موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

ذلك بسنين ، فانتقض به فقتله. ومرّ به العاص بن وائل فأشار الى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة (١) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومرّ به الحارث بن الطلاطلة فأشار الى رأسه فامتخط قيحا فقتله (٢).

والخبر السابق نقله ابن شهرآشوب عن تفسير محمّد بن ثور وهو عن التابعي سعيد بن جبير وعن ابن عبّاس مقطوعا عليه ، وإنمّا جاء اسم أبي رافع في أخر الخبر ، ولعلّه هو الراوي المعاصر الناقل لابن عبّاس. وقد مرّ في خبر الصدوق عن الكاظم عن علي عليهما‌السلام أنّ ابن عبّاس كان حاضرا في المجلس سامعا للخبر عن علي عليه‌السلام ، فلعلّ ما بين الخبرين من خلاف جاء من رواية أبي رافع أو ادخال ابن عبّاس للخبرين بعضهما في بعض.

والمستهزءون في هذا الخبر سبعة عشر رجلا فصّل مقتل تسعة منهم وأجمل الباقين ، وآخر المذكورين بالتفصيل أبو لهب مع التصريح بمقتله بعد بدر ، والمومى إليه منهم خمسة فحسب فلعلّ هذا هو وجه الجمع المعقول بين الخبرين ، ولعلّه هو وجه اختصار الخبر عند الطبرسي.

وإذا استثنينا خبر تفسير القميّ بما فيه ممّا يلازم حدوثه بعد الهجرة الى الحبشة ، فلا يبقى في سائر الأخبار الّا عدم وضوح باعث الاستهزاء في حال اختفاء الدعوة ، ممّا لم نجد الجواب المقنع عنه ، اللهم الّا أن نقول ـ كما في خبر الصدوق وابن عبّاس ـ بأنّ الصدع بالأمر لم يكن بداية اعلان بل كان عن امتناع وقع للتهديد الأكيد من هؤلاء المستهزئين كما مرّ ، وهو المتعيّن الراجح.

وقد مرّ في خبر الراوندي في «الخرائج» والطبرسي في «المجمع» وابن شهرآشوب في «المناقب» عن ابن عبّاس وابن جبير وتفسير محمّد بن ثور :

__________________

(١) نبت حجازي يؤكل وله شوك كما مرّ ، فإذا يبس فهو الضّريع.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٥٠ ـ ٥٢.

٤٠١

أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى البيت ومعه جبرئيل عن يمينه والقوم في الطواف. فأيّ طواف كان هذا لهم جميعا بعد تهديدهم ايّاه؟

لعلّنا نجد جواب هذا فيما رواه ابن هشام عن ابن اسحاق في سيرته : أنّ نفرا من قريش اجتمعوا الى الوليد بن المغيرة ـ وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم ـ فقال لهم : يا معشر قريش! انّه قد حضر هذا الموسم. وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ، ويردّ قولكم بعضه بعضا (١).

لنا من هذا النص التصريح بأنّ مناسبة عقد هذا المؤتمر بل المؤامرة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت هي حضور موسم الحج أو العمرة ووفود العرب إليهم لذلك وهم قد سمعوا بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وتختلف صورة الخبر لدى القميّ في تفسيره قال : كان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا مجرّبا من دهاة العرب ... وكان له مال كثير وحدائق (في الطائف) وكان له عشرة بنين بمكّة ، وعشرة عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها ـ وتلك هي القنطار في ذلك الزمان ـ ولذا كان قد قال لقريش : أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة ، ولذلك سمّاه الله (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً)(٢).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقعد في الحجر فيقرأ القرآن ...

فاجتمعت قريش الى الوليد فقالوا : يا أبا عبد شمس ، ما هذا الّذي يقول محمّد؟ أشعر هو؟ أم كهانة؟ أم خطب؟ فقال : دعوني أسمع كلامه.

فدنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمّد أنشدني من شعرك! قال : ما هو شعر ، ولكنّه كلام الله الّذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه. فقال : اتل عليّ منه شيئا.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٨٨.

(٢) المدّثر : ١١.

٤٠٢

فقرأ رسول الله (حم) السجدة فلمّا بلغ الى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)(١) اقشعرّ الوليد وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته. ومرّ الى بيته ولم يرجع الى قريش من ذلك.

فمشوا الى أبي جهل (عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي) فقالوا له : يا أبا الحكم ، انّ أبا عبد شمس قد صبا الى دين محمّد ، أما تراه لم يرجع إلينا!

فغدا أبو جهل إليه فقال له : يا عمّ ، نكّست رءوسنا وفضحتنا وأشمتّ بنا عدوّنا وصبوت الى دين محمّد؟!

