عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٠٣

الباطلة (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ولا ما قدروا في أنفسهم من سبقهم على المؤمنين بسبق كتابهم ونبيهم بشهواتهم الباطلة ، نزل حين قال أهل الكتاب للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المؤمنون : نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب بالصدق ، وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا ، فنحن أولى بالله منكم (١) ، فقال تعالى ردا على الفريقين ليس ما ادعيتم من قولكم نحن أولى بالله منكم أو ليس ما وعد الله من الثواب بتمنيكم ولا بتمني أهل الكتاب ، بل ذلك بالعمل الصالح وترك المعصية ، يوضحه (٢) قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ) أي يعاقب (بِهِ) ولا ينفعه تمنيه ، وهو عام في حق غير التائب ، وقيل : عام في الكل (٣) لما روي أنه لما نزل شق ذلك على المسلمين ، فقال أبو بكر كيف الفلاح بعد هذه الآية يا رسول الله؟ فقال عليه‌السلام : «ألست تمرض ألست تحزن ألست يصيبك البلوى ، أي الشدة ، فذلك كله جزاؤه» (٤) ، وقيل : «المراد من السوء الكفر» (٥)(وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا يجد الكافر لنفسه من غير الله (وَلِيًّا) أي قريبا أو محبا ينفعه في الآخرة بالشفاعة (وَلا نَصِيراً) [١٢٣] أي مانعا يمنعه من عذاب الله.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤))

ثم قال (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي بعض الصالحات (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان لما فيه إبهام (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال من الضمير في (يَعْمَلْ) ، أي والحال أنه مصدق بالثواب والعقاب يوم البعث (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) قرئ معلوما ومجهولا (٦)(وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [١٢٤] أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم قدر النقير ، وهو النقرة في ظهر النواة وذكر انتفاء الظلم في حق الصالحين فقط تفضيلا (٧) لهم أو هو من قبيل الاكتفاء.

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥))

ثم قال تفضيلا لدين الإسلام على غيره من الأديان (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ) أي أخلص (وَجْهَهُ) أي دينه أو انقاد بجملته ظاهرا وباطنا (لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي موحد ، عامل للحسنات وتارك للسيئات (٨)(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) حال من ضمير (اتَّبَعَ) أو من (إِبْراهِيمَ) ، أي حال كونه مائلا عن الأديان كلها إلى دين الإسلام (٩)(وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [١٢٥] أي صفيا ، وهو من ليس في مودته خلل ، والجملة اعتراض يفيد (١٠) تأكيد وجوب اتباع ملته ، والواو للحال لا للعطف ، المعنى : أن الأحسن في الدين من يمتثل أمر الله ويوافق رضاه كموافقة الخليل خليله ، روى جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السّلام وصلوته بالليل والناس نيام» (١١).

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

ثم قال تأكيدا لامتثال أمر الله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الله مالك أهلهما ، فطاعته واجبة عليهم لكونهم عبيده ، وحكمه نافذ فيهم (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) [١٢٦] أي أحاط علمه بكل شيء من

__________________

(١) عن مسروق وقتادة ، انظر الواحدي ، ١٥٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) يوضحه ، ب م : توضحه ، س.

(٣) عن ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة ، انظر البغوي ، ٢ / ١٦١.

(٤) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٣٩٠.

(٥) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣٩١.

(٦) «يدخلون» : قرأ المكي والبصري وشعبة وأبو جعفر وروح بضم الياء وفتح الخاء ، والباقون بفتح الياء وضم الخاء. البدور الزاهرة ، ٨٥.

(٧) تفضيلا ، ب م : تفضلا ، س.

(٨) للسيئات ، ب س : السيئات ، م.

(٩) الإسلام ، س م : السّلام ، ب.

(١٠) يفيد ، ب م : تفيد ، س.

(١١) انظر السمرقندي ، ١ / ٣٩٢. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

٢٤١

الصلاح والفساد وغيرهما ، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما يصلح لهم.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧))

قوله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) نزل في شأن الذين يمنعون ميراث النساء ، وهي بنات كحة ، ويمتنعون عن نكاح اليتامى من النساء لدمامتهن (١) ويكرهون تزويجهن الغير من أجل مالهن (٢) ، أي يسألونك عن ميراث النساء (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) أي يبين لكم ما لهن من الميراث ، وعطف (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) على ضمير الفاعل في (يُفْتِيكُمْ) أو على (اللهُ) ، أي الله يفتيكم ، والمتلو عليكم يفتيكم (فِي الْكِتابِ) أي في كتاب الله ، وهو اللوح المحفوظ أو القرآن ، ذكره تعظيما للمتلو عليهم ، لأن العدل في حقوق اليتامى من عظام الأمور المرفوعة الدرجات عند الله ، والإخلال به ظلم يتهاون به ما عظمه الله ، ويتعلق قوله (فِي يَتامَى النِّساءِ) ب «يتلى» والإضافة فيه بمعنى من كقولك خاتم حديد ، أي يتلى في ميراث اليتامى منهن (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ) أي لا تعطونهن (ما كُتِبَ) أي ما فرض (لَهُنَّ) من الميراث والصداق (وَتَرْغَبُونَ) أي تزهدون وتعرضون (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) أي عن نكاحهن لدمامتهن (٣) ، عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لولي اليتيمة : «إذا كانت جميلة غنية زوجها غيرك ، وإن كان قبيحة فقيرة تزوجها أنت» (٤) ، قوله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) جر عطف على (يَتامَى النِّساءِ) ، أي ويفتيكم الله والمتلو عليكم في المستضعفين من الصبيان. قيل : «كان أهل الجاهلية يورثون الرجال ولا يورثون النساء والأطفال ويقولون : لا يغزون ، ففرض الله لهم الميراث بذلك ، وأمر لليتيم بالعدل» (٥) بقوله (وَأَنْ تَقُومُوا) وهو جر عطف على (يَتامَى النِّساءِ) ، أي ويفتيكم في القيام (لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي بالعدل والإنصاف ، قيل : يجوز أن يكون الخطاب للأوصياء وأن يكون للحكام بأن يستوفوا لهم حقوقهم ، وأن يظفروا عليهم بنظر المرحمة (٦)(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) [١٢٧] يجازيكم به ، قيل : في الآية دليل على أن ما سوى الأب والجد إذا زوج اليتيمة جاز وإنه إذا زوجها من نفسه جاز إذا كانت غير ذي رحم محرم منه (٧).

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨))

قوله (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) أي توقعت وعلمت (مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) أي أذاء وجفاء أو ترك مضاجعة بغضا لها (أَوْ إِعْراضاً) عنها بوجهه ونفقته وقلة الإلتفات إليها مجالسة ومحادثة (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا) معلوما من أصلح و «أن يصالحا» بالألف ، وتشديد الصاد (٨) ، وأصله يتصالحا ، أي يصطلحا (بَيْنَهُما صُلْحاً) نزل في شأن بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها أسعد بن الزبير تزوجها وهي شابة ، فلما كبرت تزوج عليها شابة أخرى وآثرها عليها ، وجفا بنت محمد بن مسلمة ، فأتت رسول الله فشكت إليه ، فأمر بالإصلاح بينهما وهو بأن يتوافقا على ما تطيب به أنفسهما بأن يترك أحدهما شيئا مما يستحقه على صاحبه طلبا لصحبته (٩) ، ثم قال

__________________

(١) لدمامتهن ، ب س : لذماتهن ، م.

(٢) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ١٦٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٩٢.

(٣) لدمامتهن ، ب س : لذمامتهن ، م.

(٤) انظر السمرقندي ، ١ / ٣٩٢ ؛ والكشاف ، ١ / ٢٧٥.

(٥) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣٩٢.

(٦) المرحمة ، ب س : الرحمة ، م. لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ٢٧٥.

(٧) نقل المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ٣٩٢.

(٨) «يصلحا» : قرأ الكوفيون بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام من غير ألف ، والباقون بفتح الياء والصاد مع تشديدها وألف بعدها وفتح اللام. البدور الزاهرة ، ٨٥.

(٩) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٣٩٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ١٦٦.

٢٤٢

(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أي أفضل من الفرقة والنشوز والإعراض (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) أي ألزمت البخل النفوس في الجبلة لا تفارقه (١) أبدا فهي حاضرته ، والغرض من ذلك بيان أن العدل بين الأنفس أمر صعب على حد يوهم أنه غير مستطاع ، إذ رعاية التسوية في القسمة والنفقة والنظر والإقبال والممالحة والمناكحة والموانسة وغيرها كالخارج عن حد الاقتدار ، هذا إذا كن محبوبات كلهن ، فكيف إذا مال القلب مع بعضهن ، فالأمر بينهن الصلح والصبر والترك والاستراحة ، ثم قال (وَإِنْ تُحْسِنُوا) العشرة مع نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة (وَتَتَّقُوا) أي الفرقة والجور والأذى (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [١٢٨] من الإحسان والنشوز ، فيجازيكم به.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩))

ثم قال (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) أي لن تقدروا (أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أي أن تسووا بينهن في ميل القلب وحبه والقسم والنفقة (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي جهدتم بصرف كل الوسع على العدل بينهن بعد أن وجب عليكم التسوية في القسمة والنفقة وغير ذلك مما يستحققنه (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) إلى التي تحبونها في النفقة والقسمة ، ولا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها ونفقتها من غير رضا منها (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) نصب جواب النهي أو جزم بالعطف على (تَمِيلُوا) ، المعنى : فتتركوها بغير قسمة لا أيما ولا ذات بعل كالمسجونة ، قال عليه‌السلام : «من كانت له امرأتان فمال إلى إحديهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» (٢) ، وروي «ساقط» (٣) ، قيل : كان عليه‌السلام يعدل بين نسائه في القسمة ، ثم يقول : «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (٤) ، يعني الحب والجماع ، ثم قال تعالى (وَإِنْ تُصْلِحُوا) بينهن بالتسوية (٥) والعدل وبالتوبة عما مضى من ميلكم عن التي كرهتموها والرجوع إليها (وَتَتَّقُوا) الجور فيما يستقبل (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [١٢٩] حيث تجاوز عن ذنوبكم ورخص لكم في الإصلاح.

