عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٠٣

على التوبة وردع عن اليأس (وَلَمْ يُصِرُّوا) أي لم يقيموا (عَلى ما فَعَلُوا) أي على الذنب الذي فعلوه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [١٣٥] أنه ذنب وإن الله يغفر الذنوب.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

(أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفات (جَزاؤُهُمْ) أي ثوابهم (مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي لا يخرجون عنها ولا يموتون (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [١٣٦] أي نعم ثواب المطيعين ما أعد لهم من الجنة بالتوبة والطاعة ، قال عليه‌السلام : «ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيحسن الطهور ، ثم يقوم فيصلي ، ثم يستغفر الله إلا غفر له» (١).

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧))

قوله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) تحريض على التوبة وتحصيل المغفرة والجنة بالإخبار عن أحوال من تقدمهم (٢) والأمر بالاعتبار بعواقبهم ، أي قد مضت في الأمم قبلكم طرائق باهلاك المكذبين ، جمع سنة وهي الطريقة التي سنها الله لإهلاك من كذب أنبياء الله وآياته (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي إن شككتم في ذلك فسافروا في الأرض بسير الأقدام أو تفكروا في أرض القلب بسير الفكر (فَانْظُروا) بنظر العين والمشاهدة (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [١٣٧] من آثار هلاكهم بوقائعه تعالى.

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨))

(هذا) أي القرآن (بَيانٌ لِلنَّاسِ) أي تطهير لنفوسهم من الضلالة والجهل (وَهُدىً) أي تنوير لأرواحهم وبصائرهم بنور العلم واليقين ليهتدوا به إلى معرفة الله تعالى (وَمَوْعِظَةٌ) أي اتعاظ بآياته (لِلْمُتَّقِينَ) [١٣٨] يدعوهم إلى النسك والخشوع والثبات على الطاعة والصبر على ما أصابهم في سبيل الله ويصرفهم عن افتراء الإثم والفسوق من القول والفعل.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩))

قوله (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) نزل تسلية لرسول الله والمؤمنين على ما أصابهم يوم أحد ، ورجعوا إلى المدينة منهزمين محزونين وتقوية لقلوبهم على الجهاد وردعا عن التقاعد عنه جبنا ووهنا (٣) ، وهو عطف على مقدر ، أي جاهدوا في طاعة ربكم ولا تضعفوا عن قتال عدوكم بما أصابكم في دين الله ، ولا تجبنوا ولا تحزنوا من استبطاء العون والنصرة منه تعالى أو من ما أصابكم من قتل وجرح بأحد والهزيمة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) شأنا على الأعداء ، أي الغالبون عليهم بعد أحد في الدنيا ، روي : أن المسلمين لم يخرجوا بعد ذلك مع رسول الله إلا ظفروا ، وفي كل عسكر بعد رسول الله إذا كان (٤) فيه واحد (٥) من الصحابة كان الظفر لهم (٦) ، وأنتم الغالبون أيضا في الآخرة ، لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار ، وهي بشارة لهم بالعلو (٧) والغلبة في الدارين ، قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٣٩] شرط ، جوابه محذوف بدلالة ما قبله من النهي ، أي إن كنتم مصدقين بنصر الله ووعده فلا تهنوا ولا تحزنوا ، لأن صحة الإيمان في القلب توجب (٨) قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة بأعدائه.

__________________

(١) انظر البغوي ، ١ / ٥٥٢. روى أحمد بن حنبل نحوه ، ١ / ١٠.

(٢) من تقدمهم ، ب س : من يقدمهم ، م.

(٣) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ١٠٦ ؛ وانظر أيضا ، السمرقندي ، ١ / ٣٠١ ؛ والبغوي ، ١ / ٥٥٤.

(٤) كان ، ب م : كانوا ، س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٠١.

(٥) واحد ، ب م : ـ س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٠١.

(٦) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ١ / ٣٠١.

(٧) بالعلو ، ب م : في العلو ، س.

(٨) توجب ، س : يوجب ، ب م.

١٨١

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠))

ثم قال تعزية لهم (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) أي إن يصبكم (قَرْحٌ) بفتح القاف وضمها (١) ، أي جراحة (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) أي الكفار ببدر (قَرْحٌ مِثْلُهُ) قيل : قتل المسلمون من الكافرين ببدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل الكافرون بأحد من المسلمين سبعين وأسروا سبعين (٢) ، وفيه ضعف لما سيأتي ويدل على المماثلة قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي أيام الظفر والغلبة (نُداوِلُها) أي نصرفها (بَيْنَ النَّاسِ) أي بين المسلمين والكافرين تارة لهم وتارة عليهم ، ومنه قول العرب : «الحرب سجال» (٣) ، أي مساجلة ، وهي المناوبة بأن يصنع أحد مثل صنع قرينه في جري أو (٤) سقي أو غير ذلك بالتوبة ، وأصله من الدلو إذا كان فيه ماء قل أو كثر ، قوله (وَلِيَعْلَمَ) عطف على العلة المقدرة ، أي فعلنا ذلك ليتعظوا وليعلم بالتمييز والإظهار (اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالإخلاص شكوا (٥) في دينهم فيجازون على ما فعلوا ، لأن المخلص يتبين حاله في الشدة والبلاء فيعطي ثوابه بما يظهر منه لا بما يعلم منه (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي لكي يكرمكم بالشهادة لا لأجل نصر الكفار وحبهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [١٤٠] نفوسهم بالكفر والنفاق.

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١))

قوله (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ) عطف على (لِيَعْلَمَ) ، أي ليطهر ويصفي (الَّذِينَ آمَنُوا) من الذنوب قتلوا أو قتلوا بالجهاد ، من محصت الذهب إذا أزلت (٦) منه الوسخ (وَيَمْحَقَ) أي ويهلك بالاستئصال (الْكافِرِينَ) [١٤١] لأنهم بذلك يتشجعون فيخرجون تارة أخرى فيهلكون.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢))

(أَمْ حَسِبْتُمْ) أي أظننتم ، فالهمزة للإنكار والميم صلة (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) قبل أن تصيبكم شدة في دين الله وهو المراد من (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بكسر الميم للساكنين ، والواو واو الحال و (لَمَّا) بمعنى لم إلا أن في (لَمَّا) معنى التوقع ، وأراد (٧) به أن لما يدل (٨) على نفي الفعل فيما مضى وعلى توقع ثبوته فيما يستقبل ، أي ولم يعلم الله (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) يعني ولم يظهر جهاد المجاهدين في سبيله بعد بقتل أو جرح أو غيرهما (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [١٤٢] بالنصب باضمار «أن» ، والواو بمعنى الجمع ، وبالجزم (٩) على العطف على (وَلَمَّا يَعْلَمِ) لكن فتحت الميم لالتقاء الساكنين اتباعا للام ، والمعنى : أتحسبون دخول الجنة والحال أنه ما اجتمع علم الله بالمجاهدين منكم وعلمه بالصابرين منكم في الشدائد.

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))

قوله (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي القتل والشهادة ، قيل : كان غرضهم قصدهم إلى نيل كرامة الشهادة لا غلبة الكافر على السملم (١٠)(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) أي تلاقوه وتصلوا إليه (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) بأعينكم يوم أحد (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [١٤٣] عيانا أسباب الموت ، وهي السيوف السهام ، نزل عتابا لهم حين وصف الله لهم الكرامة النازلة

__________________

(١) «قرح» : قرأ شعبة والأخوان وخلف بضم القاف ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٧٠.

(٢) أخذه عن البغوي ، ١ / ٥٥٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٠٤.

(٣) هذا مذكور في البغوي ، ١ / ٥٥٦ ؛ والكشاف ، ١ / ٢٠٢.

(٤) أو ، ب س : و ، م.

(٥) شكوا ، ب س : يشكوا ، م.

(٦) إذا أزلت ، ب م : إذا زالت ، س.

(٧) وأراد ، س : وأرادوا ، ب م.

(٨) لما يدل ، ب م : لما تدل ، س.

(٩) أخذ هذه القراءة عن الكشاف ، ١ / ٢٠٣.

(١٠) لعل المصنف اختصره من البغوي ، ١ / ٥٥٧ ؛ والكشاف ، ١ / ٢٠٣.

١٨٢

بشهداء بدر ، فقالوا : ليتنا نجد مثل ذلك ، فلما لقوا القتال يوم أحد هربوا ولم يقيموا على ما قالوا (١).

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))

قوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) نزل توبيخا لهم على هزيمتهم بخبر قتل الكفار النبي عليه‌السلام ، وذلك حين خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الشعب من أحد بسبعمائة رجل ، وجعل عبد الله بن جبير على الرجالة ، وقال : أقيموا بأصل الجبل وادفعوا عنا بالنبل ، لا يأتوننا من خلفنا ولا تنقلوا (٢) من (٣) مكانكم حتى أرسل إليكم ، فلا نزال (٤) غالبين (٥) ما دمتم في مكانكم ، فجاء المشركون ودخلوا في الحرب مع النبي عليه‌السلام وأصحابه حتى حميت الحرب ، فأخذ رسول الله سيفا ، وقال : «من يأخذه بحقه» ، فأخذه أبو دجانة ، فقاتل في نفر من المسلمين قتالا شديدا ، وقاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى التوى سيفه ، وقاتل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وكان النبي عليه‌السلام يقول لسعد : ارم فداك أبي وأمي ، فحمل هو وأصحابه على المشركين ، فأنزل الله نصرة عليهم فهزموا المشركين (٦) فلما نظر الرماة إلى القوم (٧) هاربين أقبلوا على النهب بترك مركزهم ، فقال لهم عبد الله بن جبير : لا تبرحوا عن مكانكم فقد عهد إليكم نبيكم فلم يلتفتوا إلى قوله ، فجاؤا لأجل الغنيمة فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر ، فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من المشركين من قبل الشعب ، وقتلوا من بقي من الرماة ودخلوا خلف قفية المسلمين ، فهزموهم ورمى ابن قمية النبي بحجر فكسر رباعيته وشجه وتفرق عنه أصحابه ، وحمل ابن قمية ليقتل النبي عليه‌السلام فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية يومئذ ، فقتله ابن قمية ورجع فظن أنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني (٨) قتلت محمدا ، وصرخ (٩) صارخ : ألا! إن محمدا قد قتل ، قالوا : كان ذلك إبليس عليه اللعنة فرجع أصحابه منهزمين متحيرين ، فأقبل أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، فقال لهم : ما يحبسكم ، قالوا : قتل محمد عليه‌السلام ، فقال : ما تصنعون في الحيوة بعده ، موتوا كراما على ما مات عليه نبيكم ، ثم أقبل نحو العدو فقاتل حتى قتل ، قال كعب بن مالك : أنا أول من عرف رسول الله من المسلمين ، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران ، ينادي بأعلى صوته إلى عباد الله إلى عباد الله ، فاجتمعوا إليه فلامهم رسول الله على هزيمتهم ، فقالوا : يا رسول الله! فديناك بآبائنا وبأمهاتنا ، أتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا له فولينا مدبرين (١٠) ، فوبخهم الله تعالى بقوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) كسائر الرسل (قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيخلو كما خلوا ، والهمزة في قوله (أَفَإِنْ ماتَ) لإنكار الانقلاب بعد الشرط قدمت ، لأن الاستفهام له صدر الكلام ، والفاء لعطف الجملة الشرطية على ما قبلها ، أصله : فان مات (أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) أي رجعتم (١١)(عَلى أَعْقابِكُمْ) كافرين وذكر القتل مع العلم بأنه لا يقتل لكونه ممكنا عندهم ، يعني أترجعون إلى دينكم الكفر بسبب هلاك الرسول بقتل أو موت مع علمكم أنه لم يقتل بقوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(١٢) ، وعلمكم بأن هلاك الرسل قبله لم يكن سببا لارتفاع دينهم ، فيجب أن يكون دين نبيكم باقيا بعد

__________________

(١) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٣٠٥.

(٢) ولا تنقلوا ، ب س : ولا ينقلوا ، م.

(٣) من ، ب م : ـ س.

(٤) فلا نزال ، ب : فلا تزال ، س م ؛ وانظر أيضا ، البغوي ، ١ / ٥٥٧.

(٥) غالبين ، ب م : غالبي ، س ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٥٥٧.

(٦) فهزموا المشركين ، ب م : فهزم مشركين ، س.

(٧) إلي القوم ، س م : إلي قوم ، ب.

(٨) إني ، م : ـ ب س ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٥٥٨.

(٩) وصرخ ، س م : فصرخ ، ب ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٥٥٨.

(١٠) لعله اختصره من البغوي ، ١ / ٥٥٧ ـ ٥٦٠ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٠٧

(١١) أي رجعتم ، س : أي أرجعتم ، ب م.

(١٢) المائدة (٥) ، ٦٧.

١٨٣

موته أيضا ، ثم أشار إلى غناه عنهم بقوله (وَمَنْ يَنْقَلِبْ) أي يرجع (عَلى عَقِبَيْهِ) أي وراءه (١) كافرا بعد الإسلام (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) من ملكه وسلطانه وإنما يضر نفسه ، والله منزه عن الضرر والنفع (وَسَيَجْزِي) أي سيثيب (اللهُ الشَّاكِرِينَ) [١٤٤] أي الذين لم ينقلبوا على أعقابكم ، بل شكروا نعمة الإسلام بالصبر كأنس بن النضر وأمثاله.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥))

ثم شجعهم بقوله (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بقضائه ومشيته ولا ينجي حذر من قدر ، لأنه كتب الموت (كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي ذا أجل وهو الوقت المعلوم لا يتقدم ولا يتأخر (وَمَنْ يُرِدْ) بطاعته (ثَوابَ الدُّنْيا) أي جزاء عمله من الدنيا (نُؤْتِهِ مِنْها) أي نعطه ثوابها ما قسم له منها وماله في الآخرة من نصيب (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ) بطاعته (نُؤْتِهِ مِنْها) جزاء عمله (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [١٤٥] نعمة الله بالجهاد في الآخرة ، وهذه الآية تعريض بالذين شغلتهم الغنائم عن الجهاد يوم أحد.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦))

ثم قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) بمد الألف وبكسر الهمزة بلا ياء بمعنى كم التي للتكثير وقرئ بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبتشديد الياء المكسورة (٢) ، وأصله أيّ بمعنى بعض من كل دخل عليها كاف التشبيه فصارا كلمة واحدة ، وهي مبتدأ ، خبره (قاتَلَ) وقرئ قتل مجهولا (٣) ، أي كم نبي قاتل أو قتل (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي جماعة كثيرة ، بكسر الراء نسبة إلى الربة (٤) بمعنى الجماعة ، ف (رِبِّيُّونَ) مرفوع بالفاعلية ، فيكون القتل لهم دون النبي لما روي من الحسن وغيره : «ما قتل نبي قط في قتال» (٥)(فَما وَهَنُوا) أي ما عجزوا عن القتال (لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) من قتل أنفسهم (وَما ضَعُفُوا) لعدوهم بالجبن (وَمَا اسْتَكانُوا) أي ما خضعوا لأعدائهم بطلب الأمان منهم ، ولكنهم صبروا (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [١٤٦] في الشدة والبلاء لأجل دين الله تعالى ، وهذا أيضا تعريض لما (٦) أصابهم من الوهن والانكسار بخبر قتل رسول الله واستكانتهم للمشركين حتى أرادوا ، أي تعتضدوا بالمنافق عبد الله ابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان.

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧))

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ) بنصب اللام خبر (كانَ) واسمه (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي ما كان قول الذين قاتلوا مع أنبيائهم

__________________

(١) أي وراءه ، م : ـ ب س.

(٢) «وكأين» : قرأ المكي وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وبعدها همزة مكسورة وحينئذ يكون المد من قبيل المتصل لاجتماع حرف المد والهمز في كلمة واحدة فيمد كل منهما حسب مذهبه إلا أبا جعفر يسهل الهمزة فيكون له في المد القصر والتوسط ... والباقون بهمزة مفتوحة بدلا من الألف وبعدها ياء مكسورة مشددة ، فان وقف عليه بالبصريان يقفان علي الياء للتنبيه علي الأصل لأن الكلمة مركبة من كاف التشبيه وأي المنونة ومعلوم أن التنوين يحذف وقفا ، والباقون يقفون بالنون اتباعا لصورة الرسم ، ولحمزة في الوقف عليه وجهان ، التسهيل والتحقيق هكذا في فتح المقفلات للعلامة المخللاتي وبلوغ المسرحات للشيخ دراهم ، والذي يظهر لي أن فيه التسهيل فقط لأن هذه الكلمة وإن كانت مركبة بحسب الأصل من كاف التشبيه وأي ... البدور الزاهرة ، ٧٠ ـ ٧١.

(٣) «قاتل» : قرأ نافع بالهمزة ، والباقون بالتشديد ، وقرأ نافع والمكي والبصريان «قتل» بضم القاف وكسر التاء ، والباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما. البدور الزاهرة ، ٧١.

(٤) الربة ، ب : الرب ، س ، الربه ، م.

(٥) انظر الكشاف ، ١ / ٢٠٥.

(٦) لما ، ب : لمن ، س م.

١٨٤

إلا قولهم هذا (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) باضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضما لها (١) ، والمراد الصغائر والكبائر (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) عند القتال مع الأعداء (وَانْصُرْنا عَلَى) أعدائنا (الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [١٤٧] بك وبنبيك (٢) وإنما قدموا الاستغفار ، لأن تقديم الدعاء بالاستغفار والخضوع أقرب إلى الاستجابة.

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) من النصرة والغنيمة وطيب الذكر (وَ) آتاهم (حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) من الأجر والجنة ، وقيد ثواب الآخرة بالحسن ليدل على فضله والاعتداد به عنده (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [١٤٨] في الجهاد والطاعة بالصبر والاستقامة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) نزل في المنافقين الذين قالوا عند الهزيمة للمؤمنين : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم (٣) ، فقال تعالى : أيها المؤمنو (٤)! إن تطيعوا المنافقين (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) بعد الإيمان كفارا (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) [١٤٩] باطاعتهم في مقالتهم فلا تطيعوهم.

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠))

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي ناصركم ووليكم ، فأطيعوه فيما يأمركم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [١٥٠] على عدوكم فلا احتياج لكم إلى نصرة غيره وولايته.

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))

قوله (سَنُلْقِي) نزل حين عزم المشركون بعد عودهم إلى مكة من أحد ليرجعوا من الطريق ، ويستأصلوا المسلمين (٥) ، فقال تعالى : سنقذف (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) بضم العين وسكونها (٦) ، أي الخوف والهيبة ، فلما رجعوا على ذلك ألقى الخوف في قلوبهم فأمسكوا (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) أي بسبب إشراكهم به (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أي آلهة لم ينزل الله باشراكها (سُلْطاناً) أي حجة لهم (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي مصيرهم إليها في الآخرة (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [١٥١] أي مقام المشركين النار.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢))

قوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) نزل حين رجع المسلمون إلى المدينة ، فقال ناس من المسلمين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ (٧) فقال تعالى : لقد وعدكم الله النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا)(٨) الآية ، فكان النصر لكم (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي في وقت تقتلونهم (٩) قتلا ذريعا (بِإِذْنِهِ) أي بأمره

__________________

(١) لها ، ب م : لهم ، س.

(٢) وبنبيك ، ب س : ونبيك ، م.

(٣) عن علي رضي الله عنه : انظر البغوي ، ١ / ٥٦٣ ؛ والكشاف ، ١ / ٢٠٥.

(٤) أيها المؤمنون ، ب م : أيها الذين آمنوا ، س.

(٥) عن السدي ، انظر الواحدي ، ١٠٦ ـ ١٠٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٥٦٤

(٦) «الرعب» : قرأ الشامي وعلي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين ، والباقون باسكانها. البدور الزاهرة ، ٧١.

(٧) عن محمد بن كعب القرظي ، انظر الواحدي ، ١٠٧ ؛ والبغوي ، ١ / ٥٦٥.

(٨) آل عمران (٣) ، ١٢٠.

(٩) تقتلونهم ، ب س : يقتلونهم ، م.