فقال : ما صبوت الى دينه ولكنّى سمعت منه كلاما صعبا تقشعرّ منه الجلود! فقال له أبو جهل : أخطب هو؟ قال : لا ، انّ الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا. قال : أفشعر هو؟ قال : لا ، أما إنّي قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها ، وما هو بشعر. قال : فما هو؟ قال : دعني افكر فيه!

فلمّا كان من الغد قالوا : يا أبا عبد شمس ، ما تقول فيما قلناه؟ قال : قولوا : هو سحر فإنّه آخذ بقلوب الناس.

فأنزل الله على رسوله في ذلك : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ...)(٢) وكان من المستهزئين برسول الله (٣).

__________________

(١) فصّلت : ١٣. وهي ٦١ في ترتيب النزول كما في التمهيد : ١٠٥.

(٢) المدثّر : ١١ ـ ٢٧.

(٣) تفسير القمّي ٢ : ٣٩٣ ، ٣٩٤ وعنه في اعلام الورى : ٤١ ، ٤٢.

٤٠٣

وعلى هذا فقوله سبحانه : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) و (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) كان تصعيدا في تهديده وإنذاره قبل تبشير الرسول بكفاية شرّه بهلاكه والمستهزئين معه بقوله (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) وهذا أيضا ممّا يلازم كون الصدع بأمره قبل هذا بغير قليل ، حتّى تكون وفود العرب في الموسم ـ كما قال الوليد ـ قد سمعوا بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الدعوة السريّة أو غير العلنية لا يبلغ صداها هذا الحد أبدا ، بحيث يحتار المشركون في كيفية مواجهتهم لهم في الموسم. ولعلّ الوليد بعد موقفه هذا ونزول هذه الآيات فيه بالتهديد قابل هو وأصحابه النبيّ بالتهديد الشديد والأكيد لتحديد دعوته دون حضور الموسم ، ثمّ حضروا طواف الموسم فوسمهم جبرئيل بعذاب الله الشديد في الدنيا قبل الآخرة ، وبذلك كفى رسول الله شرّهم وشرّ استهزائهم له ولرسالته. فانطلق الرسول بخطبته العامّة في الموسم على حجر إسماعيل حول البيت في مطاف المسجد الحرام.

وممّا يؤيّد ذلك تعبير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الخطبة ، إذ هي بالإضافة الى مخاطبة قريش تحتوي على الخطاب للعرب ، وهو اذا ضمّ الى مخاطبة قريش ـ مثلا ـ دلّ على العرب ممّا عداهم لا هم.

فلننظر الى نصّ الخطاب :

خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للدعوة العلنية :

بعد أن حكى القميّ في تفسيره قصّة هلاك المستهزئين قال : «فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقام على «الحجر» فقال :

«يا معشر قريش ، يا معشر العرب ، أدعوكم الى شهادة أن لا إله الّا الله وأنّي رسول الله ، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام ، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم ، وتكونوا ملوكا في الجنة».

٤٠٤

فاستهزءوا منه وقالوا : جنّ محمّد بن عبد الله. ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب (١).

فالخطاب لقريش عامّة وللعرب بالأعم ، والمقام الّذي اختاره لخطابه العام هذا هو حجر اسماعيل حول البيت في مطاف المسجد الحرام أي أجمع مجامع الحجّ وأشرف مواقفه فكان كما روى ابن هشام عن ابن اسحاق : وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلّها (٢).

وهذا هو ما كان يحذره اولئك المستهزءون المهدّدون لمنعه عن الإعلان بدعوته في ذلك الموسم العام.

ولكن هل كان هذا هو البيان الأوّل العام لدعوته العلنية العامّة؟

أمّا اليعقوبي فيقول : وأقام رسول الله بمكّة ثلاث سنين ... يدعو الى توحيد الله عزوجل وعبادته ، والاقرار بنبوّته ويكتم أمره ... حتّى قالت قريش : انّ فتى ابن عبد المطّلب ليكلّم من السماء ... ثمّ أمره الله أن يصدع بما أرسله به فأظهر أمره وقام «بالأبطح» فقال :

«انّي رسول الله ، أدعوكم الى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام الّتي لا تنفع ولا تضر ، ولا تخلق ولا ترزق ، ولا تحيي ولا تميت» فاستهزأت به قريش وآذته.

وكان المؤذون له جماعة منهم : أبو لهب ، والحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي.

وكان المستهزءون به : العاص بن وائل السهمي والحارث بن قيس بن عدي السهمي ، والأسود بن المطّلب بن أسد ، والوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن

__________________

(١) تفسير القميّ ١ : ٣٧٩. وعنه في اعلام الورى : ٣٩.