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي الزوج والزوجة (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) أي كل واحد منهما (مِنْ سَعَتِهِ) أي من رزقه بأن تتزوج (٦) المرأة غيره ، ويتزوج الزوج (٧) غيرها (وَكانَ اللهُ واسِعاً) أي واسع الرزق : الفضل (حَكِيماً) [١٣٠] يحكم بالتسوية والتفرقة لحكمة يعلمها.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١))

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي حكمه نافذ على أهلهما يجب عليهم طاعته ، فيجب على الزوج التسوية بين نسائه في القسم والنفقة ، وعليه قضاء القسمة للمظلومة ، والشرط في القسمة البيتوتة لا الجماع ، لأنه مبني على النشاط وليس ذلك إليه ، ثم قال تأكيدا لذلك (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) أي أمرنا (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أهل التورية والإنجيل (وَإِيَّاكُمْ) يا أمة محمد في القرآن (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) فيما وصاكم به من التوحيد والعمل بالشرائع (وَإِنْ تَكْفُرُوا) عطف على «اتقوا» ، أي وقلنا لكم ولهم إن تجحدوا بما وصيناكم به (فَإِنَّ لِلَّهِ ما

__________________

(١) لا تفاقره ، ب س : لا يفارقه ، م.

(٢) أخرجه أبو داود ، النكاح ، ٣٩ ؛ والنسائي ، عشرة النساء ، ٢. وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٣) رواه الترمذي ، النكاح ، ٤٢ ؛ وابن ماجة ، النكاح ، ٤٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٤) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٦ / ١٤٤ ؛ وأبو داود ، النكاح ، ٣٩ ؛ والترمذي ، النكاح ، ٤٢ ؛ وابن ماجة ، النكاح ، ٤٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٩٤.

(٥) التسوية ، م : السوية ، ب س.

(٦) تتزوج ، س : يتزوج ، ب م.

(٧) الزوج ، ب م : ـ س.

٢٤٣

فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الملائكة وغيرهم ، فهم أطوع منكم ، وهو غني عنكم وعن طاعتكم (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) عن جميع خلقه (حَمِيداً) [١٣١] أي محمودا في فعله وقوله.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢))

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كله ملكه ومخلوقه مفترقون إليه ، لأنه رازقهم ومدبر أمورهم دينا ودنيا ، كرره تقريرا لما يوجب التقوى منه ، فيجب أن يتقي (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [١٣٢] أي ربا حفيظا فيجب أن تتكلوا عليه ، لا على غيره.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣))

ثم هدد المشركين والعاصين بقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) أي يعدمكم في الدنيا إذا عصيتم أمره (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي يوجد قوما أطوع منكم فيما يأمرهم (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) أي على الإعدام والإيجاد كما يريد (قَدِيرٌ أَ) [١٣٣] أي بليغ القدرة عليه ، قيل : في هذه الآية تخويف وتنبيه لكل من كانت له ولاية وحكم على الغير من الأمراء والقضاة والنواب الذين لم يعدلوا بين الناس ، ومنهم العالمون الذين لم يعملوا بعلمهم ولم ينصحوا الناس ليهتدوا في الدين (١).

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

ثم قال (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) أي من يقصد بعمله الذي يعمل من أعمال الآخرة حطام الدنيا ولذاتها كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والقارئ يريد بقراءته الأجر دون ثواب الآخرة (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي فعنده ثوابان ، الأعلى والأدنى ، فلا يطلب شيئا إلا منه أو المعنى : فما له يطلب أحدهما دون الآخر ، والذي يطلبه أخسهما وهو كلا شيء في جنب الأعلى ، وهو ثواب الآخرة فليعمل لآخرته ، روي عن النبي عليه‌السلام : «إن في جهنم واديا يتعوذ منه جهنم أعد للقراء المرائين» (٢) ، والمراد منهم (٣) العلماء والحفاظ الذين يفتخرون بما فيهم ويأكلون به ، وقال عليه‌السلام : «إن شر الناس من قرأ كتاب الله وتفقه في دين الله ، ثم يذل نفسه لفاجر إذا تفكه بقراءته ومحادثته فيطيع الله على قلب القارئ والمستمع» (٤)(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) بأقوالهم (بَصِيراً) [١٣٤] أي بليغا في العلم بأعمالهم ونياتهم ، فيجازيهم بها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥))

ثم أمر الناس بالعدل ونهاهم عن الجور بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أي مجتهدين في العدل حتى لا تجوروا (شُهَداءَ لِلَّهِ) نصب على الحال ، أي حال كونكم مقيمين شهادتكم لوجه الله تعالى كما أمرتم باقامتها (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي أدوها إذا كانت عندكم شهادة ولو شهدتم على أنفسكم ، وذلك بأن تقروا عليها فيكون إقراركم شهادة على أنفسكم أو المعنى : ولو كان ضررها على أنفسكم ، وذلك بأن يشهد الرجل على من يتوقع ضرره من سلطان أو ظالم (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي ولو كانت الشهادة على هؤلاء أيضا ، ولا تكتموها (إِنْ يَكُنْ) المشهود عليه أو له (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) يعني لا تميلوا إلى الغني لغناه ، ولا تكتموا الشهادة على الفقير لأجل فقره ترحما عليه (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي أحرى (٥) بالأغنياء والفقراء بالنظر إلى حالهما وإرادة مصالحهما منكم فكلوا أمرهما إلى الله ، والمراد من «الغني» و «الفقير» جنساهما ، ولذا رد الضمير

__________________

(١) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ١ / ٣٩٥.

(٢) رواه ابن ماجة ، المقدمة ، ٢٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٩٥.

(٣) منهم ، ب م : منه ، س.

(٤) ولم اعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٥) أحرى ، ب م : أعلى ، س.

٢٤٤

بالتثنية إليهما بقوله «بهما» وحقه أن يوحد ، لأن قوله «إن يكن غنيا أو فقيرا» في معنى أن يكون أحد هذين (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) أي لا تشهدوا بهواكم ، ولكن اشهدوا على ما علمتم وأشهدتم عليه (أَنْ تَعْدِلُوا) أي كراهة أن تميلوا عن الحق للقرابة والمودة وغيرهما من العدول أو إرادة أن تعدلوا بين الناس بالحق من العدل (وَإِنْ تَلْوُوا) أي إن تحرفوا الشهادة عما هو الحق لتبطلوه ، قرئ بواوين ، أولاهما مضمومة ، من لوى إذا حرف ، وبواو قبلها لام مضمومة (١) ، من ولى إذا قرب أو تسلط بالحكم ، أي إن قربتم من إقامة الشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) عن الشهادة فتكتموها ، ويجوز أن يكون خطابا للحكام ، أي إن تحرفوا الحكم الحق أو تعرضوا عن أحد الخصمين وتميلوا إلى الآخر في الحكم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [١٣٥] أي عالما بالتحريف في الشهادة والحكم ، فيجازيكم به ، قال عليه‌السلام : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد لحق هو عليه وليؤده ولا يلجئه إلى السلطان والخصومة» (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

ثم خاطب أهل الكتاب بالإيمان بمحمد واتباع شرائعه بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بموسى وعيسى (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي بمحمد (٣) عليه‌السلام (وَالْكِتابِ) أي وبالقرآن (٤)(الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) بالتشديد (٥) معلوما ومجهولا ، لأنه نزله نجوما في عشرين سنة (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) أي وبكل كتاب أنزل قبل القرآن ، قرئ معلوما ومجهولا (٦) ، من الإنزال ، لأن الكتب لم ينزل كالقرآن نجوما ، فالمراد من الكتاب الجنس ليتناول التورية والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية ، لأنهم (٧) كانوا مؤمنين بالكتابين فحسب ، فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله ، ويجوز (٨) أن يكون الخطاب للمسلمين فيكون معنى (آمَنُوا) اثبتوا على الإيمان ، والمراد ب (رَسُولِهِ) جنس الرسل (٩) ، ويجوز أن يكون الخطاب للمنافقين فمعنى (الَّذِينَ آمَنُوا) صدقوا باللسان نفاقا ، آمنوا بالقلب إخلاصا ، ثم هدد الجميع بقوله (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ) أي بتوحيده (وَمَلائِكَتِهِ) أي بأنهم عبيده (وَكُتُبِهِ) المنزلة من السماء (وَرُسُلِهِ) المبعوثين إليهم (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالبعث بعد الموت (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [١٣٦] عن الهدى ، لا يرجى فلاحه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨))

ثم هدد الذين ترددوا في الإيمان وارتدوا عن الإسلام بعد وضوح الدليل بقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بموسى والتورية (ثُمَّ كَفَرُوا) بعد موسى (ثُمَّ آمَنُوا) بعيسى والإنجيل (ثُمَّ كَفَرُوا) من (١٠) بعد عيسى (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد عليه‌السلام والقرآن ، قيل : يجوز أن يكون المراد منه المرتدين عن دين محمد عليه‌السلام كأبي عامر الراهب ومحارب وغيرهما ، فانهم آمنوا بالنبي عليه‌السلام ، ثم كفروا به ثم آمنوا ثم كفروا ثم ماتوا على

__________________

(١) «وإن تلووا» : قرأ الشامي وحمزة بضم اللام وواو ساكنة بعدها ، والباقون باسكان اللام وبعدها واوان ، الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة. البدور الزاهرة ، ٨٦.

(٢) انظر السمرقندي ، ١ / ٣٩٦. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٣) بمحمد ، م : محمد ، ب س.

(٤) أي وبالقرآن ، ب س : ـ م.

(٥) بالتشديد ، ب س : أي بالقرآن بالتشديد ، م.

(٦) «نزل» ، «أنزل» : قرأ المكي والبصري والشامي بضم نون «نزل» وهمزة «أنزل» وكسر الزاي فيهما ، والباقون بفتح النون والهمزة والزاي فيهما. البدور الزاهرة ، ٨٦.

(٧) لأنهم ، م : إذ هم ، ب س.

(٨) كله ويجوز ، س : كله قرئ نزل وأنزل مجهولا ومعلوما ويجوز ، ب م.

