عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٠٣

حتى القصعة والقصيعة (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي المسميات بتذكير الضمير تغليبا للعقلاء المذكرين ، والعرض إظهار الشيء للغير ليعرف العارض منه حاله (عَلَى الْمَلائِكَةِ) ليظهر فضل آدم وقصورهم (فَقالَ أَنْبِئُونِي) أي أخبروني (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) المخلوقات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٣١] أني لا أخلق أكرم منكم ، وفيه دليل على فضل العلم ، إذ لو كان في الوجود شيء أشرف من العلم لكان الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم ، ودليل أيضا على أن الأنبياء أفضل من الملائكة.

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢))

فثم أظهروا عجزهم بأن (قالُوا سُبْحانَكَ) أي ننزهك تنزيها عن كل ما لا يليق بعظمتك ، نصب على المصدر اللازم الإضافة (لا عِلْمَ لَنا) بشيء (إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) أي علم ما ألهمتنا به ، يعني تبنا إليك من مقالتنا (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بكل شيء (الْحَكِيمُ) [٣٢] في أمرك وصنعك بجعل خليفة في الأرض بدلا منا لحكمة تعلمها ، و (الْحَكِيمُ)(١) : هو الذي يفعل ويحكم على وفق علمه ، وأصل الحكمة المنع ، ومنه حكمة الدابة ، ولما لم يجيبوا عما سأله الله لعجزهم.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أي أخبرهم (بِأَسْمائِهِمْ) أي بأسماء الموجودات ، (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) أي أخبرهم (بِأَسْمائِهِمْ) وأخبرهم عن منافعها وما يحل الأكل وما يحرم منها (قالَ) الله تعالى تقريرا لعلمه الأزلي (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي سرهما وسر أهلهما وكل ما فيهما (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي الذي تظهرون (٢) فيما بينكم حين قال إبليس لكم ما ذا ترون إن أمرتم بطاعة آدم ، فقلتم نطيع أمر ربنا (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [٣٣] أي الذي تسرون ، وهو الذي أسر إبليس في نفسه من قوله : لئن فضلت عليه لأهلكنه ولئن فضل علي لأعصينه.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

(وَإِذْ قُلْنا) أي اذكر لهم وقت قولنا (لِلْمَلائِكَةِ) أي لجميع الحاضرين منهم (اسْجُدُوا) أي خروا (لِآدَمَ) أي إليه ، لأن السجود لله حقيقة للعباد ، ولآدم تكرمة ظاهرا كالصلوة إلى الكعبة ، والسجود الميل في اللغة ، قيل : لم يكن ثمه وضع الجبهة على الأرض ، إنما كان مجرد الانحناء (٣) ، وقيل (٤) : أنه تعالى أمر جبريل أن يجمع التراب ليخلق آدم ، فنزل على الأرض ليقبض التراب منها فقالت بحق الله عليك أن لا تفعل ، فاني أخاف وأستحيي من ربي أن يعصي علي ، فرجع جبريل وأخبر بذلك ربه ، فبعث ميكائيل فتضرعت مثل ذلك ، ثم بعث إسرافيل فتضرعت كذلك ، ثم بعث عزرائيل فتضرعت إليه فقال أمر الله أولى من قولك ، فجمع التراب من وجه الأرض من كل لون ومن الطيبة والسبخة ، ثم صعد إلى السماء ، فقال الله لعزرائيل : أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك؟ فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها ، فقال : أنت أصلح لقبض أرواح ولد آدم ، فصار ذلك التراب طينا ، ثم صار صلصالا أربعين سنة (٥) ، فلما سواه ونفخ فيه الروح أمر الملائكة أن يسجدوا له

__________________

(١) الحكيم ، ب م : ـ س.

(٢) تظهرون ، ب س : يظهرون ، م.

(٣) نقله عن البغوي ، ١ / ٦٥.

(٤) وقيل ، س م : وروي ، ب.

(٥) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ١٠٨. وقال ابن كثير بعد ما نقل هذه الرواية في تفسيره : «فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة ، فلعل بعضها مدرج ، ليس من كلام الصحابة أو أنهم أخذوه من بعض كتب المتقدمة والله أعلم ، انظر ابن كثير ، أبو الفداء إسماعيل عماد الدين بن عمر ، تفسير القرآن العظيم (تحقيق : محمد إبراهيم البنا ، محمد أحمد عاشور ، عبد العزيز غنيم) ، إسطنبول ، ١٩٨٤ ، ١ / ١١٠ ؛ وانظر أيضا البداية والنهاية (دقق أصوله وحققه : دكتور أحمد ملحم ، دكتور علي نجيب عطوي ، الأستاذ فؤاد السيد ، الأستاذ مهدي ناصر الدين الأستاذ علي عبد الساتر) لابن كثير ، بيروت ـ لبنان ، دار الكتب العلمية ، ١ / ٨٠.

٤١

سجدة التحية (١)(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية ، وقيل : عربي من الإبلاس بمعنى الإياس (٢) ، وإنما (٣) لم ينصرف للعلمية (٤) وعدم النظير له (٥) ، والاستثناء منقطع إن لم يكن من جنس الكلام وإلا فمتصل (أَبى) أي امتنع من السجود (وَاسْتَكْبَرَ) أي تعظم وأظهر كبره (وَكانَ) أي صار (مِنَ الْكافِرِينَ) [٣٤] بعد أن لم يكن كافرا ، وقيل : كان في علم الله منهم وهذا القول جبري ، والأول سني (٦).

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥))

ثم أمر الله الملائكة أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى السماء ، فأدخلوه الجنة ، ثم خلق من ضلعه اليسرى وآدم بين النوم واليقظة حواء زوجته ، فاستيقظ فرآها عنده فقال من أنت؟ فقالت : أنا زوجتك ، خلقني ربي لأسكن إليك وتسكن إلي (٧).

فأخبر تعالى عن ذلك بقوله (وَقُلْنا) لآدم (يا آدَمُ اسْكُنْ) أي اثبت (أَنْتَ وَزَوْجُكَ) حواء (الْجَنَّةَ) أي بستان الخلد ، قيل : هي في السماء السابعة (٨) ، والزوج يطلق على الذكر والأنثى ، وقد يلحقه تاء التأنيث للمرأة ، وسميت حواء ، لأنها خلقت من الحي (وَكُلا مِنْها) أي من الجنة (رَغَداً) أي أكلا واسعا طيبا بلا فوت وتقدير وتقتير (حَيْثُ شِئْتُما) أي من أي مكان أردتما بلا ضيق عليكما (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل ، وليس النهي عن الدنو بل عن الأكل ، أي لا تأكلا منها ، وإلا لضم الراء ، لأن الضم يختص بالدنو ، قيل : إنها شجرة القمح (٩) أو شجرة الكرم (١٠) أو شجرة التين (١١) ، والسر في النهي أنه خلقه من أرض الدنيا ليسكن فيها فامتحنه بذلك كما يمتحن نسله في الدنيا بالحلال والحرام للآخرة (١٢) ، المعنى : أني أبحتكما السكون في الجنة والأكل من كل شجرة منها إلا هذه الشجرة ، فلا تأكلا منها شيئا (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [٣٥] أي الضارين بأنفسكما بمخالفة أمري ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، والفعل مجزوم عطف على (تَقْرَبا) أو منصوب في جواب النهي.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦))

روي : أن إبليس لما رآى آدم وحواء سكنا الجنة وأحباها لنعيمها حسدهما واحتال لإخراجهما منها ، فعرض إبليس نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فامتنعت حتى أتى الحية ، وكانت هي أحسن دابة خلقا في الجنة ، فأطاعته فدخل في فمها وقام في رأسها وأتى باب الجنة وناداهما وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن يكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ، وهذه الشجرة شجرة الخلد ، من أكل منها يبقى في الجنة أبدا ، فأبى آدم من ذلك فقاسمهما بالله أنه ناصح لهما ، فأكلت حواء ثم ناولت آدم ، فكان يحبها فكره أن يخالفها ، وكان آدم يقول لها لا تفعلي أني أخاف من العقوبة ، وكانت حواء تقول : إن رحمة الله

__________________

(١) أن يسجدوا له سجدة التحية ، ب س : أن تسجدوا إليه بسجدة التحية ، م.

(٢) أخذ هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ١١٠.

(٣) بمعني الإياس وإنما ، ب : بمعنى اليائس فانما ، م.

(٤) للعلمية ، م : بالعلمية ، ب س.

(٥) وقيل عربي من الإبلاس بمعنى الإياس وإنما لم ينصرف للعلمية وعدم النظير له ، ب م : ـ س.

(٦) نقله عن السمرقندي ، ١ / ١١٠.

(٧) وهذه الرواية من الإسرائيليات ، لأنها موجودة في التورية ، انظر تكوين ، ٢ / ٢١ ـ ٢٣.

(٨) وهذا القول للجبائي ، انظر فخر الدين الرازي ، مفاتيح الغيب ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩٠ م ، ٣ / ٤.

(٩) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ١١١.

(١٠) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ١١١.

(١١) عن قتادة ، انظر السمرقندي ، ١ / ١١١.

(١٢) وقال ابن عطية : «وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها». انظر القرطبي ، ١ / ٣٠٥. وقال ابن كثير في تفسيره : «وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به ، والله أعلم». انظر تفسير القرآن العظيم ، ١ / ١١٤.

٤٢

واسعة ، فأخذ من يدها فأكل بعد امتناع (١) ، فأخبر تعالى بقوله (فَأَزَلَّهُمَا) أي أذهبهما (الشَّيْطانُ عَنْها) أي عن الجنة ، وقريء «فأزالهما» (٢) أي نحاهما (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم ، وسقط عنهما ما كان عليهما من الحلل والحلي ، وعريا عن الثياب حتى بدت عورتهما ، وهربا استحياء ، فقال تعالى : أمني تهرب يا آدم : قال لا ولكن حياء من ذنبي ، فأخذا من أوراق التين وألزقا على عوراتهما ، وقال : ألم أنهكما (٣) عن أكل هذه الشجرة؟ فقال : بلى ولكن ما كنت أعلم أن أحدا يحلف بك كاذبا ثم أمرهما الله بأن ينزلا من الجنة إلى الأرض ، فنزلا فوقع آدم بأرض الهند وحواء بأرض الجد (٤) ، وأخبر عن ذلك بقوله (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) أي أنزلوا استخفافا بكم ، والمراد بالخطاب لهما ولإبليس والحية ، وقيل : لهما ولذرياتهما (٥) ، ويدل عليه قوله تعالى في سورة طه (اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً)(٦)(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي أعداء ، والجملة حال ، أي متعادين ، وفسرت العداوة بالعداوة بين المؤمنين وإبليس أو بالتي بين ذرية آدم من ظلم بعضهم بعضا بشؤم عصيان آدم (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مكان قرار على وجهها (وَمَتاعٌ) أي عيش وحيوة (إِلى حِينٍ) [٣٦] أي إلى الموت ، فان قيل (٧) : كيف توصل الشيطان إلى إزلالهما عن الجنة وقد قيل له أخرج منها فانك رجيم؟ أجيب بأنه منع دخولها على جهة الإهانة ، فلم يلزم منه وجوب الخروج ، فجاز أن يدخل فيها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

