عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٠٣

الله تعالى عليهم (١) ، وقيل : معنى قوله (إِنْ نَسِينا) أن تركنا الأمر ومعنى (أَوْ أَخْطَأْنا) إن تعمدنا الخطأ (٢) ، وقيل المراد : بالخطأ والنسيان ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال (٣)(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي ثقلا (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) وهو أنهم كانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا مكتوبا على بابهم بالنهار وكانت الصلوة عليهم خمسين صلوة (٤) في يوم وليلة ، وكان إخراج ربع أموالهم زكوة ، وكانت الطيبات محرمة عليهم بظلمهم ، فخفف عن هذه الأمة (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا) من العقوبات (٥) النازلة بمن قبلنا (ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) يعني أنها نزلت بهم بسبب التفريط في محافظة التكليفات الشاقة التي (٦) كلفوها ، فنحن نسألك أن لا تكلفنا بها فتعذبنا بتركها (وَاعْفُ عَنَّا) بمحو ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) أي استر عيوبنا (وَارْحَمْنا) أي أدخلنا الجنة برحمتك ، وقيل : اعف عنا من المسخ واغفر لنا من الخسف وارحمنا من القذف ، لأن (٧) كلها أصاب الأمم الماضية (٨)(أَنْتَ مَوْلانا) أي سيدنا ومتولي أمورنا وحافظنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [٢٨٦] لأن المولي حقه أن ينصر عبيده ، قال ابن عباس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة قد فعلت (٩) ، وقال عليه‌السلام : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (١٠) ، أي من قيام الليل أو من حساب يوم القيامة ، وقال عليه‌السلام : «السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن» (١١) ، أي مصره الجامع ، «فتعلموها فان تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة ، قيل : وما البطلة يا رسول الله؟ قال : السحرة» (١٢) ، أي لا تستطيع البطلة أن تسحر قارئها.

__________________

(١) لعله اختصره من البغوي ، ١ / ٤٢٠ ؛ والكشاف ، ١ / ١٥٩.

(٢) أخذه المفسر عن البغوي ، ١ / ٤١٩.

(٣) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ١ / ١٥٩.

(٤) صلوة ، س م : ـ ب.

(٥) العقوبات ، س م : العقوبة ، ب.

(٦) التي ، ب م : ـ س.

(٧) لأن ، ب م : لأنه ، س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٤١.

(٨) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٢٤١.

(٩) انظر الكشاف ، ١ / ١٦٠.

(١٠) أخرجه البخاري ، فضائل القرآن ، ١٠ ؛ ومسلم ، المسافرين ، ٢٥٦ ؛ والترمذي ، فضائل القرآن ، ٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٢١ ؛ والكشاف ، ١ / ١٦٠.

(١١) أخرج نحوه الدارمي ، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل ، سنن الدارمي ، إسطنبول ، ٩١٨١ ، فضائل القرآن ، ١٣.

(١٢) أخرجه مسلم ، المسافرين ، ٢٥٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٦٠.

١٤١

سورة آل عمران

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢))

(الم) [١] بفتح المميم وصلا لالتقاء (١) الساكنين تخفيفا وهما الميم ولام التعريف وبسكون الميم وقفا والابتداء بما بعدها (٢) ، وذلك مروي عن عاصم ، الله اللطيف المجيد هو (اللهُ) الذي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [٢] أي الذي يبقى أبدا ويقوم على تدبير خلقه بالرزق والأجل.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤))

