موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره ثمّ انصرف عنه ، ولم يكلّمه محمّد ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ.

فاحتمل حمزة الغضب ... فخرج يسعى ولم يقف على أحد ، معدا لأبي جهل اذا لقيه أن يوقع به. فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه ، حتّى اذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجّه شجّة منكرة ثمّ قال : أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ، فردّ ذلك عليّ إن استطعت! فقامت رجال من بني مخزوم الى حمزة لينصروا أبا جهل ، فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة فإنّي والله قد سببت ابن أخيه سبّا قبيحا.

فلمّا أسلم حمزة عرفت قريش أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ قد عزّ وامتنع ، وأنّ حمزة سيمنعه ، فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (١).

وزاد المقدسي يقول : «عزّ به النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وأهل الإسلام ، فشقّ ذلك على المشركين فعدلوا عن المنابذة الى المعاتبة ، وأقبلوا يرغّبونه في المال والأنعام ، ويعرضون عليه الازواج» (٢).

أمّا اسلام عثمان : فقد قال ابن اسحاق : بلغني أنّه أسلم بعد أبي بكر (٣). وروى ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» عن المدائني عن عمر بن عثمان عن أبيه : أنّه دخل على خالته أروى بنت عبد المطّلب ، فدخل رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فجعل ينظر إليه وقد ظهر شأنه ، فجرى له معه حديث وقرأ عليه بعض الآيات ثمّ قام فخرج. قال عثمان : فخرجت خلفه فأدركته وأسلمت (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٣١١ ، ٣١٢.

(٢) البدء والتأريخ ٤ : ١٤٨ ، ١٤٩ و ٥ : ٩٨.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٦٧.

(٤) الاستيعاب ٤ : ٢٢٥.

٤٤١

وخبر ابن اسحاق يتضمّن الدلالة على سبق اسلام أبي بكر ، كما عدّه هو فيمن أسلم بعد علي عليه‌السلام وخديجة وزيد بن حارثة ، وأنّه أسلم بعد عثمان : الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف الزهري ، وسعد بن أبي وقّاص الزهري ، وطلحة بن عبيد الله التيمي وأنّهم استجابوا لأبي بكر فجاء بهم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا وصلّوا.

وحيث جاء في عبارة ابن اسحاق أنّهم استجابوا لأبي بكر فجاء بهم الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما لم يصرّح ابن اسحاق بأنّهم أسلموا بدعوة أبي بكر ، لذلك اضاف ابن هشام هذه الكلمة : «بدعائه» ثمّ نبّه عليه فقال : قوله «بدعائه» عن غير ابن اسحاق (١) وهذا من أمانته ، ولكنّه اجتهاد من ابن هشام ، ولا دليل عليه ، بل ظاهر قول ابن اسحاق أنّهم إنمّا استجابوا لأبي بكر ليأتوا الى الرسول ، وأنّهم إنمّا أسلموا على يد الرسول نفسه ، فالعبارة لا تدلّ على أنّهم أسلموا بدعوة أبي بكر ايّاهم ، بل هي في خلاف ذلك أظهر كما هو واضح.

وكما روى ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ما دلّ على عدم اسلام عثمان بدعوة أبي بكر بل بدعوة الرسول نفسه ، كذلك روى المقدسي في «البدء والتأريخ» رواية مفادها أنّ طلحة ذهب بنفسه الى الرسول فأسلم ، وقالوا : إنّه كان في بصرى الشام ، فسمع من راهب فيه خروج نبيّ في ذلك الشهر اسمه «أحمد» فلمّا قدم مكّة سمع الناس يقولون : تنبّأ محمّد بن عبد الله ، فأتى الى أبي بكر فسأله فأخبره ثمّ أدخله على رسول الله فأسلم (٢).

روى تفصيله الطبرسي عن «دلائل النبوة» بسنده عن ابراهيم بن محمّد بن

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة: ٢٦٦ ـ ٢٦٩.

(٢) البدء والتأريخ ٥ : ٨٢ والبداية والنهاية ٣ : ٢٩ ومستدرك الحاكم ٣ : ٣٦٩.

