موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

ونحن اذ نتبيّن نقاط الضعف في العرب أو الفرس أو الروم قبل الإسلام لا نريد من ذلك إلّا الوصول الى الحقائق في تعاليم الإسلام السامية ، ولا مانع لدينا عن تبيّن الواقع وتشريح الحقائق وبيان العقائد الخرافية والواقع السيّئ قبل ظهور الإسلام وحينه ، سواء كنّا عربا أو فرسا أم من الروم.

دولة الفرس حين ظهور الاسلام :

المعروف أنّ بعثة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في سنة (٦١١ م) المصادف لعهد خسرو پرويز (٥٩٠ ـ ٦٢٨ م) وعلى عهده هاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة المكرّمة الى المدينة المنورة (٦٢٢ م) وهو مبدأ التأريخ الهجري القمري والشمسي.

وفي هذه الأيام كان يحكم القسم الأعظم من العالم المتحضر يومئذ الدولتان الكبيرتان والقويتان الروم الشرقية وايران الساسانية ، وكانت هاتان منذ مدّة مديدة في حرب مستمرة في سبيل الاستيلاء على الحكم في العالم ، امتدّت هذه الحروب من عهد السلطان انو شيروان (٥٣١ ـ ٥٨٩ م) وحتّى عهد خسرو پرويز أي أكثر من أربعة وعشرين عاما. وقد اثّرت الخسائر الفادحة والمصاريف الباهضة التي كانتا تتحملانها في هذه الحروب في قدرتها حتّى لم يبق منها سوى شبح مخيف خاو.

ونحن من أجل أن ندرس أحوال الناس في ظل الفرس من مختلف الجهات علينا أن نطّلع على أوضاع الحكومات من بعد انوشيروان وحتّى دخول المسلمين الى ايران.

الحضارة الايرانية :

إنّ اكبر نقد يرد على الحكم القائم يومئذ هو أنّه كان حكما ديكتاتوريا استبداديا فرديا ، ولا شكّ أنّ العقل الفردي ليس كالعقل الجماعي ، فالظلم والمساومة أقلّ في الحكومة الجماعية من الحكومة الفردية. ولا شكّ ان شكل الحكم مما يؤثر في كيفية سلوك الناس.

١٤١

انّ الملوك الساسانيين كانوا ذوي ابّهة وفخفخة ، فالبلاط الساساني وجماله وبهاؤه كان ممّا يحار فيه الناظرون ، وذلك من كثرة ما جمعوا فيه من الجواهر والأشياء النفيسة والثمينة ومن الصور والنقوش ما يحيّر العقول.

وقد شرح بعض المؤرخين بعض ترف خسرو پرويز ، منهم حمزة الأصفهاني في كتابه «سنيّ ملوك الأرض» اذ كتب يقول : «كان لخسرو پرويز ثلاثة آلاف امرأة ، واثنا عشر ألف جارية مطربة وراقصة. وله ستة آلاف حارس. وله ثمانية آلاف وخمسمائة من الخيل الجياد للطّراد ، واثنا عشر ألف من البغال لحمل أثقاله مع ألف بعير. وله تسعمائة وستون فيلا للقتال» (١).

إنّ نظام المجتمع على عهد الساسانيين كان نظاما طبقيا بل كان من قبل ذلك قديما وإنمّا اشتد على عهدهم.

كتب أحد المحققين من المؤرخين الإيرانيين بشأن الطبقات في عهدهم يقول :

«إنّ من أشد عوامل التفرقة في الايرانيين هو النظام الطبقي المتشدّد الّذي كان يطبقه الساسانيون في ايران ، وان كانت جذوره ممتدة منذ القدم إلّا انّ الساسانيين كانوا قد تشدّدوا في تطبيقه جدّا : فالملكية الفردية كانت محصورة تقريبا في سبع اسر خاصة بينما كان عامة الناس محرومين من ذلك تقريبا. ونفوس ايران اذ ذاك مائة وأربعون مليونا تقريبا ، واذا افترضنا أنّ الاسر السبع كانت تبلغ سبعمائة ألف ، وأضفنا الى ذلك امراء الثغور وأصحاب الأملاك الصغار الّذين كانوا يتمتعون بشيء من حقّ الملكية وافترضنا انّهم أيضا سبعمائة ألف ، كان الّذي يتمتّع بحق الملكية مليونا ونصف المليون من مجموع مائة وأربعين مليونا» (٢).

__________________

(١) سنيّ ملوك الارض : ٤٢٠.

(٢) بالفارسية : تاريخ اجتماعى ايران ٢ : ٢٤ ـ ٢٦.

١٤٢

وقد نقل مؤلف كتاب «ايران في عهد الساسانيين» عن أحد المؤرخين الغربيين أنّه يقول : «إنّ العمّال والفلاحين في ايران على عهد الساسانيين كانوا يعيشون بمنتهى الذلة والمسكنة والتعاسة ، وكان من تكليفهم في الحروب أن يمشوا من وراء العسكر كأنّهم قد كتب عليهم أنّ يكونوا عبيدا أرقاء ، من دون أن ينالوا على أعمالهم هذه الشاقة شيئا» (١).

وذكر الكاتب الإسلامي شكيب أرسلان يقول :

«إنّ العمّال والفلاحين كانوا محرومين من أي شيء من الحقوق الاجتماعية بل كان عليهم عبء مصارف الأشراف وثقلهم ، فلم يكن لهم أيّ نفع في حفظ هذا النظام ، ولذلك كان كثير من الفلاحين والطبقات السفلى في المجتمع قد تركوا أعمالهم فرارا عن أداء الضرائب والمكوس يلتجئون الى الصوامع والدّير والكنائس والبيع» (٢).