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن بجبرائيل بالتشديد للتكثير لنزوله نجوما (بِالْحَقِّ) أي لبيان (٣) الحق أو بالصدق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي في حال كونه مصدقا للكتب قبله (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) على موسى عليه‌السلام (وَالْإِنْجِيلَ) [٣] على عيسى عليه‌السلام (مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذا الكتاب والتورية ، بفتح الراء وإمالتها (٤) ، فوعلة من ورى الزند إذا ظهرت ناره ، وسمي بذلك لظهور الحق به ، والإنجيل إفعيلة من نجلت الشيء إذا رميت به ، وسمي به لرميه الباطل وإبعاده عن عباد الله قوله (هُدىً لِلنَّاسِ) نصب على الحال من الكتابين ولم يثن ، لأنه مصدر في معنى الصفة ، أي هاديين لجميع الناس من موسى وعيسى ومن تابعهما (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي جنس الكتاب الفارق بين الحق والباطل ، ذكره بالتفصيل والإجمال بعده للتفخيم والتفضيل أو المراد به القرآن ، كرره لتفضله على جميع الكتب لكونه معجزا فارقا باقيا إلى آخر الدهر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن ومعجزات النبي عليه‌السلام (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الدنيا وفي الآخرة ، نزل في شأن المشركين من العرب (٥)(وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [٤] أي ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد لمن عصاه.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥))

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) من الأشياء (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [٥] أي مدرك للأشياء (٦) كلها ، يعني هو مطلع على كفر من كفر به وإيمان من آمن به وعلى جميع أعمالهم ، فيجازيهم يوم القيامة.

__________________

(١) لالتقاء ، ب م : للالتقاء ، س.

(٢) «الم الله» : مدها لازم ، وقرأ جميع القراء باسقاط همزة الجلالة وصلا وتحريك الميم بالفتح تخلصا من التقاء الساكنين ، وإنما اختير التحريك بالفتح هنا دون الكسر مع أن الأصل فيما يحرك للتخلص من الساكنين أن يكون تحريكه بالكسر مراعاة لتفخيم لفظ الجلالة ولخفة الفتح ، ويجوز لكل القراء حالة الوصل وجهان المد نظرا للأصل وعدم الاعتداد بالعارض والقصر اعتدادا بالعارض ، وقرأ أبو جعفر بالسكت من غير تنفس علي ألف ولام وميم ، ويترتب علي هذا السكت لزوم المد الطويل في ميم وعدم جواز القصر فيه ، لأن سبب القصر وهو تحرك ميم قد زال بالسكت كما يترتب عليه إثبات همزة الوصل حالة الوصل. البدور الزاهرة ، ٥٨.

(٣) لبيان ، ب م : ببيان ، س.

(٤) أخذ المفسر هذه القراءة عن السمرقندي ، ١ / ٢٤٤.

(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٤٤.

(٦) للأشياء ، ب م : ـ س.