٤٤٢

طلحة ، عن أبيه عن جدّه طلحة بن عبيد الله التيمي قال : حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته قال : سلوا أهل هذا الموسم : أفيهم أحد من أهل الحرم؟ فقلت : نعم ، أنا. فقال : قد ظهر أحمد أم بعد؟ قال : قلت : ومن أحمد؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطّلب ، هذا شهره الّذي يخرج فيه ، وهو آخر الأنبياء ، مخرجه من الحرم ومهاجره الى حرّة وسباخ ونخل. قال طلحة : فوقع في قلبي ما قال ، فخرجت سريعا حتّى قدمت مكّة فقلت : هل كان من حدث؟ قالوا : نعم ، محمّد بن عبد الله الأمين قد تنبّأ ، وقد تبعه ابن أبي قحافة. قال : فخرجت حتّى دخلت على أبي بكر فقلت : اتبعت هذا الرجل؟ قال : نعم فانطلق إليه وادخل عليه فإنّه يدعو الى الحقّ. قال طلحة : فأخبرته بما قال الراهب. فخرج بي أبو بكر فدخل بي على رسول الله فأسلمت وأخبرته بما قال الراهب ، فسّر رسول الله بذلك.

قال الراوي : فلمّا أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدّهما في حبل واحد فلم يمنعهما بنو تيم (١) فهذا يؤيّد قول ابن اسحاق دون ابن هشام. وقال المقدسيّ في «البدء والتأريخ» في اسلام سعد ابن أبي وقاص : كان سبب اسلامه أنّه قال : رأيت في المنام كأنّي في ظلام فأضاء قمر فاتبعته ، فإذا أنا بعلي وزيد ـ وروى : فإذا أنا بزيد وأبي بكر ـ قد سبقاني إليه. ثمّ بلغني أنّ رسول الله يدعو الى الإسلام مستخفيا ، فلقيته بأجياد فأسلمت (٢).

وأمّا الزبير بن العوّام : فقد نقل ابن أبي الحديد في «شرح النهج» عن «نقض العثمانية» لأبي جعفر الإسكافي أنّه قال : انّ الزبير كان قد أسلم قبل أبي بكر (٣).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٠٩ عن دلائل البيهقي ١ : ٤١٩.

(٢) البدء والتاريخ ٥ : ٨٥.

(٣) شرح النهج ١٣ : ٢٢٤.

٤٤٣

وعلى هذا فلم يبق ممّن أسماهم ابن اسحاق أو ابن هشام سوى عبد الرّحمن بن عوف فقط. وقد نقل ابن اسحاق قسما من أخبار الإسراء والمعراج عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري ، ممّا يدلّ على سبق اسلامهما أيضا (١).

فرض الصلوات :

قال ابن اسحاق : وفيما بلغني من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ : أنّ جبرئيل انتهى به الى السماء السابعة ثمّ انتهى به الى ربّه ففرض عليه خمسين صلاة كلّ يوم!

قال رسول الله : فأقبلت راجعا ، فلمّا مررت بموسى بن عمران سألني : كم فرض عليك من الصلاة؟ فقلت : خمسين صلاة كلّ يوم. فقال : انّ الصلاة ثقيلة وانّ أمّتك ضعيفة ، فارجع الى ربّك فاسأله أن يخفّف عنك وعن أمّتك. فرجعت فسألت ربّي أن يخفّف عنّي وعن أمّتي ، فوضع عنّي عشرا ، ثمّ انصرفت ، فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك ، فرجعت فسألت ربّي فوضع عنّي عشرا ، ثمّ انصرفت فمررت به على موسى فقال لي مثل ذلك ، فرجعت فسألته فوضع عنّي عشرا ، ثمّ لم يزل يقول لي مثل ذلك كلّما رجعت إليه قال : فارجع فاسأل ، حتّى انتهيت الى أن وضع ذلك عنّي الّا خمس صلوات في كلّ يوم وليلة ، ثمّ رجعت الى موسى فقال لي مثل ذلك فقلت : قد راجعت ربّي وسألته حتّى استحييت منه ، فما أنا بفاعل.

ثمّ قال : فمن أدّاهن منكم ايمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة مكتوبة (٢) وفي هذا المعنى الأخير روى الصدوق في «الخصال» بسنده عن الزهري عن أنس قال : فرضت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة اسري به الصلاة خمسين ،

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٣٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٥.

٤٤٤

ثمّ نقصت فجعلت خمسا ، ثمّ نودي : يا محمّد إنّه لا (يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) انّ لك بهذه الخمس خمسين.

وفيه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا خفّف الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى صارت خمس صلوات ، أوحى الله إليه : يا محمّد خمس بخمسين.