(٩) الرسل ، ب م : الرسول ، س.

(١٠) من ، س م : ـ ب.

٢٤٥

كفرهم (١) ، فقال تعالى (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) إذا ماتوا على كفرهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) [١٣٧] أي طريقا إلى الحق ، يعني لا يقبل توبتهم إن تابوا قبل الموت اضطرارا وخوفا على أنفسهم أو أموالهم (٢) ، قالوا : إذا أسلم الكافر أول مرة وداوم على إسلامه يغفر كفره السابق ، فان أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر لا يغفر كفره السابق الذي غفر له لو دام (٣) على الإسلام ويطالب بجميع ما فعل في كفره الأول ، قوله (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) أي أخبرهم يا محمد ، وضع فيه «بشر» مكان أخبر تهكما بهم (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.) [١٣٨]

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩))

ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ) أي اليهود والنصارى (أَوْلِياءَ) أي أصدقاء في العزة والنصرة (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ثم قال باستفهام الإنكار توبيخا (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي أيطلبون عنهم المعونة والظهور على محمد عليه‌السلام (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [١٣٩] أي القوة والغلبة لأولياء الله كلهم لا للكافرين ، فنصب «جميعا» على الحال من الجار والمجرور بتقدير المضاف.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠))

(وَقَدْ نَزَّلَ) مجهولا (٤) ، من التنزيل ، والواو للحال (٥)(عَلَيْكُمْ) أيها المنافقون (فِي الْكِتابِ) يعني في سورة الأنعام ، ومفعول المجهول (أَنْ) المخففة من الثقيلة مع ما بعده ، واسمه ضمير الشأن ، أي أنه (إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) أي القرآن (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) فكان (٦) اليهود يستهزؤن بالقرآن وهم يستمعون ذلك (فَلا تَقْعُدُوا) جواب «إذا» ، أي لا تجالسوا (مَعَهُمْ) أي مع الكافرين بالقرآن والمستهزئين به (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي حتى يشرعوا (٧) في كلام آخر (إِنَّكُمْ إِذاً) أي إذا قعدتم معهم وسمعتم استهزاءهم ورضيتم به (مِثْلُهُمْ) في الكفر ، لأن ترك إنكار الكفر مع القدرة عليه رضي به ، والرضا بالكفر كفر ، قال ابن عباس : «دخل في هذه الآية كل محدث في الدين ومبتدع إلى يوم القيامة» (٨) ، وفيه دليل أن من جلس في مجلس المعصية ولم يقدر الإنكار على أهله يجب أن يقوم عنهم حتى لا يكون معهم في الوزر (٩) سواء ، ثم هدد الخائضين والمستمعين بالنفاق بقوله (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [١٤٠] إن ماتوا على كفرهم ونفاقهم ، وقدم المنافقين هنا لأنهم شر من الكفار.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

ثم أخبر عن المنافقين بقوله (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) الدوائر ، وهي عبارة عن تغير الحال بالسوء عليكم ، قيل : محل الموصول جر صفة ل (الْمُنافِقِينَ) أو نصب بدل من (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ) أو على الذم أو رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف (١٠) ، أي هم الذين ينتظرون بكم المصائب أو العاقبة لكم أم لعدوكم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ) أي ظفر (مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الجهاد على عدوكم ، فأعطوهن نصيبا من الغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) أي

__________________

(١) أخذه المصنف عن البغوي ، ٢ / ١٧٣.

(٢) أو أموالهم ، ب م : وأموالهم ، س.

(٣) دام ، ب م : داوم ، س.

(٤) «نزل» : قرأ عاصم ويعقوب بفتح النون والزاي ، والباقون بضم النون وكسر الزاي. البدور الزاهرة ، ٨٦.

(٥) والواو للحال ، ب م : ـ س.

(٦) فكان ، ب م : وكان ، س.

(٧) أي حتى يشرعوا ، س : أي فيشرعوا ، م ، أي يشرعوا ، ب.

(٨) انظر البغوي ، ٢ / ١٧٥ ؛ وأنظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٩٨ (عن الضحاك).

(٩) في الوزر ، ب م : في وزر ، س.

(١٠) نقله المؤلف عن الكشاف ، ١ / ٢٧٩.

٢٤٦

ظفر وغلبة على المؤمنين ، وسمي ظفر المؤمنين فتحا ، لأنهم يثابون به ونفتح له أبواب السماء للقبول ، وظفر الكافرين نصيبا ، لأنه حقير ، يزول ويعاقبون عليه ، وجزاء الشرط (قالُوا) أي المنافقون للكفار (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) أي ألم نغلب (عَلَيْكُمْ) بالموالاة لكم ، من الاستحواذ وهو الاستيلاء على الشيء أو ألم نطلعكم (١) على سركم ونخبركم عن حالهم بالإرسال إليكم أخبارهم واستعددتم لهم بمرحمة منا لكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألم ننحكم (٢) عنكم بأن خذلناهم عنكم فغلبتم عليهم ، فقال تعالى (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أيها المؤمنون والمنافقون (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [١٤١] أي حجة أو طريقا بالغلبة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما الغلبة للكفار في بعض الأوقات فهي لمظنة في الدنيا ، يصيبونها لا الاستئصال أو ليس لهم عليهم سبيل بالشرع ، وبهذا يحتج بعض العلماء على أن الكافر لا يملك العبد المسلم.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢))

ثم بين حال المنافقين في الدنيا فقال (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) أي يعاملونه (٣) معاملة الخادقين باظهارهم الإيمان بألسنتهم وكتمانهم الكفر في صدورهم (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي والحال أن الله يجازيهم جزاء خداعهم أو يعطون نورا يوم القيامة كالمؤمنين ، فيمشون على الصراط مع المؤمنين ، فيمضي المؤمنون بنورهم ويطفأ نور المنافقين ، فيبقون في ظلمة لا غاية لها ، ثم قال (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) أي متثاقلين لا عن طيبة نفس ورغبة فيها (يُراؤُنَ النَّاسَ) بفعلهم الخير لا يريدون به (٤) وجه الله ، ومعنى المراءة أن يرى الناس عمله وهم يرونه استحسانه (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [١٤٢] أي إلا ذكرا نادرا وهو ما يجاهرون له سمعة للناس أو لا يصلون إلا قليلا ، وهو ما يصلون عند الناس لا في الغيبة عن عيونهم أو المراد بالقلة العدم ، أي لا يذكرونه أصلا ، لأنهم يشتغلون بذكر الدنيا وحطامها ويستغرقون أوقاتهم بحديثها وبحديث الناس واللغو.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

قوله (مُذَبْذَبِينَ) نصب على الحال من ضمير «يذكرون» ، أي مرددين يرددهم الشيطان (بَيْنَ ذلِكَ) أي بين الكفر والإيمان أو بين المؤمنين والكافرين (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي ليسوا مع المؤمنين في التصديق ولا مع الكافرين في ظاهر الكفر ، وهو أيضا حال بمعنى متلونين (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن الهدى (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [١٤٣] أي طريقا إلى الهدى ، لأنه خذله الله عنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤))

ثم نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ظاهرا وباطنا فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالإخلاص (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ثم أكد النهي بقوله (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) [١٤٤] أي حجة ظاهرة على النفاق لتعذيبكم في الآخرة ، لأن موالاة الكفار تشهد على النفاق ، فيكون حجة بينة على التعذيب.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥))

ثم بين مستقر المنافقين في الآخرة بقوله (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) بفتح الراء والسكون (٥) ، أي في أخفض مكان (مِنَ النَّارِ) وهو قعر جهنم وسمي هاوية (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [١٤٥] أي مانعا يمنعهم من العذاب ،

__________________

(١) أو ألم نطلعكم ، ب : أو لم نطلعكم ، م ، أو أو لم ، س.

(٢) ننحكم ، ب س : ننحيكم ، م.

(٣) يعاملونه ، ب م : يعاملون ، س.

(٤) لا يريدون به ، س م : لا يريدون بها ، ب.

(٥) «الدرك» : قرأ الكوفيون باسكان الراء ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٨٦.

٢٤٧

قيل : «هم في توابيت من حديد مقفلة في النار» (١) ، وعذاب المنافق (٢) أشد من عذاب غيره من الكفرة لكفره ونفاقه واستهزائه بالدين.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦))

ثم استثنى التائبين من النفاق بقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي رجعوا من النفاق (وَأَصْلَحُوا) الفاسد من أعمالهم (وَاعْتَصَمُوا) أي تمسكوا (بِاللهِ) أي بتوحيده (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) بقلوبهم (لِلَّهِ) لأن النفاق كفر القلب وإظهار الإيمان باللسان في الشريعة ، وأما تسمية الفساق باسم النفاق فمجاز وتغليظ ليمتنع عن فسقه كما قال عليه‌السلام : «ثلث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (٣) ، ثم قال تعالى في جزاء التائبين من النفاق (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) في الجنة أو معهم فيما لهم وما عليهم في الدنيا (وَسَوْفَ يُؤْتِ) بحذف ياء «يؤتى» خطا اتباعا للفظ ، لأنه حذف لالتقاء الساكنين ، أي يعطي (اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [١٤٦] في الآخرة فيشاركونهم ويساهمونهم.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

ثم قال باستفهام التقرير ، أي تقرير أنه لا يعذب المؤمن الشاكر (٤) تطييبا لنفوس المؤمنين (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) أي أي شيء يفعل بعذابكم (إِنْ شَكَرْتُمْ) الله (وَآمَنْتُمْ) به ، أي وحدتموه ، يعني ما حاجته إلى تعذيبكم لو آمنتم بربكم خالقكم ورازقكم ، وشكرتم له على نعمه التي أنعمها عليكم أيتشفى به من الغيظ أم يستجلب به نفعا أو يستدفع (٥) به ضررا كما يفعل السلاطين على رعاياهم بعذابهم ، وهو الغني الذي يستحيل عليه شيء من ذلك فان أقمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب ، ويجوز أن يكون «ما» نافية ، أي لا يعذبكم إن شكرتموه (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) [١٤٧] أي مثيبا موفيا أجوركم ، عالما بحق شكركم وإيمانكم ، وتقديم الشكر على الإيمان هنا مع أن الأمر بالعكس إيذان بأن أصل التكليف الشكر المبهم ، لأن العاقل إذا نظر إلى ما أنعم عليه تصور منعما فشكر شكرا مبهما ، فأدى ذلك إلى تجديد النظر لدرك معرفة المنعم القديم فآمن به فشكر شكرا مفصلا فقدم الشكر على الإيمان من هذا الوجه.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨))

قوله (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ) أي أن تجهروا بين الناس بذكر رجل منهم (بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) كالشتم والخبث وغير ذلك من الألفاظ القبيحة (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) نصب على الاستثناء بتقدير المضاف ، أي إلا جهر من ظلمه شخص فيدعو عليه بقول اللهم أعني عليه أو خذ لي حقي منه أو (٦) بدئ بالشتم فرد مثله ، نزل في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، شتمه رجل فسكت أبو بكر مرارا ، ثم رد عليه (٧) ، وقيل : نزل في الضيف الذي ينزل بالقوم فلم يحسنوا إليه ، فله أن يذكر ما فعلوا به ، ويسب مثل ما يسبوه ما لم يكن كلاما فيه حد والسكوت أفضل (٨)(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لأقوالكم ودعائكم (عَلِيماً) [١٤٨] بأحوالكم وعقابكم إن ظلمتم.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

__________________

(١) عن ابن مسعود ، انظر البغوي ، ٢ / ١٧٨.