١٨٥

(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ) أي إلى وقت فشلكم ونزاعكم فهو متعلق بقوله (صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) ، ومعنى (فَشِلْتُمْ) جبنتم ، من الفشل وهو الجبن مع ضعف ، وتركتم مركز الرماة لطلب الغنيمة واختلفتم (فِي الْأَمْرِ) أي في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلتم : انهزم المشركون فما موقفنا ههنا ، وقال بعضكم : لا نخالف أمر رسول ولا نبرح مكاننا كعبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة (وَعَصَيْتُمْ) أمر النبي عليه‌السلام بترك المركز (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الله (ما تُحِبُّونَ) من النصرة على عدوكم ، وجواب «إذا» محذوف ، وهو منعكم النصر فانهزمتم (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) أي بترك المركز وطلب الغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) بالثبات على المركز وامتثال أمر الرسول عليه‌السلام (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أي ردكم عن الكفار بالهزيمة من بعد أن أظفركم عليهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ليمتحن صبركم على المصائب من القتل والهزيمة والجراح وثباتهم على الإيمان عندها (وَلَقَدْ عَفا) الله (عَنْكُمْ) لما علم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ) أي ذو التفضل بالعفو (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [١٥٢] أي (١) يتفضل عليهم في جميع أحوالهم ، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصر رحمة.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))

قوله (إِذْ تُصْعِدُونَ) بضم التاء وكسر العين من أصعد إذا أبعد في الأرض ، يتعلق ب (صَرَفَكُمْ) أو ب «يبتليكم» أو باذكروا (٢) مضمرا ، أي اذكروا (٣) حين تعلون في الهزيمة على الجبل هاربين من العدو (وَلا تَلْوُونَ) أي ولا تقيمون (عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) يا معشر المسلمين أنا رسول الله (فِي أُخْراكُمْ) أي خلفكم فلم يلتفت أحد منكم إليه حتى صعدتم الجبل ، قوله (فَأَثابَكُمْ) عطف على «صرفكم» ، أي فجازاكم الله (غَمًّا) حين صرفكم عنهم وانهزمتم (بِغَمٍّ) أي بسبب غم أذقتموه الرسول عليه‌السلام حين عصيتموه أو غما متصلا بغم ، أي مضاعفا على غم من سماع قتل النبي عليه‌السلام والجراح والهزيمة وفوت الغنيمة والنصرة وظفر المشركين (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) متعلق بقوله «فأثابكم عما» ، أي غمكم لئلا تحزنوا لتعودكم (٤) احتمال الشدائد (عَلى ما فاتَكُمْ) من الفتح والغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) من مصائب (٥) القتل والهزيمة والجراح (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [١٥٣] أي عالم بأعمالكم فيجازيكم بها.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤))

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً) أي أزال عنكم الخوف وأنزل عليكم الأمن وأبدل من «أمنة» (نُعاساً) أو مفعول له ، لأن النعاس سبب حصول الأمن (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) بالياء ، لأن الضمير فيه ل «النعاس» ، وبالتاء (٦) للتأنيث ردا إلى ال «أمنة» ، أي يعلو النعاس في المصاف من كان أهل الصدق واليقين (وَطائِفَةٌ) مبتدأ ، خبره (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) أي أقلقتم (أَنْفُسُهُمْ) يعني ما بهم إلا هم أنفسهم دون الرسول وأصحابه فلم ينزل عليهم السكينة ، لأنها وارد روحاني لا يتلوث بهم (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ) أي ظنا غير ظن الحق (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي مثل ظن

__________________

(١) أي ، ب : أو ، س م.

(٢) باذكروا ، ب م : باذكر ، س.

(٣) اذكروا ، ب م : اذكر ، س.

(٤) لتعودكم ، ب : يتعودكم ، م ، بتعودكم ، س.

(٥) مصائب ، م : المصائب ، ب س.

(٦) «يغشي» : قرأ الأخوان وخلف بالتاء الفوقية ، والباقون بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ٧٢.

١٨٦

الجاهلية ، وهو أن محمدا قد قتل أو (١) أن الله لا ينصره ، والجملة في محل النصب على الحال (٢) من الضمير في («أَهَمَّتْهُمْ» (يَقُولُونَ) للنبي عليه‌السلام (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أي أمر النصرة (مِنْ شَيْءٍ) و (مِنْ) زائدة فيه ، وهو مبتدأ ، خبره (مِنَ الْأَمْرِ) ، و (لَنا) تبيين ، والجملة بدل من «يظنون» بدل اشتمال ، لأن سؤالهم كان صادرا عن الظن ، ويجوز أن يكون (يَقُولُونَ) استئنافا (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ) بالرفع (٣) مبتدأ ، خبره (لِلَّهِ) والجملة خبر «إن» ، وبالنصب (٤) تأكيدا للاسم ، أي جميع الأمر لله من النصرة والغلبة ولأوليائه المؤمنين ، قال تعالى : وإن جندنا لهم الغالبون ، فأنكروا ذلك فأخبر الله بقوله (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي ما لا يظهرون من قولهم (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كما قال محمد : إن الأمر لله ولأوليائه (ما قُتِلْنا هاهُنا) أي لما قتل أحد من المسلمين في هذه المعركة (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) أي لو قعدتم فيها وما خرجتم إلى الغزو (لَبَرَزَ) أي لخرج (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) في اللوح المحفوظ أو في علمه تعالى (إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي إلى مصارعهم ، وقتلوا فيها ، لأن معلوم الله لا بد من وجوده كيف ما كان مقدورا (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ) أي ليختبر (ما فِي صُدُورِكُمْ) من الإخلاص ، عطف على علة محذوفة لفعل محذوف ، أي فعل ذلك لمصالح كثيرة وليبتلي ما في صدوركم (وَلِيُمَحِّصَ) أي يطهر (٥)(ما فِي قُلُوبِكُمْ) من وساوس الشيطان (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [١٥٤] أي بما في القلوب من الخير والشر.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا وانهزموا (مِنْكُمْ) نزل توبيخا لمن خالفوا أمر النبي عليه‌السلام ، وتركوا المركز فانهزم المسلمون بأحد (٦)(يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) من المسلمين والكافرين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي طلب زلتهم بتسويله المخالفة وترك المركز (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي بسبب بعض ذنوب (٧) صدرت منهم قبل ، لأن الذنوب تجر (٨) إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة ، ولم يؤاخذهم الله بجميعها ، لأنه عفوّ يعفو عن كثير ، ثم طيب قلوبهم بعد التوبيخ بقوله (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (حَلِيمٌ) [١٥٥] لا يعجل على العصاة بالعقوبة ، لأنه لا يخاف الفوت.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦))

ثم قال تحذيرا لهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي كالمنافقين (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجل إخوانهم بزعمهم (إِذا ضَرَبُوا) أي حين سافروا (فِي الْأَرْضِ) لتجارة أو غيرها فماتوا في سفرهم (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز كصائم وصوم ، أي خرجوا إلى الغزو فقتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) بالمدينة (ما ماتُوا) في سفرهم (وَما قُتِلُوا) في الغزو (لِيَجْعَلَ) أي ليصير (اللهُ ذلِكَ) أي قالوا ما قالوا لهم واعتقدوه ليجعل الله ذلك القول والاعتقاد (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي في قلوب المنافقين وندامة في العاقبة أما في الدنيا أو في الآخرة ، فاللام لام العاقبة كما في قوله (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٩)(وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) في السفر والحضر بقضائه ومشيته ، فهو

__________________

(١) أو ، ب م : و ، س.

(٢) علي الحال ، س م : ـ ب.

(٣) بالرفع ، ب م : ـ س.

(٤) «كله» : قرأ البصريان برفع لام «كله» ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٧٢.

(٥) أي يطهر ، ب س : أي يظهر ، م.

(٦) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ١ / ٥٧٠.

(٧) ذنوب ، س م : ذنوبهم ، ب.

(٨) تجر ، س : يجر ، س م.

(٩) القصص (٢٨) ، ٨.

١٨٧

رد لقولهم ، لأن الأمر بيده (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [١٥٦] بالتاء والياء (١) ، فلا تكونوا مثل هؤلاء المنافقين.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧))

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي والله إن قتلتم في الغزو لله (أَوْ مُتُّمْ) في بكسر الميم ، من مات يمات ، وبضمها (٢) من مات يموت ، وأنتم مؤمنون (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) لذنوبكم بسببه (وَرَحْمَةٌ) أي ونعيم الجنة ، مبتدأ ، خبره (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [١٥٧] بالتاء والياء (٣) ، من حطام الدنيا في إقامتكم ، والجملة الاسمية ساد مسد جواب القسم المحذوف والشرط ، والمعنى : أن موتكم وقتلكم في سبيل الله وجهاده مع نيلكم المغفرة والرحمة من الله أفضل مما تجمعون من الأموال في الدنيا الفانية بالتقاعد والجبانة لأجله عن الجهاد في سبيل الله يا معشر المنافقين.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

ثم أكد ذلك بقوله (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) في سبيل الله (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [١٥٨] أي لإلى الرحيم الواسع المغفرة والرحمة تبعثون بعد الموت ، فيجازيكم بالثواب العظيم لا إلى غيره فتظلمون.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩))

قوله (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) إظهار لكثرة شفقة النبي عليه‌السلام على أمته مع ذكر منته تعالى عليه بتوفيقه إياه للرفق والتلطف بهم ، و «ما» زائدة للتوكيد والدلالة على اختصاص لينه (٤) لهم برحمة الله تعالى ، أي فبرحمة منه تعالى لطفت بهم يا محمد وسهلت أخلاقك لهم حين عصوك وخالفوك (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي كريه الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي جافيه (٥) ، خشن القول (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي لتفرقوا من عندك ، ولكن الله جعلك بارا ، رحيم القلب ، لينا لطيفا بهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي تجاوز عن فعلهم بأحد (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي اطلب المغفرة مني لذنوبهم ، يعني اشفع لهم حتى أشفعك (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي في أمر الحرب وغيره تطييبا (٦) لقلوبهم أو استظهارا برأيهم فيما لم ينزل عليك وحي فيه ، قال عليه‌السلام : «ما شقى عبد قط بمشورة وما سعد باستغناء رأي» (٧)(فَإِذا عَزَمْتَ) على فعل بعد المشاورة ووضوح الرأي (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) لا على المشاورة ولا على أصحابها في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [١٥٩] عليه لا على غيره.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

ثم أخبر أن النصرة كلها منه تعالى بقوله (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) كما في يوم بدر (فَلا غالِبَ لَكُمْ) من العدو (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما خذلكم في يوم أحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) أي يمنعكم من عدوكم (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد خذلانه (وَعَلَى اللهِ) وحده (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [١٦٠] في النصرة (٨) ، وقيد المؤمنين ، لأنهم عرفوا أنه لا ناصر لهم غيره وهذا تنبيه على أن الأمر كله له وعلى وجوب التوكل عليه.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١))

__________________

(١) «تعملون» : قرأ المكي والأخوان وخلف بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية. البدور الزاهرة ، ٧٢.