وباسناده عن زيد بن علي عن سيّد العابدين قال : لمّا هبط رسول الله الى الأرض نزل عليه جبرئيل فقال : يا محمّد ، انّ ربّك يقرئك السلام ويقول : انّها خمس بخمسين ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١).

وحكى علي بن ابراهيم بن هاشم القمي في تفسيره عن أبيه عن محمّد ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام أنّه حدّث بحديث معراج الرسول عن لسانه الى أن قال : ثمّ غشيتني صبابة (أو سحابة) فخررت ساجدا فناداني ربّي : إنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة ، وفرضتها عليك وعلى أمّتك ، فقم بها أنت في أمّتك.

قال رسول الله : فانحدرت حتّى مررت على ابراهيم فلم يسألني عن شيء ، حتّى انتهيت الى موسى فقال : ما صنعت يا محمّد؟ فقلت : قال ربّي : فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة ، وفرضتها عليك وعلى امتك. فقال موسى : يا محمّد انّ أمّتك آخر الامم وأضعفها. وانّ ربّك لا يردّ عليك شيئا ، وانّ أمّتك لا تستطيع أن تقوم بها ، فارجع الى ربّك فاسأله التخفيف لامّتك. فرجعت الى ربّي حتّى انتهيت الى سدرة المنتهى فخررت ساجدا ثمّ قلت : فرضت علي وعلى أمّتي خمسين صلاة ولا اطيق ذلك ولا أمّتي فخفّف عنّي. فوضع عنّي عشرا. فرجعت الى موسى

__________________

(١) العلل : ٥٥ ، والأمالي : ٢٧٥ والتوحيد : ١٧٦ والفقيه ١ : ١٩٧ ط الغفّاري.

٤٤٥

فأخبرته فقال : لا تطيق ، فرجعت الى ربّي ، فوضع عنّي عشرا. فرجعت الى موسى فأخبرته فقال : ارجع. وفي كلّ رجعة ارجع إليه أخرّ ساجدا ، حتّى رجع الى عشر صلوات ، فرجعت الى موسى فأخبرته فقال : لا تطيق ، فرجعت الى ربّي فوضع عنّي خمسا ، فرجعت الى موسى فأخبرته ، فقال : لا تطيق ، فقلت : قد استحييت من ربّي ولكن أصبر عليها.

فناداني (ربّي) : كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين ، كلّ صلاة بعشر ، ومن همّ من أمّتك بحسنة يعملها كتبت له عشرة ، وان لم يعملها كتبت واحدة. ومن همّ من أمّتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة ، وان لم يعملها لم أكتب عليه شيئا (١).

ونقله الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» مرسلا (٢).

وبإسناده عن زيد بن علي قال : سألت أبي سيد العابدين عليه‌السلام فقلت له : يا أبه أخبرني عن جدّنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عرج به الى السماء وأمره ربّه عزوجل بخمسين صلاة ، كيف لم يسأله التخفيف عن امّته حتّى قال له موسى بن عمران : ارجع الى ربّك فاسأله التخفيف فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك؟

فقال : يا بنيّ انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقترح على ربّه عزوجل ولا يراجعه في شيء يأمره به ، فلمّا سأله موسى ذلك وصار شفيعا لامّته إليه لم يجز له ردّ شفاعة أخيه موسى ، فرجع الى ربّه فسأله التخفيف ، إلى أن ردّها الى خمس صلوات.

فقلت له : يا أبت فلم لم يرجع الى ربّه عزوجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى عليه‌السلام أن يرجع الى ربّه عزوجل ويسأله التخفيف؟

فقال : يا بنيّ أراد عليه‌السلام أن يحصل لامّته التخفيف مع أجر خمسين صلاة ، لقول الله عزوجل : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(٣).

__________________

(١) تفسير القميّ ٢ : ١٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٩٧ ط الغفّاري.

(٣) الأمالي : ٣٧١ ، والتوحيد : ١٧٦ والعلل : ٥٥ ومن لا يحضره الفقيه ١ : ١٩٧.