(٢) المنافق ، س : المنافقين ، ب م.

(٣) أخرجه مسلم ، الإيمان ، ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٠٩ ، ١١٠ ؛ والبخاري ، الإيمان ، ٢٤ ، الشهادات ، ٢٨ ، الوصايا ، ٨ ، الأدب ، ٦٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٣.

(٤) أي تقرير أنه لا يعذب المؤمن الشاكر ، ب س : أي تقريرا أنه لا يعذب المؤمنين الشاكرين ، م.

(٥) أم يستجلب به نفعا أو يستدفع به ، ب : أم سيجلب به نفعا أو سيدفع به ، س ، أم ستجلب به نفعا أو ستدفع به ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٣.

(٦) أو ، ب م : و ، س.

(٧) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ١ / ٤٠٠.

(٨) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٠ ؛ والواحدي ، ١٥٧.

٢٤٨

ثم حث على التجاوز وترك الانتصار بقوله (إِنْ تُبْدُوا) أي إن تظهروا (١)(خَيْراً) أي حسنة (أَوْ تُخْفُوهُ) أي الخير (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي عن مظلمة ولا تجهروا بالسوء عن الظالم (٢)(فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) [١٤٩] يعفو عن الجانين مع القدرة على الانتقام ، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله وسنة رسوله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) نزل إخبارا عن أهل الكتاب أنهم يؤمنون بموسى وعيسى ، ويكفرون بغيرهما من الأنبياء (٣)(وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) ولا يعلمون أن الكافر برسول من رسله كافر بالله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) كموسى وعزير (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كعيسى ومحمد (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي بين الكفر والإيمان (سَبِيلاً) [١٥٠] أي دينا وسطا بين الكفر والإسلام ، ولفظ «ذلك» يستعمل بمعنى المفرد ، وهو الأغلب وقد يقع بمعنى المثنى والجمع ، وههنا بمعنى المثنى.

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١))

ثم بين الله أن ما فعلوه كفر يقينا بقوله (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) مصدر مؤكد ، أي كفرا كاملا لا شك فيه (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) بجميع الرسل أو بعضهم وبما أنزل إليهم (عَذاباً مُهِيناً) [١٥١] يهانون فيه أبدا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

ثم بين ثواب المقرين بجميعهم بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالإيمان ببعض والكفر ببعض ، وأدخل «بين» في «أحد» وهو يقتضي المتعدد ، لأن أحدا بمعنى الجمع هنا ، لأنه لفظ يعبر به عن المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، أي آمنوا بجميع رسل الله بلا تفرقة بينهم (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ) بالياء والنون (٤) ، أي نعطيهم (أُجُورَهُمْ) أي ثوابهم في الجنة (٥)(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن تاب منهم (رَحِيماً) [١٥٢] بهم لطاعتهم ربهم.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣))

قوله (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) نزل حين قال علماء اليهود ككعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وأصحابهما : إن كنت نبيا يا محمد فأت بكتاب من السماء جملة واحدة لا بالدفعات كما جاء به موسى تجهيلا لهم وتسلية للنبي عليه‌السلام (٦) ، فقال تعالى إن استكبرت ما سألوه منك (فَقَدْ سَأَلُوا) أي سأل آباؤعم وهم بمنزلتهم وعلى مذهبهم في الرضا بسؤالهم (مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أي مما سألوه منك (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا وهم الذين ساروا مع موسى إلى طور سينا للاعتذار من ذنوبهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي أحرقتهم النار النازلة من السماء (بِظُلْمِهِمْ) أي بكفرهم وسؤالهم للرؤية عيانا (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها مع ذلك السؤال وعبدوه في حال غيبة موسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي العلامات بموسى على نبوته (فَعَفَوْنا عَنْ

__________________

(١) أي إن تظهروا ، س : أي تظهروا ، ب م.

(٢) الظالم ، ب س : ظالم ، م.

(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ١٨١.

(٤) «يؤتيهم» : قرأ حفص بالياء وغيره بالنون ، وضم هاءه يعقوب. البدور الزاهرة ، ٨٧.

(٥) في الجنة ، ب م : في الجمع ، س.

(٦) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٤٠١ ؛ والبغوي ، ٢ / ١٨٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٥٧.

٢٤٩

ذلِكَ) كله بتوبتهم ولم نستأصلهم فليتوبوا هؤلاء فعفوا عنهم كما عفونا عن آبائهم (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) [١٥٣] أي حجة ظاهرة عليهم ، وهي اليد والعصا ليطيعوه حين أمرهم بالتوبة بقتلهم أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه وانقادوا لأمر القتل ، والسيوف تتساقط عليهم فتابوا إلينا فتبنا عليهم برفع السيوف والخناجر عنهم.

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥))

ثم أخبر عن حالهم الأخرى بقوله (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) أي قلعنا الجبل فوقهم كأنه ظلة (بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب ميثاقهم ليخافوا ولا ينقضوه حين أقروا بما في التورية ، ثم أبوا أن يقبلوا شرائعها (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ) أي باب أريحا (سُجَّداً) حال ، أي منحنين أصلابهم (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا) أي لا تتجاوزوا ما حرم عليكم إلى الاستحلال (فِي السَّبْتِ) أي من أخذ السمك في يوم السبت ، يعني لا تستحلوا ذلك بعد ما حرم فيه ، قرئ «لا تعدوا» بالتشديد مع فتح العين وباختلاس حركتها مع التشديد ، أصله لا تعتدوا ، وبالتخفيف (١) من عدا يعدو ، ثم قال تعالى (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [١٥٤] أي عهدا شديدا في التورية ليفوا عليه ، ثم تركوا عهدنا في هذه الأشياء ونقضوا الميثاق (فَبِما نَقْضِهِمْ) الباء متعلقة بمحذوف و «ما» زائدة للتأكيد ، ومعناه تحقيق أن العقاب لم يكن إلا بنقض العهد ، أي فبنقضهم (٢)(مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) أي وبجحدهم ما في التورية أيضا (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ) أي وباهلاكهم أنبياءهم (بِغَيْرِ حَقٍّ) أي بلا جرم (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي وبقولهم لك قلوبنا ذات غلاف فلا نفقه حديثك وقرآنك (٣) ، فعلنا بهم ما فعلنا ، وهو اللعنة والخذلان ، فحذف المسبب بدلالة ذكر السبب عليه تفخيما لشأنه ، قوله (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، فيتعلق به على وجه الاعتراض ، أي خذل الله قلوبهم بسبب كفرهم ، ومنعها الألطاف فصارت كالمطبوع عليها لا أنها مغلوفة (٤) بالخلقة (٥) لا تقبل الذكر والإيمان (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [١٥٥] أي إيمانا قليلا كالعدم ، وهو الإيمان ببعض دون بعض أو القليل منهم (٦) عبد الله بن سلام وأصحابه.

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧))

ثم عطف قوله (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ) على قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) ، أي ولعناهم أيضا بكفرهم وقولهم (عَلى مَرْيَمَ) أم عيسى (بُهْتاناً عَظِيماً) [١٥٦] وهو التزنية ، فانهم قذفوها بيوسف بن ماثان ، خادم مسجد بيت المقدس أو بابن عمها ، فبين الله بهتانهم ، وكذا قوله (وَقَوْلِهِمْ) عطف على قوله «فبما نقضهم» ، وفائدة المعطوفات (٧) المتعاقبة قبل الجواب تبيين أنهم استحقوا العذاب بمجموع هذه الأشياء الشنيعة ، أي لعناهم أيضا وخذلناهم بسبب كفرهم بعيسى وبسبب قولهم في حقه بالافتخار (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) بالنصب في (عِيسَى) و (رَسُولَ اللهِ) عطف بيان للمسيح ، وسموه رسول الله استهزاء به ، وقيل : هو قول الله لا قول

__________________

(١) «لا تعدوا» : قرأ ورش بفتح العين وتشديد الدال ، وقرأ أبو جعفر باسكان العين مع تشديد الدال أيضا ، ولقالون وجهان : الأول اختلاس فتحة العين مع تشديد الدال ، والثاني كقراءة أبي جعفر ، والوجهان عنده صحيحان ، وقرأ الباقون باسكان العين مع تخفيف الدال. البدور الزاهرة ، ٨٧.

(٢) فبنقضهم ، ب س : فينقضهم ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٥.

(٣) قرآنك ، ب م : قراءتك ، س.

(٤) مغلوفة ، ب س : مغلولة ، م.

(٥) بالخلقة ، ب س : بالخلفة ، م.

(٦) منهم ، ب س : منهم مثل ، س.

(٧) المعطوفات ، م : العطوف ، ب س.