(٢) «متم» : قرأ نافع والأخوان وخلف بكسر الميم ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٧٢.

(٣) «تجمعون» : قرأ حفص بياء الغيب ، والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٧٢.

(٤) لينه ، ب : لينة ، س م.

(٥) جافيه ، ب م : جافيا ، س.

(٦) تطييبا ، ب س : تطيبا ، م.

(٧) انظر السمرقندي ، ١ / ٣١١. ولم اعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٨) في النصرة ، ب م : ـ س.

١٨٨

قوله (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) بفتح الياء وضم الغين ، أي يخون وبضم الياء وفتح الغين (١) ، أي ينسب إلى الخيانة ، نزل حين فقدت قطيفة حمراء يوم بدر ، فقال المنافقين : لعل رسول الله أخذها (٢) ، وروي : «أنه عليه‌السلام بعث طلائع لحقيقة أمر العدو فغنمت غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع وسمي حرمان بعض الغزاة غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر» (٣) ، وفيه نهي للنبي (٤) على السّلام عن الغلول على سبيل المبالغة ، أي ما صح لنبي أن يخون فيعطي قوما ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم على السوية أو ما جاز أن يخون في الغنيمة فيأخذها لأجله ولا يقسم لهم (وَمَنْ يَغْلُلْ) أي يخن في الغنيمة (يَأْتِ بِما غَلَّ) أي بالشيء الذي غله بعينه يحمله على ظهره (يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال عليه‌السلام : «ألا لأعرفن أحدكم يوم القيامة يأتي ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشاة لها ثغاء ، فيقول : يا محمد ، فأقول له : لا أملك لك من الله شيئا فقد بلغتك» (٥) ، ويجوز أن يكون المعنى : يأت بوباله على عنقه كقوله (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ)(٦)(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) أي تجازى (ما كَسَبَتْ) أي ما (٧) عملت من خير وشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [١٦١] أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم ولا يزاد جزاؤهم فوق آثامهم ، لأنه عادل بينهم في الجزاء ، وإنما لم يقل «ثم يوفى» بالتذكير ليرجع الضمير فيه إلى «من» ، لأنه جاء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره ، فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أبلغ وأثبت في الزجر عن الغلول.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢))

ثم قال بهمزة الاستفهام لإنكار التسوية بين الأمين الصالح والخائن الفاسق (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) وأخذ الحلال من الغنيمة (كَمَنْ باءَ) أي رجع واستوجب (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بسبب الغلول من الغنائم ، ثم بين مستقر كل منها فقال (وَمَأْواهُ) أي مقام من غل من الغنيمة (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [١٦٢] أي الموضع الذي صار إليه النار.

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣))

(هُمْ دَرَجاتٌ) أي الذين اتبعوا رضا الله ولم يغلوا من الغنائم ذوو طبقات (٨)(عِنْدَ اللهِ) في الفضل ، فبعضهم يكون أرفع من بعض أو لهم درجات في الجنة (وَاللهُ بَصِيرٌ) أي عالم (بِما يَعْمَلُونَ) [١٦٣] من الغلول وعدم الغلول ، فيجازيهم على حسب أعمالهم بالدركات والدرجات.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي أنعم على من آمن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه ، وخصهم بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بمبعثه (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من جنسهم عربيا ليفهموا عنه كلامه ، ففيه منة عليهم لأخذ ما يجب عليهم أخذه عنه بعد علمهم أحواله في الصدق والأمانة (يَتْلُوا) أي يقرأ (عَلَيْهِمْ آياتِهِ) بالبيان ليعلموا به الحلال والحرام (وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهرهم من الشرك والذنوب بالأمر بشهادة (٩) أن «لا إله إلا الله» (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي المواعظ للعلم والعمل (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي وإن الشأن

__________________

(١) «يغل» : قرأ المكي والبصري وعاصم بفتح الياء وضم الغين والباقون بضم الياء وفتح الغين. البدور الزهرة ، ٧٢.

(٢) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ١ / ٥٧٤ ؛ والواحدي ، ١٠٧.

(٣) عن الضحاك ، انظر الواحدي ، ١٠٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٥٧٤.

(٤) للنبي ، ب س : لنبي ، م.

(٥) رواه البخاري ، الجهاد ، ١٨٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢١٠.

(٦) الأنعام (٦) ، ٣١.

(٧) ما ، س م : ـ ب.

(٨) ذوو طبقات ، ب : ذو طبقات ، س م ؛ وانظر أيضا ، السمرقندي ، ١ / ٣١٢ ؛ والبغوي ، ١ / ٥٧٦.

(٩) بشهادة ، ب م : بالشهادة ، س.

١٨٩

والحديث كانوا من (١) قبل بعثة الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [١٦٤] أي ظاهر لا شبهة فيه ، ف «إن» فيه هي المخففة ، واللام هي الفارقة بينها وبين «إن» النافية.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥))

قوله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ) الهمزة فيه للتقرير والتقريع ، دخلت على الواو العاطفة على محذوف ، تقديره : أفعلتم كذا من الفشل والتنازع ، ولما أصابتكم بأحد (مُصِيبَةٌ) بقتل سبعين منكم والهزيمة ، وصفة «مصيبة» (قَدْ أَصَبْتُمْ) ببدر (مِثْلَيْها) بقتل سبعين وأسر سبعين منهم (قُلْتُمْ) تعجبا ، وهو عامل في «لما» بمعنى حين (أَنَّى هذا) أي من أين هذا الخذلان لنا ، ونحن موعودون بالنصرة بسبب إيماننا (قُلْ هُوَ) أي الخذلان (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي بسبب اختياركم الخروج من المدينة وإلحاحكم في ذلك نبيكم عليه‌السلام أو لتخليتهم (٢) وترك المركز أو لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم ، لا من عند الله واختياره بلا جزم منكم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [١٦٥] من النصر ومنعه وعلى أن يصيبكم تارة ويصيب منكم مرة أخرى.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦))

قوله (وَما أَصابَكُمْ) مبتدأ متضمن معنى الشرط ، أي الذي أصابكم من مصيبة كالقتل والهزيمة (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع الكافرين ، وخبر المبتدأ قوله (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فهو كائن بتخليته (٣) وإرادته (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) [١٦٦] أي وهو كائن ليميزهم من غيرهم باخلاصهم وثباتهم.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧))

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي وهو كائن ليظهرهم (٤) بنفاقهم وقلة صبرهم ، قوله (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على «نافقوا» تحقيقا لنفاقهم للمؤمنين ، أي قيل لابن أبي وأصحابه حين قعدوا عن الحرب (٥) وانقطعوا عن أحد (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أعداءه (أَوِ ادْفَعُوا) عن أنفسكم وحرمكم إن لم تقاتلوا لوجه الله أو ادفعوا القوم بتكثيركم سواد المسلمين ، لأن كثرة السواد مما يخوف العدو وتكسر حدته (قالُوا) في الجواب (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) أي قتالا حقا (لَاتَّبَعْناكُمْ) فيه ، ولكنه إلقاء النفس إلى التهلكة ، فليس بقتال حق لخطأ رأيكم ، فأظهر (٦) الله تعالى كذبهم بقوله (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ) أي هم لأهل الكفر أقرب نصرة (مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي لأهل (٧) الإيمان ، فاللام في (لِلْكُفْرِ) و (لِلْإِيمانِ) متعلق ب (أَقْرَبُ) ، وهي على بابها ، وقيل بمعنى إلى (٨) ، يعني ميلهم إلى الكفر يومئذ أقرب من ميلهم إلى الإيمان لظهور (٩) علامة الكفر فيهم لا نخزالهم من (١٠) عسكر المسلمين المجاهدين في سبيل الله (يَقُولُونَ) أي القائلين (١١)(بِأَفْواهِهِمْ) أي بألسنتهم (ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فهو حال من الضمير في («أَقْرَبُ» (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) [١٦٧] من الكفر والنفاق.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

قوله (الَّذِينَ قالُوا) خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين قالوا (لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجل إخوانهم في سكنى الدار

__________________

(١) من ، م : ـ ب س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢١١.

(٢) أو لتخليتهم ، س : ـ ب م.

(٣) بتخليته ، ب س : بتخليقه ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢١١.

(٤) ليظهرهم ، ب م : ليظهر ، س.

(٥) عن الحرب ، ب م : ـ س.

(٦) فأظهر ، س : فأظهره ، ب م.

(٧) لأهل ، س م : أهل ، ب.

(٨) أخذه عن البغوي ، ١ / ٥٧٨.

(٩) لظهور ، ب : بظهور ، س م.

(١٠) من ، ب م : عن ، س.

(١١) القائلين ، ب م : قائلين ، س.

١٩٠

لا في الدين ، وهم شهاداء أحد (وَقَعَدُوا) أي وقد قعدوا عن القتال في المدينة ، والواو للحال (لَوْ أَطاعُونا) في القعود عن الجهاد والانصراف عن محمد عليه‌السلام (ما قُتِلُوا) بالتخفيف والتشديد (١) ، ثم قال تعالى لنبيه توبيخا وتعجيزا لهم (قُلْ فَادْرَؤُا) أي ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) إذا حضر برأيكم وحيلكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [١٦٨] في مقالتكم من أن القعود عن القتال سبب النجاة من الموت لا غيره ، لأنه يجوز أن يكون القتال سببا للنجاة ، ولو لم يقاتل رجل (٢) لقتل وله أسباب أخر ، فما يدرككم أن سببها القعود ، وإن الحذر لا ينجي من القدر ، وقيل : لما نزلت هذه الآية مات يومئذ سبعون نفسا (٣) من المنافقين (٤) في المدينة (٥).