٤٤٦

وقد تعرّض السيد المرتضى في «تنزيه الأنبياء» للمسألة فقال : إن قيل : فما الوجه في الرواية المشهورة : أنّ النبيّ ليلة المعراج لمّا خوطب بفرض الصلاة راجع ربّه تعالى مرّة بعد اخرى حتّى رجعت الى خمس ، وفي الرواية : أنّ موسى عليه‌السلام هو القائل له : انّ أمّتك لا تطيق هذا ، وكيف ذهب ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى نبّهه موسى عليه؟ وكيف يجوز المراجعة منه مع علمه بأنّ العبادة تابعة للمصلحة وكيف يجاب عن ذلك مع أنّ المصلحة بخلافه؟! ثمّ قال : أمّا هذه الرواية فهي من طريق الآحاد الّتي لا توجب علما وهي مع ذلك مضعّفة (١) ثمّ أجاب سائر الأسئلة بناء على أن تكون الرواية صحيحة.

وقال اليعقوبي : وفي الليلة الّتي اسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو قتلته ، فجمع سبعين رجلا من بني عبد المطّلب معهم الشفار ، وأمرهم أن يجلس كلّ رجل منهم الى جانب رجل من قريش ، وقال لهم : إن رأيتموني ومحمّدا معي فأمسكوا حتّى آتيكم ، والّا فليقتل كلّ رجل منكم جليسه ولا تنظروني. فوجدوه على باب أمّ هانئ ، فأتى به بين يديه حتّى وقف على قريش فعرّفهم ما كان منه ، فأعظموا ذلك وجلّ في صدورهم ، وعاهدوه وعاقدوه أنّهم لا يؤذون رسول الله ولا يكون منهم إليه شيء يكرهه أبدا (٢).

وقال ابن شهرآشوب : روى أنّه افتقده أبو طالب في تلك الليلة فلم يزل يطلبه ، ووجّه الى بني هاشم يقول : يا لها من عظيمة إن لم أر رسول الله الى الفجر! فبينا هو كذلك اذ تلقّاه رسول الله وقد نزل من السماء على باب أمّ هانئ ، فقال له : انطلق معي.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ١٢١.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦. ورواه الراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ٨٥ ، الحديث ١٤٠.

٤٤٧

فأدخله بين يديه المسجد ودخل بنو هاشم ، فسلّ أبو طالب سيفه عند الحجر وقال لبني هاشم : أخرجوا ما معكم يا بني هاشم! ثمّ التفت الى قريش فقال : والله لو لم أره ما بقيت منكم عين تطرف! فقالت قريش : لقد ركبت منّا عظيما (١).

السورة الرابعة والعشرون ـ «عبس» :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ)(٢).

روى الطبرسي في «مجمع البيان» : عن الصادق عليه‌السلام : «أنّها نزلت في رجل من بني اميّة كان عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاء ابن أمّ مكتوم ، فلمّا رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه».

ولكنّه روى بعد هذا خبرا آخر عنه عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا رأى عبد الله بن أمّ مكتوم قال : «مرحبا ، مرحبا ، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا» وكان يصنع به من اللطف حتّى كان يكفّ عن النبيّ ممّا يفعل به».

وهذا يناسب مع المعروف والمشهور في شأن نزول السورة : أن ابن أمّ مكتوم ـ وهو عبد الله بن شريح العامري ـ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يناجي أبيّا واميّة ابني خلف ، وأبا جهل بن هشام ، والعبّاس بن عبد المطّلب ، وعتبة ابن أبي ربيعة ، يدعوهم الى الله ويرجو اسلامهم. فقال : يا رسول الله أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله. فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الّذين يكلّمهم ، فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ١٨.

(٢) عبس : ١ ـ ١٢.

٤٤٨

ويقول : مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي.

ثمّ قال الطبرسي : فان قيل : فلو صحّ هذا الخبر فهل يكون العبوس ذنبا أم لا؟ فالجواب : أن العبوس والانبساط مع الأعمى سواء ، إذ لا يشقّ عليه ذلك ، فلا يكون ذنبا ، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق ، وينبّهه بذلك على عظم المؤمن المسترشد ، ويعرّفه أن تأليف المؤمن ليقيم على ايمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في ايمانه (١).

هذا والمعنى الأوّل الّذي رواه عن الصادق عليه‌السلام جاء في أصل الكتاب : «التبيان» للشيخ الطوسي هكذا : وقال قوم : انّ هذه الآيات نزلت في رجل من بني اميّة كان واقفا مع النبيّ ، فلمّا أقبل ابن أمّ مكتوم تنفّر منه وجمع نفسه وعبّس وجهه ، فحكى الله تعالى ذلك وأنكره معاتبة على ذلك (٢) وقريب منه في تفسير القمي (٣).