١٤٢

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

ثم قال مخبرا عن قدرته في ألوهيته (١)(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) لتعتبروا به فتؤمنوا (٢) ، أي يخلقكم بصور مختلفة من ذكر وأنثى وقصير وطويل وذميم وحسن ، قيل : هذا رد على الذين قالوا عيسى الله أو ابن الله ، لأن من صور في الرحم يمتنع أن يكون إلها وولدا لله لكونه مركبا وحالا في المركب وفي معرض الفناء والزوال (٣)(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [٦] أي الغالب بالنقمة على الكافر (٤) والفاعل بالحكمة ، يصور الخلق كما يشاء بعلمه.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (مِنْهُ) أي من الكتاب (آياتٌ مُحْكَماتٌ) أي متقنات واضحات لا يدخل فيها شيء من الاشتباه (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي تلك المحكمات أصل الكتاب الذي يحمل (٥) عليه الأحكام وترد عليه المشتبهات بالتأويل (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) عطف على (آياتٌ) و (مُتَشابِهاتٌ) صفة (أُخَرُ) ، أي ومنه آيات أخر ، يدخل فيها اشتباه واحتمال ، يحتاج إلى التأويل ، مثال المحكمات والمتشابهات ، قوله تعالى (لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)(٦) محكم ، وقوله (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها)(٧) متشابه ، وتأويله أن «أمرنا» بمعنى كثرنا كما يجيء في موضعه ، وقيل : المراد بالمحكم ما لا يدخله تغيير كالناسخ ، والمتشابه ما يدخله التغيير كالمنسوخ (٨) ، والأول أظهر لقوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ، وإنما لم يجعل الله القرآن كله محكما لما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه كابتلاء بني إسرائيل بالنهر في اعتقاد نبيهم ، ولأن النظر في المتشابه والاستدلال به لكشف الحق يوجب عظم الأجر ونيل الدرجات عند الله.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) نزل في شأن المبتدعين (٩) والمنافقين (١٠) أو في اليهود (١١) والنصارى (١٢) ، أي الذين في قلوبهم ميل عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يتعلقون بما يوافق هواهم ظاهرا دون ما يوافق المحكم من قول أهل الحق (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي لطلب أن يفتنوا الناس ويضلوهم (١٣) عن دينهم (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي وطلب (١٤) تأويل المتشابه بما يحبونه برأيهم ، ثم بين أن لا سبيل لأحد إلى معرفة تأويله مستثنيا بقوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي تأويل المتشابه (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا من عباده فانهم يهتدون إلى تأويله الحق ، قالوا : كان ابن عباس رضي الله عنه يقول : «أنا من الراسخين في العلم» (١٥) ، وبعضهم يقف على (إِلَّا اللهُ) ويبتدئ (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) ، جملة اسمية ويفسر المتشابه بما استأثر الله تعالى به واستبد بعلمه وحكمته كعدد الزبانية في قوله (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)(١٦) ، والصوم وعدد الركعات في الصلوات الخمس وقيام الساعة ، والأول أوجه لما ذكرنا ، وقوله (١٧)(يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) نصب على الحال من «الراسخين» ،

__________________

(١) في ألوهيته ، ب م : في الألوهية ، س.

(٢) لتعتبروا به وتؤمنوا ، ب م : ليعتبروا به فيؤمنوا ، س.

(٣) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥ ؛ والكشاف ، ١ / ١٦٢.

(٤) علي الكافر ، ب : للكافر ، س م.

(٥) يحمل ، س : تعمل ، ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٦٢.

(٦) الأعراف (٧) ، ٢٨.

(٧) الإسراء (١٧) ، ١٦.

(٨) لعله اختصره من البغوي ، ١ / ٤٢٦ ، ٤٢٧.

(٩) أخذه عن البغوي ، ١ / ٤٢٨.

(١٠) عن ابن جريج ، انظر البغوي ، ١ / ٤٢٧.

(١١) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ١ / ٤٢٧.

(١٢) نقله عن البغوي ، ١ / ٤٢٧.

(١٣) ويضلوهم ، ب م : ويضلونهم ، س.

(١٤) أي وطلب ، س : أي ولطلب ، ب : أي لطلب ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٤٧ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٢٨.

(١٥) انظر البغوي ، ١ / ٤٢٨.

(١٦) المدثر (٧٤) ، ٣٠.

(١٧) وقوله ، ب م : فقوله ، س.

١٤٣

أي القائلين (١) صدقنا بالقرآن المحكم والمتشابه (كُلٌّ) أي كل واحد من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ) أي ما يتعظ بما أنزل الله (٢) من القرآن (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [٧] أي ذوو العقول من الناس.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

ثم قال عبد الله بن سلام وأصحابه حين سمعوا قول اليهود وتكذيبهم به (رَبَّنا لا تُزِغْ) أي لا تمل (قُلُوبَنا) عن الهدى (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي ارشدتنا إلى دينك (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (رَحْمَةً) أي نعمة بالتوفيق والمعرفة (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [٨] أي المعطي الثواب للمؤمنين (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) أي تجمعهم (٣) بعد الموت (لِيَوْمٍ) أي لقضاء يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك أنه كائن لا محالة عند من آمن به ، ثم ذكر الله بالتصريح (٤) تعظيما وإيماء إلى صدق وعده بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [٩] أي الوعد ، يعني الألوهية تنافي خلف الوعد في البعث واستجابة الدعاء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقرآن وتركوا العمل به (لَنْ تُغْنِيَ) أي لن تنفع (٥)(عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي كثرتهما والتفاخر بهما (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً) أي غني في الدنيا إذا نزل بهم مصيبة من المصائب ولا في الآخرة إذا حكم بهم إلى عذاب النار (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) [١٠] أي حطبها ، والوقود بفتح الواو اسم ما يوقد به والوقود بالضم مصدر.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١))