(فَتَلَقَّى) أي أخذ وحفظ ، وأصل التلقي القبول عن فهم وفطنة (آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) وهي قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)(٨) الآية ، قرئ (٩) برفع «آدم» ونصب «كلمات» مفعولا ، وبنصب «آدم» ورفع «كلمات» على معنى استقبلته كلمات من ربه واتصلت به ، يعني ألهمه بها فاعتذر وتضرع إليه باكيا طالبا منه التوبة (فَتابَ عَلَيْهِ) أي تجاوز الله عن ذنوبه ، والتوب : الرجوع في الأصل (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) أي المتجاوز عن الذنوب مرة بعد أخرى وإن كثر (الرَّحِيمُ) [٣٧] أي كثير الرحمة لعباده المؤمنين.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

وكرر أمر الهبوط بقوله (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) لشدة عنايته تعالى بانزالهم من الجنة ، و «جميعا» نصب على الحال من ضمير الجمع ، تأكيد (١٠) للجماعة من آدم وحواء وإبليس والحية ، قيل : نزل إبليس بالابلة والحية باصفهان (١١) ، ودلت الآية على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها كما قال القائل «إذا كنت في نعمة فارعها فان المعاصي تزيل النعم» (١٢) ، ثم قال (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) أي إن يجئكم (مِنِّي هُدىً) أي رشد وبيان شريعة بارسال الرسل ، فقوله (فَإِمَّا) شرط مركب من «إن» و «ما» زائدة للتأكيد ، وجوابه (فَمَنْ تَبِعَ) أي انقاد واقتدي

__________________

(١) مصدر هذه الرواية التورية ، انظر تكوين ، ٣ / ١ ـ ١٥. وقال فخر الدين الرازي في تفسيره : «واعلم أن هذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه ، لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يدخل الجنة ، ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة». انظر مفاتيح الغيب ، ٣ / ١٥.

(٢) «فأزلهما» : قرأ حمزة بزيادة ألف بعد الزاي وتخفيف اللام ، والباقون بحذف الألف وتشديد اللام ولحمزة وقفا تحقيق الهمزة وتسهيلها. البدور الزاهرة ، ٣٠.

(٣) أنهكما ، ب م : أنهيكما ، س.

(٤) نقل المؤلف هذه القصة عن السمرقندي ، ١ / ١١١ ، ١١٢.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ١ / ٦٤.

(٦) طه (٢٠) ، ١٣٣.

(٧) فان قيل ، س م : قيل ، ب.

(٨) الأعراف (٧) ، ٢٣.

(٩) «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» : قرأ ابن كثير بنصب «آدم» ورفع «كلمات» ، والباقون برفع «آدم» ونصب «كلمات» بالكسر الظاهرة ، لأنه جمع مؤنث سالم. البدور الزاهرة ، ٣٠.

(١٠) تأكيد ، س م : تأكيدا ، ب.

(١١) نقله عن البغوي ، ١ / ٦٩.

(١٢) انظر السمرقندي ١ / ١١٣.

٤٣

(هُدايَ) أي شريعتي ورسلي (١) ، وجواب «من» (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في المستقبل من العذاب ، والخوف ضد الأمن ، وهو عدم توقع مكروه في الزمان الآتي (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [٣٨] على ما خلفوا من أمر الدنيا ، والحزن ضد الفرح ، وهو غلظ السرور ، فبعد وعده للمؤمنين (٢) أوعد الكافرين فقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي أنكروا برسلي (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بشريعتي معهم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) في الآخرة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) [٣٩] أي دائمون ، لا يموتون فيها ولا منها يخرجون.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠))

ثم خاطب اليهود الذين كانوا في حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وغيرهم ، وكانوا من أولاد يعقوب وقال (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو يعقوب (اذْكُرُوا) أي اشكروا أو احفظوا (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) والإنعام : الإحسان إلى الحيوان الناطق كبيرا كان أو صغيرا لا غير ، فلا يقال : أحسنت إلى فرس فلان ، والمراد منه : الإحسان بارسال الرسول المبشر به في التورية والإنجيل إليهم مع الإحسان الواصل إلى أجدادهم من إغراق أعدائهم فرعون وقومه القبط في البحر ، ومن إنزال المن والسلوى في التيه عليهم وغير ذلك ، لأن المنة على الآباء منة على الأولاد (وَأَوْفُوا) أي أتموا ولا تتركوا (بِعَهْدِي) أي الميثاق الذي عاهدتموني عليه بامتثال أمري والإيمان بمحمد عليه‌السلام ، والعهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا فحالا ، والمراد منه : الموثق بين المعاهد والمعاهد ، والعهد الوصية ، يقال : عهد فلان إلى فلان بشيء ، أي أوصاه بحفظه (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي أتمم الذي قلت لكم من الجزاء وهو الجنة ، فالعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا (وَإِيَّايَ) ارهبوا (فَارْهَبُونِ) [٤٠] أي فاخشوني من نقض العهد ، حذف الياء وأقيم الكسر مقامه ، والفاء في جواب شرط محذوف ، أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبوني ، روي : «أن الله تعالى عهد في التورية بني إسرائل أني باعث نبيا أميا من بني إسمعيل ، فمن صدقه واتبعه غفرت له ذنوبه وأدخلته الجنة وأعطيه أجرين أجر اتباع موسى وأجر اتباع محمد عليهما‌السلام». (٣)

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١))

(وَآمِنُوا) أي صدقوا (بِما أَنْزَلْتُ) أي بالقرآن (مُصَدِّقاً) أي موافقا (لِما مَعَكُمْ) أي لما في كتابكم التورية من النبوة والتوحيد وأخبار محمد عليه‌السلام (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي أول فريق يكفر بالقرآن عند هذا الخطاب بالإيمان أو الضمير لمحمد (٤) ، أي لا يكونوا أول من كفر بمحمد لقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)(٥) أو تقديره : مثل أول كافر به ، يعني من أشرك به من أهل مكة وأنتم تعرفونه في التورية موصوفا (وَلا تَشْتَرُوا) أي لا تستبدلوا (بِآياتِي) أي بالقرآن والإيمان ومحمد (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عرضا يسيرا من الدنيا ، وإنما وصفه بالقلة ، لأن الدنيا كلها قليل ، قيل : كان أحبار اليهود كابن الأشرف وأصحابه من علمائهم ينالون من أتباعهم وسفلة قومهم وظائف ومئاكل وكانت لهم رياسة عندهم ، يخافون أن يذهب وظائفهم ورياستهم ، لو آمنوا بمحمد وأتبعوه وهم عارفون صفته وصدقه (٦) ، فخوفهم الله بقوله (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [٤١] أي اخشوني في آياتي ومحمد عليه‌السلام ، والتقوى : حفظ النفس عما يؤثمها ، وهنا بمعنى الخوف والخشية ، يعني من كفر به أدخلته النار.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢))

(وَلا تَلْبِسُوا) أي لا تخلطوا (الْحَقَّ) الذي تعرفونه من صفة محمد عليه‌السلام (بِالْباطِلِ) الذي تكتبونه في

__________________

(١) ورسلي ، س م : ـ ب.

(٢) للمؤمنين ، س م : المؤمنين ، ب.

(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ١١٤.

(٤) لمحمد ، س م : بمحمد ، ب.

(٥) البقرة (٢) ، ٨٩.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١١٤.

٤٤

التورية وتسترونه فيها بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر لقولهم إنه حق (١) ، فالباء للصلة التي يقتضيها (٢) الفعل أو لا تجعلوا الحق ذا لبس واشتباه (٣) بباطل تكتبونه بأيديهم في التورية فالباء (٤) للاستعانة ، قيل : إنهم أقروا ببعض صفته وأنكروا بعضها بالتحريف ليلبسوا الحق (٥) على الناس بذلك فلا يؤمنوا به (٦).

قوله (وَتَكْتُمُوا) جزم عطف على (تَلْبِسُوا) أي لا تستروا (الْحَقَّ) أي صفة محمد عليه‌السلام (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٤٢] أنه رسول الله رب العالمين ، ويجوز أن يكون منصوبا باضمار أن بعد الواو بمعنى الجمع ، أي ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ، والفرق بين النهيين : أن لبس الحق بالباطل كتابتهم الباطل في التورية ليظنوا أنه حق ، فهو الخلط ، وكتمانهم الحق قولهم : لا نجد نعت محمد في التورية والحال أن ذلك ثابت فيها أو حكم كذا فيها. (٧)

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي صلوا الصلوات الخمس بشروطها وأديموها (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوا المفروضة في أموالكم ، وأدوه إلى مستحقيها (٨) ، و «الزكوة» : زيادة من المال (٩) ببركة من الله (وَارْكَعُوا) أي صلوا صلوة ذات ركوع (مَعَ الرَّاكِعِينَ) [٤٣] أي مع المصلين ، وإنما أمرهم بذلك ، لأن اليهود لم يكن في صلوتهم ركوع ، وكانوا يصلون فرادى ، فحث المسلمين منهم أن يصلوا مع أصحاب محمد عليه‌السلام في الجماعات أو أمرهم أن يصلوا مع المصلين إلى الكعبة.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤))

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) الهمزة فيه للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم ، أي أتأمرونهم (بِالْبِرِّ) أي بالخير ، وهو الاتباع لمحمد (١٠) والإيمان به (وَتَنْسَوْنَ) أي تتركون (أَنْفُسَكُمْ) فلا تتبعونه مخافة أن يذهب منافعكم ، والنسيان والسهو أخوان في الترك ، لكن النسيان : ما غاب بعد حضوره ، والسهو أعم ، نزلت الآية في شأن أحبار اليهود الذين يقولون لحليفهم الذي أسلم ، وسألهم عن رسول الله في السر أثبت على دين محمد ، فان أمره حق ودينه صدق (١١) ، فوبخهم الله تعالى بقوله (أَتَأْمُرُونَ) الخلق بالمعروف وتتركون أنفسكم (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي تقرؤن التورية وفيها صفته عليه‌السلام (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [٤٤] أي أفلا تعلمون بقوة العقل أنه حق فتتبعونه وهو جوهر متهيء للعلم ، وأصله المنع ، سمي به لمنعه من الشر ، وفيه توبيخ على ترك الفعل لا على الأمر به لكون الأمر بالفعل الحسن حسنا على كل حال ، قيل : اطلع ناس من أهل الجنة على ناس من أهل النار ، فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بالخيرات فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمر بها ونخالف إلى غيرها (١٢) ، وفيه دليل على أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعا إليه ، ومن نهي عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥))

(وَاسْتَعِينُوا) أي اطلبوا النصرة على حوائجكم إلى الله (بِالصَّبْرِ) على أداء الفرائض ومشاق العباد (وَالصَّلاةِ) أي بأدائها مع ما يجب فيها من إخلاص القلب وحفظ النية ودفع الوساوس ومراعات الآداب (وَإِنَّها) أي

__________________

(١) لقولكم إنه حق ، م : لقولهم إنه حق ، س ، ـ ب.