وفي هذه السورة آية ربط خبرها بسورة النجم قبلها ، وذلك قوله سبحانه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ...)(٤) قال الطبرسي : عن مقاتل والكلبي : هو عتبة بن أبي لهب اذ قال : كفرت بربّ النجم اذا هوى (٥).

ورواه السيوطي في «الدر المنثور» عن عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال : كفرت بربّ النجم اذا هوى. فدعا عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذه الأسد بطريق الشام (٦).

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٦٦٣ ، ٦٦٤.

(٢) التبيان ١٠ : ٢٦٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٠٤.

(٤) عبس : ١٧ ، ١٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٦٦٥.

(٦) الدر المنثور ٦ : ٢١٥.

٤٤٩

السورة الخامسة والعشرون ـ «القدر» :

فهي أوّل سورة وآيات ذكر فيها «ليلة القدر» وأنّها سلام حتّى مطلع الفجر بل خير من ألف شهر ، وأن الملائكة والروح تنزّل فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر ، وقد نزلت فيها بالقرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنازل منه اذ ذاك هذه الخمس والعشرون سورة.

السورة التاسعة والعشرون ـ «قريش» :

وليس قبلها الفيل ولا في رواية ، فلا مجال للقول بتعلق اللام في بداية هذه السورة : «لإيلاف قريش» بكيفية هلاك أصحاب الفيل ، فضلا عن القول بوحدة السورتين ، بل المترجح المتعيّن ما نقله الطبرسي في «مجمع البيان» عن الخليل وسيبويه : أنّ «لإيلاف» يتعلق ب «فليعبدوا» أي : ليجعلوا عبادتهم شكرا لنعمة ايلافهم واعترافا بها (١).

السورة الثانية والثلاثون ـ «الهمزة» :

روى الطبرسي عن مقاتل قال : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان يغتاب النبيّ من ورائه ويطعن عليه في وجهه. وهذا يوافق قول قتادة وسعيد بن جبير في معنى الهمزة وبأنّه المغتاب ، واللّمزة بأنّه الطعان. وقال ابن عباس والحسن وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح بالعكس أي أنّ الهمزة هو الّذي يطعن في الوجه بالعيب ، واللمزة الّذي يغتاب عند الغيبة (٢). وعلى أي حال فالسورة ـ على هذا ـ من أوّل ما نزل في ذم الوليد وتقريعه لما كان يناله من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ما أصابه وسائر أصحابه من المستهزئين. عن ابن اسحاق : أنّها نزلت في اميّة بن خلف الجمحي ،

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٢٩ ، وانظر رد الطباطبائي لأخبار وحدة السورتين ٢٠ : ٣٦٤.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨١٨.

٤٥٠

وكان يهمز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وفي «روح المعاني» أنّها في العاص بن وائل (٢) وهما أيضا من المستهزئين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

السورة الثالثة والثلاثون ـ «المرسلات» :

وفيها روى السيوطي في «الدر المنثور» عن عبد الله بن مسعود قال : بينا نحن مع النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ في غار بمنى اذ نزلت عليه سورة (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً)(٥).

السورة الرابعة والثلاثون ـ «ق» :

وفيها قوله سبحانه : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ)(٤) وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : قيل : إنّها نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو اخيه في الاسلام فمنعهم. فيكون المراد بالخير الّذي يمنع عنه هو الاسلام (٥).

السورة الخامسة والثلاثون ـ «البلد» :

وفيها : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)(٦) قال الطبرسي في «مجمع البيان» قال مقاتل الكلبي : هو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنّه دخل في الاسلام وأذنب ذنبا فاستفتى رسول الله فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٨٢.

(٢) روح المعاني ٣٠ : ٢٣٠.

(٣) الدر المنثور ٦ : ٣٠٢.

(٤) ق : ٢٤ ـ ٢٦.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٢٢٠.

(٦) البلد : ٥ ـ ٧.

٤٥١

في دين محمّد ... وكان كاذبا لم ينفق ما قاله ، فقال الله سبحانه : أيظن أن الله تعالى لم ير ذلك فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق.

وقيل : هو أبو الأسد بن كلدة الجمحي ، وكان قويا شديد الخلق بحيث كان يجلس على أديم عكاظي فتجره العشرة من تحته فيتقطع ولا يبرح من مكانه ، وكان قد انفق مالا كثيرا في عداوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأخبر الله عن مقالته (يَقُولُ : أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) يفتخر بذلك (١).