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي عادة هؤلاء الكفار كقريضة والنظير في الكفر وتكذيب القرآن والرسل كعادة قوم فرعون في تكذيب موسى ، وأصل الدأب الدوام واللزوم ، والمراد هنا العادة الدائمة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كفار الأمم المتقدمة (٦) كقوم نوح وثمود وقوم لوط (كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بكتبنا ودلائلنا مع رسلنا كما كذب بها قومك (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي عاقبهم (بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [١١] لمن كفر بالآيات والرسل.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢))

قوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) نزل حين جمع النبي عليه‌السلام المشركين أو اليهود بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع ، وقال : «أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب قريشا ، فقالوا : يا محمد لا تغرنك نفسك إنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالقتال والحرب فانك ، لو قاتلتنا لعرفت من الناس بالبأس» (٧) ، فأمره تعالى بقوله قل لهؤلاء الكفار (سَتُغْلَبُونَ) أي ستهزمون وتقتلون في الدنيا (وَتُحْشَرُونَ) قرئ بالياء والتاء فيهما (٨) ، أي وتجمعون بعد القتل في الآخرة إلى جهنم (٩) ، والفرق بين القراءتين معنى : أنها بالياء أمر بأن يحكي لهم ما أخبره به من سيغلبون ويحشرون ، وإنها بالتاء أمر بأن يخبرهم (١٠) بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر البتة (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [١٢] أي يئس الفراش والمقر جهنم.

__________________

(١) القائلين ، ب م : قائلين ، س.

(٢) الله ، س : ـ ب م.

(٣) تجمعهم ، ب س : يجمعهم ، م.

(٤) بالتصريح ، ب س : التصريح ، م.

(٥) أي لن تنفع ، ب س : لا ينفع ، م.

(٦) المتقدمة ، ب م : الماضية ، س.

(٧) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٤٩ ؛ والواحدي ، ٨١ ـ ٨٢.

(٨) «ستغلبون وتحشرون» : قرأ الأخوان وخلف بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب فيهما. البدور الزاهرة ، ٥٩.

(٩) إلي جهنم ، م : ـ ب س ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٣٣.

(١٠) يخبرهم ، س م : تخبرهم ، ب ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٦٣.