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩))

ثم نزل في شهداء بدر وأحد وغيرهم قوله (٦)(وَلا تَحْسَبَنَّ) بالتاء والياء (٧) والفاعل النبي عليه‌السلام أو غيره ، أي لا يظنن النبي (الَّذِينَ قُتِلُوا) بالتخفيف والتشديد (٨)(فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته (أَمْواتاً بَلْ) هم (أَحْياءٌ) مقربون (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وهو عطف جملة على جملة ، والغرض الإعلام بحياتهم ترغيبا في الجهاد ولو عطف «أحياء» على «أموات» لاختل المعنى ، لأنه يصير التقدير : لا تحسبنهم أحياء ، المعنى : أنهم يتنعمون (٩) كالأحياء عند ربهم (يُرْزَقُونَ) [١٦٩] مثل ما يرزق سائر الأحياء من المآكل والمشارب ، وهو تأكيد لكونهم أحياء.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠))

(فَرِحِينَ) أي معجبين (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من التوفيق في الشهادة والكرامة والفضيلة على غيرهم (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي وهم يطلبون البشارة (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي باخوانهم الذين لم يقتلوا وبقوا بعدهم ، ومحل قوله (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) جر بدل من «الذين» ، أي يستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين من عدم خوف لهم فيما يستقبلهم من البعث يوم القيامة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [١٧٠] أي ومن عدم حزنهم على ما خلفوا في الدنيا ، يعني يفرحون يومئذ بسلامة إخوانهم الباقين بعدهم حيث وصلوا إليهم آمنين ، وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن بعدهم بعث (١٠) للمؤمنين الباقين على ازدياد الطاعة والجد في الجهاد والرغبة في منازل الشهداء.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))

ثم كرر الاستبشار للتأكيد بقوله (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ) أي بجنة (مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي بكرامة فيها (وَأَنَّ) بالفتح ، أي وبأن (اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [١٧١] وبالكسر (١١) على الاستئناف ، أي ثواب أعمالهم الحسنة ، روي عن عليه‌السلام : «السيوف مفاتيح الجنة» (١٢) ، وعنه أيضا : «الشهيد يشفع في سبعين من أهله» (١٣) ، وعنه أيضا : «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تدور في الجنة وتأكل من ثمارها ، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب

__________________

(١) «ما قتلوا» : قرأ هشام بتشديد التاء والباقون بتخفيفها. البدور الزاهرة ، ٧٢.

(٢) رجل ، م : ـ ب س.

(٣) نفسا ، م : ـ ب س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣١٤.

(٤) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ١ / ٣١٤.

(٥) في المدينة ، م : ـ ب س.

(٦) اختصره من البغوي ، ١ / ٥٧٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١١٠ ، ١١١.

(٧) «ولا تحسبن» : قرأ هشام بخلف عنه بياء الغيب ، والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٧٢.

(٨) «قتلوا» : قرأ ابن عامر بتشديد التاء ، والباقون بتخفيفها. البدور الزاهرة ، ٧٣.

(٩) يتنعمون ، ب س : تنعمون ، م.

(١٠) بعث ، ب س : حث ، م.

(١١) «وأن» : قرأ الكسائي بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٧٣.

(١٢) انظر السمرقندي ، ١ / ٣١٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(١٣) أخرج أبو داود نحوه ، الجهاد ، ٢٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣١٥.

١٩١

معلقة بالعرش» (١).

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣))

قوله (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ) مبتدأ ، نزل حين رجع أبو سفيان إلى مكة بعد قتال أحد بأصحابه وندم حيث لم يستأصل النبي وأصحابه ، فأرادوا العود مع أصحابه لذلك فسمع النبي عليه‌السلام الخبر فأراد أن يخرج له فكره أصحابه الخروج إليهم ، فقال النبي عليه‌السلام : «والذي نفسي بيده لأخرجن إليهم وإن لم يخرج معي أحد منكم» ، فمضى رسول الله في طلب أبي سفيان ومعه نحو سبعين رجلا من المسلمين وكان بهم جراحات حتى بلغ حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة ، فجبن أبو سفيان عن العود إليه (٢) ، فقال تعالى مدحا لمن أطاع النبي عليه‌السلام في ذلك الذين أجابوا لأمر الله (وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي الجراحات يوم أحد ، وجملة قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) بطاعتهم الله ورسوله (مِنْهُمْ) للبيان (وَاتَّقَوْا) أي المعاصي في محل الرفع خبر ، مبتدأه (أَجْرٌ عَظِيمٌ) [١٧٢] أي ثواب كثير ، والجملة في محل الرفع خبر (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) ، ثم قال أبو سفيان لرجل اسمه نعيم ابن مسعود كان يخرج إلى المدينة للتجارة إذا أتيت محمدا وأصحابه فخوفهم لكيلا يخرجوا بأنا قد جمعنا على العود عليهم ، فلما قدم إلى المدينة أخبرهم بما قال له ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فنزل مدحا لهم (٣)(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أي نعيم ابن مسعود من إطلاق الكل وإرادة البعض ، وقيل : كان ركب من عبد القيس (٤) معه (٥)(إِنَّ النَّاسَ) أي أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) أي اجتمعوا ليستأصلوا (فَاخْشَوْهُمْ) أي لا تخرجوا إليهم خوفا (فَزادَهُمْ) أي ذلك القول أو الضمير للمقول الذي هو («إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» (إِيماناً) أي تصديقا ويقينا وقوة بأن أخلصوا النية على الجهاد (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي كافينا (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [١٧٣] أي الموكول إليه هو فأيقنوا أن الله لا يخذل محمدا ، وذهبوا معه إلى الموعد ، روي : أن أبا سفيان كان واعد النبي عليه‌السلام أن يلقاه ببدر الصغري وكانت موسما ، فلما كان العام القابل جبن أبو سفيان عن الذهاب إلى بدر ، ذهب النبي عليه‌السلام وأصحابه إليها ومعهم تجارات فكسبوا في تجاراتهم ولم يلقوا عدوا (٦).

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤))

(فَانْقَلَبُوا) أي انصرفوا من بدر (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بأجر منه (وَفَضْلٍ) أي وربح من السوق بسلامة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي قتال يسؤهم من عدوهم (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بجرأتهم وخروجهم في سبيله (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [١٧٤] أي تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا ، وفيه تحسير لمن تخلف (٧) عنهم وإظهار (٨) لخطأ رأيهم ، روي : «أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم» (٩).

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

ثم قال (إِنَّما ذلِكُمُ) أي القائل لكم إن الناس قد جمعوا لكم تخويفا ، مبتدأ ، خبره (الشَّيْطانُ) وهو نعيم

__________________

(١) انظر البغوي ، ١ / ٥٧٩. وفي المسند لأحمد بن حنبل «أرواح الشهداء في طائر خضر تعلق من ثمر الجنة ...» ، ٦ / ٣٨٦.

(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣١٦ ـ ٣١٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١١١ ؛ والبغوي ، ١ / ٥٨٤ ـ ٥٨٧ ؛ والكشاف ، ١ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) عن قتادة ، انظر الواحدي ، ١١٢.

(٤) ركب من عبد القيس ، ب م : ـ س.

(٥) لعل المصنف أخذه عن الكشاف ، ١ / ٢١٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٥٨٧.

(٦) لعله اختصره من البغوي ، ١ / ٥٨٧ ؛ والكشاف ، ١ / ٢١٤.

(٧) تخلف ، ب س : يتخلف ، م.

(٨) وإظهار ، ب م : ـ س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢١٥.

(٩) نقله عن الكشاف ، ١ / ٢١٥.

١٩٢

ابن مسعود (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) وهم القاعدون عن الخروج مع رسول الله أو يخوف بأوليائه وهم المشركون (فَلا تَخافُوهُمْ) أي الشيطان وأولياءه ، ويجوز أن يعود الضمير إلى الناس في قوله (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) ، يعني لا تخافوهم فتقعدوا (١) عن القتال وتجبنوا (وَخافُونِ) في القعود عن الطاعة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٧٥] أي مصدقين بالله ، فان الإيمان يقتضي تقديم خوف الله على خوف غيره.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦))

قوله (وَلا يَحْزُنْكَ) بضم الياء وكسر الزاء من أحزن ، وبفتح الياء وضم الزاء (٢) من حزن ، أي لا يغمك (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) نزل في المنافقين المتخلفين (٣) أو المرتدين عن الإسلام (٤) ، يعني لا تحزن لخوف أن يضروك ويعينوا عليك (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) أي دينه (شَيْئاً) بكفرهم ، بل وبال كفرهم راجع عليهم (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) أي نصيبا (فِي الْآخِرَةِ) أي في الجنة ، وفي ذكر الإرادة تنبيه على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه (٥) حتى إن واسع (٦) الرحمة والمغفرة يريد أن لا يرحمهم ولا يغفر لهم ليثيبهم بالجنة (٧)(وَلَهُمْ) بدل الثواب (عَذابٌ عَظِيمٌ) [١٧٦] في النار يوم القيامة.

__________________

(١) فتقعدوا ، ب س : فيقعدوا ، م.

(٢) «يحزنك» : قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي. البدور الزاهرة ، ٧٣.

(٣) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣١٧ ٧* عيون التفاسير ـ ١

(٤) أخذه المؤلف عن السمرقندي مختصرا ، ١ / ٣١٧.

(٥) وبلوغهم الغاية فيه ، ب م : ـ س.

(٦) واسع ، م : واسعة ، ب س.

(٧) بالجنة ، ب م : في الجنة ، س.