السورة السابعة والثلاثون ـ «القمر» :

روى القميّ في تفسيره بسنده عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : اجتمعوا أربعة عشر رجلا أصحاب العقبة ليلة أربعة عشر من ذي الحجة ، فقالوا للنبيّ : ما من نبيّ الّا وله آية ، فما آيتك في ليلتك هذه؟ فقال النبيّ : ما الّذي تريدون؟ فقالوا : ألم يكن لك عند ربك قدر؟! فأمر القمر أن ينقطع قطعتين!

فهبط جبرئيل وقال : يا محمّد انّ الله يقرؤك السلام ويقول لك : انّي قد أمرت كلّ شيء بطاعتك. فرفع رأسه فأمر القمر أن ينقطع قطعتين! فانقطع قطعتين! فسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شكرا لله ... ثمّ رفع النبيّ رأسه ورفعوا رءوسهم ثمّ قالوا : يعود كما كان؟ فعاد كما كان؟ ثمّ قالوا : ينشق رأسه! فأمره فانشق. فسجد النبيّ شكرا لله ...

فقالوا : يا محمّد حين يقدم مسافرونا من الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة؟ فإن يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنّه من ربك ، وان لم يروا مثل ما رأينا علمنا أنّه سحر سحرتنا به! فأنزل الله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) الى آخر السورة (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٧٤٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٤١.

٤٥٢

وعليه فهذه هي المرة الثانية لتجربتهم صدق مقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتصديق المسافرين له ، بعد أخباره عن الاسراء به الى بيت المقدس. ولعلّهم قالوا : ذلك بعد أن قالوا : سحرنا محمّد ، فقال رجل ـ كما رواه الطبرسي عن جبير بن مطعم ـ ان كان سحركم فلم يسحر الناس كلّهم.

قال الطبرسي : وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم : عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وعليه جماعة المفسّرين ، بل أجمع المسلمون على ذلك ، فلا يعتد بخلاف من خالف فيه.

قال : ومن طعن في ذلك : بأنّه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله لمّا كان يخفى على أحد من أهل الأقطار. فقوله باطل.

لأنّه قد وقع ذلك ليلا فيجوز أن يكون الناس كانوا نياما فلم يعلموا بذلك ، على أن الناس ليس كلّهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجوّ من آية وعلامة ، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره ممّا يغفل الناس عنه ، ولأنّه يجوز أن يكون الله قد حجبه عنهم بغيم ونحوه (١).

وقد روى السيوطي في «الدر المنثور» بأسناده عن ابن مسعود قال : انشقّ القمر ... فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة ، فقالوا : انتظروا ما يأتيكم به المسافرون فإنّ محمّدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلّهم. فجاء المسافرون فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه. فأنزل الله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(٢).

السورة الثامنة والثلاثون ـ «ص» :

وفيها قوله سبحانه : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٢٨٢.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٣٢ ، سورة القمر.

٤٥٣

ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(١).

روى الكليني في «اصول الكافي» بسنده عن جابر عن ابي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا : انّ ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا ، فادعه ومره فليكفّ عن الهتنا ونكفّ عن إلهه!

فبعث أبو طالب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعاه ، فلمّا دخل النبيّ لم ير في البيت الّا مشركا فقال : السلام على من اتبع الهدى ، ثمّ جلس. فأخبره أبو طالب بما جاءوا به. فقال : أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا ، يسودون بها العرب ويطئون أعناقهم! فقال ابو جهل : نعم وما هذه الكلمة؟ قال : تقولون : لا إله الّا الله. فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم يقولون : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) فأنزل الله في قولهم (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) الى قوله (إِلَّا اخْتِلاقٌ)(٢) ونقله القمي في تفسيره بمعناه بلا اسناد وأضاف : نزلت بمكّة لمّا أظهر رسول الله الدعوة اجتمعت قريش الى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب! إنّ ابن أخيك قد سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا. فان كان الّذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتّى يكون أغنى رجل في قريش ونملّكه علينا!

فأخبر أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك فقال : والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته ، ولكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونوا ملوكا في الجنة.

__________________

(١) ص : ٤ ـ ٧.

(٢) اصول الكافي ٢ : ٦٤٩.

٤٥٤

فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا : نعم وعشر كلمات!

فقال لهم رسول الله : تشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله!