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٩١.

٤٠٥

عبد يغوث الزهري. وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب (١).

فهو يروي أوّل خطبة له بالأبطح لا الحجر ، فلعله قبل الموسم. ثمّ هو يرى قصة المستهزئين بعد الصدع بالأمر ، وكأنّه يرى صدعه بالأمر بمعنى أنّه «عاب عليهم آلهتهم ، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا» (٢) أو هو مرحلة ما بعد الصدع.

ثمّ هو يرى فرقا بين المؤذين له وهم خمسة والمستهزئين به وهم خمسة آخرون. فلعلّ محمّد بن ثور الّذي عدّهم سبعة عشر رجلا قد خلط بينهم.

وقبله قال ابن اسحاق : فلمّا بادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قومه بالإسلام ـ وصدع به كما أمره الله ـ لم يبعد منه قومه ولم يردّوا عليه حتّى ذكر آلهتهم وعابها ، فلمّا فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته الّا من عصم الله منهم بالإسلام (٣).

فهل يعني ذلك أنّه لمّا بادى قومه لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتّى صدع بأمره كما أمره الله فذكر آلهتهم وعابها ، فأنكروا ذلك وأعظموه وعادوه وأجمعوا على خلافه؟ لعلّه يعني ذلك.

وإذا كان كذلك فلعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد مرحلة الدعوة السرية ، وبعد مرحلة الدعوة الخاصّة للأربعين للأقربين من العشيرة بني عبد المطّلب أو بني هاشم ، بادى قومه بدعوته العامّة العلنية دون هذا المعنى من الصدع بالأمر ، فبدأ بخطبته على «الصفا» الخالية من هذا المعنى من الصدع بالأمر أي عيب الآلهة وذكرها بالسوء كما في «المناقب» لابن شهرآشوب قال : روي أنّه لمّا نزل قوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (أي بعد هذه المرحلة) صعد رسول الله ـ ذات يوم ـ الصفا ،

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٢٤.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٢٤.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٢.

٤٠٦

فقال : يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك؟ قال : أرأيتكم ان أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟ قالوا : بلى ، قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

قال قتادة : ثمّ إنّه خطب فقال : أيّها الناس ، انّ الرائد لا يكذب أهله ، ولو كنت كاذبا لما كذبتكم ، والله الّذي لا إله الّا هو ، انّي رسول الله إليكم حقّا خاصّة والى الناس عامّة ، والله لتموتون كما تنامون ، ولتبعثون كما تستيقظون ، ولتحاسبون كما تعملون ، ولتجزون بالإحسان احسانا وبالسوء سوءا ، وانّها الجنة أبدا أو النار أبدا. وانّكم أوّل من انذرتم (١).

وهذه الجملة الأخيرة من هذه الخطبة على «الصفا» هي الّتي تحملنا على القول : بأنّها أوّل خطبة ، فالخطبة «بالأبطح» ثمّ الخطبة «بالحجر» في الموسم. فلعلّ هذا هو وجه الجمع المعقول بين الخطب الثلاث.

من هم المقتسمون؟

وكأننا نجد فيما رواه الطوسي ثمّ الطبرسي في تفسيرهما عن ابن عبّاس ومقاتل ، نجد فيه المتمّم لأمر هذا الموسم ، فقد قال مقاتل في قوله سبحانه : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(٢) إنّهم هم الّذين اقتسموا طرق مكّة يصدون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والايمان به.

وقال ابن عبّاس : انّهم كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة «أيّام الموسم» يقولون لمن أتى مكّة : لا تغترّوا بالخارج منا المدّعي النبوة. فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شرّ ميتة.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٦ ، ٤٧.

(٢) الحجر : ٩٠ ، ٩١.

٤٠٧

وجعلوا القرآن عضين أي جزّءوه أجزاء فقالوا : سحر ، وقالوا : مفترى ، وقالوا : أساطير الأوّلين (١) وكذلك روى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الكلبي : أنّ المقتسمين كانوا ستة عشر رجلا خرجوا الى عقاب مكّة أيّام الحج على طريق الناس (الحجاج) على كلّ عقبة أربعة منهم ، ليصدّوا الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واذا سألهم الناس عمّا انزل على رسول الله قالوا : أحاديث الأوّلين وأباطيلهم (٢).

فلعلّ الوليد في بدايات الموسم بعث هؤلاء الستة عشر رجلا على طرق مكّة مقتسمينها فيما بينهم يصدّون من اتى مكّة عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم كما اقتسموا طرق مكّة فيما بينهم قد اقتسموا القول في القرآن بين مكذّب وقائل : إنّه سحر وقائل إنّه أساطير الأوّلين.