١٩٣

سورة النساء

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) أي اعبدوا بالتقوى عن الشرك والمعصية أو خافوا (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي فرعكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم ، والخطاب عام لجميع بني آدم (وَخَلَقَ) عطف على محذوف ، هو صفة (نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، كأنه قال : من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق (مِنْها) أي من تلك النفس (زَوْجَها) حواء لأنه خلقها من ضلعه الأيسر ، وقيل : عطف على (خَلَقَكُمْ)(١) ، والخطاب للناس المبعوث إليهم رسول الله ، والمعنى : أنه خلقكم من نفس آدم أبيكم وخلق منها أمكم حواء ، قيل : لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم فخلقها منه بين النوم واليقظة وسميت حواء لأنها خلقت من حي (٢)(وَبَثَّ) أي نشر (مِنْهُما) أي من آدم وحواء (رِجالاً كَثِيراً) ولم يؤنث الوصف لأن الرجال بمعنى العدد (وَنِساءً) ولم يقل كثيرة اكتفاء بذكر كثرة الرجال ، لأنهم في مقابلتهن ، قيل : «خلق الله (٣) منهما ألف ذرية من الناس» (٤) ، وإنما وصف لهم بذلك الوصف بعد الأمر بالتقوى لكونه مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن كان قادرا عليه كان قادرا على تعذيبه ، فحقه أن تتقوه وتعبدوه ولا تشركوا به (٥) ، ثم أمر بتقواه ثانيا تصريحا باسمه عاطفا على الأول لتحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه (٦) فقال (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) بالتشديد والتخفيف (٧) ، أي تقسمون بالله في حاجاتكم (وَالْأَرْحامَ) بالجر ، أي وبالأرحام كقول بعضكم بعضا أسألك بالله وبالأرحام على سبيل الاستعطاف وأجاز الكوفي العطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجار ومنعه البصري ، لأنه كالعطف على بعض الكلمة لشدة الاتصال بينه وبين الجار ، وأوله بتقدير حرف الجر المحذوف من المجرور أو الواو للقسم من الله وهو الأولى من العطف للخروج من الخلاف ، وجوابه (٨) ما بعده ، وقرئ بالنصب (٩) على أنه مفعول معطوف على «الله» ، أي اتقوا الله واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : «إن الله تعالى لما خلق الرحم قال لها : أصل من وصلك وأقطع من قطعك» (١٠) أو محل الجار والمجرور كمررت بزيد وعمرا ،

__________________

(١) وهذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ١ / ٢٢٤.

(٢) حي ، ب م : الحي ، س. لعله نقله من السمرقندي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣٢٨.

(٣) الله ، ب م : ـ س.

(٤) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣٢٩.

(٥) أن تتقوه وتعبدوه ولا تشركوا به ، س : أن يتقوه ويعبدوه ولا يشركوا به ، ب م.

(٦) لتحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه ، س : ليحافظوا عليه ولا يغفلوا عنه ، ب م.

(٧) «تساءلون» : قرأ الكوفيون بتخفيف السين ، والباقون بتشديدها ، ولا يخفي وقف حمزة. البدور الزاهرة ، ٧٥.

(٨) وجوابه ، ب م : وجوابها ، س.

(٩) «والأرحام» : قرأ حمزة بخفض الميم ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٧٥.

(١٠) أخرجه البخاري ، الأدب ، ١٣ ، والتوحيد ، ٣٥ ؛ ومسلم ، البر ، ١٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٣٠.

١٩٤

قوله (١)(إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [١] جواب القسم على القراءة بالجر في الأرحام ولم يعطف على ما قبله ، والمعنى : أنه تعالى أقسم بالأرحام بعد ما أمر بالتقوى ، إن الله كان عليما (٢) بأسراركم ، أي حفيظا لأعمالكم ناظرا إليها (٣) يسألكم عنها ويجازيكم بها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرحم ، وما من عمل سيئة أسرع عقوبة من البغي» (٤).

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

وبعد الأمر بالتقوى أمر بالعدل وتسليم (٥) الحقوق إلى مستحقيها (٦) كما يجب في الشرع بقوله (وَآتُوا) أي أعطوا (الْيَتامى) وهم الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم ، واليتم الانفراد ، واليتيم فعيل قياسه أن يجمع على يتمى كمريض على مرضى ، ثم يجمع على يتامى ، وحقه أن يقع على الصغير والكبير بمعنى الانفراد عن الأب فيهما إلا أنه غلب استعماله في الصغير لاستغناء الكبير بنفسه عن الكافل ، فكأنه خرج عن معنى اليتم لقوله عليه‌السلام : «لا يتم بعد الحلم» (٧) ، وهو تعليم شريعة لا لغة ، يعني سلموا إلى اليتامى (أَمْوالَهُمْ) وقت استحقاقهم تسليمها إليهم ، فالمراد منهم الكبائر تسمية لهم يتامى على القياس وإشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ ، ثم قال (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) أي لا تقبلوا المال الحرام (بِالطَّيِّبِ) أي بالمال الحلال (٨) ، والمراد منه أن يعطوا من أموالهم رديا وهو حلال لهم (٩) ويأخذوا جيدا من أموال اليتامى وهو خبيث في حقهم ، ثم قال تأكيدا لذلك (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) وهو في موضع الحال ، أي مضمومة إلى أموالكم في الإنفاق لقلة المبالاة بما لا يحل لكم ، والنهي وارد على فعلهم العادي أو كان الأكل بعد ضمها إلى الحلال أقبح ، فنهوا عن ذلك (إِنَّهُ) أي إن ذلك الأكل (كانَ حُوباً كَبِيراً) [٢] أي إثما عظيما عند الله فاجتنبوه ، روي : أن الآية نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه ، فترافعا إلى رسول الله فقرأها عليه ، فلما سمعها قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع ماله إليه ، فلما قبض اليتيم ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال عليه‌السلام ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقالوا : يا رسول الله! كيف بقي الوزر وقد أنفق في سبيل الله؟ فقال عليه‌السلام : ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده (١٠).

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣))

قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) نزل حين تحرجوا (١١) من ولاية اليتامى مخافة أن لا يعدلوا بسبب نزول الآية السابقة ، وكان منهم من تحته العشر من الأزواج أو الثماني (١٢) أو الست فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن (١٣) ، فقال تعالى وإن خفتم (١٤) ، أي علمتم (١٥) أن لا تعدلوا (فِي) أموال (الْيَتامى) من أقسط إذا عدل ، وهو من قسط

__________________

(١) قوله ، ب م : ـ س.

(٢) عليما ، م : عالما ، ب س.

(٣) ناظرا إليها ، ب : ناظر إليها ، س ، ناظر ، م.

(٤) رواه ابن ماجة ، الزهد ، ٢٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٣٠.

(٥) وتسليم ، ب م : ولتسليم ، س.

(٦) مستحقيها ، ب : مستحقها ، س ، م.

(٧) رواه أبو داود ، الوصايا ، ٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢٢٥.

(٨) أي بالمال الحلال ، ب : أي ببدل المال الحلال ، م ، أي بدل مال الحلال ، س.

(٩) وهو حلال لهم ، ب : وهو الحلال لهم ، س ، وهو حلال لكم ، م.

(١٠) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣٣١.

(١١) تحرجوا ، ب س : تخرجوا ، م.

(١٢) أو الثماني ، ب س : أو الثاني ، م.

(١٣) عن سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي ، انظر الواحدي ، ١٢١ ـ ١٢٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٣١ ؛ والبغوي ، ٢ / ٥ ـ ٦.

(١٤) وإن خفتم ، م : إن خفتم ، ب س.

(١٥) أي علمتم ، م : وعلمتم ، ب س.

١٩٥

إذا جار (١) ، والهمزة للسلب (فَانْكِحُوا) أي تزوجوا (ما طابَ) أي من حل (٢)(لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ف «ما» بمعنى من ، و «من» للتبعيض ، يعني فكما خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء فقللوا عددهن ، ثم بين المباح من النساء (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لا ينصرف هذه الصيغ إلى عشار للعدل والوصف ، وهي نكرات يدخلها لام التعريف كالمثنى والثلاث والرباع في محل النصب على الحال من النساء أو بدل من «ما» ، والواو للتخيير ، وليس للعطف الجامع في زمان واحد وإلا لجاز الجمع (٣) بين تسع نسوة وليس بجائز وإن أجازه بعض الروافض بظاهر الآية ، لأن التسع من خصائص النبي عليه‌السلام ، ولأنه عليه‌السلام نهى عن تزويج أكثر من أربع وإلا لجاز (٤) له أن يتزوج بما شاء ، لأنه لا يقتضي حصرهن في هذا العدد كما قيل في نحو قولهم : جاء القوم مثنى وثلاث ورباع ، فانهم جوزوا أن يكون القوم الجائين في غاية الكثرة ، فالمعنى في الآية : تزوجوا إن شئتم مثنى وإن شئتم ثلاث وإن شئتم رباع إذا عدلتم بينهن في القسم ، والخطاب للجميع فوجب التكرير لنصيب كل واحد من الناكحين ما أرادوا من العدد وإنما جاء العطف بالواو دون أو ليدل على تجويز (٥) الجمع بين أنواع القسمة (٦) الذي دلت عليه الواو ، ثم قال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فيهن في النفقة والقسم (فَواحِدَةً) أي فاختاروا واحدة منهن (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي أو اختاروا مما ملكتم بالشراء وغيره (٧) من السراري ، لأنها أخف مؤنة من الحرائر فلا عليكم أكثرتم منهن أو أقللتم (٨) عدلتم بينهن في القسم أو لم تعدلوا عزلتم عنهن أم لم تعزلوا (٩)(ذلِكَ) أي اختيار الواحدة (١٠) أو السراري (أَدْنى) أي أقرب من (أَلَّا تَعُولُوا) [٣] أي لا تجوروا أو لا تميلوا في النفقة والقسم بينهن ، من عال الحاكم إذا جار أو من عال الميزان إذا مال.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

(وَآتُوا النِّساءَ) أي أعطوهن (صَدُقاتِهِنَّ) أي مهورهن ، جمع صدقة (نِحْلَةً) أي إعطاء وهبة عن طيب نفس ، وهي مصدر أو حال من المخاطبين بمعنى ناحلين أو من الصدقات (١١) بمعنى منحولة ، وهذا أمر للأزواج أن يعطوا مهور نسائهم لهن ، قال عليه‌السلام : «أحق الشروط أن توفوا بما استحللتم به الفروج» (١٢) أو أمر للأولياء ، لأنهم كانوا يأخذون مهور (١٣) بناتهم ولا يعطونهن (١٤) شيئا ، ثم كان بعض الناس يتأثمون أن يأخذوا مما أعطوا من نسائهم شيئا فنزل (١٥)(فَإِنْ طِبْنَ) أي إن وهبن (لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) أي من المال (١٦) الذي هو الصدقة (نَفْساً) بأن لا يطلبن ما وهبن لكم بعد الهبة (فَكُلُوهُ هَنِيئاً) أي طيبا (مَرِيئاً) [٤] أي سائغا لا ينغصه ، ونصبهما صفة مصدر محذوف ، أي أكلا هنيئا مريئا أو حال (١٧) من مفعول «كلوه» (١٨) ، والمراد منه المبالغة في الإباحة (١٩) من غير تبعة ، وفي الآية دليل على وجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس ، ولذا قيل : يجوز الرجوع بما وهبن إن خدعن من الأزواج (٢٠).