(٢) يقتضيها ، س : تقتضيها ، ب م.

(٣) واشتباه ، ب س : وشبهة ، م.

(٤) فالباء ، ب م : والباء ، س.

(٥) الحق ، ب م : ـ س.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١١٤ ، ١١٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٧٣.

(٧) لا نجد نعت محمد في التورية والحال أن ذلك ثابت فيها أو حكم كذا فيها ، م : لا نجد نعت محمد في التورية أو حكم كذا فيها والحال أن ذلك ثابت فيها ، ب س.

(٨) مستحقيها ، س م : مستحقيه ، ب.

(٩) من المال ، ب م : في المال ، س.

(١٠) لمحمد ، س م : بمحمد ، ب.

(١١) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ١ / ١١٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢١ (عن ابن عباس) ؛ والبغوي ، ١ / ٧٤.

(١٢) عن محمد بن واسع ، انظر الكشاف ، ١ / ٦٦.

٤٥

الصلوة الكاملة (لَكَبِيرَةٌ) أي لشاقة عظيمة ، من كبر الشيء إذا عظم (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [٤٥] أي الخائفين المتواضعين ، والخشوع السكون من الخوف وأكثر استعماله في الجوارح.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي يستيقنون ويعلمون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي معاينوه بعد الموت يوم القيامة ، والظن : ترجيح أحد النقيضين واستعمل في اليقين والشك (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ) أي إلى ربهم (راجِعُونَ) [٤٦] أي صائرون بعد البعث للحساب والجزاء ، المعنى : أن الصلوة ثقيلة في نفسها ، لكنها لم تثقل على الخاشعين لتوقعهم ما ادخر الله لهم من الثواب يوم القيامة ، وثقلت على غيرهم ، لأنهم لا يتوقعون ثوابها.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧))

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا) أي اشكروا (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بانزال المن والسلوى وغيرهما (وَ) اذكروا (أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) أي ميزتكم بالتكرمة (عَلَى الْعالَمِينَ) [٤٧] أي على عالمي زمانكم ، يجعل الأنبياء فيكم وجعلكم ملوكا بعد إن كنتم مماليك في يد فرعون ، ويحصل تفضيل الأولاد بتفضيل الآباء.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

(وَاتَّقُوا) أي اخشوا (يَوْماً) أي عذاب يوم (لا تَجْزِي) أي لا تؤدي فيه (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي شيئا ما من الحقوق التي لزمت عليها وهو نزل حين كانت اليهود يقولون نحن من ولد إبراهيم خليل الرحمن ومن ولد إسحق ذبيح الله ردا عليهم ، يعني لا ينفع في ذلك اليوم نفس مؤمنة عن نفس كافرة نفعا ما (وَلا يُقْبَلُ) بالتاء والياء (١)(مِنْها) أي من النفس الأولى (شَفاعَةٌ) إن شفعت للنفس الثانية عند الله لتخليصها من عذابه (وَلا يُؤْخَذُ) أي لا يقبل (مِنْها) أي من المشفوع لها (عَدْلٌ) أي فداء من مال أو رجل مكانها أو توبة ، وأصل العدل المعادلة وهي المماثلة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [٤٨] أي لا يمنعون من العذاب ، والضمير فيه يرجع إلى معنى الجمع المستفاد من تنكير النفس الواقعة في سياق النفي ، وهو النفوس الكثيرة.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩))

قوله (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) عطف على اذكروا ، أي اذكروا وقت أنجيناكم بانجاء آبائكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي من أهل القبط ، وهو مختص بالأشراف ، وفرعون علم لمن ملك أولاد عمليق بن عاد (يَسُومُونَكُمْ) أي يطلبون لكم (سُوءَ الْعَذابِ) أي يعذبونكم أشده في محل النصب على الحال ، يعني سائمين السوء ، والسوم في الأصل الذهاب في ابتغاء الشيء ، والسوء قبح الشيء (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) بيان لقوله (يَسُومُونَكُمْ) ، ولذلك ترك العطف ، أي يقتلونهم (وَيَسْتَحْيُونَ) أي يتركون (نِساءَكُمْ) طلبا لحيوتهن للاستخدام والسبب الذي حمل فرعون على ذلك أنه رآى في منامه نارا تخرج من بيت المقدس تحرق جميع القبط ولم تضر باسرائلي ، وسأل الكهنة عن ذلك ، فقالوا له يولد في بني إسرائيل مولود ، هلاكك في يده ، فأمر بذبح كل ذكر يولد في بني إسرائيل ، فكثر الذبح فأمر بذبحهم سنة وتركهم سنة ، فولد هرون في سنة لا ذبح فيها وموسى في سنة فيها ذبح (وَفِي ذلِكُمْ) أي في السوم وما لحق به من الذبح والاستخدام ، وفي الإنجاء منه (بَلاءٌ) أي امتحان ، مصدر ، يستعمل بمعنى النعمة وبمعنى البلية (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [٤٩] يعني ذلك اختبار من سيدكم كبير علي النعمة بالشكر وعلى الشدة بالصبر.

__________________

(١) «ولا يقبل» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالتاء الفوقية علي التأنيث ، والباقون بالياء التحتية على التذكير. انظر البدور الزاهرة ، ٣٢.

٤٦

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))

(وَ) اذكروا (إِذْ فَرَقْنا) إذ فصلنا يمينا وشمالا (بِكُمُ) أي بسببكم (الْبَحْرَ) وهو إساف ، بحر من بحار مصر أو بحر قلزم (فَأَنْجَيْناكُمْ) من الغرق (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أي نفسه وجيوشه (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [٥٠] إليهم غرقى وموتى حين رماهم البحر إلى الساحل بعد خروجكم منه سالمين مع موسى ، روي : أن موسى خرج مع بني إسرائيل من مصر ثم خرج فرعون مع قومه من مصر في طلبهم ، فلما انتهوا إلى البحر ضرب موسى عصاه عليه ، فانفلق اثني عشر مسلكا ، فأرسل الله عليه ريحا فصار يابسا ، فدخله بنو إسرائيل فلم ير بعضهم بعضا ، فخافوا عند ذلك فصار في الماء كوى يرى بعضهم بعضا ، فلما جاوزوا البحر دخل فيه فرعون وقومه ، فغيشهم البحر فغرقوا فيه أجمعون (١) ، وفيه تهديد للكافرين ليؤمنوا ، وتنبيه للمؤمنين ليتعظوا وينتهوا عن المعاصي.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١))

(وَإِذْ واعَدْنا) بألف وبغير ألف (٢) بمعنى واحد ، ويجوز أن يكون المواعدة بين الله بالوحي وبين موسى بالوفاء (٣) ، أي اذكروا وقت وعدنا (مُوسى) أن ننزل عليه التورية بعد هلاك فرعون وقومه ودخول بني إسرائيل مصر ولم يكن لهم شريعة يعملون بها وضرب له ميقاتا (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي تمامها ، ونصب «ليلة» بالتمييز ، وذكرها لأن الليلة أول الشهر والأربعون ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة ، وجعل الميعاد بالطور ، فذهب موسى إلى المناجاة واستخلف عليهم هرون ، وعد بنو إسرائيل بعد مضي العشرين من الوعد اليوم مع الليلة يومين إلى تمام العشرين ، وقالوا قد تم أربعون ولم يرجع موسى إلينا ، فقد خالفنا ، وقال السامري : هاتوا الحلي التي استعرتم من نساء فرعون بعلة عرس حتى نحرق ، فلعل الله يرد علينا موسى ، فجمعوها وكان السامري صائغا ، فاتخذ منها عجلا وقد كان قبل ذلك رأى جبرائيل على فرس الحيوة كلما وضع حافره احضر فرفع من تحت سنبكه قبضة من التراب وألقى في العجل فصار جسدا له خوار ، أي صوت كصوت العجل ، قيل : فيه حيوة (٤) ، وقيل : «دخل الريح في جوفه من خلفه وخرج من فيه كهيئة الخوار» (٥) ، فقال للقوم : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ)(٦) ، أي أخطأ موسى الطريق هنا وذهب (٧) يطلبه فأقبلوا كلهم على عبادة العجل إلا هرون مع اثنى عشر ألفا (٨) ، فوبخهم الله تعالى بقوله (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ذهاب

__________________

(١) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١١٧.

(٢) «واعَدْنا» : قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب بحذف الألف بعد الواو ، والباقون باثباته. انظر البدور الزاهرة ، ٣٢.

(٣) بين الله بالوحي وبين موسي بالوفاء ، ب س : من الله بالوحي ومن موسي بالوفاء ، م.

(٤) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ١١٩.

(٥) عن علي ، انظر السمرقندي ، ١ / ١١٩.

(٦) طه (٢٠) ، ٨٨.

(٧) هنا وذهب ، ب م : هنا هو ذهب ، س.

(٨) وقال فخر الدين الرازي في تفسيره : «فهذا ما في الرواية ولقائل أن يقول : الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز أن يتفقوا على ما يعلم فساده ببديهة العقل ، وهذه الحكاية كذلك لوجوه : أحذها : أن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم المتخذ من الذهب الذي لا يتحرك ولا يحس ولا يعقل يستحيل أن يكون إله السموات والأرض ، وهب أنه ظهر منه خوار ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلها ، وثانيها : أن القوم كانوا قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات القاهرة التي تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه‌السلام ، فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حد الضرورة ومع أن صدور الخوار من ذلك العجل المتخذ من الذهب يستحيل أن يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلها. والجواب : هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلا على وجه واحد ، وهو أن يقال إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه‌السلام إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات ، فقال السامري للقوم : وأنا أتخذ لكم طلسما مثل طلسمه وروح عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب فأطعمهم في أن يصيروا مثل موسى عليه‌السلام في الاتيان بالخوارق أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام فلذلك وقعوا في تلك الشبهة. انظر مفاتيح الغيب ، ٣ / ٧٠ ـ ٧١.

٤٧

موسى إلى الطور (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ [٥١]) أي كافرون بعبادتكم العجل.

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢))

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) أي محونا ذنوبكم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد شرككم لما تبتم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [٥٢] أي إرادة أن تشكروا لله في مقابلة العفو ، لأنه يوجب الشكر ، وهو في الأصل تصور النعمة من المنعم وإظهارها بامتثال الأمر والنهي ، وحقيقته العجز عن الشكر ، قال داود عليه‌السلام : «سبحان من جعل العجز عن الشكر شكرا كما جعل الاعتراف بالعجز عن معرفته معرفة» (١).