٢٥٠

اليهود (١) ، وذلك : أن اليهود اجتمعوا على قتل عيسى فهرب منهم ، ودخل في بيت فأمر ملكهم رجلا بأن يدخل عليه اسمه يهوذا ، فجاء جبرائيل ورفع عيسى إلى السماء ، فلما دخل الرجل البيت لم يجده ، فألقى الله شبه عيسى وشكله عليه ، فلما خرج من البيت ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه (٢) ، فقال تعالى في شأن عيسى عليه‌السلام (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) المقبول بعيسى فاختلفوا فيه ، فقالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ ويجوز أن يسند (شُبِّهَ) إلى (لَهُمْ) بمعنى وقع التشبيه لهم بعيسى ، ثم قال تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في عيسى (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) لأن بعض اليهود قالوا نحن قتلناه ، وكذا قال (٣) بعض النصارى نحن قتلناه ، وقال البعض من الفريقين : ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء ، بل رفعه الله إلى السماء (ما لَهُمْ بِهِ) أي بقتله (مِنْ عِلْمٍ) أي يقين ، يعني لم يكن عندهم علم يقين أنه قتل أو لم يقتل (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) استثناء منقطع ، أي لكنهم اتبعوا ظنهم في قتل عيسى لما لاحت لهم (٤) أمارة ذلك ، ثم أكد (٥) كذبهم بقوله (وَما قَتَلُوهُ) أي عيسى (يَقِيناً) [١٥٧] نصب على الحال ، أي متيقنين أو مصدر ، أي قتلا يقينا.

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨))

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي إلى حفظه في السماء في شهر رمضان ليلة القدر ، وقيل : «في يوم عاشوراء بين الصلوتين» (٦)(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي منيعا حيث منع عيسى من القتل (حَكِيماً) [١٥٨] أي صانعا بحكمة حيث رفعه إلى السماء ، وشبه صاحبهم بعيسى.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩))

قوله (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) إخبار من الله لنبيه عليه‌السلام قبل موتهم للوعيد ، وتعجيل الإيمان به في وقت الانتفاع به بأنه (٧) ما أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا والله ليؤمنن بعيسى بعد نزوله من السماء على صخرة بيت المقدس ، ويقتل الدجال ويكسر الصليب ويهدم البيع والكنائس حتى يكون الملة واحدة ، وهي دين الإسلام قبل موت عيسى ، قيل : يبقى عيسى بعد نزوله من السماء في الأرض أربعين سنة نبيا إماما مهديا على دين محمد عليه‌السلام ويقع الأمنة في زمانه حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمور مع البقر والذياب مع الغنم والصبيان مع الحيات والعقارب ، ثم يموت ويصلي عليه هذه الأمة (٨) ، وقيل : الهاء في «موته» للكتابي (٩) ، والمعنى : أن كل كتابي قبل موته بيسير يؤمن بعيسى حين لا ينفع الإيمان سواء احترقوا أو غرقوا أو قتلوا بالسيف لا بد أن يؤمنوا أو الضمير في «به» لله أو لمحمد (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) إيمانهم أو عيسى (عَلَيْهِمْ شَهِيداً) [١٥٩] بأنه قد بلغهم الرسالة فيشهد على اليهود أنهم كذبوه وقذفوه وأمه ، وعلى النصارى أنهم ادعوا فيه الألوهية.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠))

قوله (فَبِظُلْمٍ) يتعلق بقوله (حَرَّمْنا) بعده ، أي فبشرك (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي من اليهود (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) من المطاعم وغيرها أو فبكل ظلم صدر منهم من الصغير والكبير حرم عليهم بعض الطيبات ، وهي التي حرمت عليهم في سورة الأنعام (وَبِصَدِّهِمْ) أي وبصرفهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه (كَثِيراً) [١٦٠] من الناس.

__________________

(١) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ١ / ٤٠٢.

(٢) نقله المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٤٠٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ١٨٤.

(٣) وكذا قال ، م : وقال ، ب س.

(٤) لما لاحت لهم ، ب : لما لاحت بهم ، س ، بما لو لات بهم ، م.

(٥) ثم أكد ، ب س : ثم الله ، م.

(٦) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٢.

(٧) بأنه ، ب س : أن ، م.

(٨) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ١ / ٤٠٣ ؛ والبغوي ، ٢ / ١٨٥ ـ ١٨٦ ؛ والكشاف ، ٢ / ٦ ـ ٧.

(٩) لعل المصنف اختصره من السمرقندي ، ١ / ٤٠٣.

٢٥١

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١))

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) عطف على («بِصَدِّهِمْ» (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي والحال أنهم نهوا عن أخذهم الربوا في التورية (وَأَكْلِهِمْ) أي وبأخذهم وأكلهم (أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بالرشوة في الحكم وتحريف الكتاب (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) بالقرآن ومحمد عليه‌السلام (مِنْهُمْ) أي من اليهود (عَذاباً أَلِيماً) [١٦١] أي وجيعا دائما.

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

قوله (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) استدراك من كفر اليهود وقولهم هذه الأشياء كانت حراما في الأصل ولم تكن (١) حرمت بظلمنا ، فقال تعالى : لكن المبالغون (فِي الْعِلْمِ) أي في علم الدين حقيقة ، وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (مِنْهُمْ) أي من اليهود (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي المصدقون بك وبالقرآن من الأنصار والمهاجرين (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي بالقرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي بجميع الكتب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) نصب على المدح لبيان فضل الصلوة على سائر الطاعات لقوله عليه‌السلام : «الصلوة وجه دينكم فلا تكدروه» (٢) ، وقوله : «الصلوة خير موضع» (٣) ، ومثل هذا كثير جدا في كلام العرب ، ومنه النصب على الاختصاص ، فمن زعم أنه لحق في خط المصحف لا يلتفت إليه ، لأنه ثابت بالتواتر ، وقيل : (وَالْمُقِيمِينَ) جر عطف على (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، أي ويؤمنون (٤) بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلوة ، وهم الأنبياء عليهم‌السلام (٥) ، والأول أوجه (٦) ، قوله (٧)(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف على (الرَّاسِخُونَ)(٨) أو على ضمير الفاعل في (يُؤْمِنُونَ) ، أي الذين يعطون الصدقة المفروضة (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي المصدقون بتوحيد الله وبالبعث بعد الموت (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) بالياء والنون (٩) ، أي سنعطيهم في الآخرة (أَجْراً عَظِيماً) [١٦٢] أي ثوابا كبيرا وهو الجنة.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣))

قوله (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا) نزل جوابا لليهود حيث قالوا للنبي عليه‌السلام : إن كنت نبيا حقا فأتنا بكتاب من السماء كموسى (١٠) ، فأخبر تعالى إعلاما لهم بأنه في شأن الوحي كمن تقدمه من الأنبياء ، فقال : إنا أوحينا القرآن إليك مثل الذي أوحيناه (إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد نوح (١١) ، وإنما بدأ بنوح ، لأنه أول المنذرين ، لأنه لم يكن شرك قبله وإنما ظهر في زمانه ، أي الموحى إليك منا كالموحى إلى جميع الأنبياء عليهم‌السلام من التوحيد والإيمان ، يعني أوحي إليك لأن تثبت على التوحيد وتأمر الناس بالإيمان بالتوحيد كما أوحي إليهم لأن يثبتوا (١٢) على التوحيد ويدعوا الناس إلى الإيمان بالتوحيد ورفع الشرك (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وهما ابنا إبراهيم (وَيَعْقُوبَ) وهو ابن إسحاق (وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب ،

__________________

(١) ولم تكن ، ب : ولم يكن ، ب س.

(٢) ولم نعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعناها.

(٣) ذكره السيوطي ، عبد الرحمن بن أبي بكر ، انظر الفتح الحبير (في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير) ، بيروت ، الناشر دار الكتاب العربي ، ٢ / ٢٠٤ ؛ وذكره أيضا العجلوني في كشف الخفاء ، ٢ / ٣٨. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٤) أي ويؤمنون ، ب م : أي يؤمنوا ، س.

(٥) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٤٠٤ ؛ والكشاف ، ٢ / ٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ١٨٨.

(٦) والأول أوجه ، ب س : ـ م.

(٧) قوله ، ب م : ـ س.

(٨) الراسخون ، ب م : الراسخين ، س.

(٩) «سنؤتيهم» : قرأ حمزة وخلف بالياء ، والباقون بالنون ، وضم يعقوب هاءه. البدور الزاهرة ، ٨٧.

(١٠) لعل المصنف اختصره من الكشاف ، ٢ / ٧.

(١١) أي من بعد نوح ، س : أي بعد نوح ، ب م.

(١٢) لأن يثبتوا ، ب س : لأن تثبتوا ، م.

٢٥٢

وكانوا اثني عشر سبطا ، فأمرنا أنبياءهم بالوحي لأن يثبتوا على التوحيد ويدعوا الناس إليه (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) أي أوحينا إليهم (١) كذلك (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [١٦٣] بضم الزاء جمع زبر مصدر بمعنى مزبور ، أي أعطيناه صحفا مزبورة ، أي مكتوبة ، وبفتح الزاء (٢) اسم لكتاب داود عليه‌السلام ، كان فيه التوحيد والتمجيد والتحميد والثناء على الله تعالى ، وكان لداود حسن الصوت ، فيخرج إلى البرية فيقوم العلماء خلفه ويجتمع الإنس والجن والدواب والطيور لحسن صوته ، فلما أذنب الذنب المعروف لم ير ذلك فحزن ، فقال الله له ذلك حلاوة الطاعة وهذا وحشة المعصية.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤))

(وَرُسُلاً) نصب بفعل يفسره ما بعده أو تقديره : وأوحينا أو أرسلنا أنبياء (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي سميناهم لك بمكة (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) بأسمائهم فكما أرسلناهم إلى الناس لدعوتهم إلى التوحيد أرسلناك لدعوة المشركين إلى الإيمان به ورفع الشرك ، روي عن كعب الأحبار أنه قال : «كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف» (٣) ، وروي عن أبي ذر أنه قال : قلت يا رسول الله! كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون؟ قال : كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي ، وكان المرسلون ثلثمائة وثلثة عشر مرسلا ، ولما لم يذكر موسى فيهم قالت اليهود للنبي عليه‌السلام أكلم الله موسى أم لا فنزل (٤)(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [١٦٤] نصب مصدر مؤكد ، وإنما خص موسى بالتكليم مع أن الله تعالى كلم غيره لأنه كلمه وأوحي إليه من غير واسطة ، وقيل : كلمه بكلام لم يبلغه إلى قومه ولا أمره بتبليغه (٥).