أجل ، إنّ نسبة قليلة أقلّ من الواحد والنصف في المائة من المجتمع الإيراني كان يتمتع بكلّ شيء ، امّا أكثر من ثمان وتسعين بالمائة من الناس في إيران كانوا كالعبيد الأرقّاء.

اختصاص التعليم بالطبقة الممتازة :

إنّ أطفال الأثرياء واولي النعمة والجاه فقط هم الّذين كان لهم الحقّ في ان يتعلموا ، أمّا الطبقات الوسطى وسائر الناس فقد كانوا ممنوعين عن ذلك! وقد اعترف بهذا النقص في الحضارة الفارسية القديمة حتّى اولئك الّذين كانوا يحاولون

__________________

(١) بالفارسية : ايران در زمان ساسانيان : ٤٢٤.

(٢) ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ٧٠ ـ ٧١.

١٤٣

الاعتزاز بتلك الحضارة. فقد ذكر الفردوسي الشاعر الحماسيّ الفارسيّ في ديوان شعره الحماسيّ قصة تشهد على ذلك ، وقد وقعت القصّة على عهد أنوشيروان أي في العهد الساساني الذهبي ، وتشهد هذه القصّة على أنّ الأكثرية الساحقة من الناس لم يكن لهم حقّ التعلم.

يقول الفردوسي : كان أنوشيروان بحاجة الى المعونة المالية لقتال الروم ، فانّ أكثر من ثلاثمائة ألف جندي ايراني كانوا يحاربون الروم وهم في إعواز شديد للأسلحة والطعام. وكانوا قد أبلغوا انوشيروان بذلك ، فاضطرب انوشيروان وخاف على مصيره من ذلك ، ودعا إليه وزيره العالم «بزرك مهر» ليشاوره في الأمر ، ويقول انوشيروان : إنّ على الوزير أن يذهب الى بلاد مازندران ليجمع المال اللازم لذلك من الناس ، ويقول بزرك مهر : إنّ الخطر قريب وعلينا أنّ نفكر في الخلاص السريع ولذلك يقترح على الملك أن يقترض من الناس فيقبل الملك على أن يعجّل في الأمر ، ويبعث بزرك مهر رسله الى القرى والمدن القريبة ليبلّغوا أغنياءها بالأمر. ويحضر تاجر يعمل في تجارة الأحذية ويستعد لدفع جميع مصارف الحرب بشرط واحد هو : أن يسمح لولده بالتعلم والوزير لا يرى مانعا عن اجابة ملتمسه ، فيسرع الى خسرو أنوشيروان ويبلغ الملك أمل الرجل ، فيغضب أنوشيروان لذلك وينهر وزيره ويقول له : ما هذا الطلب الّذي تتقدم به أنت؟! ليس من الصلاح أن نستجيب لهذا الطلب ، فإنّه بخروجه عن طبقته ينخر في كيان النظام الطبقي ، وهذا ضرّه أكثر من نفع ما يدفعه من الذهب والفضة! فانّ ابن التاجر اذا تعلّم فأصبح عالما ذا فنّ وهب له علمه آذانا صاغية وعيونا ناظرة ، فإذا جلس ابني على سرير الملك واحتاج الى كاتب استخدمه ولم يبق للعلماء من أبناء البيوتات والاسر سوى أن يتحسّروا ويحسدوا ابن التاجر! (١) ومع هذا وصفوه بالعادل.

__________________

(١) بالفارسية : تاريخ اجتماعى ايران : ٦١٨.

١٤٤

وفي فتنة مزدك قتل ثمانين الفا من أصحابه (١) ليقتلع جذور الفتنة! بينما جذور الفتنة كانت تكمن في التمايز الطبقي وكنز الثروات بيد الأثرياء الأغنياء ، وحكر الثراء والمقام بأيدي طبقة خاصة ، الى جانب حرمان الأكثرية الساحقة ، وسائر المفاسد الاخرى. في حين يحاول أنوشيروان ان يسكّت الناس بالضغط وقوة السلاح!

وبصدد توجيه نسبة صفة العدالة الى أنوشيروان يقول إدوارد براون :

«وذلك لشدّة بطشه بالزنادقة المزدكيّين ممّا حبّبه الى مؤبد المجوس ، وهم الّذين أثبتوا له هذه الصفة» (٢). ووصفوه بأنّه كان قد علّق خارج قصره سلسلة ليحركها المظلومون ، فينبّهونه بذلك ويدعونه الى العدل بشأنهم (٣).

ودليل الكذب فيه هو أنّهم يقولون بعد ذلك : أنّه لم يحرّكها في طول هذه المدّة الّا حمار!

وكذلك قالوا «كان فيمن وفد إليه من رسل الملوك وهداياها والوفود من المماليك في العراق : رسول لملك الروم قيصر بهدايا والطاف ، فنظر الرسول الى إيوانه وحسن بنيانه ، ومع ذلك اعوجاج ميدانه! فقال : كان ينبغي أن يكون الصحن مربّعا؟ فقيل له : إنّ عجوزا لها منزل في جانب الاعوجاج منه ، وأنّ الملك أرادها على بيعه وارغبها فأبت فلم يكرهها الملك وبقي الاعوجاج من ذلك على ما ترى! فقال الرومي : هذا الاعوجاج الآن أحسن من ذلك الاستواء» (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ١ : ٢٦٤.

(٢) بالفارسية : تاريخ ادبى ايران ١ : ٢٤٦.

(٣) بالفارسية : تاريخ اجتماعى ايران ١١ : ٦١٨.

(٤) مروج الذهب ١ : ٢٦٤.

