موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

رسول الله نظرة وجازه ، فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي! أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا نعرفه حتّى أرجع إلى قومي فاخبرهم؟! فأخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله : أنعم صباحا!

فرفع رسول الله رأسه إليه وقال : قد ابدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحيّة أهل الجنة : السلام عليكم.

فقال اسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب! إلام تدعو؟ يا محمّد!

قال : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، وأدعوكم (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١).

فلمّا سمع أسعد هذا قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّك رسول الله.

كانت هاتان الآيتان من سورة الأنعام تتضمنان الدّاء والدّواء لامّة متحاربة جاهلة ، ولذلك خلّفت أثرا عميقا في قلب أسعد وذكوان الخزرجيّين فأسلما فورا «ثمّ قالا : يا رسول الله! ابعث معنا رجلا يعلّمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مصعب بن عمير بالخروج معهما ، فخرج هو معهما إلى المدينة حتّى قدموا على قومهم» (٢).

إنّ النظر في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن أي بحث آخر عن أوضاع العرب قبل الإسلام ، فإنّ هاتين الآيتين تبيّنان ما كان يسود حياة العرب في الجاهليّة

__________________

(١) الانعام : ١٥١ ، ١٥٢.

(٢) إعلام الورى : ٥٦ ، طبعة النجف.

١٠١

من الأمراض الخلقيّة المزمنة ، وإنّ مضمون هاتين الآيتين شاهد على ابتلاء العرب بجميع هذه الأوصاف الرذيلة ، ولهذا تلاهما رسول الله على أسعد في أول لقائه به وبذلك عرّفه برسالته.

الدين في جزيرة العرب :

إنّ آيات القرآن الكريم تشير إلى أرباب العرب وآلهتهم ورموزها من أصنامهم وأوثانهم ، والقرآن (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وفيه الكفاية :

قال عزوجل : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(١).

وإذا كانت إيران قد اتّخذت الزرادشتية (المجوسية) دينا رسميّا لها طلبا للاستقلال العقائدي عن الروم المسيحيّة (٢) ، وهما في حرب دءوب ، فطبيعي أن تحاول إيران نشر عقيدتها الثنوية بالإلهين : إله الخير وإله الشرّ بين الشعوب المغلوبة المستعمرة لها من حولها ، فتتفشّى المجوسية في بعض القبائل العربية من تميم والبحرين وعمان واليمن (٣) ونحن نعلم أنّ المجوس ثنويّون يؤمنون بإلهين يدبّران العالم فللخير يزدان وللشرّ اهريمن ولهما رمزان فليزدان الخير النور ، ولاهريمن الشرّ الظلمة.

أمّا أكثر العرب في الجاهليّة فكانوا وثنيّين يؤمنون بقوى إلهية كثيرة منبثّة في مظاهر الطبيعة ، وبقوى خفيّة كثيرة في بعض الحيوانات والنباتات

__________________

(١) ص : ٤ ـ ٧.

(٢) الإسلام وإيران ٢ : ٣٢.

(٣) تأريخ العرب قبل الإسلام ٦ : ٢٨٤ فما بعد.

١٠٢

وحتّى الجمادات ، فكانوا يتعبدون لأصنام وحتّى أوثان كثيرة اتّخذوها رمزا لتلك الآلهة ومنها الكواكب والنجوم.

فكان عرب الجنوب في اليمن يرجعون بآلهتم إلى ثالوث مقدس هو : القمر ، واسمه عند المعينيين (أوائل الألف الأوّل قبل الميلاد) (١) ودّ ، وكان إلههم الاكبر ، وهو الزوج الذكر ، ولذلك لفظه مذكر. وتليه الشمس ، وهي اللات ، وفيها تاء الإناث ، ولذا اعتبروها زوجة القمر ولذلك لفظها مؤنث! ومنها ولدت العزّى أي الزهرة أو عشتر ، أو فينوس بالرومية ، أو ناهيد بالفارسية. ولهم الهات اخرى رمز عن بعض النجوم أو بعض مظاهر الطبيعة أو بعض الطيور ، وكانوا قد بنوا عليها الهياكل ويقدمون لها القرابين ويقوم عليها كهنة ذوو نفوذ كبير. وقوافل التجارة والهجرة كانت متبادلة بينهم وبين عرب الشمال العدنانيين أو النزاريين الحجازيين فحملوا دينهم معهم إليهم (٢).

وأشار القرآن الكريم إلى عبادتهم للشمس في قوله سبحانه حكاية عن الهدهد من طيور سليمان بن داود ، إذ تفقّدها وكان الهدهد غائبا فلم يره (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) إذ جاء ، (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) ... (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ)(٣). ويضيف القمر في آية اخرى تخاطب العرب المشركين : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ)(٤).

__________________

(١) العصر الجاهلي : ٢٥ لشوقي ضيف.

(٢) انظر العصر الجاهلي : ٢٩ لشوقي ضيف.