__________________

(١) جار ، ب س : جاز ، م.

(٢) حل ، ب س : أحل ، م.

(٣) الجمع ، ب م : ـ س.

(٤) وإلا لجاز ، م : ولجاز ، ب س.

(٥) تجويز ، ب س : تزويج ، م.

(٦) القسمة ، ب م : القسم ، س.

(٧) مما ملكتم بالشراء وغيره ، ب م : مما ملكت أيمانكم بالشري وغيره ، س.

(٨) أقللتم ، ب م : قللتم ، س.

(٩) أم لم تعزلوا ، ب س : أو لم تعزلوا ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢٢٧.

(١٠) الواحدة ، ب م : واحد ، س.

(١١) أو من الصدقات ، س : أو لمن الصدقات ، ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢٢٨.

(١٢) أخرجه البخاري ، الشروط ، ٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٨.

(١٣) مهور ، س : مهمور ، ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢٢٨.

(١٤) ولا يعطونهن ، ب م : ولا يعطوهن ، س.

(١٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣٣٢.

(١٦) المال ، ب م : مال ، س.

(١٧) أو حال ، س : حال ، ب م.

(١٨) كلوه ، س م : كلوا ، ب.

(١٩) في الإباحة ، ب م : في الأجابة ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢٢٨.

(٢٠) وهذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ١ / ٢٢٨.

١٩٦

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥))

قوله (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) خطاب للأولياء في أموالي اليتامى ، أي لا تعطوا المبذرين من الرجال والنساء والصبيان (أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ) أي قدرها (اللهُ لَكُمْ قِياماً) وقيما كلاهما مصدر قام ، يعني جعلها الله لكم سبب قيامكم تقومون بها في منافعكم وتتعيشون ولو ضيعتموها لضعتم من حيث الاحتياج لانعدام سبب معائشكم (١) ، فكانت الأموال في أنفسها قيامكم ومعاشكم ، ولذلك قال السلف : المال سلاح المؤمن (٢) ، أي من الفقر الذي يهلك دينه ، وقيل : اكتسبوا المال ، فانكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه (٣) ، فاحفظوا أموالكم من السفهاء (وَارْزُقُوهُمْ) أي اجعلوا لهم (فِيها) رزقا ، ويجوز أن يكون «في» بمعنى من (وَاكْسُوهُمْ) لمن يجب عليكم رزقه ومؤنته (٤)(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [٥] أي وعدا جميلا إذا طلبوا منكم النفقة بأن يقول الولي أو الوصي : سأفعل ذلك أو إن ربحت أو غنمت أعطيتك ، وقيل : معناه لا يجعل الرجل ماله في يدي امرأته وأولاده ، ثم يجعل نفسه محتاجا إليهم (٥) ، وهو خلاف الظاهر.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) أي جربوا عقولهم بأن يعطي اليتيم من المال ما يتصرف فيه قبل البلوغ حتى يستبين حاله فيما يجيء منه ، وهو معنى الابتلاء عند أبي حنيفة رحمه‌الله (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي صاروا أهلا أن ينكحوا ، وجواب «إذا» (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْداً) أي هداية إلى مصالحهم وإلى وجوه التصرف ، وعند الشافعي رحمه‌الله الابتلاء أن يتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء ويتبصر ميله إلى الصلاح في الدين ، لأن الفسق مفسدة للمال (فَادْفَعُوا) أي سلموا (إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) التي معكم عند البلوغ ، وهو جواب «إن» الشرطية ، قيل : إن لم يونس منه رشد (٦) بعد البلوغ فعند أبي حنيفة رضي الله عنه ينظر إلى خمس وعشرين سنة ، وعند غيره لا يدفع إليه أبدا ، وتنكير الرشد يدل على نوع من الرشد أو مخيلة من مخايله حتى لا ينتظر منه تمام الرشد (٧) ، ثم نهى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بقوله (٨)(وَلا تَأْكُلُوها) أي أموالهم (إِسْرافاً) أي بغير حق (وَبِداراً) أي إسراعا ، كلاهما مفعول لهما ، أي لإسرافكم ومبادرتكم في أكله ، ويجوز أن يكونا حالين ، أي مسرفين ومبادرين (أَنْ يَكْبَرُوا) أي مخافة أن يبلغوا ويتجاوزوا عن حد الصغر فيأخذوا أموالهم منكم ، ثم بين حال الأوصياء بقوله (٩)(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا) من الأوصياء (فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي ليطلب العفة من نفسه ، يعني ليمتنع عن أكلها اغتناء بماله ويقنع به ولا يطمع في مال اليتيم إشفاقا عليه إبقاء على ماله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً) منهم (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بما عرف في الشرع (١٠) ، وهو يدل على أن للوصي حقها فيها (١١) لقيامه عليها فليأكل منها على قدر قيامه عليه بمنزلة الأجر منه ، وقيل : يأكل على وجه القرض فيرد عليه إذا كبر (١٢)(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) عند بلوغهم (فَأَشْهِدُوا) عند دفعها إليهم (عَلَيْهِمْ) بأنهم تسلموها بالقبض منكم وبرئت عنها ذممكم ليزول

__________________

(١) معائشكم ، ب م : معاشكم ، س.

(٢) انظر الكشاف ، ١ / ٢٢٩.

(٣) نقله عن الكشاف ، ١ / ٢٢٩.

(٤) لمن يجب عليكم رزقه ومؤنته ، م : ـ ب س.

(٥) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ١ / ٣٣٣.

(٦) رشد ، ب م : رشدا ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢٢٩.

(٧) اختصره من الكشاف ، ١ / ٢٢٩.

(٨) ثم نهي الأوصياء عن أكل أموال اليتامي بقوله ، س : ثم نهي الأوصياء عن أكل أموال اليتامي لقوله ، م ، ـ ب.

(٩) ثم بين حال الأوصياء بقوله ، ب س : ـ م.

(١٠) في الشرع ، ب م : بالشرع ، س.

(١١) فيها ، ب س : فيه ، م.

(١٢) هذا القول منقول عن السمرقندي ، ١ / ٣٣٣.

١٩٧

التهمة منكم (وَكَفى بِاللهِ) أي اكتفى الله (حَسِيباً) [٦] أي كافيا في الشهادة عليكم في الدفع والقبض ومحاسبا فعليكم بالتصادق وإياكم والتكاذب ، قيل : إذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبي حنيفة ، ولا يصدق إلا بالبينة عند الشافعي ومالك ، فالإشهاد عندهما لدفع الضمان لا لدفع اليمين لزوال التهمة (١).

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

قوله (لِلرِّجالِ) أي لذكور أولاد الميت (نَصِيبٌ) أي حظ (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) من ذوي القرابة للميت (وَلِلنِّساءِ) أي ولجماعة (٢) الإناث التي ورثن منهن (نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ) أي من المال الذي تركوه قل ذلك المال (مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [٧] أي حظا مقطوعا يوجب تسليمه إليهم ، ونصبه حال من ضمير «قل أو كثر» ، نزل حين مات أوس بن ثابت الأنصاري وترك ثلث بنات وامرأة اسمها كحة ، فقام ابن عمه وأخذ ماله كله بالتوارث ، لأنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال ، فجاءت المرأة إلى رسول الله فذكرت (٣) له القصة ، فحكم بها أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا من التركة مجملا (٤).

ثم بين مقدار نصيب كل واحد من الرجال والنساء بآية الوصية.

قوله (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي قسمة الميراث (أُولُوا الْقُرْبى) للميت ممن لا يورث منه (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي أعطوهن من المال الذي تركه الميت قبل القسمة ، نزل حثا على إعطاء ذلك على سبيل الندب كما كان المؤمنون يفعلونه قبل نزول الآية ، يعني إذا اجتمعت الورثة وهؤلاء فليرضخ الولي لهم بشيء من المال قبل أن يقسمه (٥) الورثة وليس بفرض وإلا لكان له حد ومقدار كما لغيره من الحقوق (٦)(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [٨] أي وعدا حسنا لو كان الورثة صغارا معتذرين إليهم بأن يقول الولي لهم : لو كان لي لأعطيتكم منه ، وإذا أدرك الصغار أمرتهم حتى يعطوكم شيئا ويعرفوا حقكم ، وإذا كانوا كبارا أعطوهم بأنفسهم منه ما شاؤا.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))

ثم خص الأولياء على الإشفاق بالأيتام بقوله (وَلْيَخْشَ) أي وليخف على ذرية الميت الضياع بالفقر والاحتياج إلى الناس الأولياء (الَّذِينَ) حالهم أنهم (لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ) أي بعد موتهم (ذُرِّيَّةً ضِعافاً) أي أولادا صغارا (خافُوا عَلَيْهِمْ) الفقر والتكفف فليقدروا ذلك ويصوروه حتى لا يجسروا (٧) على خلاف الشفقة على اليتامى الذين في حجورهم ، ويخافوا عليهم خوفهم على ذريتهم (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في أمرهم من حضر الموت بتفريق ماله وتضييع (٨) صغاره بأن يقال : أوص بكذا وكذا وتصدق مالك ، فان الله رازق أولادك حتى يوصي بعامة ماله (وَلْيَقُولُوا) له (قَوْلاً سَدِيداً) [٩] أي صوابا ، وهو أن يأمروه بالتصدق بدون الثلث وبترك الباقي لولده فيفعل الولي بالميت كما يحب أن يفعل به لو كان هو الميت ، وقيل : المراد منهم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون له قدم مالك وأوص بكذا وكذا ، وإن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فأمروا بأن يخشوا ربهم ويخشوا على أولاد المريض كما يخشون على أولادهم ، ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم لو كانوا (٩).