ثمّ إنّ الوليد جمع إليه هؤلاء النفر من قريش وقال لهم : اجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا. فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به ... ثمّ قال لهم : إنّ أقرب القول فيه أنّ تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرّق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمرّ بهم أحد الّا حذّروه إيّاه وذكروا لهم أمره ، فأنزل الله فيه قوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ...)(٣).

ثمّ نزل فيه خاصّة وفي خمسة من أصحابه : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ولعلّ سائر السبعة عشر رجلا الّذين عدّهم محمّد بن ثور في تفسيره عن ابن عبّاس وابن جبير ـ على رواية ابن شهرآشوب ـ من المستهزئين ، هم من المقتسمين مع

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٥٣١.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٥٤٩.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٨٨ ، ٢٨٩.

٤٠٨

المستهزئين ، الّذين روى الطبرسي هنا عن ابن عبّاس أنّهم كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد ، فمعه يكونون سبعة عشر رجلا. وقد ذكر عذاب ثلاثة منهم عدا المستهزئين وان كان لم يذكر عذاب الجميع الّا بالاجمال ، دون التفصيل.

والموسم ـ كما لاحظتهم ـ ذكر في كلا الأمرين : المقتسمين ، والمستهزئين ، من دون تفريق بينهما ممّا يحمل بظاهره على أوّل موسم بعد اعلان الدعوة العامّة ، فإن كانت طبيعة الامور تقتضي فاصلا زمنيّا أطول من موسم واحد بين الأمرين ـ كما هو ظاهر الحال ـ فمن المحتمل أن يكون الاقتسام في الموسم الأوّل ، ثمّ محاولة الاعتبار بالتجربة من اختلاف آرائهم وأقوالهم في الرسول والقرآن ، فالسعي في توحيد آرائهم وأقوالهم فيهما في الموسم الثاني ، وأنّ ما نزل في الوليد والمستهزئين والمقتسمين في سورتي الحجر والمدثّر كان في الموسم الثاني بعد اعلان الدعوة لا الأوّل.

ما نزل من القرآن قبل «فاصدع» :

إذ وقفنا على الحوادث المشار إليها بقوله سبحانه (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(١) وقوله سبحانه (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)(٢) والآيات من أواخر سورة الحجر ، وهي الرابعة والخمسون في ترتيب النزول (٣) أي يسبقها من القرآن في النزول ست وخمسون سورة ، ولنا فيها آيات واشارات الى ما يسبق ما اشير إليه في هذه الآيات الأخيرة من سورة الحجر ممّا يدخل في تأريخ الإسلام ، فلنقف عليها على ترتيبها على التوالي :

__________________

(١) الحجر : ٩٠ ، ٩١.

(٢) الحجر : ٩٤ ، ٩٥.

(٣) التمهيد : ١ : ١٠٥ وتلخيصه ١ : ٩٨.

٤٠٩

رتّبوا في ترتيب النزول بعد سورة العلق : سورة القلم الّتي تفتتح بالآية : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ممّا يوحي الى أنّ هذه الجملة إنمّا هي تنزيه له عمّا اتّهمه به المشركون من الجنون ، كما في الآية بعدها : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) وكما في الآية بعدها :

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) و (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(١) وليس من التأويل اذا بحث الدارس لهذه الآيات عن الشخص المعيّن المعنيّ بها ، بل الظاهر من الآيات هو ذلك وما عداه خلاف الظاهر.

ونقل الطبرسي ثلاثة أقوال في ذلك : قيل يعني الوليد بن المغيرة فإنّه عرض على النبيّ المال ليرجع عن دينه. وقيل يعني : الأخنس بن شريق الثقفي. وقيل : يعني : الأسود بن عبد يغوث (٢) بينما لم نجد خلافا في المعنيّ بأوصاف سورة المدثّر : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً) أنّه الوليد. وحقا وجدناه الوحيد الّذي يوصف في الأخبار التأريخية بذلك الوصف في المال والبنين ليس سواه ولم يوصف الآخران معه بذلك الوصف في المال والبنين ، فهو الأولى أن يكون المقصود عند الإطلاق والترديد.

أمّا متى تليت عليه الآيات؟ وأيّ آيات؟ ومن تلى؟ وكيف؟ وما هو تفصيل عرضه المال على الرسول ليرجع عن دينه أو عن الإعلان به ودعوته إليه؟ وكيف منع عن هذا الخير؟ فلم يبق لنا من تفسير المفسّرين الأوائل ، ولا الأخبار التأريخية الّا هذه الأقوال الثلاثة على الترديد فقط ، فضلا عمّا يحلّ لنا التنافي بين هذه الآيات من القرآن ودور الكتمان.