(٣) النمل : ٢٢ ـ ٢٤.

(٤) فصّلت : ٣٧.

١٠٣

ومن قبل أضاف إليهما الكوكب فيما حكاه عن خليله إبراهيم عليه‌السلام قال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ولعلّه كان عشتر (الزهرة) ، ولعلّ الليلة كانت من أواخر الشهر القمري إذ يظهر القمر متأخّرا فبدأ بالكوكب ثمّ قال : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فالليلة كانت من أوائل العشر الأخيرة من الشهر القمري إذ يظهر القمر متأخّرا ثمّ يأفل ولا يبقى حتّى الصباح ، ولمّا بزغت الشمس صباحا (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) ولعلّه بهذا يعترض على تقديمهم للقمر (الأصغر) على الشمس (الأكبر) (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١).

ولعلّ شرك هؤلاء الصابئة البابليّين هو منشأ شرك أهل اليمن ثمّ الحجاز (٢). أمّا الهدهد فطبيعي أنّه إنّما اهتدى إليهم نهارا فوجدهم يسجدون للشمس ، ولم يذكر القمر والزهرة ولم ينفهما.

وقد أشار القرآن الكريم إليها بأسمائها المعينيّة اليمنيّة لدى النزاريّين الحجازيّين مع خمسة آلهة اخرى لهم ، في آيتين من سورتين هما قوله سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ثمّ أشار إلى انوثتهما لديهم فقال : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى)(٣).

والآية الاخرى من سورة نوح وعن لسانه عليه‌السلام (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقالُوا

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

(٢) العصر الجاهلي : ٨٩ لشوقي ضيف.

(٣) النجم : ١٩ ـ ٢١.

١٠٤

لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) ثمّ لم يجعلها إناثا بل ذكّرها في الضمير إليها فقال : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) ثمّ حكى دعاء نوح عليهم قال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً)(١).

إذن فلغة (ودّ) رجعت إلى أقدم من المعينيّين باليمن (أوائل الألف الأوّل ـ ق م) وإلى أقدم من قوم إبراهيم ببابل العراق (أوائل الالف الثالث ق م) إلى ما قبل الطوفان (أوائل الألف الرابع ق م) ومن حيث المكان قرب مكان إبراهيم ببابل العراق في الكوفة (٢) ولذلك نقل الطوسي في «التبيان» عن الضحاك وابن زيد وقتادة عن ابن عباس قال : هذه الاصنام المذكورة كان يعبدها قوم نوح ثمّ عبدتها العرب فيما بعد (٣).

ونقله الطبرسي في «مجمع البيان» وفي تفصيله نقل عن ابن عباس أيضا قال : نحت إبليس خمسة أصنام وحمل الكفّار فيما بين آدم ونوح على عبادتها ، وهي : ودّ وسواع ويعوق ويغوث ونسر. فلمّا كان الطوفان دفن تلك الأصنام وطمّها بالتراب فلم تزل مدفونة ، حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب :

فاتّخذت قضاعة ودّا فعبدوه بدومة الجندل ، توارثوه حتّى صار إلى كلب.

وأخذ بطنان من طيّ يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا ، ثمّ إنّ بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم ففرّوا به إلى بني الحرث بن كعب ، فجاء الإسلام وهو عندهم.

__________________

(١) نوح : ٢١ ـ ٢٤.

(٢) ففي روضة الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : عمل نوح سفينته في مسجد الكوفة ... ثمّ التفت وأشار بيده إلى موضع وقال : وهنا نصبت أصنام قوم نوح : يغوث ويعوق ونسر ـ الميزان ٢٠ ـ ٣٥. وعليه فلعلّ هذه الأسماء سريانية دخلت في المعينية.

(٣) التبيان ١٠ : ١٤١.

١٠٥

وأمّا يعوق فكان لكهلان (اليمن) ثمّ توارثوه حتّى صار إلى همدان (اليمن) فجاء الإسلام وهو فيهم.

وأمّا نسر فكان لخثعم (اليمن) يعبدونه.

وسواع كان لآل ذي الكلاع (الحميري اليمني) يعبدونه (١).

وفي كيفيّة حمل إبليس لأولئك الأوائل على عبادتها روى الصدوق في علل الشرائع بسنده عن الصادق عليه السلام قال : كانوا يعبدون الله فماتوا ، فضجّ قومهم وشقّ ذلك عليهم فجاءهم ابليس فقال لهم : اتخذ لكم أصناماً على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم. فأعدّ لهم أصناماً على مثالهم. فكانوا يعبدون الله وينظرون إلى تلك الاصنام ، فلما جاء الشتاء والامطار أدخلوا الاصنام البيوت ، فلم يزالوا يعبدون الله ، حتّى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا : إنّ آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عزّ وجلّ ، فذلك قوله تبارك وتعالى : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سواعاً) (٢).