١٤٤

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

ثم خاطب قريشا مشيرا إلى وقعة بدر ليعتبروا فيؤمنوا (١) فقال (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أي علامة دالة على صدق قولي إنكم ستغلبون ، ومحل قوله (فِي فِئَتَيْنِ) رفع صفة «آية» ، ومحل قوله (الْتَقَتا) جر صفة (فِئَتَيْنِ) ، أي قد حصل لكم عبرة كائنة في جمعين ، جمع المؤمنين من أصحاب محمد عليه‌السلام ، وجمع الكافرين من أهل مكة اجتماعا للقتال ، إحديهما (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته وهم النبي وأصحابه كانوا ثلثمائة وثلثة (٢) عشر رجلا وأكثرهم رجالة (وَأُخْرى كافِرَةٌ) وهم كفار قريش ، كانوا تسعمائة وخمسين رجلا (يَرَوْنَهُمْ) بالياء على الغيبة ، أي يرى المسلمون المشركين (مِثْلَيْهِمْ) أي مثلي المسلمين ، وهو نصب على الحال ، لأنه من رؤية العين أو يرى المشركون المسلمين مثليهم ليعظموا في أنفسهم ، والأول حقيقة والثاني ظن منهم ، وبالتاء (٣) على الخطاب لليهود ، لأنهم من حضر تلك الوقعة ينظر لمن الكرة والرؤية على القراءتين من رؤية العين لقوله (٤)(رَأْيَ الْعَيْنِ) وهو نصب على مصدر ، أي رؤية ظاهرة لا لبس فيها ، يعني معاينة كسائر المعاينات (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) أي يقوي (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أي بتكثيره في عين العدو ، وقيل : أرسل الله إلى المسلمين الملائكة وهزموا المشركين (٥)(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي صنعه تعالى من نصر القليل على الكثير (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [١٣] أي لذوي النظر بالعقل لدرك الحق من الباطل.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ) برفعه فاعل المجهول ، أي حسن لهم محبة (الشَّهَواتِ) أي مرادات (٦) النفوس ، والشهوة نزوع النفس إلى مرادها ومحبوبها ، وقد سمي (٧) المشتهي شهوة ، والمزين هو الله لقوله تعالى (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ)(٨) ، وذلك على جهة الامتحان ، وقيل هو الشيطان لقوله تعالى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ)(٩) ، وذلك على جهة الوسوسة (١٠) ، قوله (مِنَ النِّساءِ) حال من «الشهوات» ، أي حال كونها من طائفة النساء وإنما بدأ بهن لأن فتنة النساء أشد من فتنة كل الأشياء (١١)(وَ) من طائفة (الْبَنِينَ) والفتنة بهم أن الرجل يبتلى بسببهم على جمع المال من الحلال والحرام ، ولأنهم يمنعونه عن محافظة حدود الله ، وهو من قبيل الاكتفاء ، إذ المراد من (١٢) «الأولاد» الذكور والإناث ، قيل : أولادنا فتنة ، إن عاشوا أفتنونا وإن ماتوا أحزنونا (١٣)(وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) جمع القنطار وهو المال الكثير والمقنطرة مأخوة من القنطار للتأكيد كما يقال ألوف مؤلفة ، أي الأموال الكثيرة المجتمعة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) حال من «المقنطرة» ، قيل : حده ألف ومائتا دينار (١٤) أو مائة ألف مثقال (١٥) أو سبعون ألف دينار (١٦) أو ملء مسك ثور ذهبا (١٧)(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) عطف على «النساء» ، جمع

__________________

(١) فيؤمنوا ، س م : ويؤمنوا ، ب.

(٢) ثلثة ، ب م : ثلث ، س.

(٣) «يرونهم» : قرأ المدنيان ويعقوب بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٥٩.

(٤) لقوله ، ب س : قوله ، م.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٥٠.

(٦) مرادات ، ب م : مرادة ، س.

(٧) وقد سمي ، س م : ويسمي ، ب.

(٨) النمل (٢٧) ، ٤.

(٩) النمل (٢٧) ، ٢٤.

(١٠) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٢٥٠.

(١١) الأشياء ، ب س : الأبناء ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٥٠.

(١٢) من ، م : ـ ب س.

(١٣) أخذ المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ٢٥١.

(١٤) نقله عن البغوي ، انظر البغوي ، ١ / ٤٣٥.

(١٥) هذا مأخوذ عن البغوي ، ١ / ٤٣٥.

(١٦) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٥١ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٣٥.

(١٧) عن أبي نصرة ، انظر البغوي ، ١ / ٤٣٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٥١.