__________________

(١) القلم : ١٠ ـ ١٥.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٥٠١.

٤١٠

وأسطع من ذلك ما في أواسط السورة من قوله سبحانه : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(١) فهل يمكننا أن نحكم أنّ هذا أيضا من القرآن في دور الكتمان؟! بل هو إعلام واعلان.

بل روى ابن شهرآشوب في «المناقب» عن ابن عبّاس : أنّ الوليد ابن المغيرة أتى قريشا فقال : انّ الناس يجتمعون غدا بالموسم وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس ، وهم يسألونكم عنه فما تقولون؟ فقال أبو جهل : أقول انّه مجنون ، وقال أبو لهب : أقول انّه شاعر ، وقال عقبة بن أبي معيط : أقول انّه كاهن. فقال الوليد : بل أقول هو ساحر يفرّق بين الرجل والمرأة وبين الرجل وأخيه وأبيه. فأنزل الله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ)(٢).

وفي العلق قبل القلم قالوا : إنّ المعنيّ بالآية : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) هو الوليد أيضا اذ كان ينهى الناس عن أن يطاع رسول الله وعن الصلاة (٣) وقيل : هو أبو جهل ، فإنه حاول أنّ يطأ رقبة الرسول في سجدته في الصلاة في المسجد الحرام (٤) ولكنّي عبرته الى القلم ، اذ قالوا انّ النازل من العلق قبل القلم إنمّا هي الآيات الخمس الأوائل ، وأمّا هذه الآية فهي متأخرة في النزول عن تلك ، فلعلّنا نعود إليها فيما بعد.

وثالثة السور ـ «المزمّل» :

وعاشرة آياتها : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي

__________________

(١) القلم : ٣٤ ـ ٣٦.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٤٨.

(٣) تفسير القميّ ٢ : ٤٣٠.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٨٢ عن صحيح مسلم.

٤١١

وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً)(١) قال في «المجمع» : قيل : نزلت في صناديد قريش والمستهزئين (٢) وأ ليس من الإعلان الآيات التالية في السورة : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) ... (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) ... (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(٣).

ورابعة السور ـ «المدّثّر» :

وفيها الآيات بشأن الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقد مرّ خبره مع المستهزئين. وقد مرّ قبل خبر جابر بن عبد الله الأنصاري عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّها أوّل سورة نزلت عليه بعد الفترة بعد حراء ، وعليه تكون ثانية السور لا الرابعة ، ويمكن الجمع بينهما بمثل الكلام في سورة العلق ، بأنّ ما نزل ثانيا بعد الفترة هي حتّى الآية العاشرة ، أي الى ما قبل ما يتعلق بالوليد ، ثمّ نزل باقيها ـ بعد المزّمّل ـ رابعا.

وبهذا الصدد قال العلّامة الطباطبائي «والسورة مكيّة من العتائق النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة» لكنّه قال بعد هذا : واحتمل بعضهم أن تكون السورة أوّل ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدّة في أوّل البعثة. ثمّ قال «وهذا لا يتعدّى طور الاحتمال» (٤) فما معنى قوله «في أوائل البعثة وظهور الدعوة»؟ أمّا أن تكون هي أوّل سورة نزلت من القرآن فقد قال : يكذّبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءته القرآن على القوم وتكذيبهم به وإعراضهم عنه ورميهم له بأنّه «سحر يؤثر» (٥) ويصدق مثل ذلك في سابقتيه المزمّل

__________________

(١) المزمّل : ١٠ ، ١١.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٥٧٣.

(٣) المزمل : ١٥ ـ ١٩.

(٤) الميزان ٢٠ : ٧٩.

(٥) الميزان ٢٠ : ٧٩.

٤١٢

والقلم ، ولم يقل بمثل هذا هناك. بل قبل أن تكون العلق أوّل سورة كاملة (١). وفيها (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) ... (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ... (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أفليست هذه أيضا كتلك الآيات صريحة في سبق أمره بالتقوى وتكذيبهم له واعراضهم عنه؟ ولم يقل مثل ذلك هنا ، والأمر واحد.

السورة الخامسة ـ «الفاتحة» :

فقد قال اليعقوبي : إنّها الفاتحة (٢) والظاهر أنّها هي رواية جابر بن زيد (٣) أمّا خبر ابن عبّاس فلم يعرض للفاتحة. ومرّ ترجيح أن تكون الفاتحة ـ كما هو معنى الفاتحة ـ فاتحة كتاب الله. وقد يوجّه عدم ذكر ابن عبّاس للفاتحة بأنّ العلق فما بعد من القرآن في دور الإعلان والفاتحة كانت نازلة من قبل. وهي السورة الوحيدة ـ في عداد هذه السور الأوائل ـ الّتي ليس فيها ما يقتضي أو يستدعي سبق شيء من القرآن أو الإسلام قبلها.