أمّا الآيات فقد أشارت إلى أنّ عبادتها كانت مكرا مكره أصحاب الأموال والأولاد ، ولعلّه لاستثمار الضعفاء منهم. ولعلّ في الفصل بين الآلهة وهذه الأصنام في قوله : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا ...) إشارة إلى أنّهم جعلوا هذه الأصنام رموزا للآلهة لا نفسها.

ثمّ نقل الطبرسي عن قتادة قائمة بنسبة أكثر من هذه الأصنام الخمسة إلى قبائل العرب قال :

إنّ أوثان قوم نوح صارت إلى العرب ، فكان ودّ بدومة الجندل. وسواع برهاط لهذيل. وكان يغوث لمراد (اليمن) وكان يعوق لهمدان (اليمن) وكان نسر

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٥٤٧. ونقله السيوطي عن ابن عبّاس أيضا في الدر المنثور.

(٢) علل الشرائع ١ : ١٣ ، ١٤.

١٠٦

لآل ذي الكلاع من حمير (اليمن) وكان اللات لثقيف ، وأمّا العزّى فلسليم وغطفان وجسم ونضر وسعد ، وأمّا مناة فكانت لفديد ، وأمّا أساف ونائلة وهبل فلأهل مكّة : كان اساف حيال الحجر الأسود ، وكانت نائلة حيال الركن اليماني وكان هبل في جوف الكعبة. ونقل عن الواقدي قال : كان ودّ على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر من الطير.

ويقال إنّ اللات كانت صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتا ، وكانت قريش وجميع العرب يعظّمونه وكعبتها هي كعبة الطائف (١) ولذلك نرى في أسمائهم : وهب اللات وعبد شمس.

وكانت مناة ـ آلهة الموت والآجال والأعمار والأقدار ـ صخرة منصوبة على ساحل البحر بين مكّة والمدينة في هذيل وخزاعة ، وكان الأوس والخزرج يحجّون إلى مكّة ويقفون مع الناس المواقف الثلاثة ولكنّهم لا يحلقون رءوسهم ، ولا يرون تمام حجّتهم إلّا أن ينصرفوا إلى مناة فيحلقوا رءوسهم عندها (٢).

وكانت العزّى شجرة بوادي نخلة شرقي مكّة إلى الطائف لغطفان ، حتّى قطعها الإسلام (٣).

ومن ثنويّتهم في وثنيّتهم ما تدلّ عليه معاني : يعوق ويغوث وسواع ، ففي الأخير ما يدلّ على أنّه كان إله الهلاك والشرّ ، وبإزائه يعوق أي يكون عائقا عنه ،

__________________

(١) الأصنام للكلبي : ١٦ والمحبر لابن حبيب : ٣١٥ ومعجم البلدان في اللات.

(٢) الأصنام للكلبي : ١٤ ، والمحبر لابن حبيب : ٣١٦ ، ومعجم البلدان في مناة.

(٣) الأصنام للكلبي : ١٧ ونقل الطبرسي عن مجاهد ٩ : ٢٦٦ ومعجم البلدان في العزّى.

١٠٧

ويغوث أي يغيث منه (١). ولعلّها في أصلها مقتبسة من ثنويّة المجوسيّة ، ولا سيّما أنّهم كانوا يقدّمون قرابين النيران ، ويوقدونها لاستمطار السماء والاستسقاء ، وعند عقد أيمانهم وأحلافهم (٢).

وكان هبل من عقيق أحمر على صورة إنسان ، يده اليمنى من ذهب. والقداح أمامه ، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده فما خرج انتهوا إليه وعملوا به ، ومنه ، فعل عبد المطّلب لذبح ابنه عبد الله. ومنها للزواج ، ومنها للمواليد ، فإذا شكّوا في مولود أهدوا إليه هديّة ثمّ ضربوا بسهام الأزلام (القداح) فإن خرج (الصريح) كان الوليد صريحا في نسبه وأمّا إذا خرج (ملصق) دفعوه (٣).

ومن الأصنام المشهورة : ذو الخلصة ، وهو صنم خثعم وبجيلة وأزد السراة ، وكان صخرة بيضاء عند منقوطة (مروة) منقوش عليها كهيئة التّاج ، وكان في تبالة وله بيت يحجّون إليه (٤) ولا يخفى أنّ تركيب اسم الصنم (ذو الخلصة) يمنيّ وكعبتها هي الكعبة اليمانيّة.

وكان في حاضرة إمارة النبط (ق ٣ م ـ ق ٢ م) في «سلع» كما جاء في التوراة : أو «بطرا» كما هو اسمها لدى اليونان ولعلّه ترجمة يونانيّة لسلع العبريّة أو السريانيّة معبد كبير لصنمهم ذي الشري (٥) إله الخصب والخمر!

__________________

(١) العصر الجاهلي : ٩٠ لشوقي ضيف.

(٢) الحيوان للجاحظ ٤ : ٤٦١ فما بعد.