١٤٥

عجيب! ألا يحضّر من يريد أنّ يبني هكذا قصر عظيم هندسة وتصميما خاصا له وهكذا يقدم على البناء بدون أرضية كافية وهندسة خاصة؟! فيخرج القصر معوجّ الميدان. ـ كما نقل المسعودي ـ ، من يصدّق هذا؟! أجل لا يبعد أن يكون موابذة المجوس وأصحاب البلاط قد وضعوا هذه القصص له شكرا له على ما قدّمه لهم من خدمات تذكر فتشكر.

وأعجب من ذلك أن حاول بعض الشعوبيين ان يضع حديثا على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصف انوشيروان (١) بالعدالة : «ولدت في زمن الملك العادل» وخبرا يقول : إنّ عليا عليه‌السلام حينما دخل مدائن كسرى نزل في ايوانه وأخرج جمجمة فأحيا صاحبها وسأله عن حاله فقال : انّه انوشيروان وهو لكفره محروم عن الجنة ولكنّه لعدله لا يعذّب بالنار! وممّا يشهد على أنّ أصحاب البلاط كانوا يمدحونه ويثنون عليه وينشرون عنه الجميل ممّا ليس فيه ما يذكره الفردوسي في «الشاهنامة» : أنّ الوزير بزرك مهر كان وزيرا لانوشيروان مدة ثلاثة عشر عاما ، ثم غضب عليه خسرو پرويز فألقاه في السجن وكتب إليه رسالة قال له فيها : انّ علمك هو الّذي أدّى بك الى القتل! فكتب بزرك مهر في جوابه يقول له : كنت أفيد من عقلي ما كان الحظّ يساعدني ، والآن اذ ليس لي حظّ فسأفيد من حلمي وصبري إن كنت قد حرمت من كثير من أعمال الخير والبرّ ، فقد استرحت أيضا من كثير من أعمال السوء والشر ، إن كنت قد سلبت منصب الوزارة فقد اعفيت من ألم الظلم فيها أيضا ، فما يضرني ذلك؟!

فلمّا بلغت هذه الرسالة ليد خسرو پرويز حضر عليه وأمر ان يجدع أنفه وتقطع شفتاه! فلمّا سمع بزرك مهر ذلك قال : أجل إنّ شفتيّ يستحقان أكثر من ذلك!

__________________

(١) بالفارسية : تاريخ اجتماعى ايران ١١ : ٦١٨.

١٤٦

فقال خسرو : لما ذا؟ قال بزرك مهر : لأنّي أثنيت عليك بهما عند الخاصة والعامة بما لم يكن فيك ، ونشرت عنك جميلا لم تكن أهلا له ، يا أسوأ الملوك! بعد أن أيقنت بطهري وبرّي أردت قتلي بسوء الظنون؟! اذن فمن يأمل عدلك ومن يعتمد قولك؟!

فغضب خسرو پرويز من هذا الكلام وأمر بضرب عنقه (١).

وكذلك كان أكثر الحكام الساسانيين ذوي سياسة خشنة بالعصا الغليظة ، وحتّى العلماء وأصحاب الأعمال لم تكن لهم قيمة لدى بلاطهم ، إذ كان القادة الساسانيون مستبدّين بآرائهم بحيث لا يجرأ أحد على اظهار نظره لديهم ، ولهذا كان عامة الإيرانيين غير راضين عنهم ولكنّهم كانوا خائفين منهم (٢).

وقتل خسرو پرويز ابنه شيرويه ليصل الى الملك كما نقل المسعودي (٣).

وملك بعد شيرويه حتّى يزدجرد آخر ملوك الساسانيين عدد يتراوح ذكرهم في التأريخ بين ستة الى أربعة عشر رجلا وامراة وهذا يعني أنّ الحكومة تغيّرت في مدة أربع سنين أكثر من ست مرات الى أربع عشرة مرة. فما حال دولة يحدث فيها أربعة عشر انقلابا دمويا في مدة أربع سنين فقط! فكلّ من يصل للملك يقتل كلّ من يدّعيه غيره ، ويفعل ما يراه موطّدا لأركان ملكه ، فالأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه ، وكلّ من كان يصل الى الملك كان يقتل أقرباءه أي أبناء الملوك الآخرين دفعا للخطر ، كان القادة ينادون بالملك للأطفال والنساء وبعد عدة أسابيع يقتلونهم ويجلسون آخرين بمكانهم. وهكذا كانت الدولة الساسانية تسير الى هاوية الهلاك.

__________________

(١) الشاهنامة ٦ : ٢٦٠ ـ ٢٥٧. وروى القصّة المسعودي في مروج الذهب ١٠ : ٢٧٦.

(٢) بالفارسية : ايران در زمان ساسانيان : ٣١٨.

(٣) مروج الذهب ١ : ٢٨٠.

١٤٧

حروب ايران والروم :

بعد وقوع عدد من الحروب بين ايران والروم عقد أنوشيروان صلحا مع الروم اسموه بالصلح الدائم. وبعد مدة ساءت ظنون أنوشيروان بالروم فأعدّ العدّة وجهّز الجيوش للهجوم على الروم واشتعلت نيران الحرب ، وفي فترة قليلة نسبيا فتح الفرس سورية وأحرقوا مدينة انطاكية ونهبوا آسيا الصغرى ، واستمرت الحروب حتّى عشرين عاما وحتّى فقد كلّ من المعسكرين امكاناتهم وطاقاتهم فيها ، وبعد خسائر كثيرة عقدوا الصلح بينهم مرة اخرى ورجعوا الى حدودهم السابقة كما كانت شريطة ان يدفع الروم كلّ عام عشرين ألف دينار من الذهب الى ايران.