سادسة السور ـ «المسد» :

سورة تبّت أو أبي لهب أو المسد ، قال القمّي في تفسيرها : إنّ أمّ جميل بنت صخر بن حرب «أبي سفيان» (٤) كانت تنمّ على رسول الله أي تنقل أحاديثه الى الكفّار ، ولمّا اجتمع زوجها أبو لهب مع قريش في «دار الندوة» وبايعهم على قتل محمّد رسول الله ، نزلت السورة (٥) وهذا يعني أنّ السورة نزلت بعد مؤتمر قريش بقتل

__________________

(١) الميزان ٢٠ : ٣٢٢.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٣٣.

(٣) التمهيد ١ : ١٠٣ وتلخيصه ١ : ٩٥.

(٤) كذا في القميّ ، وهو غلط ، فهي بنت حرب اخت ابي سفيان كما يأتي عن مجمع البيان.

(٥) تفسير القميّ ٢ : ٤٤٨.

٤١٣

الرسول ، وهذا لا يتّفق مع كونها السورة السادسة أي الأوائل ، فهو مردود.

ومن الطبرسي يعلم أنّ ما قاله القميّ في معنى «حمّالة الحطب» هو قول عن ابن عبّاس (١) أمّا في سبب نزولها فقد روى عن البخاري عن سعيد ابن جبير عن ابن عبّاس قال : صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم الصفا فقال : يا صباحاه! فأقبلت إليه قريش فقالوا له : مالك؟ فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أمّا كنتم تصدّقوني؟ قالوا بلى. فقال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد! فقال أبو لهب تبّا لك ، ألهذا دعوتنا جميعا؟! فأنزل الله هذه السورة (٢).

وهذا كما ترى صريح في حصر ما نزل من القرآن في دور الكتمان في السور الخمس الأوائل السابقة على المسد ، وأمّا المسد فهي أوّل سورة من دور الإعلان. والخبر مروي عن ابن جبير عن ابن عبّاس ، وعنهما روى خبر الإنذار في يوم الدار للعشيرة الأقربين أي الدعوة الخاصّة بين الكتمان والإعلان كما مرّ ، وذلك لا يتّفق مع هذا عنهما. ولكن لا ريب أنّ سورة اللهب لا تناسب الكتمان أيضا ، فكيف التوفيق؟

وروى الطبرسي أيضا في قوله سبحانه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) عن ابن عبّاس قال : لمّا نزلت هذه الآية صعد رسول الله على الصفا فقال : يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك؟ فقال ... فقال أبو لهب : تبّا لك ألهذا دعوتنا جميعا؟

فأنزل الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) الى آخر السورة (٣) وهذا أيضا

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨٥١.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٣٢٣. وانظر وقارن التبيان ١٠ : ٤٢٧.

٤١٤

كذلك يتنافى مع الدعوة الخاصّة ليوم الدار للأقربين من العشيرة من ناحية ، وأيضا من ناحية اخرى يتنافى مع خبر ابن عبّاس في ترتيب النزول اذ يقتضي نزول المسد بعد الشعراء أو العكس أو استثناء آية الإنذار وما يلازمها من الشعراء ولم ينقل ذلك عنه.

ولكن روى الطبرسي أيضا ما يصلح شأنا لنزول السورة من دون هذه الملازمات ، قال : عن سعيد بن المسيّب قال : كانت لأمّ جميل بنت حرب اخت أبي سفيان قلادة فاخرة من جوهر فقالت : لانفقنّها في عداوة محمّد! قال الطبرسي : ولمّا أنذر النبيّ أبا لهب بالنار قال : إن كان ما تقول حقّا فإنّي أفتدي بمالي وولدي (١) فأنزل الله : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) بدل القلادة. وهذا لا يستلزم ما كان يستلزمه الخبران عن ابن عبّاس ، ولكنّه يستلزم سبق الإعلان والمجاهرة حتّى حدّ العداء الحادّ من أبي لهب وامرأته.

وقد روى الطبرسي أيضا في شدّة عدائه ونصبه للنبيّ ما يدلّ على ذلك في أوائل الإعلان : عن طارق المحاربي قال : بينا أنا بسوق ذي المجاز ، إذ أنا بشابّ (كذا) يقول : أيّها الناس قولوا : لا إله الّا الله تفلحوا. وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : يا أيّها الناس إنّه كذّاب فلا تصدّقوه. فقلت : من هذا؟ فقالوا : هو محمّد يزعم أنّه نبيّ ، وهذا عمّه أبو لهب يزعم أنّه كذّاب (٢).