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

(وَإِذْ آتَيْنا) أي واذكروا إذ أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية (وَالْفُرْقانَ) أي الفارق بين الحق والباطل ، يعني الكتاب الجامع بين كونه كتابا منزلا وكونه فرقانا كقولك لقيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة أو الفرقان تسع آيات موسى عليه‌السلام كالحية واليد وغيرهما ، لأنها تفرق بين الحق والباطل أو المعنى : أعطينا موسى التورية ومحمدا الفرقان (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [٥٣] أي لكي تبلغوا الهداية من الضلالة بعلمهما.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) وهم الذين ظلموا أنفسهم بعبادة العجل (يا قَوْمِ) بحذف الياء وترك الكسرة بدلا عنها والإضافة إلى نفسه للشفقة (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ) أي أضررتم (٢)(أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها للعبادة ، قالوا لموسي ما نصنع ، قال (فَتُوبُوا) الفاء للسببية ، لأن الظلم سبب التوبة ، أي ارجعوا (إِلى بارِئِكُمْ) باسكان الهمزة وكسرها وبقلبها ياء وباختلاس الحركة (٣) ، أي إلى خالقكم (٤) وعبادته ، قالوا : كيف نرجع؟ قال (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ليقتل بعضكم البريء من عبادة العجل بعضكم العابد له وهو تمام التوبة (ذلِكُمْ) أي الرجوع بالقتل مع رضا الله فيه (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أي خالقكم من ترككم على عذابه ، فأطاعوا أمره بالقبول والرضا ، قيل : فأرسل الله عليهم سحابة سوداء لئلا يبصر الأب ولده والرجل جاره وقريبه ليمكن لهم إمضاء أمر الله تعالى فيهم ، فقتل بعضهم بعضا بالسيف والخنجر إلى السماء ثم تضرع موسى وهرون وبكيا من كثرة الدماء ، وقالا يا ربنا البقية ، فنزلت التوبة عليهم من الله ، وقيل لموسى ارفع السيف عنهم (٥) ، والفاء في (فَتابَ عَلَيْكُمْ) متعلقة بشرط محذوف ، تقديره : إن فعلتم ذلك فقد تاب عليكم ، أي قبل توبتكم وتجاوز عن ذنوبكم (إِنَّهُ) أي الله تعالى (هُوَ التَّوَّابُ) أي كثير التجاوز عن الذنوب (الرَّحِيمُ [٥٤]) أي كثير الرحمة للمطيعين أمره حيث جعل القتل كفارة لذنوبكم ، قيل : «قتل منهم سبعون ألفا ، وكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي منهم مغفورا» (٦).

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥))

(وَإِذْ قُلْتُمْ) أي اذكروا وقت قولكم (يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدقك في قولك (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا بلا حجاب بيننا وبينه ، يجوز فيها سكون الهاء وفتحها مصدر (٧) ، لأنها من الرؤية أو جمع

__________________

(١) انظر البغوي ، ١ / ٨٣.

(٢) أي أضررتم ، ب س : أي ضررتم ، م.

(٣) «بارِئِكُمْ» : قرأ أبو عمرو بخلف عن الدوري باسكان الهمزة والوجه الثاني للدوري هو اختلاس حركتها وهو الإتيان بمعظمها وقدر بثلثيها ولا إبدال فيه للسوسو نظرا لعروض السكون ولم يذكر إلي الابدال إلا ابن غلبون فلا يقرأ به لانفراده به ، وإذا وقف عليه لحمزة كان فيه وجه واحد وهو التسهيل بين بين. البدور الزاهرة ، ٣٢.

(٤) أي إلي خالقكم ، م : أي خالقكم ، ب س.

(٥) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ١ / ١١٩ ، ١٢٠ ؛ والبغوي ، ١ / ٨٤ ، ٨٥.

(٦) عن علي رضي الله عنه ، انظر البغوي ، ١ / ٨٥.

(٧) أخذ هذه القراءة عن الكشاف ، ١ / ٦٩.

٤٨

جاهر ، نصبها حال بمعنى معاينين (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي النار المحرقة النازلة من السماء فأحرقتهم لسؤالكم ما هو محال على الله من جهلكم في الدنيا (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [٥٥] إلى الصاعقة النازلة ، قيل : ماتوا يوما وليلة ، ولم يمت موسى بل غشي عليه بدليل قوله وذلك حين أمر الله موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا (١) ويأتي معهم إلى الطور للمناجاة معتذرين من عبادة العجل ، فلما انتهى إلى الجبل قال لهم موسى : امكثوا هنا ، فصعد موسى الجبل فناجى ربه ، فلما رجع إليهم قالوا إنك رأيت الله فأرناه ، فقال لم أره فلم يصدقوه فنزلت الصاعقة عليهم ، فماتوا كلهم.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦))

ثم دعا موسى ربه فأحياهم ، فأخبر عنه فقال (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أي أحييناكم (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) ليستوفوا بقية آجالكم وكان ذلك الموت بلا أجل وإلا لم يحيوا إلى نفخ الصور (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [٥٦] الله للحيوة بعد الموت وقبول توبتكم ، قيل : إنما لم يمت موسى عند سؤال الرؤية ، لأن سؤاله كان اشتياقا وافتقارا ، وسؤال قومه كان تكذيبا واجتراء (٢).

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

(وَظَلَّلْنا) أي جعلنا ظلا (عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) جمع غمامة ، وهي السحابة لتقيكم من حر الشمس في التيه ، وذلك حين أمروا بأن يدخلوا المدينة الجبارين ، فأبوا ذلك فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة ، فأصابهم حر شديد وجوع مفرط ، وفي الليل ظلمة شديدة ، فرحمهم‌الله تعالى فأنزل عليهم عمودا من نور يسير معهم يضيء لهم مكان القمر ، وغماما يظلهم من الحر وسئلوا موسى الطعام فدعا ربه فاستجاب له فقال (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) أي الترنجبين في الصورة ، قيل : إنه كان أبيض مثل الثلج كالشهد المعجون بالسمن (٣)(وَالسَّلْوى) السمانى ، وهو طير يضرب إلى الحمرة يأتيهم مشويا ، قيل : يأتيهم المن والسلوى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ كل إنسان كفايته إلى الغد ، وإن زاد دود وفسد إلا يوم الجمعة ، فانه يأخذ ما يكفيه ليومين ، لأنه لا يأتيهم يوم السبت (٤) ، وقلنا لهم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) أي حلالات (ما رَزَقْناكُمْ) من المن والسلوى ، لا ترفعوا منه شيئا ادخارا ولا تعصوا أمري ، فرفعوا وجعلوا اللحم قديدا مخافة أن ينفد ، فرفعنا عنهم ذلك لعدم توكلهم علينا (وَما ظَلَمُونا) أي ما أضرونا بكفرهم هذه النعم وادخارهم الرزق بعد ما نهوا عن ذلك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [٥٧] أي يضرون برفعهم ، فقطع عنهم الرزق ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه‌السلام قال : «لو لا بنوا إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ، ولو لا حواء لم تخن امرأة زوجها» (٥) ، والخنز : النتن والفساد ، وبعد مضي أربعين سنة وموت موسى وهرون أمر الله تعالى يوشع بن نون خليفة موسى بأن يدخل مع قومه باب بيت المقدس بالانحناء والتواضع ليعبدوا فيها تائبين مستغفرين ، فانطلقوا ودخلوا مستهزئين.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨))

فقال تعالى (وَإِذْ قُلْنَا) أي اذكروا وقت قولنا لكم تنزيلا لهم مكان آبائهم في الخطاب (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي مدينة بيت المقدس ، والقرية : الحوض الذي يجتمع فيه الماء ، سميت بها لجمعها أهلها (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ١ / ٦٩ ، ٧٠.

(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ٧٠.

(٣) لعله أخذه عن البغوي ، ١ / ٨٧ ؛ والكشاف ، ١ / ٧٠.

(٤) أخذه عن البغوي ، ١ / ٨٧.

(٥) أخرجه البخاري ، الأنبياء ، ١ ، ٢٥ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٢ / ٣٠٤ ، ٣١٥.

٤٩

شِئْتُمْ رَغَداً) أي رزقا طيبا واسعا عليكم (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية (سُجَّداً) أي منحنين ، نصب على الحال ، يعني ناكسي رؤوسكم بالتواضع (وَقُولُوا حِطَّةٌ) رفع بخبرية المبتدأ المحذوف ، أي مسألتنا من الله أي يحط عنا ذنوبنا (نَغْفِرْ لَكُمْ) بالياء والنون مع الجزم معلوما جواب الأمر وقرئ بالياء والتاء للتأنيث وبادغام الراء في اللام (١) ، أي نستر عليكم (خَطاياكُمْ) أي ذنوبكم ، جمع خطيئة وهي ضد الصواب ، وهم الذين عبدوا العجل ثم تابوا (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) [٥٨] أي سنطلب الزيادة لمن أحسن في فعله وإلى نفسه وغيره ، وهم الذين لم يعبدوا العجل.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

(فَبَدَّلَ) أي غير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالمعصية أنفسهم (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ) أي خالفوا ما أمر (لَهُمْ) من القول ، وهو أن يقولوا : حطة ، وأن يدخلوها بالاستغفار منحنين ، وهم دخلوها زاحقيه على أستاههم قائلين : حنطة سمقاثا ، أي حمراء بلغتهم (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي غيروا ما أمروا به (رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ) وهو الطاعون أو نار محرقة (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [٥٩] أي بسبب خروجهم عن الطاعة ، روي : أنه مات منهم سبعون الفا من الطاعون (٢).

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

ثم رجع إلى قصتهم في التيه ، قيل : لما عطشوا فيه استغاثوا بموسى ، فدعا ربه أن يسقي لهم (٣) ، فأخبر عنه فقال (٤)(وَإِذِ اسْتَسْقى) أي اذكروا وقت أن طلب منا (مُوسى لِقَوْمِهِ) ماء عذبا (فَقُلْنَا) له بالوحي (اضْرِبْ بِعَصاكَ) وهي التي حملها آدم من الجنة (الْحَجَرَ) وهو الحجر الذي حمله في المخلاة وقول جبرائيل له : ارفعه فان لله فيه قدرة ولك معجزة حين فر بثوبه وقت الغسل في نهر وتبعه فوصله فضربه موسى بعصاه ورفعه فأدخله في مخلاته (٥) ، وذلك لما رماه بنو إسرائيل بالأدرة ، وأراد الله إظهار براءته عنها لهم ، فابتلاه بما يوجب غسله فضرب به (فَانْفَجَرَتْ) أي سالت بعد انشقاقه ، وكان مربعا مثل رأس الرجل له أربعة أوجه في كل وجه ثلث أعين (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) لكل سبط عين (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) أي سبط (مَشْرَبَهُمْ) أي عين شربهم ، قيل : إنهم كانوا إذا نزلوا منزلا وضعوه وضربه موسى بعصاه فانفجرت (٦) ، فاذا ساروا حملوه ويمسك ، روي في حكمة ذلك : أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة ، وكل سبط لا يتزوج من سبط آخر ، وغرضه تكثير سبط نفسه ، فجعل الله لكل سبط نهرا على حدة كيلا يقع بينهم جدال وتخاصم (٧) ، فقال تعالى قلنا لهم (كُلُوا) من المن والسلوى (وَاشْرَبُوا) من ماء العيون (٨)(مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا) أي لا تتمادوا بالفساد (فِي الْأَرْضِ) والعثي أشد الفساد (مُفْسِدِينَ) [٦٠] أي في حال إفسادكم ، وهو حال مؤكدة ، وهي التي تقرر مضمون الجملة المتقدمة اسمية كانت أو فعلية.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ

__________________

(١) «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ» : قرأ نافع وأبو جعفر بياء تحتية مضمومة مع فتح الفاء ، وقرأ ابن عامر بتاء فوقية مضمومة مع فتح الفاء ، والباقون بالنون المفتوحة والفاء المكسورة واتفق العشرة علي قراءة «خَطاياكُمْ» هنا علي وزن قضاياكم. انظر البدور الزاهرة ، ٣٢.