(٣) الأصنام للكلبي : ٢٨. وسيأتي تفصيل الأزلام في الصفحة : ٩٠.

(٤) الأصنام للكلبي والمحبّر : ٣١٧

(٥) الأصنام للكلبي : ٣٧ ومادّة الشري في لسان العرب وتاج العروس.

١٠٨

وقال الكلبي في كتابه «الأصنام» : واستهترت العرب في عبادة الأصنام ، فمنهم من اتّخذ بيتا ، ومنهم من اتّخذ صنما ، ومن لم يقدر على بناء البيت ولا اتّخاذ الصنم اتّخذ حجرا من الحرم أو ممّا استحسن ثمّ طاف به كطوافه بالبيت ، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتّخذه ربّا وجعل الثلاثة الاخرى أثافي لقدره فإذا ارتحل تركها. وكانوا يذبحون وينحرون عندها ويتقرّبون بذلك إليها (١).

ومن تقديسهم لدماء ذبائحهم القرابين لهياكل الأصنام والأوثان ينصبون لديها أحجارا هي النصب والأنصاب ، يصبّون عليها دماء ذبائحهم التي يتقرّبون بها إلى الهتهم ، فالأنصاب والأزلام كانت من لوازم الأوثان والأصنام في كلام الله تعالى : (وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢).

وكان لها سدنة وحجّاب. وبجانب سدنة البيوت المقدّسة كان هناك كهّان يدّعون أنّه سخّر لهم طائف من الجنّ يسرق لهم السمع فيعرفون منهم ما كتب الله للناس في ألواحهم ، رجالا ونساء.

فممّن عرف من رجالهم : سطيح الذئبي ، وسلمة الخزاعي ، وسواد بن قارب الدوسي ، وشقّ بن مصعب الأغاري ، وعزّى سلمة ، وعوف بن ربيعة الأسدي (٣).

__________________

(١) الأصنام للكلبي : ٣٣.

(٢) المائدة : ٩٠.

(٣) ابن هشام ١ : ١٦ والأغاني ٩ و ١٥ : ٧٠ و ٨٤ ويقال : قيل لسطيح : من أين لك هذا العلم؟ قال : من صاحبي من الجنّ كان استمع أخبار السماء حين كلّم الله موسى في طور سيناء!

١٠٩

ومن الكاهنات : كاهنة ذي الخلصة ، والكاهنة السعديّة ، والكاهنة الشعثاء ، والزرقاء بنت زهير وطريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر (١) وكان قد يلتحق ببعضها بغايا أيضا (٢) ، ويسمّون الذي يخبر الكاهن : الرئي.

ولذلك فهم كانوا يؤمنون بالجنّ ويخافونها ويتعبّدونها ويجعلون بينها وبين الله نسبا ، وإن كانت هي مظاهر الشرّ عندهم ، وكما كانوا يجعلون الملائكة بنات الله وهي مظاهر الخير والرحمة : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(٣) ولعلّها من ثنويّة هؤلاء الوثنيّين متسرّبة إليهم من ثنويّة المجوس أيضا.

صحيح أنّ كثيرا من هؤلاء كانوا يعدّون الجنّ والملك والأرواح والأوثان والأصنام من شفعائهم عند الله كما حكى القرآن الكريم : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)(٤) لكنّها لم تكن للنجاة من النار بل (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)(٥) و (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)(٦).

ذلك أنّهم كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا (حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)(٧) و (قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ

__________________

(١) مجمع الأمثال للميداني ١ : ١٩ و ٢ : ٥٤ وابن هشام ١ : ١٦ في الهامش.

(٢) المحبر : ١٨٤.

(٣) الأنعام : ١٠٠.

(٤) الزمر : ٣.

(٥) مريم : ٨١.

(٦) يس : ٧٤.

(٧) الجاثية : ٢٤.

١١٠

بِمَبْعُوثِينَ)(١) و (ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٢) فلم تكن قرباهم للنجاة من النار.

نعم كان حجّهم الأعظم إلى الكعبة الإبراهيميّة وقد بقي فيهم منه ومن حجّه بعض السنن مزيجا بالبدع الجاهليّة : منها أشهر الحجّ المعلومات الحرم : رجب وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ، فكانت فرصة لبعدائهم عن الأماكن المقدّسة للوصول إليها دون أن تمسّ نذورهم ، فكانوا فيها يتّجرون ويميرون ويقيمون أسواقهم كسوق عكاظ.

ويقول ابن حبيب في «المحبّر» : كانوا يلبّون ، فكانت قريش تقول : لبّيك اللهم لبّيك ، لا شريك لك إلّا شريك هو لك ، تملكه وما ملك. تخاطب إساف.

وكانت تلبيتهم لودّ : لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك معذرة إليك.

وكانت تلبيتهم للّات : لبّيك اللهم لبّيك ، كفى بيتنا بنيّه ، ليس بمهجور ولا بليّه ، لكنّه من تربة زكيّه ، أربابه من صالحي البريّة.