فقوله : هو محمّد يزعم أنّه نبيّ ، في جواب : من هذا ، يشعر بأنّ هذا كان في بداياته.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٢.

٤١٥

وروى الحميري في «قرب الاسناد» بسنده عن الكاظم عليه السلام في معجزاته صلّى الله عليه وآله أنّه : حين نزلت سورة تبّت أتته اُمّ جميل امرأة أبي لهب ومعه صلّى الله عليه وآله أبوبكر ، فقال له : يا رسول الله ، هذه اُمّ جميل تريدك وهي مُحفظة ـ أي مغضبة ـ ومعها حجر تريد أن ترميك به! فقال له : إنّها لا تراني. فقالت لأبي بكر : أين صاحبك؟ قال ك حيث شاء الله ... ثمّ قال أبوبكر لرسول الله : يا رسول الله لم ترك؟ قال : لا ، ضرب الله بيني وبينها حجاباً (١).

السورة الثامنة ـ «الأعلى» (٢) :

وروى العياشي في تفسيره عن عقبة بن عامر الجهني قال : لمّا نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجعلوها في سجودكم.

ورواه أيضا في «الدر المنثور» عن أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وتمام الخبر : ولمّا نزل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٤) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجعلوها في ركوعكم. والواقعة هي السورة السادسة والأربعون ، وهذا يدلّ على ما مرّ عن أنّ الصلاة كانت في اوائل تشريعها بسجود بلا ركوع ، ثمّ شرّع الركوع بعد ذلك (٥).

ومرّ عن ابن شهرآشوب في «المناقب» عن تفسير القطّان عن ابن مسعود :

__________________

(١) قرب الاسناد : ٢٥٦ ، الحديث ١٢٤٦.

(٢) السر في عدم ذكرنا لبعض السور هو عدم اشتمالها على الآيات ذات الإشارة الى الحوادث التأريخية.

(٣) الميزان ٢٠ : ٢٧٠.

(٤) الواقعة : ٧٤.

(٥) صفحة : ٣٨٥.

٤١٦

أنّ عليا عليه‌السلام سأل رسول الله : ما أقول في السجود في الصّلاة؟ فنزل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وسأله : ما أقول في الركوع؟ فنزل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فكان أوّل من قال ذلك (١).

والسورة العاشرة ـ «الضحى» :

أو الحادية عشرة هي «سورة الضحى» وفي تفسير القميّ في سبب نزولها روى عن أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام في قوله : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) قال : ذلك إنّ أوّل سورة نزلت كانت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ثمّ أبطأ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت خديجة : لعلّ ربّك قد تركك فلا يرسل إليك. فأنزل الله تبارك وتعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٢) وهذا يقتضي أن تكون الضحى الثانية لا العاشرة.

وقيل : سألت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح. فقال. سأخبركم غدا. ولم يقل : ان شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام ، فاغتمّ لشماتة الأعداء. فنزلت السورة تسلية لقلبه (٣) وهذا يقتضي أن تكون السورة مدنيّة بعد الثمانين لا عاشرة المكيات.

وعن ابن عبّاس قال : احتبس الوحي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة عشر يوما فقال المشركون : انّ محمّدا قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه (٤).

وقيل : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رمي بحجر في اصبعه فقال يخاطبها :

هل أنت الّا اصبع رميت

وفي سبيل الله ما لقيت

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٤ ـ ١٩.

(٢) تفسير القميّ ٢ : ٤٢٨.

(٣ و ٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٤.

٤١٧

فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يوحى إليه ، فقالت له أمّ جميل بنت حرب امرأة أبي لهب : يا محمّد ما أرى شيطانك الّا قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث! فنزلت السورة (١).

ولا يتنافى خبر ابن عبّاس مع هذا الأخير الّا في عدد أيّام احتباس الوحي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد تكون أمّ جميل هي السبب في اشاعة الخبر بين المشركين ممّا أشاع بينهم ذلك ، فهي حمّالة الحطب ، وهذا من حطبها.

أمّا العدد المذكور في خبر أمّ جميل : (ليلتين أو ثلاث) ، فهو يوحي كأنّما الوحي كان قبل ذلك مستمرا كلّ يوم وليلة ، وهذا لم يعهد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم ينقل ، فالراجح هو عدد ابن عبّاس : خمسة عشر يوما ، أو مقاتل : أربعين يوما (٢).

ولكن عن البرقي بإسناده عن رجل من أهل البصرة قال : رأيت الحسين بن علي عليه‌السلام يطوف بالبيت فسألته عن قول الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فقال : أمره أن يحدّث بما أنعم الله عليه من دينه (٣).