وبعد أن تملّك في الروم «تى پاريوس» بدأ هجوما عنيفا على ايران بغية الانتقام منها ، واستمرت هذه الحروب سبع سنين. ومات عنها أنوشيروان وتملّك بعده ابنه خسرو پرويز وفي عام ٦١٤ م بدأ پرويز هجوما عنيفا على الروم وفتح في الحملة الأولى الشام وفلسطين وإفريقيا ، ونهب اورشليم وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيد المسيح وهدم المدن ، وانتهت هذه الحروب بقتل أكثر من تسعين ألف مسيحي!

وكان هذا بعد بعثة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فتفاءل المشركون بغلبة الفرس عبدة النيران على الروم المسيحيين واغتمّ المسلمون لذلك ، وانتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي فنزلت الآيات الأوائل من سورة الرّوم (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ)(١).

وقد تحقق نبأ القرآن الكريم بشأن الروميين بعد عشر سنين أي في سنة ٦٢٧ م تقريبا فاستعاد هرقل مدينة نينوى (الموصل) ولم يمض شيء حتّى قتل

__________________

(١) الروم : ١ ـ ٥.

١٤٨

خسرو پرويز على يد ابنه شيرويه ، ومات شيرويه بعد ثمانية أشهر ، وبعد شيرويه حكم ايران في مدة أربع سنين اكثر من عشرة قادة أربعة منهم نساء وانتهى الأمر بهجوم العرب المسلمين وقد ساعدت هذه الحروب الّتي استمرت أكثر من خمسين عاما على تقدم الفتوحات الإسلامية مساعدة جادّة مؤثرة ، وذلك اذ تعلقت مشيئة الله بأن ينتشر نور الإسلام.

اضطراب الوضع الديني :

وأهم اضطراب كان يسود ايران على عهد الساسانيين هو الاضطراب الديني. إنّ «أردشير بابكان» مؤسس سلسلة الساسانيين كان ابن موبذ من موابذة المجوس ووصل الى السلطة بمساعدة علماء المجوس ، ولذلك قام بنشر دينهم في أطراف مملكته بكلّ ما قدر عليه. فأصبح الدين الرسمي والعام لإيران على عهد الساسانيين هي المجوسية ، وبما أنّ سلطة الساسانيين إنّما تحققت بتأييد موابذة المجوس لذلك كانوا في رعاية تامة من قبل البلاط الساساني ، وكانوا أقوى طبقة في المجتمع الطبقي الإيراني ، وكان الحكّام الساسانيون في الواقع متعيّنين بتعيين من الموابذة المجوس ، فاذا تمرد أحد الحكام على العلماء الروحيين كانوا يقابلونه بشدّة ، وكذلك كان الملوك الساسانيّون يقبلون على طبقة رجال الدين أكثر من أية طبقة اخرى ، ولذلك كان الموابذة في اطّراد وكثرة ، وكان الساسانيون يفيدون منهم لتأييد سلطانهم ، ويقيمون لهم في أطراف ايران معابد النيران وفي كلّ منها عدد كثير منهم ، حتّى كتبوا أنّ خسرو پرويز بنى معابد نيران كانت تسع لاثني عشر ألف «هيربد» من العباد يصلّون ويتلون الأناشيد الدينية (١).

__________________

(١) بالفارسية : تاريخ تمدن ساسانى ١ : ١.

١٤٩

وهكذا كانت المجوسية دين البلاط الرسمي ، وكان الموابذة المجوس يسعون لتهدئة الطبقات الكادحة والمحرومة من المجتمع بحيث لا يحسّون كثيرا بآلامهم.

وهذه الصلاحيات اللامحدودة المخوّلة للموابذة المجوس وضغطهم الشديد على عموم الناس أثر في ابعاد الناس عن المجوسية ، فكان أكثر الناس يحاولون أن يجدوا لانفسهم دينا غير دين طبقة الأشراف.

ومن ناحية اخرى : فانّ دين المجوس كان قد فقد حقيقته تماما ، فقد بلغ تقديس النيران الى تحريم ضرب الحديدة المحماة بالنار بالمطرقة لأنّها بمجاورتها النار كانت قد تقدست بقداسة النار المقدسة! وهكذا شكّلت الخرافات والأساطير أكثر اصول عقائد زرادشت ، أمّا حقائق دينه فقد تركت المجال لعدد من الشعائر الخاوية الميّتة الّتي كان الموابذة يضيفون كلّ يوم إليها خرافات جديدة.

ومن ناحية ثالثة : كانت الثقافة الرومانية والهندية قد وجدت طريقها الى ايران على عهد أنوشيروان ، وسبّب اصطكاك العقائد الزرادشتية مع العقائد المسيحية والأديان الاخرى يقظة الايرانيين وأصبحوا يتألّمون ممّا في الدين الزرادشتي من الخرافات والمطالب الواهية ، وسبّب كلّ هذا اختلاف العقائد والآراء في ايران وشيوع الأديان والمذاهب الاخرى ، والشكّ والتردد في آخرين ، حتّى ترك أكثر الناس ما كانوا يعتقدون به قبل ذلك ، وشمل الإلحاد والاضطراب كلّ أنحاء ايران (١).

الحضارة الروميّة :

أمّا الرّوم فلم تكن بأحسن حالا من ايران ، فالحروب الداخلية والخارجية

__________________

(١) بالفارسية : تاريخ اجتماعى ايران ٢ : ٢٠ فما بعد.