وكانت تلبيتهم للعزّى : لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك وسعديك ما أحبّنا إليك.

وكانت تلبيتهم لذي الخلصة : لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك بما هو أحبّ إليك (٣).

فالحمس من قريش وكنانة وخزاعة يطوفون بثيابهم ، والحلّة يطوفون عرايا.

ويصوّر الأزرقي في كتابه «أخبار مكّة» طواف العريان فيقول : يبدأ بإساف فيستلمه ثمّ يستلم الركن الأسود ، ثمّ يجعل الكعبة عن يمينه ويطوف سبعا فإذا ختم

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.

(٢) يس : ٧٨.

(٣) أخبار مكّة للأزرقي ١ : ١١٤.

١١١

استلم الحطيم أو ركن الحجر الأسود ثمّ استلم نائلة فختم طوافه ، ثمّ يخرج فيجد ثيابه فيلبسها ويمضي (١).

وقد فصّل الكلبي المؤرّخ الشهير المتوفّى في ٢٠٦ ه‍ ديانات العرب قبل الإسلام فقال :

«إنّ حمير كانت تعبد الشمس وكنانة كانت تعبد القمر وقيس كانت تعبد الشعرى ، ولخم كانت تعبد المشتري ، وطيء كانت تعبد نجمة السهيل ، وأسد كانت تعبد العطارد ، وتميم كانت تعبد الدبران ، وبنو مليح كانوا يعبدون الجنّ ، وأكثر العرب الأوثان والأصنام.

وإنّ أوّل من جاء بها إلى مكّة هو : عمرو بن لحيّ ، وكانوا في أوّل أمرهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)(٢) ثمّ رأوا فيهم قوّة دون قدرة الله ، فكانوا يتمسّحون بها إذا أرادوا السفر ، واتّخذوا من أحجار الصحراء أصناما يعبدونها كما يتّخذون عددا آخر منها أثافي لقدورهم. كانوا يرون أنّهم بالقربان للأوثان يجلبون رضاها ، فإذا قرّبوا لها قربانا تلطّخوا بدمائه ، وكانوا يتقاسمون بالأزلام عندها ، وهي سهام اصطلحوا على بعضها أنّها أمر وعلى بعضها الآخر أنّها نهي ، فيعملون كما تخرج لهم ، وقد أصبحت الكعبة بيتا مركزيّا للأوثان أكثر من ثلاثمائة وستّين ، منها اللات والعزّى ومناة ، اللاتي كانت قريش تزعم أنّها بنات الله تعالى فتعبدها واللات بدورها أمّ سائر الآلهة وكان مقرّها بالطائف ، وأمّا مناة فهي ربّ الأعمار والآجال ، ومقرّها بين مكّة والمدينة» (٣).

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) الزمر : ٣.

(٣) الأصنام للكلبي : ٢٢.

١١٢

أزلام العرب :

قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ)(١).

قال القمّي في تفسيره للنصب : إنّ قريشا كانوا يعبدون الصخور فيذبحون لها. و «الأزلام» كانوا يعمدون إلى الجزور فيجزئونه عشرة أجزاء ، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون سهاما عشرة : سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها ، فالتي لها أنصباء هي : الفذّ والتوأم ، والمسبل ، والنافس ، والحلس ، والرقيب ، والمعلّى ؛ فالفذّ له سهم ، والتوأم له سهمان ، والمسبل له ثلاثة أسهم ، والنافس له أربعة أسهم ، والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستّة أسهم ، والمعلّى له سبعة أسهم.

والتي لا أنصباء لها هي : السفح ، والمنيح ، والوغد. وكان ثمن الجزور على من لم يخرج له من الأنصباء شيء. وهذا قمار ، حرّمه الله عزوجل (٢).

وقد عقد اليعقوبي في تأريخه فضلا خاصّا بعنوان «أزلام العرب» قال فيه : «وكانت العرب تستقسم بالأزلام في كلّ امورها ، وهي القداح ، ولا يكون لها سفر ولا مقام ولا معرفة حال إلّا رجعت إلى القداح.

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١٦١ ، ١٦٢ وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٤٤ عن الصادقين عليهما‌السلام. وقال الطوسي في التبيان ٣ : ٤٣٣ : هي سهام كانت للجاهليّة ، مكتوب على بعضها : أمرني ربّي ، وعلى بعضها : نهاني ربّي. فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتمّ به ضربوا تلك القداح ، فإن خرج الأمر مضى لحاجته ، وإن خرج النهي لم يمض ، وإن خرج ما ليس عليه شيء اعادوها. فبيّن الله تعالى أنّ ذلك يحرم العمل به. ونقله في مجمع البيان عن الحسن وجماعة من المفسّرين : مجمع البيان ٣ : ٢٤٤.

١١٣

وكانت القداح سبعة : فواحد عليه «الله عزوجل» والآخر «لكم» والآخر «عليكم» والآخر «نعم» والآخر «منكم» والآخر «من غيركم» والآخر «الوغد».