وقال القميّ في معنى الآية : أي بما أنزل الله عليك وأمرك به (٤).

ونقل الطبرسي عن مجاهد والزّجاج : أي بلّغ ما ارسلت به وحدّث بالنبوة الّتي آتاكها الله ، وهي أجلّ النعم. وعن الكلبي (هشام بن محمّد ت ٢٠٦) قال : يريد بالنعمة : القرآن اذ كان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به ، فأمره أن يقرأه (١).

وقال ابن اسحاق : ثمّ فتر الوحي عن رسول الله فترة من ذلك حتّى شقّ ذلك عليه فأحزنه ، فجاءه جبرئيل بسورة الضحى يقسم له ربّه وهو الّذي أكرمه بما

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٤.

(٣) تفسير البرهان ٤ : ٤٧٤.

(٤) تفسير القميّ ٢ : ٤٢٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٨.

٤١٨

أكرمه به : أنّه ما ودّعه وما قلاه ، ويقول : ما صرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبّك ، وما عندي من مرجعك إليّ خير لك ممّا عجّلت من الكرامة في الدنيا (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) من الفلج (الفوز والغلبة) في الدنيا والثواب في الآخرة (فَتَرْضى). ثمّ يعرّفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنّه عليه في يتمه وعيلته وضلالته واستنقاذه من ذلك كلّه برحمته ... (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فاذكرها وادع إليها. فجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّا الى من يطمئن إليه من أهله (١).

ثمّ يقول : فلمّا دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتّى فشا ذكر الإسلام بمكّة وتحدّث به ... قال الله تعالى له : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فأمر رسوله أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه. وكان ـ فيما بلغني ـ بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به من مبعثه الى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين ... كان فيها أصحابه اذا أرادوا الصلاة ذهبوا الى شعاب مكّة فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينا رسول الله في نفر من أصحابه في شعب من شعاب مكّة يصلّون إذ ظهر عليهم نفر من المشركين ، فعابوا عليهم ما يصنعون (٢) ؛ وكأنّ هذه الحادثة كانت هي المناسبة لإعلان الدعوة. أمّا قبل ذلك فإنّما كان يذكر النبوة لمن كان يطمئن إليه من أهله سرّا. إذن فكيف اطلعت عليه أمّ جميل فاحتطبت عليه الى المشركين فأشاعوا عليه أنّ الوحي منقطع عنه؟! اللهم الّا أن نخلص من ذلك كما خلص ابن اسحاق فلم يقل بشيء من ذلك ، وإنمّا قال : ثمّ فتر الوحي عنه فترة حتّى شق عليه وأحزنه فجاءه جبرئيل بسورة الضحى.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٩.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨٢.

٤١٩

ولم يقل ما الّذي نزل من القرآن قبلها حتّى في ابتداء تنزيله ، ولكنّه بعد أن ذكر ابتداء النزول في شهر رمضان قال : ثمّ تتام الوحي إليه ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وهو مؤمن بالله ومصدّق بما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمّل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم ... فمضى على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى (١) ثمّ يقول : ثمّ فتر الوحي ... فلو كان صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما جعل يذكر النبوة سرّا الى من يطمئن إليه من أهله بعد قوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٢) فكيف ومن أين علم به قومه فيتحمل ما يلقاه منهم من الخلاف والأذى؟!

والسورة الثانية عشرة ـ «الشرح» :

هي متتالية للضحى ان لم نقل بوحدتهما كما نقل ذلك الفخر الرازي عن طاوس بن كيسان اليماني وعمر بن عبد العزيز ، وجاء في بعض أخبار الأئمة الأطهار عليهم‌السلام (٣) وأفتى به بعض فقهائنا (٤).

واختلفوا في معنى الوزر في قوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ويبدو لي بقرينة وحدة سياق السورتين أنّ المقصود بالوزر ما تحمله من ثقل انقطاع الوحي عنه واحتباسه ، وهو العسر الّذي تحمله واليسر بعده تجديد الوحي إليه واليوم وقد فرغ من ذلك الهمّ والغمّ فعليه أن ينصب في التحديث بما أنعم الله عليه من النبوّة (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

وقال صاحب كتاب النظم في تفسير السورة : إنّ الله بعث نبيّه وهو مقلّ مخف وكانت قريش تعيّره بذلك حتّى قالوا له : ان كان بك من هذا القول الّذي تدّعيه

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٥٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٥٨.

(٣) الميزان ٢٠ : ٣٦٥.

(٤) المحقّق الحلّي في الشرائع والمعتبر.

٤٢٠