فقالوا : ندع ثلاثمائة وستين الها ونعبد الها واحدا؟! فأنزل الله (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ)(١).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» أنّهم كانوا خمسة وعشرين من أشراف قريش منهم أبو جهل بن هشام كما مرّ في خبر الكليني ومنهم الوليد ابن المغيرة والنضر بن الحارث ، وابي واميّة ابنا خلف الجمحي وعتبة وشيبة ابنا ربيعة المخزومي. أتوا أبا طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن اخيك ، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا!

فدعا أبو طالب رسول الله فقال : يا ابن أخي! إنّ هؤلاء قومك يسألونك. فقال : ما ذا يسألونني؟ قالوا : دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك! فقال : او تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟! فقال أبو جهل : لله أبوك نعطيك ذلك وعشرا أمثالها ، فقال : قولوا لا إله الّا الله. فقاموا وقالوا : «أجعل الآلهة الها واحدا» فنزلت هذه الآيات.

__________________

(١) ص : ٤ ـ ١٠. تفسير القمي ٢ : ٢٢٨ وذكر مختصره ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٥٤ ، ومثله الطبري ٢ : ٣٢٤ عن السدّي و ٣٢٥ عن ابن عباس. وأورد الخبرين في تفسيره : ٢٣ : ٧٩ ـ ٨١ ط بولاق.

٤٥٥

قال : وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله استعبر ثمّ قال : يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته حتّى ينفذه الله أو أمضي دونه! فقال له أبو طالب : امض لأمرك ، فو الله لا أخذ لك أبدا (١).

وخرجوا من مجلسهم الّذي كانوا فيه عند أبي طالب وهم يقولون ـ وقيل : إنّ القائل هو عقبة بن أبي معيط الاموي ـ : اثبتوا على عبادة آلهتكم واصبروا على دينكم وتحملوا المشاق لأجله ، فإنّ هذا الّذي نراه من زيادة أصحاب محمّد أمر يراد بنا من زوال نعمة أو نزول شدّة (٢).

ولا أحسب القمي متحقّقا من قوله اذ قال : نزلت بمكّة لمّا أظهر رسول الله الدعوة؟ بمعنى أنّ نزول هذه السورة كانت هي نقطة النقلة من المرحلة السرية الى الدعوة العلنية؟ ولكنّ كلامه هذا على أيّ حال ، بل القصّة برمتها كسابقاتها تستلزم عدم سريّة المرحلة.

السورة التاسعة والثلاثون ـ «الأعراف» :

وأوّلها : (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(٣) فهل هذا يعني الانذار الخاص والسري ، وذكرى للمؤمنين كذلك؟ بل الظاهر غير ذلك.

وفيها قوله سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٨٥ وعنه الطبري ٢ : ٣٢٦.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٧٢٥ ـ ٧٢٧.

(٣) الأعراف : ١ ـ ٢.

٤٥٦

الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١).

قال القمي في تفسيره : انّ اناسا كانوا يطوفون عراة بالبيت ، الرجال بالنهار والنساء بالليل ، وكانوا لا يأكلون الّا قوتا ، فأمرهم الله بلبس الثياب ، وأن يأكلوا ويشربوا ولا يسرفوا (٢) ورواه الطبرسي عن جماعة من المفسّرين (٣).

وروى السيوطي في «الدر المنثور» باسناده عن ابن عباس قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة ، (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) والزينة اللباس ، وهو ما يواري السوآت ، وما سوى ذلك من جيّد البزّ والمتاع.

وفيه بسنده عنه أيضا قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء أحلّها الله من الثياب وغيرها ، فأنزل الله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ثمّ يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء «خالصة يوم القيامة».

وفيه بسنده عن مولاه عكرمة فصل القول في هؤلاء من أهل الجاهلية وما كانوا يحرّمون ولما ذا فقال : كانت الحمس من قريش وبطون من كنانة ومن يأخذ مأخذها من قبائل العرب : بني عامر بن صعصعة وخزاعة وثقيف والأوس والخزرج لا يأكلون اللحم (في الحج) ولا يأتون البيوت الّا من أدبارها ، ولا يضربون وبرا ولا شعرا وإنمّا يضربون الأدم ، واذا قدموا (للحج) طرحوا ثيابهم

__________________

(١) الاعراف : ٣١ ـ ٣٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٢٨.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٦٣٧.

٤٥٧

الّتي قدموا فيها وقالوا : هذه ثيابنا الّتي نريد أن نتطهر الى ربنا عمّا فيها من الذنوب والخطايا فمن يعيرنا مئزرا ، فان لم يجدوا طافوا عراة ، فاذا فرغوا من طوافهم اخذوا ثيابهم الّتي كانوا قد وضعوها.