فكانوا إذا أرادوا أمرا رجعوا إلى القداح فضربوا بها ثمّ عملوا بما تخرج القداح ، لا يتعدّونه ولا يجوزونه. وكان لهم امناء على القداح لا يثقون بغيرهم.

وكانت العرب إذا كان الشتاء ونالهم القحط وقلّت ألبان الإبل استعملوا الميسر بالأزلام ، فضربوا بالقداح وتقامروا عليها إلّا أنّ قداح الميسر عشرة : سبعة منها لها أنصب ، وثلاثة لا أنصب بها. فالسبعة التي لها أنصب يقال لأوّلها «الفذ» وله جزء واحد ، و «التوأم» وله جزءان ، و «الرقيب» وله ثلاثة أجزاء ، و «الحلس» وله أربعة أجزاء ، و «النافس» وله خمسة أجزاء ، والثلاثة التي لا أنصب لها يقال لها : المنيح والسفيح والوغد.

فكانت الجزور تشترى بما بلغت ولا ينقد الثمن ، ثمّ يدعى الجزّار فيقسّمها عشرة أجزاء ، فإذا قسّمت أجزاؤها على السواء أخذ الجزّار الرأس والأرجل ، ثمّ احضرت القداح العشرة ، واجتمع فتيان الحيّ ، فأخذ كلّ فرقة على قدر حالهم ويسارهم وقدر احتمالهم ، فيأخذ الأوّل الفذّ والثاني التوأم وكذلك سائر القداح على ما سمّينا منها.

فإذا عرف كلّ رجل منهم قدحه دفعوا القداح إلى رجل أخسّ لا ينظر إليها معروف أنّه لم يأكل لحما قطّ بثمن ويسمّى «الحرضة» يؤتى «بالمجعول» وهو ثوب شديد البياض فيجعل على يده ، ويعمد إلى «السلفة» وهي قطعة من جراب فيعصّب بها على كفّه لئلّا يجد مسّ قدح يكون له في صاحبه هوى فيخرجه ، ويأتي رجل فيجلس خلف الحرضة يسمّى «الرقيب» ثمّ يفيض الحرضة بالقداح فإذا نشز منها قدح استلّه «الحرضة» فلم ينظر إليه حتّى يدفعه إلى «الرقيب» فإن خرج من الثلاثة الأغفال التي لا نصيب لها ردّ من ساعته ، وإن خرج أوّلا «الفذّ» أخذ

١١٤

صاحبه نصيبه وضربوا بباقي القداح على التسعة الأجزاء الأخر ، فإن خرج التوأم أخذ صاحبه جزءين وضربوا بباقي الأقداح على الثمانية الأجزاء الأخر ، فإن خرج المعلّى أخذ صاحبه نصيبه وهو السبعة الأجزاء التي بقيت.

ووقع غرم ثمن الجزور على من خاب سهمه وهم أربعة : صاحب «الرقيب» و «الحلس» و «النافس» و «المسبل» ولهذه الأقداح ثمانية عشر سهما فيجزّأ الثمن على ثمانية عشر جزءا ويأخذ كلّ واحد من الغرم مثل الذي كان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه.

وإن خرج «المعلّى» أوّل القداح أخذ صاحبه سبعة أجزاء الجزور ، وكان الغرم على أصحاب القداح التي خابت ، واحتاجوا أن ينحروا جزورا اخرى ، لأنّ في قداحهم المسبل ، وله ستّة أجزاء ولم يبق من اللحم إلّا ثلاثة أجزاء. فإن نحروا الجزور الثانية ، وضربوا عليها القداح فخرج «المسبل» أخذ صاحبه ستّة أجزاء الثلاثة الباقية من الجزور الاولى وثلاثة أجزاء من الجزور الثانية ، ولزمه الغرم في الجزور الاولى ولم يلزمه في الثانية شيء لأنّ قدحه قد فاز. وبقي من الجزور الثانية سبعة أجزاء فيضرب عليها بقداح من بقي ، فإن خرج «النفاس» أخذ صاحبه خمسة أجزاء ولم يغرم من ثمن الجزور الثانية شيئا ، لأنّ قدحه قد فاز ، ولزمه الغرم من الاولى وبقي جزءان من اللحم ، وفيما بقي من القداح «الحلس» له أربعة أجزاء ، فيحتاجون أن ينحروا جزورا اخرى لتتمّة أربعة.

وإن نحروا الجزور الثالثة وفاز «الحلس» أخذ صاحبه أربعة أجزاء : جزءين من الجزور الثانية وجزءين من الجزور الثالثة ، ولم يغرم من الجزور الثالثة شيئا فإن قدحه قد فاز ويبقى ثمانية أجزاء من الجزور الثالثة ، فيضرب بباقي القداح عليها حتّى يخرج قداحهم وفقا لأجزاء الجزور ، فهذا حساب غرمهم الثمن.