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥))

قوله (رُسُلاً) نصب على التكرير أو نصب على المدح (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان ، أي أرسلنا رسلا مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار ، ثم علل الإرسال بقوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) يوم القيامة (بَعْدَ) إرسال (الرُّسُلِ) إليهم فيقولوا (٦) ما أرسلت إلينا رسولا فكيف تعذبنا ، قيل : لو لم يرسل الله إليهم رسولا كان ذلك عدلا منه لموهبته العقل الذي به يعرف التوحيد لهم ، ولكنه أرسل الرسول فضلا منه ليكون تنبيها على النظر مع تبليغ ما حملوه من التكليف الديني وتعليم الشرائع وإزاحة للعلة وزيادة في الحجة عليهم (٧)(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) بالنقمة لمن كفر به (حَكِيماً) [١٦٥] يرسل الرسل لحكمة منه.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))

قوله (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) نزل حين قال مشركو مكة : إنا سألنا عنك اليهود فلم يعرفوك ، فقال عليه‌السلام لليهود : والله إنكم عالمون أني على الحق ، فقالوا : ما نعلم ذلك (٨) ، فقال تعالى : لا يشهد اليهود لكن الله يشهد بأنك نبي وبما أنزل إليك من القرآن بأن جعله معجزا على مرور الأزمان ، يشهد أنك على الحق فانه أعظم شهادة من خلقه ، وفيه اختصار لاقتضاء «لكن» الاستدراك عن نفي شيء قبلها لإيجاب ذلك الشيء بعدها ، وقوله (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) تفسير للمنزل ، ومحل (بِعِلْمِهِ) حال ، أي أنزله ملابسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو ما فيه من نظم (٩) وأسلوب من البلاغة ، يعجز عنه كل بليغ ، وهو المراد بكونه شاهدا عليه

__________________

(١) أي أوحينا إليهم ، س : أي أوجيناهم ، ب م.

(٢) «زبورا» : قرأ حمزة وخلف بضم الزاي ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٨٨.

(٣) انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٥.

(٤) انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٥.

(٥) ولم اجد له أصلا في المصادر التي راجعنها.

(٦) فيقولوا ، ب م : فيقولون ، س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤٠٥.

(٧) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٨) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٥٧ ـ ١٥٨ (عن الكلبي).

(٩) نظم ، ب م : النظم ، س.

٢٥٣

أو أنزله بما يعلم (١) من مصالح العباد (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أي إنهم يشهدون أيضا على صدقك كالذي شهدت عليه ، لأن شهادتهم تبع بشهادتي (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [١٦٦] وإن لم يشهد أحد من خلقه ، إذ لا أحد أفضل شهادة من الله لك ولغيرك باظهار المعجزات الدالة على صحة شهادتي على يدي من أشاء من عبادي.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧))

ثم قال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقرآن وبمحمد عليه‌السلام (وَصَدُّوا) أي صرفوا الناس (٢)(عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن طريق الهدى بكتم نعت محمد عليه‌السلام (قَدْ ضَلُّوا) عن الحق (ضَلالاً بَعِيداً) [١٦٧] لا يدرك غوره.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَظَلَمُوا) بكتم نعت محمد عليه‌السلام أنفسهم وجحدهم نبوته (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ما داموا على كفرهم وظلمهم بذلك (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ) أي ولا يرشدهم (طَرِيقاً) [١٦٨] من الطرق.

(إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))

(إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) وهو دين الكفر أو العمل الذي يجرهم إلى جهنم أو طريقا يوم القيامة ينتهي بهم إليها ، قيل : «يرفع لأهل الإيمان في الموقف طريق يأخذ بهم إلى الجنة ، ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار» (٣)(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي لا يخرجون عنها معذبين بها (وَكانَ ذلِكَ) أي خلودهم فيها وعذابهم في النار (عَلَى اللهِ يَسِيراً) [١٦٩] أي هينا عليه لا يعجز عنه ، قيل : هذا لمن سبق علمه فيهم أنهم لا يؤمنون (٤).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لأهل مكة تحريضا على الإيمان وترك الشرك (قَدْ جاءَكُمُ) أي ظهر فيكم (الرَّسُولُ) وهو محمد عليه‌السلام (بِالْحَقِّ) أي ملابسا بالصدق أو بالشرع أو بكلمة «لا إله إلا الله» وهو التدحيد (مِنْ رَبِّكُمْ) الذي خلقكم وصوركم (فَآمِنُوا) أي صدقوا به بما جاء من التوحيد ونفي الشرك (خَيْراً لَكُمْ) نصبه (٥) مفعول به ، أي اقصدوا خيرا لكم مما أنتم فيه أو صفة مصدر محذوف ، أي إيمانا خيرا أو خبر «كان» المحذوفة ، أي يكن الإيمان خيرا لكم ، ثم قال تهديدا لهم باظهار غناه عنهم وعن إيمانهم (وَإِنْ تَكْفُرُوا) بمحمد وما جاء به من الحق (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كله له عبيد وإماء وهو (٦) غني عنكم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بخلقه من يؤمن ومن يكفر (حَكِيماً) [١٧٠] بأمره في الثواب والعقاب.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١))

ثم خاطب النصارى بقوله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي أهل الإنجيل (٧)(لا تَغْلُوا) أي لا تتجاوزوا الحد (فِي دِينِكُمْ) بأن تشركوا الله عيسى الذي هو عبده في الألوهية (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) نصب على أنه مقول (تَقُولُوا) بمعنى تذكروا أو تعتقدوا ، أي لا تذكروا (٨) على الله إلا القول الحق ، وهو التنزيه عن الشريك والولد وغلوهم في عيسى هو أن بعضهم قال : ثالث ثلثة آلهة عيسى ومريم والله ، وبعضهم قال : هو الله ، وبعضهم قال : إنه ولده ، وقالت اليهود : هو ولد زنا ، والله تعالى كذبهم كلهم بقوله (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) مبتدأ

__________________

(١) يعلم ، ب م : يعلمه ، س.

(٢) الناس ، ب م : ـ س.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٥٠٦.

(٤) نقله المصنف عن البغوي ، ٢ / ١٩٢.

(٥) نصبه ، ب م : نصب ، س.

(٦) وهو ، س : فهو ، ب م.

(٧) أي أهل الإنجيل ، س : أي الإنجيل ، ب م.

(٨) لا تذكروا ، ب س : لا يذكروا ، م.

٢٥٤

وعطف بيان ، خبره (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) لأنه وجد بقوله لعيسى «كن» فكان من غير أب ، ومحل (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) حال ، وقد معه مقدرة ، أي والحال أن الله أخبرها بالكلمة من غير أب ولا نطفة ، قيل : «أتى جبرائيل فينفخ في جيب درع مريم ، فدخلت تلك النفخة بطنها فتحرك عيسى في بطنها» (١) ، قوله (وَرُوحٌ مِنْهُ) عطف على (رَسُولُ اللهِ) وسمي روحا ، لأنه وجد بمجرد النفخ من غير جزء من ذي جسد حي كالنطفة المنفصلة من الأب ، وأضيف إلى (اللهِ) بقوله منه تشريفا له ، ثم قال (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي وبما جاءكم رسله منه أنه واحد في الألوهية لا شريك له ولا ولد له ولا نسبة بينه وبين عيسى ، فانه جزء من مريم لا من الله ، خلق من غير أب ، ومركب مثلها (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي الآلهة ثلثة ، والله ثالث ثلثة (انْتَهُوا) يكن الانتهاء عنه (خَيْراً لَكُمْ) من القول به ، يعني توبوا إلى الله بالتوحيد ولا تصروا على الكفر (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) وتأكيده قوله (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي نزه نفسه عن ذلك تنزيها ، ثم بين تنزيهه بقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق ، يعني كل ما فيهما ملكه ، فكيف يصح أن يكون بعض ملكه جزء له على أن الجزء انما يكون بالتركيب والجسم وهو منزه عن صفات الأعراض والأجسام (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [١٧١] أي شاهدا يشهد على أنه واحد وإن لم يشهد غيره أو كفى وكيلا يكل الخلق إليه أمورهم لافتقارهم إليه وهو الغني عنهم.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢))

قوله (٢)(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) نزل حين قال وفد نجران للنبي عليه‌السلام عند المناظرة به في أمر عيسى : إنك تسب عيسى بقولك إنه عبد الله (٣) ، فقال تعالى لا يأنف المسيح عيسى (٤) أن يكون عبد الله ، يعني أنه مقر بعبوديته له تعالى ، يقال نكف واستنكف إذا أنف ، وأصله تنحية الدمع (٥) من الخد (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) عطف على «المسيح» وهو الظاهر في أداء الغرض من الكلام بخلاف عطفه على اسم «يكون» (٦) ، أي ولا حملة العرش يأنفون أن يكونوا عيدا لله ، فانهم أقرب إليه من عيسى ، فكيف يأنف عيسى وهو عبد من عباده ، ويدل على أن عبيدا هو المحذوف (٧) قوله (عَبْداً لِلَّهِ) ، ولو لم يقدر الحذف فيه لم يصح العطف ، لأن الملائكة جمع و (عَبْداً لِلَّهِ) مفرد ، وقيل : يجوز أن يكون المراد من (الْمَلائِكَةُ) كل واحد منهم ، فحينئذ يصح العطف (٨) ، قيل : في الكلام ارتقاء من الأدنى إلى الأعلى ، وهو يدل على أن الملائكة مفضلون على البشر ، وأجيب عنه بأن سوق الكلام رد على الذين يقولون الملائكة آلهة كما رد على النصارى أن عيسى إله أو ولد لله لا لتفضيل الملائكة على البشر (٩)(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) أي يأنف (عَنْ عِبادَتِهِ) أي عن العبودية لله (وَيَسْتَكْبِرْ) أي ويتعظم عن طاعته (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ) أي (١٠) إلى الله (جَمِيعاً) [١٧٢] فيأمر بهم إلى النار.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

ثم قال في شأن الموحدين (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات التي بينهم وبين ربهم (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي يتم ثواب أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ثم قال تأكيدا في شأن المستنكفين عن عبادته (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) أي

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٧.