(٢) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ١٢٢.

(٣) نقله المصنف عن البغوي ، ١ / ٩٠.

(٤) فقال ، ب : وقال ، س م.

(٥) أخذه عن البغوي ، ١ / ٩٠.

(٦) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ٧١.

(٧) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ١٢٣.

(٨) العيون ، ب س : العين ، م.

٥٠

ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) أي اذكروا وقت قولكم له (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي طعام لا يتبدل ، يعني يداوم عليه كل يوم ، قيل : يمل الرجل من أكل طعام يداوم عليه ولو كان فيه ألوان مختلفة من المآكل ، فلذلك يوصف بالواحد (١) ، وقيل : كانوا يخلطون المن بالسلوى فيصيران طعاما واحدا ويأكلونه (٢) ، فكرهوا ذلك ، لأنهم أصحاب حراثة اشتهوا ما يجانسهم بقولهم (فَادْعُ) أي سل (لَنا) أي لأجلنا (رَبَّكَ يُخْرِجْ) أي يظهر (لَنا) شيئا (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) أي تخرجه (مِنْ بَقْلِها) أي البقول كلها كالنعناع والكراث وغيرههما مما يأكل الناس (وَقِثَّائِها) وهو المعروف (وَفُومِها) وهو الثوم المعروف ، وقيل : الحنطة (٣)(وَعَدَسِها وَبَصَلِها) فغضب عليهم موسى (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ) أي أتطلبون (الَّذِي هُوَ أَدْنى) أي أردأ وأخس من بقول الأرض (بِالَّذِي) أي بدل ما (هُوَ خَيْرٌ) أي أشرف وأعلى لكم بلا تعب ، وهو المن والسلوى ، فقال موسى بأمر الله تعالى (اهْبِطُوا) أي انزلوا من التيه (مِصْراً) بالتنوين لأنه مصر من الأمصار أو مصر فرعون فصرفه لسكون وسطه كلوط (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) طلبتم من بقول الأرض تزرعون وتحصدون (وَضُرِبَتْ) أي جعلت (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي الهوان (وَالْمَسْكَنَةُ) أي الفقر ، قيل : «ترى (٤) الرجل من اليهود عليه زي الفقر وإن كان موسرا» (٥)(وَباؤُ) أي رجعوا (بِغَضَبٍ) أي بأثر لعنة (مِنَ اللهِ) قيل : غضبه ذمهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة (٦)(ذلِكَ) أي ما حل بهم من الذل والفقر والغضب ، محله رفع بالابتداء والخبر (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أن اليهود (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي كذبوا بالقرآن ومحمد عليه‌السلام ، وأنكروا صفته في التورية وكفروا بعيسى والإنجيل (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) بالهمزة وبغيره (٧) كذكريا ويحيى وشعيا (بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي بلا جرم ، محله نصب على الحال من ضمير (يَقْتُلُونَ) بمعنى مبطلين ، إذ هم ناصحون وداعون إلى ما ينفعهم من الإيمان ، وهو تأكيد لظلمهم في قتل الأنبياء ومن غير حجة لهم عليه لو سئلوا عنه (ذلِكَ) أي ما تقدم من الغضب وغيره وكرر الإشارة إليه لزيادة التوبيخ (بِما عَصَوْا) أي بسبب عصيانهم أمر الله تعالى (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) [٦١] أي يتجاوزون عن حدود الله بقتل الأنبياء وارتكابهم المحارم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم دون قلوبهم من أهل (٨) النفاق (وَالَّذِينَ هادُوا) أي رجعوا عن دين موسى وتسموا باليهودية (وَالنَّصارى) أي الذين تركوا دين عيسى وتسموا بالنصرانية ، جمع نصراني ، وياؤه للمبالغة لا للنسبة ، إذ يقال رجل نصران وامرأة نصرانة أي سموا بذلك لنزولهم قرية اسمها نصرانة (وَالصَّابِئِينَ) أي الذين صبؤا ، يعني عدلوا عن اليهودية والنصرانية ، عبدوا الملائكة ، ويقال صبأ بالهمزة إذا رفع رأسه إلى السماء وصبأ بغير الهمزة إذا مال عن شيء إلى آخر ، وقرىء بهما (٩) ، قوله (مَنْ آمَنَ) في محل النصب ، بدل من اسم «إن» والمعطوف عليه ، أي من صدق منهم مخلصا (بِاللهِ) وبما أنزل على جميع النبيين (١٠)(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بيوم البعث (وَعَمِلَ صالِحاً) وحده نظرا إلى لفظ «من» ، أي عملا مرضيا عند الله أو في محل الرفع مبتدأ فيه معنى الشرط ، خبره

__________________

(١) اختصره من الكشاف ، ١ / ٧١.

(٢) اختصره المؤلف من البغوي ، ١ / ٩١.

(٣) قاله عطاء ، انظر البغوي ، ١ / ٩٢.

(٤) تري ، س م : يري ، ب.

(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ١٢٤.

(٦) ولم أعثر عليه في المصادر.

(٧) «النَّبِيِّينَ» : قرأ نافع بالهمز ، والباقون بالياء المشددة. انظر البدور الزاهرة ، ٣٤.

(٨) أهل ، س م : ـ ب.

(٩) «وَالصَّابِئِينَ» : قرأ نافع وأبو جعفر بحذف الهمزة والباقون باثباتها ولحمزة فيه وقفا وجهان ، الأول كنافع ، والثاني التسهيل بين بين. البدور الزاهرة ، ٣٤.

(١٠) النبيين ، ب م : الأنبياء ، س.

٥١

(فَلَهُمْ) الجملة وجمعه نظرا إلى معنى «من» ، والفاء للسببية ، أي لهم (أَجْرُهُمْ) وهو ثواب أعمالهم الصالحة الذي يستحقونه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وجملة (مَنْ آمَنَ) في محل الرفع خبر «إن» ، والعائد محذوف ، أي من آمن منهم وأخلص فله الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العذاب المستقبل (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [٦٢] مما خلفوا من أمر الدنيا.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣))

(وَإِذْ أَخَذْنا) أي اذكروا وقت أخذنا (مِيثاقَكُمْ) أي عهدكم الموثق بالعمل بما في التورية ، فلم تعملوا بما فيها من الفرائض والتكاليف الشاقة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي الجبل بالسريانية وقلنا لكم (١)(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أي الذي أعطيناكم للعمل به (بِقُوَّةٍ) أي بجد ومواظبة (وَاذْكُرُوا) أي ادرسوا واعملوا (ما فِيهِ) من الثواب والعقاب (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [٦٣] أي تخافون من الله فيسهل عليكم القبول والعمل وتنجون من هلاك الدارين ، قيل : لما نزلت التورية على بني إسرائيل شق عليهم ما فيها من الفرائض ، لأنه نزل دفعة واحدة ، فلم يقبلوه ، فأمر الله الملائكة فقلعوا جبلا على قدر عسكرهم وقالوا لهم : إن قبلتم وإلا أهلكناكم بالجبل فقبلوا وسجدوا على أنصاف وجوههم وهم ينظرون إلى الجبل في سجودهم ، فمن ذلك سجد بعض اليهود على أنصاف وجوههم ، وقالوا بهذا السجود رفع عنا العذاب (٢).

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الإيمان والطاعة (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد أخذ الميثاق وقبول التوبة أو من بعد رفع الطور عنكم (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) أي منه (عَلَيْكُمْ) بتأخير العذاب (وَرَحْمَتُهُ) بالإحسان وقبول التوبة أو (٣) بارسال الرسل إليكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [٦٤] أي المغبونين في الدارين بالعقوبة.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥))

ثم هدد اليهود بتذكيرهم ما جرى لمن تقدمهم من أصولهم وهم أصحاب أيلة ، مدينة على ساحل البحر ، قيل : كان يجتمع السمك يوم السبت حتى يأخذ وجه الماء ، وفي سائر الأيام لا يأتيهم إلا قليل (٤) ، فحرم عليهم الصيد يوم السبت ، فاتخذوا مصائد ليقع فيها السمك ليلة السبت ويومه ويأخذوه يوم الأحد بقوله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أي عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا) أي تجاوزوا الحد ظلما (مِنْكُمْ) أي من أسلافكم (فِي السَّبْتِ) أي يومه ، فاحتالوا وحبسوا السمك فيه أخذوه يوم الأحد ، وأصل السبت القطع ، لأن اليهود أمروا أن يقطعوا الأعمال فيه ويشتغلوا بعبادة الله ، فمسخهم الله قردة ، احتج مالك به في إبطال الحيلة ، وجوزها غيره من الفقهاء إذا لم يكن إبطال حق أو عكسه ، وقال : هذه ليست بحيلة وإنما هي عين المنهي عنه ، لأنهم نهوا عن أخذها بأي وجه كان (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا) أي صيروا (قِرَدَةً) جمع قرد ، وهذا أمر تحويل ، إذ لم يكن لهم على التحول من صورة إلى صورة ، قيل : «مسخ الشبان منهم قردة والشيوخ خناذير لهم أذناب يتعاوون» (٥) ، وقيل : «مسخت قلوبهم» (٦) ، وهو خلاف الظاهر (خاسِئِينَ) [٦٥] أي مبعدين من رحمة الله ، من خسأ الكلب إذا بعده من عنده ، يستعمل لازما ومتعديا ، وهو خبر ثان ل «كان» أو صفة للردة أو حال من اسم «كان» ، قيل : بقوا ثلثة أيام بالمسخ ثم هلكوا ولم يتوالد منهم قط (٧).

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

(فَجَعَلْناها) أي صيرنا تلك العقوبة لهم (نَكالاً) أي عقوبة وعبرة ليمتنع من اعتبر بها أن يقدم على مثل

__________________

(١) لكم ، ب : لهم ، س م.

(٢) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٣) أو ، م : ـ ب س.

(٤) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ١٢٦.

(٥) عن قتادة ، انظر البغوي ، ١ / ٩٧.

(٦) عن مجاهد ، انظر القرطبي ، ١ / ٤٤٣.

(٧) أخذه المؤلف عن البغوي ، ١ / ٩٧.