١٥٠

الّتي كانت تكابدها دائما ضد ايران على أراضي «أرمنستان» وغيرها كانت قد أعجزت الناس وجعلتهم مستعدين لاستقبال أيّ تغيير للأوضاع الراهنة آنذاك. إنّ رجال الكنيسة حينما اخذوا زمام الحكم بأيديهم في الروم جعلوا يمارسون الضغط الشديد بالنسبة الى الوثنيين ولم تكن الفتنة تنطفئ بين الوثنيين والمسيحيين فكانت الاختلافات الدينية أكثر من كلّ شيء في الروم ، وكان ضغط رجال الكنيسة قد أدّى بكثير من الناس الى الحرمان والفقر ، وكانت هذه الاختلافات تنخر في كيان قدرة الامبراطورية الرومية.

وعدا هذا فقد كان البيض في شمال الروم في اصطكاك وصدام مع الصفر في شرق الروم في سبيل الحصول على أكثر النقاط صلاحا للزراعة والاستثمار ، وكانت هذه الصدمات أحيانا تؤدّي الى خسائر فادحة عظيمة من الطرفين ، وكان هذا قد تسبّب في انقسام الامبراطورية الرومية الى قسمين : شرقي وغربي. ويرى المؤرخون أنّ الأوضاع الاجتماعية والمالية والسياسية الرومية في القرن السادس كانت في اضطراب شديد ، ولا يرون في اقتدار الروم على استعادة سلطتها على بعض النقاط المسلوبة منها دلالة على قدرة الروم ، بل يرون ذلك من فقدان النظام الحاكم في ايران لانضباطه وكيانه القوي.

اذن : فالامبراطوريتان اللتان كانتا تدّعيان السيادة السياسية على العالم يومئذ كانتا حين طلوع فجر الإسلام تعيشان مرحلة الشيخوخة والهرم ، ومن البديهي أنّ هذه الأوضاع المضطربة كانت قد أوجدت في الشعبين استعدادا بل استقبالا لدين جديد ينظّم أوضاعهم هذه من جديد منقذا لهم ممّا هم فيه من الاضطراب والقلق.

وإذ قرأنا هذا عن أوضاع هاتين الامبراطوريتين فلنقرأ عن دويلتين عربيّتين تابعتين لهما :

١٥١

ملوك الحيرة من اليمن :

بعد قرنين من الميلاد وفي أوائل القرن الثالث ، هبط بعض الطوائف العربية من بني لخم اليمنيين في الأراضي المجاورة للفرات في العراق ، على عهد الفرس الساسانيين.

وكان الفرس الساسانيون يحكمون العراق ، ولكن القرى والمزارع العراقية الساسانية كانت تتعرض من حين لآخر لغارات القبائل العربية البدوية من ناحية بادية الصحراء الحجازية ، فكانوا بحاجة الى عرب يملكونهم على ثغور العراق فيكفونهم غارات البدو ، فملكوا هؤلاء اللّخمييّن.

وبنى هؤلاء اللخميّون في هذه المنطقة عددا من المدن أو القرى والقلاع أهمها الحيرة قرب الكوفة على حافة بادية الصحراء الحجازية ، ولفظ الحيرة تحرّف عن حرتا السريانية وتعني القبّة والحرم ، أو المعسكر والمخيّم (١) وساعد جوّ هذا البلد ومناخه وماؤه على عمرانه والحضارة فيه ، ومن مظاهر الحضارة فيه أنهم تعرّفوا على الخطّ والكتابة به ، ومنهم انتقل الى عرب الحجاز (٢).

ومن تاريخهم المنقول نكتفي نحن هنا بما ذكره اليعقوبي والمسعودي ونعلّق عليه بما يلزم :

نقل اليعقوبي عن أهل العلم بالرواية قالوا : لما تفرق أهل اليمن ، قدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس ، حتّى نزل أرض العراق في أيام ملوك الطوائف (الفرس) فأصاب قوما من العرب من معدّ وغيرهم بالجزيرة (الموصل) فملّكوه عليهم عشرين سنة.

__________________

(١) العصر الجاهلي ، لشوقي ضيف : ٤٤.

(٢) فتوح البلدان : ٤٥٧ ط اوروپا.

١٥٢

وتكهّن جذيمة الأبرش (التنوخي) ، وعمل صنمين سماهما (الضيزنان) واستهوى بهما أحياء من العرب ، وصار بهم الى العراق ، فسار من ارض البصرة الى ارض الجزيرة (الموصل) حتّى صار الى ناحية على شط الفرات بالقرب من الأنبار يقال لها : بقة.

وكان يملك تلك الناحية امرأة يقال لها الزبّاء (١).

فلما صار جذيمة الى أرض الأنبار ، واجتمع له من أجناده ما اجتمع قال لهم : اني عزمت على أن أرسل الى الزبّاء (زنّوبة) فأتزوّجها فأجمع ملكها الى ملكي!

فقال غلام له يقال له قصير : إنّ الزبّاء (زنّوبة) لو كانت ممن تقبل نكاح الرجال لسبقت إليها!.

فكتب إليها. فكتبت إليه : أن أقبل إليّ أزوّجك نفسي! فارتحل إليها. فلما دخل عليها .. قتلته فقطّعته «وكان يعاصر اردشير بن بابك وشاهپور ابن اردشير» (٢).

فلما قتل جذيمة ملك مكانه ابن اخته : عمرو بن عدي (ومن هنا سمّوا : بني عدي) بن نصر (ومن هنا سمّوا : بنى نصر) ابن ربيعة (فهم من بني ربيعة) ابن عمرو بن الحارث بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم ومن هنا سموا : اللخميّين ، ولتكرار اسم المنذر فيهم بعد هذا سمّوا بمناذرة العراق بازاء غساسنة الشام.