(٢) قوله ، ب س : ـ م.

(٣) عن الكلبي ، انظر الواحدي ، ١٥٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤٠٨.

(٤) عيسى ، ب م : ـ س.

(٥) الدمع ، ب س : الدموع ، م.

(٦) يكون ، ب م : أن يكون ، س.

(٧) هو المحذوف ، س : المحذوف ، ب م.

(٨) لعل المؤلف أخذه عن الكشاف باختصار ، ٢ / ١٠.

(٩) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ٢ / ١٩٤.

(١٠) أي ، س م : إلي ، ب.

٢٥٥

أنفوا (وَاسْتَكْبَرُوا) عن عباتده تعالى (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي وجيعا دائما (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) أي قريبا يعينهم (وَلا نَصِيراً) [١٧٣] أي مانعا يمنعهم من عذابه ، قيل : التفصيل هنا غير مطابق للمفصل ، لأنه غير مشتمل على الفريقين ، بل على فريق واحد ، والمفصل ينبغي أن يشتملهما معا ، أجيب بأنه قد انطوى ذكر أحدهما لدلالة التفصيل عليه أو هو من قبيل الاكتفاء (١) لدلالة قوله (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) الآية عليه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤))

ثم قال تعالى خطابا لأهل مكة ترغيبا في الإيمان (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة واضحة عليكم وهو محمد عليه‌السلام بالمعجزات التي يعجز عنها البشر (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [١٧٤] وهو القرآن الذي يصدقه بالبيان الشافي في الحلال والحرام وفي الهدى والضلال.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) أي بدينه الحق (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي تمسكوا بتوحيده (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) أي في ثواب مستحق منه (وَفَضْلٍ) أي وفي تفضل (٢) عليه في الآخرة (وَيَهْدِيهِمْ) أي ويرشدهم (إِلَيْهِ) أي (٣) إلى دينه الموصل إلى معرفته في الدنيا حال كونه (صِراطاً مُسْتَقِيماً) [١٧٥] وهو دين الإسلام الذي (٤) لا عوج فيه علما وعملا.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

قوله (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) نزل حين جاء النبي عليه‌السلام إلى عيادة جابر بن عبد الله في مرض موته فسأله ، فقال : إن لي كلالة من الورثة لمن الميراث منها؟ (٥) فقال تعالى : («قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ» (فِي الْكَلالَةِ) وهي من لا ولد له ولا والد له (إِنِ امْرُؤٌ) «إِنِ») شرط ، و (امْرُؤٌ) مرفوع بفعل يفسره (هَلَكَ) ومحل (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) رفع صفة (امْرُؤٌ) ، والمراد بال (وَلَدٌ) الابن ، يدل عليه قوله (وَلَهُ أُخْتٌ) من أبيه أو من الأب والأم ، لأن الابن يسقط الأخت والبنت لا تسقطها ، أي إن مات رجل ليس له ابن وله أخت (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) من المال ، ثم بين ميراث الأخ من أختها بقوله (وَهُوَ يَرِثُها) يجعله (٦) عصبة لها ، أي إن ماتت الأخت ولها أخ فالأخ وارثها (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي ابن ، لأن البنت لا تسقط الأخ ويسقطه الابن ، ولم يذكر الوالد ، لأن ذكر الولد يدل عليه ، إذ الأب نظير الابن في الإسقاط ، فاذا ورث الأخ عند انتفاء الولد وهو أقرب فأولى أن يرثها عند انتفاء الوالد وهو أبعد أو وكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه‌السلام : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» (٧) ، والأب أولى من الأخ ، ثم لو كان لأحدهما من الأخ والأخت ولد ، فمات أحدهما فالحكم فيه بين على لسان رسوله لا في الآية ، لأنه قال : «إذا مات الأخ وترك ابنة وأختا فللابنة النصف وما بقي للأخت ولو ماتت الأخت وتركت ابنة وأخا فللابنة النصف وما بقي للأخ» (٨) ،

__________________

(١) قد انطوى ذكر أحدهما لدلالة التفصيل عليه أو هو من قبيل الاكتفاء ، م : قد انطوى ذكر أحدهما كما هو طريق الاكتفاء ، ب س.

(٢) أي وفي تفضل ، ب م : أي في تفضل ، س.

(٣) أي ، س : ـ ب م.

(٤) الذي ، ب م : ـ س.

(٥) وهذا منقول عن السمرقندي ، ١ / ٤٠٩ ؛ والبغوي ، ٢ / ١٩٦.

(٦) يجعله ، ب م : يجعل ، س.

(٧) رواه البخاري ، الفرائض ، ٥ ، ٧ ، ٩ ، ١٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١١.

(٨) أخرج نحوه البخاري ، الفرائض ، ٦ ، ٨ ، ١٢. وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤٠٩.

٢٥٦

وهذا إجماعي ، وفي الأول اختلاف ، لأن ابن عباس قال : «لا ترث الأخت مع البنت شيئا» (١) ، وخالفه جميع الصحابة وجعلوا الأخوات مع البنات عصبة بالحديث ، قوله (فَإِنْ كانَتَا) أي الأختان ، أصله فان كان الوارث ، فثني (٢) لتثنية الخبر وأنث لتأنيثه وهو (اثْنَتَيْنِ) فصاعدا (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الميت ، والمراد من ذكر (اثْنَتَيْنِ) بيان مجرد العدد بالتأكيد ، لأن كونهما اثنتين معلوم من «كانتا» ، وقيل : إنما جيء ب (اثْنَتَيْنِ) تأكيدا ليعلم أن الصغيرة ترث كما ترث الكبيرة (٣)(وَإِنْ كانُوا) أي الورثة (إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً) أي ذكورا وإناثا ، أصله : وإن كان الوارث فجمع لجمع الخبر المشتمل على الذكور والإناث ، وأطلق عليه الإخوة تغليبا للذكورة على الأنوثة (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) منهم ، أي يكون لكل أخ سهمان ولكل أخت سهم ، هذا إذا كان الكل من الأب أو من الأب والأم ، فأما إذا كانوا من الأم خاصة فهم شركاء في الثلث على السوية بالإجماع ، وقد ذكر في أول هذه السورة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أي الحق أو قسمة المواريث (أَنْ تَضِلُّوا) أي مخافة أن تخطئوا في قسمتها ، فمحل (أَنْ تَضِلُّوا) نصب (٤) مفعول له (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [١٧٦] من قسمة المواريث وغيرها ، فاتبعوا ما أنزله الله عليكم بعلمه من الكتاب ، روي : أن قوله (يَسْتَفْتُونَكَ) إلى آخره نزل في طريق الوداع في الصيف ولذا سمي به آية الصيف (٥).

__________________

(١) انظر السمرقندي ، ١ / ٤٠٩.

(٢) فثني ، ب م : فثنتين ، س.

(٣) ولم نجد له أصلا في المصادر التي راجعناها.

(٤) نصب ، ب م : ـ س.

(٥) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ١٩٦ ، ١٩٧.

٢٥٧

سورة المائدة

مدنية إلا قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ)(١) الآية ، نزل بعرفة (٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قال المفسرون لما ابتدأ الله في سورة النساء بالأمر بتقواه للناس ليوحدوه ويطيعوه مع بيان أنه خلقهم وكثرهم من نفس واحدة رجالا ونساء ، ووصاهم بقسمة المواريث بينهم على المقادير التي فرضها في الوصية وبيان الحدود والأحكام والعدل والظلم ، ثم ختم السورة بقسمة المواريث التي لم يذكرها في الوصية على المقادير المفروضة فيها بين الإخوة (٣) والأخوات ، أكدهم حفظ ذلك كله في هذه السورة بالأمر بالوفاء بعهده المؤكد في دين الله من تحليل حلاله وتحريم حرامه ، وبالعدل بين عباده في القسم وغيره بقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، جمع العقد وهو العهد الموثق ، وهو يشتمل كل واجب ذكر في القرآن من الأمر والنهي والنذور والأيمان التي بين الله وبين عباده أو فيما بينهم وحفظ الأمانة من المال والسر وتمييز الحلال والحرام ، وهو أمر مجمل ، ثم عقب بالتفصيل بقوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أي أحل الله لكم ذبحها وأكلها ، والبهيمة كل حي لا يميز (٤) ، وإنما سمي بها لأنه أبهم عن التمييز أو لعدم النطق ، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، واختلف في أجنتها في البطن ، أباحها الشافعي إذا ذبحت أمهاتها ، وحرمها أبو حنيفة ، وإضافة البهيمة إلى الأنعام أضافة تبيين كاضافة ثوب خز ، أي بهيمة من الأنعام ، قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) نصب استثناء من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، أي أحلت لكم هذه الأشياء إلا ما يذكر لكم تحريمه منها بعد (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) نصب على الحال من الضمير في (لَكُمْ) من (أُحِلَّتْ لَكُمْ) أو من الضمير في «عليكم» لكونه من تتمة الكلام الأول ، والعامل (أُحِلَّتْ) على الوجهين ، أي أحلت لكم غير مبيحين الصيد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي والحال أنكم في الإحرام ، وال (حُرُمٌ) جمع حرام وهو المحرم ، والجملة حال من (مُحِلِّي الصَّيْدِ) ، أي أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يضيق عليكم (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ) بين عباده (ما يُرِيدُ) [١] من التحليل والتحريم لا اعتراض عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) نزل نهيا عن تحليل ما حرم (٥) ، وال (شَعائِرَ) جمع شعيرة ، وهي

__________________

(١) المائدة (٥) ، ٣.