٥٢

صنيعهم ، يعني عظة وتذكرا (لِما بَيْنَ يَدَيْها) أي لما تقدمها من القرى ، لأن قصة هؤلاء مذكورة في كتب الأولين (وَما خَلْفَها) من القرى ، فاذا علموا بها اتعظوا ويمتنعوا عن المعصية أو جعلنا تلك العقوبة عقوبة لما عملت من الذنوب قبل المسخ ولما عملت حين المسخ (وَمَوْعِظَةً) أي نصيحة وعبرة (لِلْمُتَّقِينَ) [٦٦] أي الخائفين من أمة محمد عليه‌السلام.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧))

(وَإِذْ قالَ مُوسى) أي اذكروا وقت قوله (لِقَوْمِهِ) أي لبني أسرائيل حين قتل رجل فقير ابن عم له غنيا ليرثه ثم حمله وألقاه إلى جانب قرية قريبة من قريته ، فأصبح أهل القرية والقتيل بين أظهرهم ، فأخذوا بالقتيل وجاؤا به إلى موسى وجاء الفقير مع أهل قريته إلى موسى يدعي عليهم القتل فهم أهل القريتين أن يقتتلوا بالسلاح ، فقال رجل أتقتتلون وفيكم نبي الله موسى ، فدعا الله في ذلك لتبيين أمر المقتول وذلك قبل نزول القسامة (١) ، فأوحى الله إلى موسى وقال (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فتضربوا ببعضها بعض أعضاء الميت فيحيي فيخبركم من قتله (قالُوا) لموسى (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) بسكون الزاء مع الهمزة (٢) وضمها بلا همزة (٣) وبضمها مع الهمز (٤) ، أي أهل هزو ، وهو السخرية ، يعنون أتستهزىء بنا نحن نسأل عن أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح البقرة ، ولا تطابق بين السؤال والجواب (قالَ) موسى (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [٦٧] أي المستهزئين ، لأن الهزء من فعل الجاهلين.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩))

(قالُوا) يا موسى (ادْعُ) أي سل (لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ) أي يوضح (لَنا ما هِيَ) أي ما سنها وما صفتها من الصغر والكبر (قالَ) موسى (إِنَّهُ) أي الله (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) أي مسنة من الفرض وهو القطع ، لأنها قطعت السن ، أي بلغت آخرها (وَلا بِكْرٌ) أي صغيرة لم تلد قط ، مأخوذ من باكورة الفاكهة ولم يؤنث لأنه كالحائض في الاختصاص بالأنثى ، وارتفاعهما بخبرية مبتدأ محذوف ، أي لا هي كبيرة ولا صغيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي وسط بين الكبيرة والصغيرة ، وإنما أفرد ذلك و «بين» يقتضي الإضافة إلى المتعدد ، لأنه في معنى شيئين حيث أشير به إلى ما ذكر من الفارض والكبر وإنما جاز أن يشار به إلى مؤنثين ، وهو موضوع لأن يشار به إلى واحد مذكر ، لأنه مؤول بالمذكر للاختصار في الكلام أو لأنه اسم الإشارة ، يكثر استعماله في كلاهم ، فاستحسن الإفراد ، إذ تثنيته وجمعه وتأنيثه ليس بحقيقة (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) [٦٨] أي الذي أمركم الله به من ذبح القرة ليتبين لكم القاتل ولا تسألوا ثم سألوا عن لونها (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ) أي يعلم (لَنا ما لَوْنُها) من الألوان (قالَ) لهم موسى (إِنَّهُ) أي الله (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ) والصفرة لون بين البياض والسواد (فاقِعٌ لَوْنُها) أي خالص شديد الصفرة ، وهي جملة من المبتدأ والخبر صفة البقرة أو فاقع صفة صفراء و «لونها» مرفوع على أنه

__________________

(١) وقال ابن كثير في تفسيره : «ورواه ابن جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك والله أعلم». انظر تفسير القرآن العظيم ، ١ / ١٥٤.

(٢) الهمزة ، س م : الهمز ، ب.

(٣) همزة ، س م : همز ، ب.

(٤) «هزوا» : قرأ حفص بالواو بدلا من الهمزة وصلا ووقفا مع ضم الزاي ، وقرأ خلف باسكان الزاي مع الهمز وصلا ووقفا ، وقرأ حمزة باسكان الزاي مع الهمز وصلا ، وله في الوقف وجهان الأول نقل حركة الهمزة إلى الزاي وحذف الهمزة فيصير النطق بزاي مفتوحة بعدها ألف ، الثاني إبدال الهمزة واوا علي الرسم ، وقرأ الباقون بضم الزاي مع الهمز وصلا ووقفا. البدور الزاهرة ، ٣٤.

٥٣

فاعله وذكره تأكيد لها ، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة (١) صفرتها وهو من قولك : جد جده ، وزاد في وصفه لزيادة البيان بقوله (٢)(تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [٦٩] أي هي تعجبهم لحسن لونها فتلتذ قلوبهم والسرور التذاذ القلب عند وجود سببه.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠))

ثم سألوه أهي عاملة أو سائمة (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ما صفتها من السائمة والعاملة (إِنَّ الْبَقَرَ) أي هذا الجنس كثير (تَشابَهَ) أي تشاكل (عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [٧٠] أي لمدركون إلى البقرة بمشية الله ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «لو لا أنهم استثنوا لم يدركوها أبدا» ، وعنه أيضا : «لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزءت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» (٣).

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))

(قالَ) موسى (إِنَّهُ) أي الله (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) أي لا مذللة بالعمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي تقلبها للزراعة (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي الزرع ، والفعلان صفتان ل «ذلول» ، يعني ليست بمثيرة الأرض للكراب ولا بسانية عليها الماء ليسقي الحرث (مُسَلَّمَةٌ) أي سليمة من كل عيب (لا شِيَةَ فِيها) أي لا لون آخر فيها سوى لونها من الوشي للنوع ، وهو الخلط بالألوان ومنه ثوب موشى وأصلها وشية كوعدة (قالُوا الْآنَ) أي هذا الوقت بني لتضمنه معني الإشارة (جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي أتيت بالبيان التام الذي أردنا منك تحققه في البقرة فطلبوها فوجدوها عند شاب من بني إسرائيل مات أبوه وورث منه عجلة في غيضة كانت ترعي فيها ولم يعلم بذلك وكان بارا بأمه يحتطب ويبيعه ويعطي أمه ثلث ثمنه ويتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويقسم ليلة أثلاثا ، ثلثا ينام فيه وثلثا يصليه وثلثا يقعد عند رأس أمه ، فقالت له يوما : إن أباك استودع الله لك عجلة في غيضة كذا ، فاذهب فأت بها فبعها ، فذهب ووجدها فلزم بعنقها وأتى بها أمه فقالت : بعها ستة (٤) دنانير بمشورتي فذهب ليبيعها فجاءه ملك في صورة آدمي فأعطاه ستة دنانير على أن لا يشاور أمه ، فلم يفعل وأخبر أمه بذلك ، فقالت : إنه ملك قل له : هل نبيع البقرة أم لا؟ فسأله ، فقال : لا إلا بملء مسكها ذهبا ، فلما أتى بها إلى السوق وجدها بنو إسرائيل على تلك الصفة فاشتروها بملء مسكها دنانير (٥)(فَذَبَحُوها وَما كادُوا) أي ما قربوا (يَفْعَلُونَ) [٧١] الذبح لغلاء ثمنها ، وقيل : لخوف فضيحة القاتل من قبيلتهم (٦) ، وقيل : ذبحوها بعد مكث وتوقف لعدم انقطاع خيط الاستكشاف عنهم (٧).

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢))

ثم خاطب بني إسرائيل بالقتل بقوله (وَإِذْ قَتَلْتُمْ) وإن وجد من بعضهم لملابسة القتل لهم ، وهذا أول القصة ، وإنما لم يقدمه لفظا للاهتمام بشأن ذبح البقرة للكشف عن القاتل ، وبعد ذكره ذكر القتل بنسبته إلى الجماعة ليكون أبلغ في توبيخهم عليه لوجود القتل فيهم ، أي اذكروا وقت قتلكم (نَفْساً) وهي نفس عاميل

__________________

(١) شديدة الصفرة ، س م : شديد الصفر ، ب.

(٢) وزاد في وصفه لزيادة البيان بقوله ، ب : ـ س م.

(٣) انظر السمرقندي ، ١ / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) ستة ، ب س : بثلثة ، م.

(٥) اختصره المؤلف من البغوي ، ١ / ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ١٢٩. وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن حكى نحو هذه الروايات : «وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم فيها اختلاف ما ، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل ، وهي مما يجوز نقلها ، ولكن لا نصدق ولا نكذب ، فلهذا لا نعتقد عليها إلا ما وافق الحق عندنا ، والله أعلم». انظر تفسير القرآن العظيم ، ١ / ١٥٧. وقال القرطبي بعد أن قص نحو هذه القصة : «فالله أعلم». انظر الجامع لأحكام القرآن ، ١ / ٤٥٥.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١٢٩.

(٧) لم أجد له أصلا في المصادر.

٥٤

قتلا محرما (فَادَّارَأْتُمْ) أي تدافعتم واختصمتم (فِيها) أي في شأنها من الدرء ، وهو الدفع ، لأن كل واحد كان يطرح قتلها على آخر منهم وتدفع عن نفسه (وَاللهُ مُخْرِجٌ) أي مظهر (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [٧٢] أي الذي تسترونه من قتل عاميل وأعمل «مخرج» وإن كان بمعنى الماضي ، لأنه محكي عن المستقبل في وقت التدارء ، وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

والفاء في قوله (فَقُلْنا) للبيان ، أي قلنا لهم ليظهر ذلك (اضْرِبُوهُ) أي المقتول (بِبَعْضِها) أي ببعض تلك البقرة ، قيل : بلسانها (١) ، وقيل : بفخذها الايمن (٢) ، وقيل : بعجب ذنبها (٣) وهو آخر الأعضاء فسادا بعد الموت (٤) ، قيل : هو عظم يخلق أولا عند البعث ثم يركب عليه سائر البدن (٥) ، فضربوه فحيي فقام وأوداجه تشخب دما ، وقال : قتلني فلان ابن عمي ، ثم مات فحرم الميراث ، وقتل : فان قيل هلا أحياه ابتداء ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ أجيب بأن في ذلك حكما وفوائد جمة ، منها التقرب بذبح البقرة وأداء التكليف واكتساب الثواب والتشديد عليهم بتشديدهم في السؤال ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة والدلالة على بركة البر للوالدين والشفقة على الأولاد وغير ذلك (٦).

