧٩ وزيني دحلان بهامش سيرة الحلبي ٣ : ٦٧.

٥١٩

ولنعد الآن الى ذكر نصّ كتاب النبيّ الى النجاشي بالروايتين : الخالية عن ذكر جعفر والّتي فيها ذكره ، على التوالي :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من محمّد رسول الله الى النجاشي عظيم الحبشة ، سلام على من اتبع الهدى ، أمّا بعد : فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله الّا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده.

وانّي أدعوك الى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتّبعني وتوقن بالّذي جاءني ، فإنّي رسول الله ، وانّي أدعوك وجنودك الى الله عزوجل.

وقد بلّغت ونصحت ، فاقبلوا نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى (١).

«بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من محمّد رسول الله الى النجاشي الأصحم ملك الحبشة ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ، ألقاها الى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ونفخه.

وانّي أدعوك الى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتؤمن بالّذي جاءني فإنّي رسول الله ، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين ، فإذا جاءوك فاقرهم ودع التجبّر. وانّي أدعوك وجنودك الى الله عزوجل.

__________________

(١) صبح الأعشى ٦ : ٣٧٩. والمواهب اللدنية بشرح الزرقاني ٣ : ٣٧٩. والسيرة الحلبية ٣ : ٢٧٩.

٥٢٠