(٢) نقله المؤلف عن البغوي ، ٢ / ١٩٨.

(٣) الإخوة ، ب س : الأخت ، م.

(٤) لا يميز ، ب س : لا تميز ، م.

(٥) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٤١٣.

٢٥٨

العلامة ، أي علامات (١) طاعة الله ، والمراد مناسك الحج كالوقوف والرمي والطواف والسعي بين الصفا والمروة وغير ذلك ، ومعنى إحلال الشعائر أن يتهاون بحرمتها وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي لا تحلوا القتال في أشهر (٢) الحج (وَلَا الْهَدْيَ) أي ولا تحلوا كل (٣) ما يهدى إلى البيت ، جمع هدية ، وقيل : مصدر صار اسما له (٤)(وَلَا الْقَلائِدَ) أي ولا تحلوا الهدايا ذوات القلائد ، جمع قلادة ، وهي يعلق في عنق راحلة الحاج من شعر أو وبر أو لحاء شجر أو غير ذلك ليأمن في الطريق ، وكانوا في الجاهلية إذا خرجوا إلى مكة قلدوا هداياهم فامنوا به ، لأنه يعرف به أنهم كانوا حجاجا ، فأمرهم الله تعالى بحفظ ذلك وأن لا يستحلوها فنهوا عن التعرض لهم ، وعطفت على «الهدي» وإن كانت منها تفضيلا لها كعطف جبرائيل على الملائكة (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا قتال قاصدين المسجد الحرام سواء كانوا (٥) من المؤمنين ، يعني الحجاج والعمار أو كانوا (٦) من المشركين الذين يأتونه لقصد الثواب بزعمهم ويأتون بالنعم الكثيرة توسعة لمعاش الحجاج ، ثم نسخ (٧) بقوله «اقتلوا (الْمُشْرِكِينَ»)(٨) ، قوله (يَبْتَغُونَ) نصب على الحال من «آمين» ، أي يطلبون (فَضْلاً) أي رزقا بالتجارة وثوابا بالحج (مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي رضي الله بأن يغفر للمؤمنين ويصلح معائش المشركين ولا يعجل لهم بالعقوبة ، ثم أباح لكم الصيد فقال (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي إذا خرجتم من إحرامكم ومن حرم الله وأمنه إلى حله حل لكم الاصطياد (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح الياء ، من جرم بمعنى كسب ، وفاعله (شَنَآنُ قَوْمٍ) بفتح النون وسكونها (٩) ، أي بغضكم ، يعني لا يحملنكم عداوة قوم وهم كفار مكة (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الهمزة ، أي لأجل صدهم إياهم (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عام الحديبية وبكسرها (١٠) شرطا مستقبلا ، أي إن يصدوكم في المستقبل مثل ما مضى منهم في عام الحديبية (أَنْ تَعْتَدُوا) أي على أن تتجاوزوا (١١) الحد عليهم في المكافاة (١٢) بالقتل وأخذ الأموال وهو مفعول («لا يَجْرِمَنَّكُمْ» (وَتَعاوَنُوا) أي تناصروا (١٣)(عَلَى الْبِرِّ) أي على اتباع أمر الله والعمل به (وَالتَّقْوى) أي وعلى اجتناب ما نهى الله عنه (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) أي الكفر والانتقام والتشفى (وَالْعُدْوانِ) أي الظلم وجاء في الحديث : «البر حسن الخلق ، والعدوان ما حاك في صدرك من الشر وكرهت أن يطلع عليه الناس» (١٤)(وَاتَّقُوا اللهَ) أي اخشوه فيما يأمركم به وأطيعوه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [٢] حين عاقب.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) نزل في تحريم ما كانوا يحلونه (١٥) ، والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكوة شرعية ، أي حرم عليكم أكلها (وَالدَّمُ) أي شربه ، وهو الدم المسفوح ، لأن الدم الذي بقي بعد الإنهار فهو

__________________

(١) علامات ، ب م : علامة ، س.

(٢) أشهر ، س م : شهر ، ب.

(٣) كل ، ب م : أكل ، س.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٥) كانوا ، ب م : كان ، س.

(٦) كانوا ، ب م : كان ، س.

(٧) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٤١٣ ؛ وانظر أيضا قتادة ، ٤٠ ـ ٤١ ؛ والنحاس ، ١١٥ ـ ١١٦ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٤٠ ـ ٤١ ؛ والبغوي ، ٢ / ٢٠٢ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٢ ؛ وابن الجوزي ، ٢٦ ـ ٢٧.

(٨) التوبة (٩) : ٥.

(٩) «شنآن» : قرأ ابن عامر وشعبة وأبو جعفر باسكان النون ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٨٩.

(١٠) «أن صدوكم» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٨٩.

(١١) علي أن تتجاوزوا ، ب س : علي أن يتجاوزوا ، م.

(١٢) في المكافاة ، ب م : في المكافات ، س.

(١٣) أي تناصروا ، ب س : ـ م.

(١٤) رواه مسلم ، البر والصلة ، ١٤ ؛ والترمذي ، الزهد ، ٥٢ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٤ / ١٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٢٠٤.

(١٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

٢٥٩

مباح كالكبد والطحال (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) والمراد كله من الشحم والعظم وغيرهما مما يلتحم به ، فانه حرام بالإجماع (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي وحرم عليكم أكل ما ذبح لغير (١) الله بذكره ، يعني (٢) بذكر اسم الصنم كقول الجاهلية عند الذبح باسم اللات والعزى ، وأصل الإهلال رفع الصوت ، فسمي الذبح باسم الإهلال لرفعهم الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم (وَالْمُنْخَنِقَةُ) أي وحرم أكل المنخنقة وهي الشاة التي تنخنق (٣) أو تخنق فتموت (٤) ، فان بعض الكفار يستحلونها ويأكلونها (وَالْمَوْقُوذَةُ) أي وحرم عليكم المضروبة بالخشب وغيره حتى تموت (٥)(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) وهي الشاة التي تسقط من الجبل إلى منخفض أو في بئر فتموت (٦)(وَالنَّطِيحَةُ) وهي الشاة المنحوطة التي تنحط بقرن صاحبها فتموت (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي وحرم أكل ما بقي مما أكله السبع (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه (٧) قبل أن يموت (٨) فلا بأس بأكله ، وهو استثناء مما يمكن ذكاته من المنخنقة إلى ما أكله (٩) السبع ، يعني كل واحدة من هذه إذا أدركت وبها حيوة فذبحت حلت ، نص عليه أبو حنيفة رحمه‌الله أو قبل أن تصير إلى حالة (١٠) المذبوح فذبحت حلت ، نص عليه الشافعي رحمه‌الله (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) عطف على قوله (الْمَيْتَةُ) ، أي وحرم عليكم أكل ما ذبح على النصب ، جمع نصاب وهو حجارة (١١) منصوبة حول البيت يعبدونها ويذبحون عندها ، ويشرحون اللحم عليها تعظيما لها وتقربا إلى الله بذلك (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) عطف على (الْمَيْتَةُ) ، والاستقسام طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم ، أي وحرم عليكم طلبكم القسمة والحكم بالأزلام ، جمع زلم بفتح الزاء وضمها ، وهو قدح صغيرة لا ريش له ولا نصل ، قيل : كان أهل الجاهلية يجتمعون (١٢) عشرة أنفس ويشترون جزورا ويجعلون لحمه على تسعة أجزاء ، وأعطي كل واحد منهم سهما من سهامه ، أي قدحا من قداحه رجلا فيحفظ السهام كلها عنده ، ثم يخرج هذا الرجل واحدا واحدا من السهام ، وكل من خرج سهمه يأخذ جزء من أجزاء ذلك اللحم ، فاذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم فبقي الرجل الذي خرج سهمه آخرا بلا جزء من اللحم ، وكان ثمن الجزور كله عليه بحكمهم ، هذا نوع من لعابهم (١٣) ، فنهى الله تعالى بقوله (١٤)(ذلِكُمْ) أي هذا العمل ، يعني الاستقسام (فِسْقٌ) أي معصية ، لأنه دخول في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، ويكفر مستحله قاله تأكيدا لتحريمه ، قال عليه‌السلام : «من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة» (١٥) ، قوله (الْيَوْمَ) أي في هذا الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي قطعوا رجاءهم من أن يبطلوا دينكم الحق ويرجعوكم إلى دينهم الباطل ، نزل بعد تكميل شرائع الإسلام بالسنن والأحكام ، ووافق يوم عرفة في يوم الجمعة (١٦) ، وكان عيدا لليهود والنصارى والمجوس ولم يجتمع أعياد (١٧) أهل الملك في يوم قبله ولا بعده (١٨) ، وقيل : نزل حين فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ودخلها ونادى منادي رسول الله : ألا من قال «لا إله إلا الله» فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ،

__________________

(١) لغير ، س م : بغير ، ب.

(٢) بذكره يعني ، ب س : ـ م.

(٣) تنخنق ، ب م : تنخنق ، س.

(٤) فتموت ، ب م : فيموت ، س.

(٥) تموت ، ب س : يموت ، م.

(٦) فتموت ، ب س : فيموت ، م.

(٧) فذكيتموه ، م : وذكيتموه ، ب ، فذكيتم ، س.

(٨) يموت ، ب م : تموت ، س.

(٩) أكله ، م : أكل ، ب س.

(١٠) أبو حنيفة رحمه‌الله أو قبل أن تصير إلي حالة ، ب : أبو حنيفة رحمه‌الله أو قبل أن تصبر إلي حالة ، س ، أبو حنيفة رحمه‌الله وإذا أدركت أن تصير إلي حالة ، م.

(١١) حجارة ، ب م : الحجارة ، س.

(١٢) يجتمعون ، س م : يجمعون ، ب ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤١٥.

(١٣) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٤١٥.

(١٤) بقوله ، س : ـ م.

(١٥) انظر البغوي ، ٢ / ٢٠٦. ولم اعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(١٦) الجمعة ، س : جمعة ، ب م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤١٥.

(١٧) أعياد ، ب س : أعيادا ، م.

(١٨) ولا بعده ، ب س : ـ م.

٢٦٠