وربّما كانت أجزاء اللحم موافقة لأجزاء القداح فلا يحتاجون إلى نحر شيء ، وإنّما تنحر الجزور إذا قصرت أجزاء اللحم عن بعض القداح ، فإن عاد بعض من

١١٥

فاز قدحه ثانية فخاب ، غرم من ثمن الجزور التي خاب قدحه منها على هذا الحساب. فإن فضل من أجزاء اللحم شيء وقد خرجت القداح كلّها ، كانت تلك الأجزاء لأهل المسكنة من العشيرة ، فهذا تفسير «الميسر».

وكانوا يفتخرون به ويرون أنّه من فعال الكرم والشرف ، ولهم في هذا أشعار كثيرة يفتخرون بها (١).

اليهود في يثرب والنصارى في نجران والشام :

استولى القيصر الرومي تيتوس على الشام وفلسطين والقدس فهدم هيكل اليهود سنة ٧٠ م ، ثمّ اضطهدهم القيصر هدريان سنة ١٣٢ م ، ففرّ في هذه الأثناء كثير منهم إلى الحجاز وغير قليل منهم إلى اليمن ، أي في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني الميلادي (٢).

ويظنّ أنّ القياصرة الرومان في صراعهم على السلطة أرادوا النفوذ إلى اليمن لبسط سلطانهم على هذه البلاد بما لها من قوافل تجاريّة ، فكان ذلك من أهمّ الأسباب لنفوذ النصرانيّة هناك بالبعثات التبشيريّة المسيحيّة التي كان يشجّعها القياصرة ، ويظنّ أنّ انتشارها في اليمن مبدأ منذ القرن الرابع الميلادي ، ولا نصل إلى العصر الجاهلي (الخامس) حتّى نرى النصرانيّة منتشرة في نجران وغيرها ، ونجران كانت أهمّ مواطنها (٣).

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢٥٩ ـ ٢٦١.

(٢) تاریخ العرب قبل الاسلام : ٦ لجواد علي ، والحياة العربية في الشعر الجاهلي للحوفي : ١٢٦ ـ ١٤٢.

(٣) الحياة الغربية للحوفي : ١٤٢ ـ ١٥٠.

١١٦

ويرى نسّابة العرب أنّ الغساسنة في الشام من أصل يمنيّ ، فهم من عرب الجنوب الذين نزحوا إلى الشمال معها قبائل كثيرة اخرى منها جذام وعاملة وقضاعة وكلب. ويقال إنّهم اصطدموا هناك بعرب من الضجاعمة فتغلّبوا عليهم وسادوا هناك ، ويزعم مؤرّخو العرب أنّ مؤسّس سلالتهم جفنة بن عمرو فهم آل جفنة ، فأقاموا إمارتهم في شرقي الاردن ، وكأنّهم ظلّوا بدوا يرحلون بخيامهم وإبلهم وأنعامهم من مكان إلى مكان في الجابية وجلولاء والجولان وحتّى جلق قرب دمشق ، وقرّبهم الرومان البيزنطيون ومنحوهم ألقابهم واتّخذوهم حاجزا بينهم وبين البدو وغاراتهم ، ومساعدا لهم في حروبهم ضدّ من يؤيّد الفرس من عرب مناذرة الحيرة في العراق.

وليس بأيدينا من الوثائق التأريخيّة ما تبيّن بدقة تأريخ نشأة هذه الإمارة ، إلّا أنّها ظهرت على صفحة التأريخ إثر قضاء الرومان على مملكة تدمر فدمّروها سنة ٢٧٣ م ، ولكنّ تأريخها قبل أواخر القرن الخامس الهجري يحيط به الإبهام والغموض ، وأوّل ملك يمكن الاطمئنان إلى أخباره من الوجهة التأريخيّة هو جبلة الذي غزا فلسطين سنة ٤٩٧ م.

وانتشرت النصرانيّة بين عرب الشام من الغساسنة وعاملة وقضاعة وكلب وجذام ، وكانوا على مذهب المنوفستيين أو اليعاقبة المنسوبين إلى يعقوب البرادعي حوالي الخمسمائة الميلاديّة ، الذي كان يرى للمسيح أقنوما واحدا أي طبيعة بشريّة واحدة غير إلهيّة.

وبكر بن وائل كانوا في ديار بكر فيما بين الشام إلى العراق ويليهم إلى شمال العراق إياد وتغلب ، فنفذت النصرانيّة اليعقوبيّة فيهم أيضا ، بل وتغلغلت في الحيرة قرب الكوفة فسمّوا العباديّين نسبة إلى عبادة الله ، ولكنّهم غير يعاقبة بل نساطرة نسبة إلى نسطوريوس المتوفّى سنة ٤٥٠ م الذي كان يرى أنّ للمسيح أقنومين

١١٧

أي طبيعتين : اللاهوت مع الناسوت ، وحتّى دخل في النصرانيّة أواخرهم : النعمان بن المنذر واخته هند بنت المنذر وبنت ديرا.