قال المسعودي : وكان على الحيرة ابن عم جذيمة : عمرو بن عبد الحيّ التنوخي ، فلما صرف عمرو بن عدي وجوه جند خاله جذيمة التنوخي الى

__________________

(١) محرّفة كلمة : زنّوبة ملكة تدمر النبطية التي كانت تحكم الأنباط بالشام عن الرومان ، وطغت فتمرّدت عليهم ، فحاربوها حتى قضوا عليها عام (٢٧٣ م) ـ العصر الجاهلي ، لشوقي ضيف : ٣٢.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٦٥.

١٥٣

نفسه ومناهم بالمال والحال ، فانصرف إليه منهم بشر كثير ، التقى هو وعمرو ابن عبد الحي التنوخي بالقتال حتى خافوا الفناء ، فخضع التنوخي لابن عدي وتمّ الأمر له (١).

قال اليعقوبي : ثم ملك امرؤ القيس بن عمرو (٢).

ثم ملك أخوه الحارث بن عمرو.

ثم ملك عمرو بن امرئ القيس.

قال المسعودي : ثم ملك النعمان بن امرئ القيس (٣).

قال اليعقوبي : ثم ملك المنذر بن (النعمان بن) امرئ القيس.

ثم ملك النعمان (ابن المنذر) وحكم ثماني وثلاثين سنة ، عاصر فيها من ملوك الفرس : يزدجر الأول (٤) وبهرام گور. وكان من اشد ملوك العرب نكاية في أعدائه. غزا الشام مرارا وأكثر من المصائب في أهلها وسبى وغنم. وجنّد الجند على نظام خاص عرف به ، فكان عنده من الجيش كتيبتان : احداهما مؤلفة من رجال الفرس اسمها «الشهباء» والأخرى من عرب تنوخ اسمها «الدوسر» فكان

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٧١ فكان ملكه مائة سنة ٢ : (٦٦ و ٧٤) ، وفي اليعقوبي ١ : ٢٠٩ خمسا وخمسين سنة. بل نصبه شاهپور بن اردشير الساساني في (٢٤١ ـ ٢٧١ م) أي ثلاثين سنة فقط ـ العصر الجاهلي لشوقي ضيف : ٤٤.

(٢) ملك (٢٧٢ م) ، وكأنه غزا لبنان فهلك على شرقي جبل الدروز ودفن هناك سنة (٣٢٨ م) كما في نقش النمارة على قبره في أطلال معهد روماني اكتشفه دوسو وماكلر عام (١٩٠١ م) كما في العصر الجاهلي : ٣٥ ، فقد ملك (٥٨) ، ويقاربه المسعودي ٢ : ٧٤ ستين سنة ، وفي اليعقوبي ١ : ٢٠٩ (٣٥) سنة.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٧٤.

(٤) من ٣٩٩ ـ ٤٢٠ م. العصر الجاهلي لشوقي ضيف : ٤٤.

١٥٤

يغزو بهما من لا يدين له من العرب (١). تتبّع أخباره بالتفصيل جرجي زيدان في كتابه «العرب قبل الإسلام».

قال اليعقوبي : وهو الّذي بنى «الخورنق» (٢) فبينما هو جالس ينظر منه الى ما بين يديه من الفرات وما عليه من النخل والأجنّة والأشجار اذ ذكر الموت فقال : وما ينفع هذا مع نزول الموت وفراق الدنيا؟! فتنسّك واعتزل الملك. واياه عنى عديّ بن زيد العبادي حيث يقول :

وتفكر ربّ الخورنق اذ أش

رف يوما وللهدى تفكير

سرّه حاله وكثرة ما يم

سك ، والبحر معرض والسدير

فارعوى قلبه وقال : وما غب

طة حيّ الى الممات يصير (٣)

قال المسعودي : وملك (بعده ابنه) الأسود بن النعمان.

وملك (بعده ابنه) المنذر بن الأسود (٤).

__________________

(١) للتفصيل انظر : العرب قبل الاسلام لجرجي زيدان.

(٢) وكان سبب بنائه الخورنق : انّ يزدجرد بن بهرام شاه بن شاهپور ذي الأكتاف ، ولد له ابنه بهرام ، فسأل عن منزل برّي مري صحيح من الأدواء والأسقام فدلّ على ظهر الحيرة ، فأمر يزدجرد النعمان هذا ببناء مسكن له ولابنه بهرام ، فامر النعمان رجلا يقال له سنمّار أن يبني له ذلك فبناه ، فلمّا فرغ من بنائه تعجّبوا من حسنه واتقان عمله فوفّوه أجره ، فقال : لو علمت انّكم تصفون بي ما انا اهله وتوفونني أجري لكنت بنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت! فغضب النعمان وقال : كنت قادرا على ان تبني ما هو افضل منه ولم تبنه كذلك؟! ثم امر به فطرح من اعلى الجوسق من رأس الخورنق ، فجرى ذلك مثلا في العرب يقال : جزاه جزاء سنمّار (الطبري ٢ : ٦٥) ، (الاغاني ٢ : ١٤٤ ـ ١٤٦ ط دار الكتب) .. والجوسق معرب كلمة : كوشك ، وهو الغرفة العالية الخاصّة في أعلى القصر. والخورنق كذلك معرّب كلمة : خورنگاه أي المطعم.