وفيه بسنده عن سعيد بن جبير قال : كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون : لا نطوف في ثياب اذنبنا فيها. فجاءت امرأة فألقت ثيابها وطافت وهي واضعة يدها على قبلها وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما بدا منه فلا احلّه

فنزلت هذه الآية : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(١).

وفي السورة قوله سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٢).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن أبي جعفر الامام الباقر عليه‌السلام والزهري ومجاهد عن سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير عن ابن مسعود وابن عباس قالا : كان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم ويسلّم بعضهم على بعض ، واذا دخل داخل فقال لهم : كم صليتم أجابوه. فنهوا عن ذلك وامروا بالاستماع (٣).

السورة الحادية والأربعون ـ «يس» :

(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) فهو من الأنبياء المرسلين ، وظاهر الخطاب بل صريحه فعليته العامّة لا شأنيته بالقوّة ، ولا الفعلية السريّة أو الخاصة ، بل (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٧٥ ، سورة الأعراف.

(٢) الأعراف : ٢٠٤.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٧٩١.

٤٥٨

فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١).

وهنا قال القمي في تفسيره : إنّها نزلت في أبي جهل بن هشام ونفر من أهل بيته ، وذلك أنّه حلف أبو جهل : لئن رأى النبيّ يصلي ليدمغنّه ، فجاء والنبيّ قائم يصلي (حول الكعبة) ومعه حجر ، ولكنّه جعل كلّما رفع الحجر ليرميه أثبت الله يده الى عنقه ولا يدور الحجر بيده ، ولمّا يرجع الى أصحابه يسقط الحجر من يده. فقام رجل آخر من رهطه فقال : أنا أقتله! فلمّا دنا منه سمع قراءة رسول الله فارعب ، فرجع الى أصحابه وقال : حال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه ، فخفت أن أتقدم. فلم يؤمن من أولئك الرهط من بني مخزوم أحد (٢).

وروى السيوطي في «الدر المنثور» زيادة عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتّى تأذّى به ناس من قريش حتّى قاموا ليأخذوه ، واذا أيديهم مجموعة الى أعناقهم ، واذا هم لا يبصرون. فجاؤوا ، الى النبيّ فقالوا : ننشدك الله والرحم ـ يا محمّد ـ فدعا النبيّ حتّى ذهب ذلك عنهم ، فنزلت (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ...)(٣) ولعلّه كان هذا بعد ردّ الرسول لهم عند عمّه أبي طالب ، كردّ فعل من أبي جهل بعد فعل الرسول ذلك.

وفي السورة قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٤)

__________________

(١) يس : ٦ ـ ٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢١٢ ونقل مثله الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٦٤٩.

(٣) الدر المنثور ٥ : ٢٦٩ ، سورة يس.

(٤) يس : ٧٧ ، ٧٨.

٤٥٩

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الصادق عليه‌السلام : أن القائل هو أبي بن خلف الجمحي. وقال الحسن : هو اميّة بن خلف ، أخوه. وقال ابن جبير : هو العاص بن وائل السهمي (١). وهم ثلاثة من المستهزئين الستة.

ورواية الصادق عليه‌السلام في كلام الطبرسي هي رواية العياشي عن الحلبي عنه عليه‌السلام قال : جاء ابي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثمّ قال : ... إذا كنّا عظاما ورفاتا أءنّا لمبعثون خلقا؟ فأنزل الله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٢).

السورة الثانية والأربعون ـ «الفرقان» :

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ... (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(٣).

في تفسير القمي : في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الامام الباقر عليه‌السلام في قوله : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) يعنون : أبا فكيهة وجبرا وعداسا وعابسا مولى حويطب. وقوله : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) هو قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة «اكتتبها» قال القمي : قالوا : هذا الّذي يقرأه محمّد ويخبرنا به إنمّا يتعلّمه ويكتبه عن رجل من علماء النصارى يقال له : ابن قبيطة (٤).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن مجاهد قالوا : أعان محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا القرآن : عداس مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسار غلام العلاء

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٦٧٨.

(٢) الميزان ١٧ : ١١٨ ونقل معناه ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٥٦.

(٣) الفرقان : ١ ـ ٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١١١ وابن اسحاق في السيرة ١ : ٣٢١.

٤٦٠