__________________

(١) وهذه الآراء مأخوذة عن الكشاف ، ١ / ٢٣٠.

(٢) أي ولجاعة ، س : أي جماعة ، ب ، أي لجماعة ، م.

(٣) فذكرت ، س : وذكرت ، ب م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٣٤.

(٤) لعل المفسر اختصره من السمرقندي ، ١ / ٣٣٤ ؛ والبغوي ، ٢ / ٢٤ ـ ١٥ ؛ والواحدي ، ١٢٢.

(٥) أن يقسمه ، ب م : أن يقتسم ، س.

(٦) لعل المؤلف أخذه عن الكشاف باختصار ، ١ / ٢٣٠.

(٧) لا يجسروا ، ب م : لا تجسروا ، س.

(٨) تضييع ، ب م : تصنيع ، س.

(٩) نقله عن الكشاف ، ١ / ٢٣١.

١٩٨

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

ونزل في شأن آكلي (١) مال اليتيم بغير حق قوله (٢)(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) أي ظالمين أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) من قولهم أكل في بطنه أو في بعض بطنه إذا ملأه ، أي يأكلون ملء بطونهم (ناراً) لأنهم يأكلون ما يجرهم إلى النار فكأنه نار في الحقيقة أو يصير ذلك نارا يوم القيامة ، روي : أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره وأنفه وفيه وأذنيه وعينيه ، فيعرف الناس أنه يأكل مال اليتيم في الدنيا (٣)(وَسَيَصْلَوْنَ) مجهولا ومعلوما (٤) ، أي سيدخلون يوم البعث (سَعِيراً) [١٠] أي نارا مسعرة ، وقيل : مبهمة الوصف من النيران (٥).

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

(يُوصِيكُمُ اللهُ) أي يأمركم (فِي أَوْلادِكُمْ) أي في شأنهم من الذكور والإناث بما هو الأصلح عنده ، وهذا إجمال في قسمة المواريث ، وتفصيله ، قوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إذا اجتمع مع (٦) الإناث كما إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولادا ذكورا وإناثا ، فلكل ابن سهمان ولكل بنت سهم ، وإن لم يجتمع معهن فالذكر عصبة مفردا يحرز جميع المال وللواحدة منهن النصف منفردة ، وإنما جعل له مثلي حظ الأنثى ، لأن من تزوج البنت قام بها ، وإنما قدم الذكر (٧) ، ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر تفضيلا له على الأنثى ، لأن (٨) في القول الأول قصدا إلى بيان فضل الذكر ، وفي القول الثاني قصدا إلى بيان نقص الأنثى وما فيه قصد إلى بيان فضله كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ، قيل : لما دل هذا الحكم على أن حكم الأنثيين حكم الذكر وهو الثلثان قال (٩)(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أي إن كانت المتروكات من الميت جماعة (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) الميت وإن لم يجر له ذكر ، لأنه تقدم معنى كما إذا ترك الميت بنات ولم يترك ابنا فللبنات ثلثا الميراث إذا كن أكثر من انثيين لا يتجاوزن ذلك لكثرتهن ، فحكم الجماعة حكم الواجب للبنتين بغير تفاوت (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) بالنصب ، أي إن كانت متروكة الميت بنتا واحدة لا قرينة لها من أبيها الميت (فَلَهَا النِّصْفُ) من الميراث والباقي للعصبة ، وقرئ بالرفع (١٠) على أن «كان» تامة والواو في قوله (وَلِأَبَوَيْهِ) للاستئناف ، وقوله (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل بتكرير العامل من (لِأَبَوَيْهِ) ، و (السُّدُسُ) مبتدأ ، خبره (لِأَبَوَيْهِ) ، وفيه إجمال وتفصيل للتأكيد ، وتوسط البدل بينهما لأجل البيان ، لأنه لو لم يكن البدل لتوهم اشتراكهما في السدس ، لكن لكل واحد من أبويه السدس (مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ذكرا أو أنثى أو ولد الابن كذلك فيكون الأب صاحب فرض إن كان الولد ذكرا ، وصاحب (١١) فرض وتعصيب إن كان أنثى (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أي للميت (وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) دون غيرهما (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) بضم الهمزة على الأصل وكسرها (١٢) اتباعا ، أي الثلث لها من جميع الميراث ، فتعين الثلثان للأب والثلث للأم مما ترك إلا أن يكون مع الأبوين زوج أو زوجة فللأم ثلث ما يبقى من التركة بعد فرض أحد الزوجين دون ثلث الكل ،

__________________

(١) آكلي ، ب م : آكل ، س.

(٢) عن مقاتل وابن حيان ، انظر الواحدي ، ١٢٣ ؛ والبغوي ، ٢ / ١٧.

(٣) هذا منقول عن الكشاف ، ١ / ٢٣١.

(٤) «وسيصلون» : قرأ الشامي وشعبة بضم الياء ، والباقون بفتحها ، وغلظ ورش لامه. البدور الزاهرة ، ٧٦.

(٥) أخذ المفسر هذا الرأي عن الكشاف ، ١ / ٢٣١.

(٦) مع ، ب م : من ، س.

(٧) الذكر ، ب م : ـ س.

(٨) لأن ، ب م : ـ س.

(٩) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ٢٣٢.

(١٠) «واحدة» : قرأ المدنيان برفع التاء ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٧٦.

(١١) وصاحب ، ب م : أو صاحب ، س.

(١٢) «فلأمه» : قرأ الأخوان بكسر الهمزة ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٧٦.

١٩٩

لأن الزوج إنما استحق فرضه بحق العقد لا بالقرابة فأشبه الوصية في قسمة ما وراء فرضه ، ولأنها لو ضرب لها ثلث الكل لأدى إلى حط نصيب الأب عن نصيبها ، وهو أقوى في الإرث من الأم (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) أي إن كان (١) للميت إخوة اثنان فصاعدا لاتفاق الصحابة على إطلاق اسم الإخوة على اثنين فصاعدا (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) إلا أن ابن عباس قال : «لا تحجب (٢) الأم من الثلث إلى السدس إلا بثلثة إخوة» (٣) ، واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء فتأخذ الأم السدس ويكون الباقي للأب ، قوله (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) يتعلق بما سبق من قسمة المواريث كلها لا بما يليه وحده ، كأنه قال : قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية (يُوصِي بِها) الميت ، قرئ مجهولا ومعلوما مخففا (٤)(أَوْ دَيْنٍ) أي أو بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية (٥) ، و «أو» فيه للإباحة لا للترتيب ، لأنها وضعت لأحد الأمرين ، ولا ترتيب في الواحد (٦) نحو ادع زيدا أو عمروا ، والدين مقدم على الوصية والميراث بالإجماع ، وإنما قدمت (٧) الوصية على الدين هنا لفظا ليدل على وجوب المسارعة إلى إخراجها ، لأن الوصية كالميراث في الأخذ بغير عوض فيثقل إخراجها على الورثة بخلاف الدين ، فانه ليس كالميراث ، لأنه أخذ بعوض مقدم فيسهل إخراجه عليهم ، قوله (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ) فيه حث على قضاء الدين وتنفيذ الوصية ، أي آباؤكم وأبناؤكم الذين يموتون فترثون (٨) أموالهم لا تعلمون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) تمييز ، والجملة في محل النصب ب (تَدْرُونَ) ، أي أنتم لا تعلمون أيهم من الأب والابن أنفع لكم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بامضاء وصيته أم من لم يوص وترك الوصية ليكثر عليكم عرض الدنيا ، والله عالم أيهم أنفع لكم فجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر لكم بامضاء وصية الموصي من عرض الدنيا الذي لم يوصه لأجل نفعكم ذهابا إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان لا بقاء له ، فيكون أبعد في الحقيقة وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق لا زوال له فيكون أقرب في الحقيقة ، فلذلك شرع الوصية وأوجب إخراجها بالسرعة قبل قسمة التركة ، والجملة من (آباؤُكُمْ) إلى قوله (نَفْعاً) جملة اعتراضية مؤكدة للوصية و «إخراجها» لا محل له من الإعراب ، قوله (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) نصب على المصدر للتأكيد ، أي فرض الله الميراث فريضة لا يجوز تغييرها (إِنَّ اللهَ كانَ) في الأزل (عَلِيماً) بمصالح خلقه (حَكِيماً) [١١] في كل ما فرض وقسم من المواريث لأهلها ، وهو الآن على ما كان عليه.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) إذا متن وبقيتم بعدهن (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) منكم أو من غيركم ذكر أو أنثى أو ولد ابن (٩)(فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) أي تركت أزواجكم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) أي من بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصية (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) أي إذا متم (١٠) وبقيت أزواجكم بعدكم (إِنْ

__________________

(١) أي إن كان ، ب م : أي كان ، س.

(٢) لا تحجب ، ب : لا يحجب ، س م.

(٣) انظر الكشاف ، ١ / ٢٣٣.

(٤) «يوصي» : قرأ المكي والشامي وشعبة بفتح الصاد وألف بعدها ، والباقون بكسرها وياء بعدها. البدور الزاهرة ، ٧٦.

(٥) وإنفاذ الوصية ، م : ـ ب س.

(٦) في الواحد ، ب س : لواحد ، م.

(٧) قدمت ، ب م : قدم ، س.

(٨) فترثون ، س م : وترثون ، ب.

(٩) ولد ابن ، ب م : ولد الابن ، س.

(١٠) أي إذا متم ، س : أي إن متم ، م ، إن متم ، ب ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٣٨.

٢٠٠