ثم أشار تعالى إلى كيفية إحياء الموتى عند البعث مخاطبا لمنكريه في زمان النبي عليه‌السلام بقوله (كَذلِكَ) أي مثل إحياء الله المقتول (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) عند النفخة الثانية يوم القيامة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي علامته مثل إحياء الميت وغيره من العجائب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [٧٣] المراد منكم ، يعني إرادة أن تعلموا أن القادر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء نفوس كثيرة وتمنعوا نفوسكم عن هواها وتطيعوا الله فيما يأمركم به.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

(ثُمَّ قَسَتْ) أي غلظت ويبست (قُلُوبُكُمْ) بخروج الرحمة وذهاب اللين منها (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ما تقدم من الآيات كاحياء القتيل ومسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وفجر الأنهار من الحجر وغير ذلك (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في شدتها وقسوتها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) برفع (أَشَدُّ) ونصب (قَسْوَةً)(٧) على التمييز ، أي أو أشد غلظة ويبسا من الحجارة لا يؤثر المواعظ فيها وإنما لم يقل : أو أقسى ، فان أفعل التفضيل يخرج من فعل القسوة ، لأن ذلك أبين وأدل على فرط القسوة وشدتها فيها ، قيل : وإنما لم يشبهها بالحديد وإن كان أصلب لأنه قابل للتليين (٨) ، و «أو» للتخيير (٩) في التشبيه ، وقيل : بمعنى الواو أو هو بمعنى بل (١٠)(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ) أي

__________________

(١) نقله عن السمرعندي ، ١ / ١٢٩.

(٢) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ١٢٩.

(٣) وقال فخر الدين الرازي في تفسيره : «واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل ، فقيل بلسانه وقيل فخذها اليمنى وقيل ذنبها وقيل العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الآذان وقيل البضعة بين الكتفين ، ولا شك أن القرآن لا يدل عليه ، فان ورد خبر صحيح قبل وإلا وجب السكوت عنه». انظر مفاتيح الغيب ، ٣ / ١١٥. وقال ابن كثير في تفسيره : «هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به ، وخرق العادة به كائن ، وقد كان معينا في نفس الأمر ، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبيّنه الله تعالى لنا ، ولكن أبهمه ، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه ، فنحن نبهمه كما أبهمه الله». انظر تفسير القرآن العظيم ، ١ / ١٦٠.

(٤) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١٢٩ ، ١٣٠.

(٥) نقل المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ١٢٩ ، ١٣٠.

(٦) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ١ / ٧٦.

(٧) نقل المصنف هذه القراءة عن الكشاف ، ١ / ٧٦.

(٨) أخذ المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ١ / ١٠٥.

(٩) قاله الزجاج ، انظر السمرقندي ، ١ / ١٣٠.

(١٠) أخذه عن البغوي ، ١ / ١٠٥.

٥٥

لحجر ينتفح ويجري (مِنْهُ الْأَنْهارُ) بالماء (وَإِنَّ مِنْها) أي من الحجارة (لَما يَشَّقَّقُ) أي لحجر يتصدع (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أي العيون دون الأنهار (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) أي لحجر ينزل من رأس الجبل إلى أسفله (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي من خوفه وقلوبكم لا تخشى ولا تلين يا طائفة اليهود ، قيل : هذا على وجه المثل ، يعني لو كان له عقل لفعل ذلك (١) ، وقيل : يجوز أن يراد به الجبل الذي صار دكا حين كلم الله موسى (٢)(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) عن ما (تَعْمَلُونَ) [٧٤] بالياء والتاء خطابا (٣) من القبائح فيجازيكم عليها ، ففيه تهديد عظيم لهم.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

قوله (أَفَتَطْمَعُونَ) خطاب للنبي عليه‌السلام وأصحابه ، والاستفهام فيه للتعجيب من طلبهم الإيمان من اليهود المعاندين بتحريف كلام الله أو بتغيير تأويله من بعد فهمهم واستيقانهم كيلا يحزنوا على تكذيبهم القرآن والنبي ، أي أتبالغون في دعوتهم إلى الإسلام فتطمعون (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أي يصدقكم اليهود في قولكم ويحدثوا الإيمان (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي طائفة من اليهود في زمان موسى عليه‌السلام ، والواو للحال (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) أي التورية (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) أي يغيرون ما فيه من الأحكام كنعت النبي عليه‌السلام وآية الرجم (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي فهموه واستيقنوه ، و «ما» فيه مصدرية (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [٧٥] أنهم مفترون بالتحريف ، والواو فيه للحال ، يعني أنهم من أهل (٤) السوء الذين مضوا بالعناد ، فلا تطمعوا الإيمان منهم.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦))

ثم أخبر عن حال المنافقين منهم عند ملاقاتهم المؤمنين بقوله (وَإِذا لَقُوا) أي اليهود المؤمنون باللسان (الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم (قالُوا آمَنَّا) كايمانكم (وَإِذا خَلا) أي مضى ورجع (بَعْضُهُمْ) وهم الذين لم ينافقوا (إِلى بَعْضٍ) وهم الذين نافقوا ، وهم رؤساؤهم (قالُوا) منكرين عليهم باللوم والعتاب (٥)(أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أي أتخبرونهم (بِما فَتَحَ اللهُ) أي بما (٦) منه (عَلَيْكُمْ) وأعطاكم من العلم بنبوة محمد عليه‌السلام وصدقه الذي في كتابكم (لِيُحَاجُّوكُمْ) أي ليخاصمكم أصحاب محمد (بِهِ) أي بما فتح الله عليكم في أنه نبي ثابت في كتابكم فيثبت الحجة عليكم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي فيحكمه في الدنيا والآخرة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [٧٦] أن ذلك حجة لهم عليكم ، وقيل : لما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريظة : «يا إخوة القردة والخنازير انزلوا من حصنكم» ، قالوا بينهم : من أخبر محمدا بهذا ما خرج إلا منكم (٧).

(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))

ثم استفهم الله تعالى بقوله (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) أي يخفون من الكفر في قلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) [٧٧] أي يظنون من الإيمان بألسنتهم (٨) أو ما يسرون فيما بينهم من القول وما يعلنون مع أصحاب محمد عليه‌السلام.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))

قوله (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) مبتدأ وخبر ، إخبار عن عوام اليهود الذين قلدوهم وتابعوهم بالجهل فشاركوهم في

__________________

(١) أخذ هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ١٣٠.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ١ / ١٣٠.

(٣) «تعملون» : قرأ ابن كثير بياء الغيب ، والباقون بتاء الخطاب. انظر البدور الزاهرة ، ٣٥.

(٤) أهل ، ب : أصل ، س م.

(٥) العتاب ، ب س : العقاب ، م.

(٦) بما ، س : ـ ب م.

(٧) انظر البغوي ، ١ / ١٠٩. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة.

(٨) بألسنتهم ، ب : في ألسنتهم ، س م.

٥٦

الوزر العظيم ، قيل : يجب على العالم أن يعمل بما علم وعلى الجاهل أن يطلب العلم ليعمل (١) ، أي ومن اليهود الذين هم أهل الكتاب أميون ، أي لا يحسنون قراءة الكتاب ، جمع أمي ، منسوب إلى الأم ، كأنه باق على أصل خلقته لا يكتب ولا يقرأ ، قوله (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) بيان للأميين أي لا يقرون الكتب ولا يعرفون معناها ، قوله (إِلَّا أَمانِيَّ) بتشديد الياء ونصبها (٢) استثناء منقطع ، لأنها ليست من جنس الكتب ، جمع أمنية من التمني ، أي لكن الشهوات الباطلة ثابتة عندهم وهي المفتريات والمختلقات تخرصا من تغيير صفة محمد عليه‌السلام وإنهم لا يعذبون في النار إلا أياما معدودات ، وإن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وإن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ويرحمهم ولا حجة في صحة ذلك (وَإِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَظُنُّونَ) [٧٨] ظنا من غير تيقن بها.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

(فَوَيْلٌ) أي عقوبة عظيمة رفع بالابتداء خبره ما بعده ، قيل : هو كلمة الدعاء على النفس بالعذاب (٣) ، وقيل : اسم واد في جهنم لو سيرت الجبال فيه لذابت من حره (٤) وهو (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) المحرف وهم رؤساء اليهود الذين محوا نعت النبي عليه‌السلام وكتبوا غيره (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد (ثُمَّ يَقُولُونَ) لعوامهم (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) في التورية (لِيَشْتَرُوا بِهِ) أي بالمحرف (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عرضا يسيرا من حطام الدنيا (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) أي العقوبة العظيمة ثابتة لهم من أجل كتابتهم إياه (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [٧٩] أي من أخذهم الرشوة وعملهم المعاصي.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠))

(وَقالُوا) زعما منهم (لَنْ تَمَسَّنَا) أي لا تصل (٥) إلينا (النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) أي أربعين يوما وهي مدة ما عبد آباؤهم العجل ثم يزول عنا العذاب فأكذبهم الله تعالى فقال (قُلْ) يا محمد (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) موثقا بأنكم لا تعذبون أو أقلتم لا إله إلا الله فنجوتم من العذاب ، قوله (فَلَنْ) جواب شرط محذوف ، أي إذا اتخذتم عند الله عهدا فلن (يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) الذي عهده إليكم ، يعني ينجز وعده البتة ، و «أم» في قوله (أَمْ تَقُولُونَ) معادلة بالهمزة بمعنى أي الأمرين المتساويين واقع لتحقق العلم بأحدهما ، يعني اتخذتم ذلك العهد أم تزعمون (عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [٨٠] حقيقته ، روي عن النبي عليه‌السلام : «أنهم إذا مضت تلك المدة عليهم في النار يقول لهم خزنة جهنم : يا أعداء الله ذهب الأجل وبقي الأبد فأيقنوا بالخلود» (٦).

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١))

قوله (بَلى) إثبات لما بعد النفي ، ورد لقولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) ، أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها وبين ذلك بعده بالشرط والجزاء ، وهما (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) هي الشرك (وَأَحاطَتْ بِهِ) أي أحدقته من كل جانب (خَطِيئَتُهُ) وقرئ «خطاياه» (٧) ، أي كبائره ويموت مصرا عليها من غير توبة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [٨١] أي لا يخرجون منها أبدا ولا يموتون لئلا يعذبوا.

__________________

(١) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ٧٧.

(٢) «إلا أماني» : قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء مفتوحة وصلا وساكنة وصلا ، والباقون بتشديدها. البدور الزاهرة ، ٣٥.

(٣) أخذه عن البغوي ، ١ / ١١٠.

(٤) عن سعيد بن المسيب ، انظر البغوي ، ١ / ١١٠.

(٥) تصل ، ب س : يصل ، م.

(٦) انظر السمرقندي ، ١ / ١٣٣. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة.

(٧) «خطيئته» : قرأ المدنيان بزيادة ألف بعد الهمزة علي الجمع ، والباقون بحذف الألف علي الافراد ، ولورش فيه ثلالثة البدل ، ولحمزة إن وقف عليه وجه واحد ، وهو إبدال الهمزة ياء وإدغام الياء قبلها فيها وليس له إلا هذا الوجه ، لأن الياء فيه زائدة. البدور الزاهرة ، ٣٥.