(٣) اليعقوبي ١ : ٢٠٩ ، ٢١٠ ط بيروت.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٧٤ وفي اليعقوبي ١ : ٢١٠ : المنذر بن النعمان. من (٥١٥ م) معاصرا

١٥٥

ثم ملك بعده عمرو بن المنذر (١) قال اليعقوبي : وهو ابن هند ، وكان يلقّب بمضرّط الحجارة (لشدّته على العرب). وكان قد جعل الدهر يومين : يوما يصيد فيه ويوما يشرب ، فاذا جلس لشربه أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى يرتفع مجلس شرابه .. فلم يزل طرفة بن العبد يهجوه ويهجو أخاه قابوسا ويذكرهما بالقبيح ويشبّب باخت عمرو ويذكرها بالعظيم .. ويساعده على هجائه المتلمّس. فقال لهما عمرو : قد طال ثواكما ، ولا مال قبلي ، ولكن قد كتبت لكما الى عاملي بالبحرين يدفع لكل واحد منكما مائة ألف درهم!

فأخذ كل واحد منهما صحيفة. واستراب المتلمّس بأمره ، فلما صارا عند نهر الحيرة لقيا غلاما عباديا (٢) فقال له المتلمّس : أتحسن أن تقرأ؟ قال : نعم. قال : اقرأ هذه الصحيفة : فاذا فيها : إذا أتاك المتلمّس فاقطع يديه ورجليه. فطرح الصحيفة وقال لطرفة : في صحيفتك مثل هذا! قال : لا يجترئ على قومي بهذا وأنا بذلك البلد أعزّ منه! ومضى الى عامل البحرين بصحيفته دون أن يقرأها.

__________________

لقباد الساساني وفي عهده كان الحارث الغساني قد أقام دولته في الشام للروم ، فاشتبك المنذر معه في حروب طاحنة أسر فيها ابنا للحارث فقتله سنة (٥٤٤ م) وهو صاحب يوم حليمة المعروف بالقرب من قنّسرين وفيها قتل (٥٥٤ م) ، فملك أربعين عاما تقريبا ، وقال المسعودي : (٣٤) ، واليعقوبي : (٣٠).

(١) مروج الذهب ٢ : ٧٤. من (٥٥٤ ـ ٥٦٩ م) وساءت العلاقة بينه وبين قباد الساساني في أوائل ملكه (قبل ٥٥٩ م) فعزله قباد وولّى مكانه الحارث بن عمرو أمير كندة ، ثم توفى قباد (نحو ٥٥٩ م) وتملك خسرو أنوشيروان فأعاد المنذر الى حكم الحيرة فحارب الحارث فهزمه وقتله. ولقّب محرّق العرب لأنه حرّق قوما من العرب من بني تميم في يوم أوارة باليمامة وفاء بنذره ـ العصر الجاهلي ، لشوقي ضيف : ٤٥. وحيث عاد الى الحكم توهم اليعقوبي التعدد فقال : ثم ملك عمرو بن المنذر الثاني ١ : ٢١٠ ط بيروت.

(٢) أي نصرانيا ، أهل عبادة ، وقراءة في الكتب.

١٥٦

فلما قرأ العامل صحيفته قطع يديه ورجليه وصلبه!.

ثم ملك أخوه قابوس بن المنذر (١).

قال المسعودي : وملك النعمان بن المنذر (الرابع) وهو الذي يقال له :

أبيت اللّعن ، اثنتين وعشرين سنة (٢) ولتكرار اسم المنذر فيهم سمّوا : المناذرة.

قال اليعقوبي : وكان مع المنذر أهل بيت من امرئ القيس بن زيد ، وكان من أهل ذلك البيت عديّ بن زيد العبادي (النصراني) وكان خطيبا شاعرا قد كتب العربية والفارسية ، وكان المنذر قد جعل عندهم ابنه النعمان فأرضعوه وكان في حجورهم.

وكتب كسرى الى المنذر بأن يبعث له بقوم من العرب يترجمون له الكتب. فبعث بعديّ بن زيد وأخوين له ، فكانوا في كتّابه يترجمون له.

فلما مات المنذر قال كسرى لعديّ بن زيد : هل بقي من أهل هذا البيت من يصلح للملك؟

قال : نعم ، ان للمنذر ثلاثة عشر ولدا كلهم يصلح لما يريد الملك!

فبعث فأقدمهم ومعهم النعمان الذي ربّاه أهل بيت عديّ بن زيد.

فأنزلهم عديّ بن زيد كل واحد على حدته ، وكان يفضّل اخوة النعمان عليه في النزل ويريهم أنه لا يرجوه ، ويخلو بهم رجلا رجلا ويقول لهم : ان سألكم الملك : هل تكفوني العرب؟ فقولوا له : لن نكفيكهم! الا النعمان فقد قال له : ان سألك الملك عن اخوتك فقل : ان عجزت عنهم فأنا عن العرب اعجز!

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢١١ وهو الذي اشتبك مع المنذر بن الحارث التنوخي الغسّاني في معارك أهمها معركة عين أباغ سنة (٥٧٠ م) هزم فيها من المنذر الغساني ـ العصر الجاهلي ، لشوقي ضيف : ٤١.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٧٥ ، من (٥٨٠ ـ ٦٠٢) العصر الجاهلي لشوقي ضيف : ٤٦.

١٥٧

فلما امر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه ، جعل يدخلهم رجلا رجلا ، فاذا سألهم : هل تكفوني ما كنتم تكفون؟ قالوا : لن نكفيك العرب! الا النعمان فانه لما دخل عليه قال له : هل تستطيع أن تكفيني العرب؟ قال : نعم! قال : فكيف تصنع باخوتك؟ قال : ان عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز!. فملّكه وكساه وألبسه اللؤلؤ! فخرج وقد ملّك عليهم.

وكان الأسود بن المنذر يحضنه أهل بيت أشراف من الحيرة يقال لهم بنو مرينا ، وكان منهم رجل شاعر مارد يقال له عدي بن أوس بن مرينا ، لمّا رأى ذلك أمر قوما من خاصة النعمان وأصحابه أن يذكروا عديّ بن زيد عنده ويقولوا : انه يزعم أن الملك (النعمان بن المنذر) عامله وأنه هو ولّاه ولولاه ما ولّي ، وكلاما نحو هذا!