١٤٥

خائل كطير جمع طائر ، وقيل : جمع لا واحد له من لفظه (١) ، أي الأفراس المعلمة من السمة أو المرعية من السوم (وَالْأَنْعامِ) أي الإبل والبقر والغنم ، جمع نعم (٢)(وَالْحَرْثِ) أي الزرع ، قيل : كل منها فتنة للناس ، أما النساء والبنين فتنة للجميع ، والذهب والفضة فتنة للتجار ، والخيل فتنة للملوك ، والأنعام فتنة لأهل البوادي ، والحرث فتنة لأهل الرساتيق (٣) ، ثم رغب في الآخرة وزهد في الدنيا بقوله (ذلِكَ) أي الذي ذكر من الأشياء السبعة (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي منفعة قليلة للناس في الحيوة الدنيا ، ثم يزول ولا يبقى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [١٤] أي حسن المرجع في الآخرة ، لا يزول ولا يفني وهو الجنة.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))

ثم أمر تعالى النبي عليه‌السلام أن يبين للمؤمنين أن ما وعد لهم في الآخرة أفضل مما زين للكافرين في الدنيا فتنة لهم بقوله (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي من الذي زين للناس (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي خافوا من الشرك والمعاصي والتزين بزينة الدنيا الشاغلة عن طاعة الله (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ) أي مقيمين (فِيها) أبدا (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي زوجات طاهرة من العيوب الظاهرة (٤) كالحيض والامتخاط واتيان الخلاء ، ومن الباطنة كالحسد والغضب والنظر إلى غير أزواجهن ، روي عن النبي عليه‌السلام : «لشبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها» (٥)(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) أي رضاء منه تعالى وهو من (٦) أكبر النعم ، قرئ بكسر الراء وضمها (٧)(وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [١٥] أي بأعمالهم فيثيب ويعاقب على الاستحقاق.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

قوله (الَّذِينَ يَقُولُونَ) نصب أو رفع على المدح ، ويجوز الجر صفة ل «العباد» ، أي هم الذين يقولون (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) أي صدقنا بك وبنبيك (٨)(فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) التي كانت في الشرك وفي الإسلام (وَقِنا) أي ادفع عنا (عَذابَ النَّارِ) [١٦] ونصب (٩)(الصَّابِرِينَ) مدحا ويجوز أن يكون مجرورا صفة ل «العباد» ، أي الذين صبروا على الطاعات والمصيبات ، والممتنعين عن المعاصي (وَالصَّادِقِينَ) في إيمانهم وأعمالهم الصالحة ، ووعدهم بينهم وبين الله أو بين الناس (وَالْقانِتِينَ) أي المطيعين لله (وَالْمُنْفِقِينَ) أي المتصدقين في سبيل الله (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [١٧] أي الذين يصلون بالليل ويمدون في الصلوة ، فاذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار ، قال لقمان لابنه : «يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك» (١٠).

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

قوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نزل حين جاء رجلان من أحبار الشام ، فقالا : للنبي على السّلام أنت محمد؟ قال : نعم ، فقالا : أنت أحمد؟ قال : أنا محمد وأحمد ، قالا : أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى (١١) ، فأخبر به ، أي أثبت الله بالحجة القطعية وأعلم بمصنوعاته الدالة على توحيده أنه واحد لا شريك له في خلقه الأشياء ، إذ لا يقدر أحد أن ينشئ شيئا منها (وَالْمَلائِكَةُ) أي وشهدت الملائكة وأقرت بما عاينت من

__________________

(١) هذا الرأي منقول عن البغوي ، ١ / ٤٣٦.

(٢) نعم ، ب س : النعم ، م.

(٣) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٢٥١ ، ٢٥٢.

(٤) الظاهرة ، ب م : ـ س.

(٥) رواه ابن ماجة ، الزهد ، ٣٩.

(٦) من ، س : ـ ب م.

(٧) «ورضوان» : قرأ شعبة بضم الراء ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٦١.

(٨) وبنبيك ، ب س : ونبيك ، م.

(٩) ونصب ، ب س : وبنصب ، م.

(١٠) انظر البغوي ، ١ / ٤٣٨.

(١١) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٥٣ ؛ والواحدي ، ٨٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩.