٥٧

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

ثم بشر المطيعين بالجنة فقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله وبمحمد بقلوبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أدوا الفرائض وانتهوا عن المعاصي (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [٨٢] أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))

ثم أخبر عن أخذ الميثاق منهم في التورية أن يؤمنوا بمحمد عند بعثه لدعوة الناس إلى الإسلام وهم نقضوا الميثاق بقوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي عهدهم في التورية ، وقيل : وقت إخراجهم من صلب آدم (١)(لا تَعْبُدُونَ) بالياء غيبة وبالتاء خطابا (٢) ، أي بأن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ) أو قلنا لهم لا تعبدوا فيكون خبرا في معنى النهي وهو أبلغ من صريح النهي لقصد المسارعة إلى الامتثال ، أي لا توحدوا إلا الله (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي وأحسنوا بهما (إِحْساناً) أي برا كثيرا (وَذِي الْقُرْبى) مصدر بمعنى القرابة ، أي وأحسنوا بصاحب القرابة بحسن الخلق وإيصال النفع إليهم (وَالْيَتامى) جمع يتيم ، وهو من لا أب له بحسن التربية وحفظ حقوقهم عن الضياع (وَالْمَساكِينِ) بحسن القول وإيصال الصدقة إليهم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) بضم الحاء وسكون السين وبفتحهما (٣) ، أي قولا صدقا في شأن محمد وصفته أو ألينوا بهم (٤) القول بحسن المعاشرة وحسن الخلق وامروهم (٥) بالمعروف وأنهاهم من المنكر (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أدوها بمواقيتها (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة عليكم في أموالكم فقبلتم تلك بجميعها يا بني إسرائيل (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن ذلك العهد وعن الإيمان بمحمد عليه‌السلام (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) وهو عبد الله بن سلام وأصحابه (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [٨٣] أي وعادتكم الإعراض عن الإيمان كاعراض آبائكم والواو هنا (٦) ليست للحال لاتحاد التولي والإعراض ، والجملة إعتراض للتأكيد في التوبيخ.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤))

ثم أخبر عن أخذ ميثاق آخر على بني إسرائيل ونقضهم ذلك بعده فقال (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي عهدكم وإقراركم (لا تَسْفِكُونَ) أي بأن لا تريقوا (دِماءَكُمْ) يعني لا يريق بعضكم دم بعض ، وقيل : إذا قتل رجل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه (٧)(وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي لا يخرج بعضكم بعضا (مِنْ دِيارِكُمْ) وفي اقتران الإخراة من الديار (٨) بالقتل إيذان على أنه بمنزلة القتل (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي اعترفتم بهذا العهد على أنفسكم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) [٨٤] أي أنتم اليوم يا معشر اليهود شاهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق أو تشهدون أن هذا في التورية.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ

__________________

(١) نقل المؤلف هذا القول عن السمرقندي ، ١ / ١٣٣.

(٢) «لا تعبدون» : قرأ ابن كثير والأخوان بياء الغيب ، والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٥.

(٣) «حسنا» : قرأ يعقوب والأصحاب بفتح الحاء والسين ، والباقون بضم الحاء وإسكان السين. البدور الزاهرة ، ٣٥.

(٤) أو ألينوا بهم ، س م : وألينوا لهم ، ب.

(٥) وامروهم ، ب م : ومروهم ، س.

(٦) هنا ، ب م : ههنا ، س.

(٧) أخذه عن الكشاف ، ١ / ٧٨.

(٨) الديار ، س م : الدار ، ب.

٥٨

مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥))

ثم وبخهم الله تعالى على نقضهم ذلك بقوله (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي يا هؤلاء أو الذين (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي يقتل بعضكم بعضا أو (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) مبتدأ وخبر ، و (تَقْتُلُونَ) بيان لهذه الجملة (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) لأنه كان بين الأوس والخزرج من قبائل العرب عداوة وكان بنو قريظة والنضير من قبائل اليهود ، إحديهما وهي بنو قريظة معينة للأوس ، والأخرى وهي النضير معينة للخزرة فاذا غلبت إحديهما كانت تقتلهم وتخرجهم من ديارهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين من طائفة اليهود جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون : أمرنا كذا في التورية ، وإنما نفعل القتل المحرم علينا ، لأنا نستحيي أن نذل خلفاءنا ، فقال تعالى توبيخا لهم (تَظاهَرُونَ) بتخفيف الظاء مع الألف والتشديد (١) ، أي تتعاونون (٢)(عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ) أي بالعصيان (وَالْعُدْوانِ) أي الظلم وتجاوز الحد (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) وقرئ «أسرى» (٣) ، جمع أسير بمعنى واحد ، قيل : وإذا قيدوا يقال أسارى ، وإذا حصلوا في اليد من غير قيد يقال أسرى (٤)(تُفادُوهُمْ) وقرئ تفدوهم (٥) ، أي تبادلوهم الأسير بالأسير أو تأخذوهم بالفداء كما أمرتم به (وَهُوَ) أي الشأن (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) من ديارهم ، وقيل : الضمير يرجع إلى الإخراج في قوله («تُخْرِجُونَ)(٦) ، فهو مبتدأ ، خبره (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) ، و (إِخْراجُهُمْ) مرفوع على أنه بدل من الضمير في (مُحَرَّمٌ) بيانا للذي حرم وذلك لتراخي الكلام ، يعني أعرضتم عن الكل بعد أخذ العهد عليها منكم إلا الفداء (أَفَتُؤْمِنُونَ) أي أتنقضون الميثاق فتؤمنون (بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي ببعض ما فرض عليكم في التورية من الفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو القتل والإخراج وما في قوله (فَما جَزاءُ) نفي أي ليس جزاء (مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) أي نقض الميثاق (مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) أي فضاحة وعذاب (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فخزي قريظة القتل والسبي ، وخزي النضير الإخراج من ديارهم والنفي إلى الشام (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ) بالياء غيبة ، أي يرجعون (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) وهو عذاب النار ، لأن عذابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) عن ما (تَعْمَلُونَ) [٨٥] بالياء والتاء (٧) ، أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فيجازيهم بها يوم البعث.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أي اختاروا (الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي بدلها (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) في الآخرة بسبب اتباع الهوى وترك الهدى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [٨٦] أي لا يمنعون من العذاب بمانع لهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧))

(وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا يا بني إسرائيل (مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية جملة واحدة (وَقَفَّيْنا) أي أتبعنا (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موسى (بِالرُّسُلِ) أي بالأنبياء مثل يوشع وإشمويل وداود وسليمان وعزير وإلياس وغيرهم ، يعني

__________________

(١) «تَظاهَرُونَ» : قرأ الكوفيون بتخفيف الظاء ، والباقون بتشديدها. البدور الزاهرة ، ٣٥.

(٢) تتعاونون ، س م : يتعاونون ، ب ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ١٣٥.

(٣) «أُسارى» : قرأ حمزة بفتح الهمزة وإسكان السين وحذف الألف بعدها ، والباقون بضم الهمزة وفتح السين واثبات ألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٣٥.

(٤) وهذا القول لأبي عمرو ، انظر مفاتيح الغيب ، ٣ / ١٥٧.

(٥) «تُفادُوهُمْ» : قرأ المدنيان وعلي وعاصم ويعقوب بضم التاء وفتح الفاء وألف بعدها ، والباقون بفتح التاء وسكون الفاء وحذف الألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٣٥.

(٦) أخذ هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ١٣٥.

(٧) «تَعْمَلُونَ» : قرأ نافع وابن كثير وشعبة ويعقوب وخلف العاشر بياء الغيب والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٦.

٥٩

أرسلنا بعد موسى رسولا على أثر رسول إليكم (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي العلامات الواضحات كاحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإنجيل (وَأَيَّدْناهُ) أي قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي بجبرائيل والقدس ، والقدوس هو الله ، قرئ بضم الدال وسكونه (١) ، ومعناه الطاهر من كل عيب أو روح القدس اسم الله الأعظم الذي يحيي به الموتى ، قيل : ما بين موسى وعيسى أربعة آلاف نبي (٢) ، وقيل : سبعون ألف نبي (٣) ، قوله (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ) وسط فيه همزة الاستفهام للتوبيخ لهم بين الفاء وما تعلقت به من المعطوف عليه وهو «آتينا» قبله ، أي آتينا أنبياءكم ما آتيناهم فكلما آتاكم (رَسُولٌ) من الرسل (بِما لا تَهْوى) أي لا تريد (أَنْفُسُكُمُ) ولا يوافق هواكم (اسْتَكْبَرْتُمْ) أي تعظمتم عن الإيمان به (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) منهم كعيسى ومحمد عليهما‌السلام (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [٨٧] كذكريا ويحيى وشعيا ، وأراد بالاستقبال تعظيما لهذه الحالة حيث لم يقل قتلتم بالمضي.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) بسكون اللام جمع غلاف ، وهو الوعاء ، أي قلوبنا أوعية للعلم ، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره أو جمع أغلف كأحمر وهو ما فيه غشاوة ، أي لا نفهم حديثكم ، لأن قلوبنا في غطاء فأضرب الله تعالى عن دعويهم وأثبت أن قلوبهم قابلة للإيمان لكونها سليمة بأصل الخلقة وهم يعاندون بالكفر فقال (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي طردهم عن رحمته (بِكُفْرِهِمْ) أي بجحدهم الحق (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [٨٨](ما) زاءدة فيه ، و «قليلا» نصب لكونه صفة مصدر محذوف ، أي إيمانا قليلا يؤمنون ، لأن مؤمني اليهود قليلون بالنسبة إلى مؤمني المشركين.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩))

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي موافق للتورية في التوحيد وبعض الشرائع (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل محمد عليه‌السلام (يَسْتَفْتِحُونَ) أي يستنصرون به (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي على كفار مكة ، لأنهم قد وجدوا في التورية نعت محمد ، وكانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب يقولون : اللهم انصرنا عليهم باسم نبيك محمد وبكتابك تنزل عليه ، فنصروا على عدوهم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الحق وهو محمد عليه‌السلام (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وحرصا على الرياسة ، وغيروا صفته ، فقال تعالى (فَلَعْنَةُ اللهِ) أي طرده وسخطه (عَلَى الْكافِرِينَ) [٨٩] بمحمد وكتابه.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠))

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا) أي بئس شيئا باعوا (بِهِ) أي بسببه (أَنْفُسَهُمْ) بئس للذم نقيض نعم للمدح ، وفيه ضمير مبهم فسره «ما» ، ومحله نصب بمعنى شيئا والمخصوص بالذم قوله (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن (بَغْياً) مفعول له ، أي لأجل الظلم والحسد على (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) بالتخفيف والتشديد (٤)(مِنْ فَضْلِهِ) من الرسالة والكتاب (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهو محمد عليه‌السلام ، لأنه تعالى لا إعتراض لأحد عليه في وضعه الرسالة والنبوة حيث شاء (٥)(فَباؤُ) أي رجعوا (بِغَضَبٍ) أي مغضوبا عليهم (عَلى غَضَبٍ) صفة للأول (٦) ، يعني استوجبوا اللعنة

__________________

(١) «القدس» : قرأ المكي بسكون الدال ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٣٦.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر المعتبرة التي راجعتها.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر المعتبرة التي راجعتها.

(٤) «أن ينزل» : قرأ المكي والبصريان باسكان النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. البدور الزاهرة ، ٣٦.

(٥) شاء ، ب س : يشاء ، م.

(٦) للأول ، س م : الأول ، ب.

٦٠