وكان في مكّة جوار روميّات (١) وعبدان نصرانيّان من عين تمر بالعراق (٢) ورقيق حبشي نصراني كثير ، وفي الطائف عداس النصراني من نينوى في شمال العراق ، وتنصّر في مكّة قوم قبيل الإسلام منهم عتبة بن أبي لهب ، وعثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل (٣).

وفي أواخر القرن السادس الميلادي استطاع يهود اليمن أن يؤثّروا في ذي نؤاس ملك اليمن ، وربّما كان السبب الحقيقي لاستجابته لليهود أنّهم خوّفوه من تغلغل النصرانيّة في بلاده وبذلك تفتح أبواب اليمن لنصارى الحبشة من دون مقاومة ، فأدخلوه في دينهم ، ثمّ انتقموا به من النصارى فدفعوه إلى التنكيل بنصارى نجران وتحريقهم بالنار في ما حفروه لهم من حفر الاخدود في الأرض ، وإذ كانت النصرانيّة يومئذ أحقّ من اليهوديّة قال الله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٤) وانتقم نصارى الحبشة لإخوانهم فأزالوا دولة ذي نؤاس سنة ٥٢٥ م بقيادة أبرهة ، وظلّوا هناك خمسين عاما.

فدعمت النصرانيّة واعتنقها كثيرون وبنيت لها كنائس في أكثر من بلد من أشهرها كنيسة نجران أنشأها أبرهة كما أنشأ كنائس كثيرة في مدن اليمن ، واهتم بزينتها وزخرفتها. ومن أشهرها القليس في صنعاء ، والكلمة تعريب لكلمة الكليسة

__________________

(١) اسد الغابة ١ : ٣٨٧.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢١٣ ـ ٢٢٠.

(٣) تأريخ اليعقوبي ١ : ٢٥٧ ، طبعة بيروت.

(٤) البروج : ٤ ـ ٨.

١١٨

اليونانيّة ، فيقال : إنّه نقشها بالذهب والفضّة والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر ، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزّع والحجارة المنقوشة بالذهب ، ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضّة ومنابر من الآبنوس والعاج (١) وقد حوّلها المسلمون إلى مسجد لا يزال اليوم قائما (٢).

وكانت هذه الفترة سببا في خروج اليهود من اليمن وتفرّقهم في البلاد ، وبقي منهم جماعة حتّى دخل الإسلام فدخلوا فيه ، منهم كعب الأحبار ووهب بن منبّه.

وأهمّ من يهود اليمن يهود الحجاز ، وكانوا قبائل وجماعات كثيرة انتشرت في واحات الحجاز : يثرب وخيبر ووادي القرى وتيماء ، وكان في يثرب منهم عشائر كثيرة أهمّها : بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع وبنو تهدل ، وقد نزل بينهم الأوس والخزرج وثنيين.

من سنن الجاهلية في الإبل والغنم :

البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ... وقد جاء في القرآن الكريم عنها : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٣).

وروى العيّاشىّ في تفسيره لها عن الامام الصادق عليه‌السلام قال :

إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن قالوا : وصلت ، فلا يستحلّون ذبحها ولا اكلها ، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة فلا يستحلون

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ : ١٩٣.

(٢) العصر الجاهلي لشوقي ضيف : ٩٧ ـ ١٠٠.

(٣) المائدة : ١٠٣.

١١٩

اكلها ولا ظهرها. والحامي : فحل الابل ، لم يكونوا يستحلون (اكله) فأنزل الله أنه لم يحرّم شيئا من هذا (١).

ونقل الشيخ الطوسي في «التبيان» عن محمد بن اسحاق قال :

الوصيلة : هي الشاة اذا ولدت عشر اناث متتابعات في خمسة أبطن ، كل بطن توأم اناث ليس فيها ذكر ، قالوا : قد وصلت ، وجعلوها وصيلة ، وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث!

والسائبة : هي الناقة اذا تابعت بين عشر اناث ليس فيهن ذكر ، سيّبت فلم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف.

والبحيرة : هي ما نتجت السائبة بعد ذلك من انثى شقّ اذنها ثم خلّي سبيلها مع امها ، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف (٢).

ونقل عن أهل اللغة قالوا : الوصيلة : هي الشاة كانت إذا ولدت انثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم ، وإذا ولدت ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوه لآلهتهم.

وفي البحيرة : قال : كانوا في الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا ، بحروا اذنها أي شقّوها ، وامتنعوا من ركوبها وذبحها ، ولم تطرد عن رعي ولا ماء.

وفي السائبة : قال : كانوا في الجاهلية اذا نذر أحدهم لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في التخلية (٣).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٤٧.

(٢) التبيان ٤ : ٣٨ وعن ابن اسحاق في السيرة ١ : ٩١.

(٣) التبيان ٤ : ٣٨.

١٢٠