فلم يزالوا يتكلمون بذلك بحضرة النعمان حتى أحفظوه وأغضبوه على عديّ بن زيد. فكتب النعمان إليه : عزمت عليك ألّا زرتني! فاستأذن كسرى ، وقدم عليه ، فأمر النعمان بحبسه في حبس لا يصل إليه فيه أحد!.

فجعل عديّ يقول الشعر في محبسه ويستعطف النعمان ويذكر له حرمته ويعظه بذكر الملوك المتقدّمين ، فلم ينفعه ذلك. وجعل أعداؤه من آل مرينا يحمّلون عليه النعمان ويقولون له : إن أفلت قتلك وكان سبب هلاك!.

وكان لعديّ عند كسرى أخوان يقال لأحدهما ، ابيّ ، والآخر : سميّ ، وابنه عمرو بن عديّ ، فكتب إليهم شعرا .. فقام أخوه وابنه ومن معهما الى كسرى فكلّماه في أمره.

فكتب كسرى الى النعمان يأمره بتخلية سبيله ، ووجّه في ذلك رسولا ... وابتدأ الرسول به ... فبلغ النعمان مصير رسول كسرى الى عديّ ، فلما خرج من

١٥٨

عنده وجّه إليه النعمان من قتله : وضع على وجهه وسادة حتى مات : ثم قال للرسول : إنّ عديّا قد مات. وأعطاه وأجازه وتوثق منه أن لا يخبر كسرى الّا أنه وجده ميّتا! وكتب الى كسرى : أنه قد مات!.

انتقام ابن عديّ لأبيه :

وقال : وكان عمرو بن عديّ يعمل لكسرى عمل أبيه في ترجمة الكتب ... وطلب كسرى يوما جارية وصف صفتها فلم توجد له ، فقال له عمرو بن عدي : أيها الملك! عند عبدك النعمان بنات له وقرابات على اكثر مما يطلب الملك ، ولكنه يرغب بنفسه عن الملك ويزعم أنه خير منه!.

فوجّه كسرى الى النعمان يأمره أن يبعث إليه ابنته ليتزوّجها!

فقال النعمان : أما في عين السواد وفارس ما يبلغ الملك حاجته؟!

فلما انصرف الرسول أخبر كسرى بقول النعمان.

فقال كسرى : وما يعني بالعين؟

فقال عمرو بن عدي : أراد البقر! ذهابا بابنته عن الملك!

فغضب الملك وقال : ربّ عبد قد صار الى اكبر من هذا ثم صار أمره الى تباب! وأمسك عنه شهرا ، ثم كتب إليه بالقدوم عليه.

وبلغت النعمان كلمته فعلم ما أراد ، فحمل سلاحه وما قوى عليه ولحق بجبلي طيء ، وهو مصاهرهم على سعدى بنت حارثة منهم ، فسأل طيئا أن يمنعوه من كسرى فقالوا : لا قوة لنا به! فانصرف عنهم.

وجعلت العرب تمتنع من قبوله. حتى نزل في بطن ذي قار في بني شيبان ، فلقي هانئ بن مسعود الشيباني ، فدفع إليه سلاحه وأودعه بنته وحرمته ومضى الى كسرى فنزل ببابه ، فأمر به فقيّد ، ثم وجّه به الى «خانقين» وطرح تحت الفيلة فداسته حتى قتلته فقرّب للاسود فاكلته!.

١٥٩

ووجّه كسرى الى هانئ بن مسعود : أن ابعث إليّ مال عبدي الذي عندك وسلاحه وبناته! (١)

قال : وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع. فأبى هانئ وقومه أن يفعلوا ، فوجّه كسرى بالجيوش من العرب والعجم ، فالتقوا بذي قار ، فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فقلّدوه أمرهم قالوا لهانئ : ذمّتك ذمّتنا ولا نخفر ذمّتنا! فحاربوا الفرس ، فهزموهم ومن معهم من العرب ، فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم (٢).

فيروى عن رسول الله أنه قال : هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ، وبي نصروا (٣).

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢١٢ ـ ٢١٥. ونقل الطبري ٢ : ٢٠٦ عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى عن بعضهم : أن هانئ بن مسعود لم يدرك هذا الأمر ، وانما هو هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود. وهو الثبت عندي. وكذلك ذكره المسعودي في التنبيه والإشراف : ٢٠٧.

(٢) اليعقوبي ١ : ٢١٥.

(٣) اليعقوبي ١ : ٢١٢ والمسعودي في التنبيه والاشراف : ٢٠٨ قال : قيل : إن ذلك كان قبل الهجرة ، وان اناسا من بكر بن وائل من البحرين واليمامة جاءوا الموسم ، كانوا يريدون المضيّ الى بكر بن وائل مع بني شيبان بالعراق لنجدتهم ، فوقف عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرض نفسه عليهم ، ودعاهم الى الايمان بالله .. فوعدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ان نصرهم الله على الأعاجم آمنوا به وصدّقوا بنبوّته! فدعا لهم النبيّ بالنصر. فلما بلغه ظهورهم على الأعاجم قال : هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ، وبي نصروا.

وقال في مروج الذهب ١ : ٣٠٧ : وكان حرب ذي قار في ملك خسرو پرويز ، وهو اليوم الذي قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ، ونصرت عليهم بي. وكانت بعد بعثته لتمام أربعين سنة من مولده ، وفي رواية اخرى : بعد وقعة بدر بأربعة أشهر.

١٦٠