١٤٦

عظم قدرته أيضا (وَأُولُوا الْعِلْمِ) أي وشهد ذوو (١) العلم بالاحتجاج على وحدانيته أيضا ، وهم الأنبياء والمؤمنون الذين علموا توحيده وأقروا به اعتقادا صحيحا ، فشبه دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وإقرار الملائكة وأولي العلم بذلك شهادة الشاهد في البيان والكشف قوله (٢)(قائِماً بِالْقِسْطِ) نصب على الحال المؤكدة من «الله» أو من «هو» كقوله تعالى (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)(٣) لا من «الملائكة» و «أولي العلم» ، وإنما جاز ذلك مع امتناع جاء زيد وعمرو راكبا (٤) لأمن اللبس ، إذ القائم بالقسط من الصفات الخاصة به تعالى ، أي مقيما بالعدل في قسمة الأرزاق والآجال والإثابة والمعاقبة وما يأمر به عباده وينهاه عنهم من (٥) العدل والتسوية فيما بينهم ودفع الظلم عنهم ، وهذه الحال دخلت في حكم شهادة الله والملائكة وأولي العلم كما دخلت الوحدانية ، وقيل : إنها سيقت للمدح لا للتأكيد (٦) ، وحق «ما» ينتصب على المدح أن يكون معرفة ، وقد يجيء نكرة إذا اختصت (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [١٨] كرر المشهود به لتأكيد التوحيد ليوحدوه ولا يشركوا به شيئا ، لأنه ينتقم عمن لا يوحد بما لا يقدر على مثله منتقم ، ويحكم ما يريد على جميع خلقه لا معقب لحكمه لغلبته عليهم.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩))

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) بكسر «إن» على الاستئناف ، أي إن الدين المرضي عند الله الإسلام ، وهو التوحيد والعدل وبفتح «أن» (٧) بدلا من «أنه لا إله إلا هو» ، أي وشهد الكل أن دين الحق هو دين الإسلام من بين الأديان (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا) أي أعطوا (الْكِتابَ) وهم اليهود والنصارى في هذا الدين ونبوة محمد عليه‌السلام (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي في التورية أنه نبي حق ، ودينه حق ، فكذبوا وأشركوا بأن قالت النصارى : الله ثالث ثلثة ، وقالت اليهود : عزير ابن الله ، قوله (بَغْياً بَيْنَهُمْ) نصب مفعول له ، أي للبغي والحسد وطلب الرياسة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن ومحمد عليه‌السلام (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [١٩] أي سريع المجازاة ، لأنه عالم بجميع الأعمال لم يحتج إلى التذكر والتفكر أو سريع في محاسبة جميع الخلق ، لأنه يحاسبهم في أقل من لمحة بحيث يظن كل أحد منهم أنه يحاسب نفسه فقط.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي خاصمك أهل الكتاب في الدين (فَقُلْ أَسْلَمْتُ) أي أخلصت (وَجْهِيَ) أي ديني وعلمي (لِلَّهِ) وخص الوجه بالذكر ، لأنه أكرم أعضاء الرجل ، ولأنه إذا تواضع وخضع بالوجه خضع بجميع أعضائه ، قوله (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) باثبات الياء وحذفها وصلا ، وبحذفها «* ٧» وقفا في محل الرفع ، عطف (٨) على فاعل «أسلم» ، وجاز العطف من غير تأكيد للفصل ، أي أسلمت وأسلم من اتبعني (٩) وجوههم أيضا ، قوله (وَقُلْ) أمر للنبي عليه‌السلام بأن يقول بعد قيام المعجزة (١٠) على نبوته وصدق دين الرسلام (لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم اليهود

__________________

(١) ذوو ، ب م : ذوا ، س.

(٢) قوله ، ب م : ـ س.

(٣) البقرة (٢) ، ٩١.

(٤) راكبا ، ب م : ركبا ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٦٥.

(٥) من ، ب م : مثل ، س.

(٦) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٦٥.

(٧) «إن الدين» : قرأ الكسائي بفتح «إن» ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٦١.

(٧) «اتبعن» : قرأ المدنيان والبصري باثبات الياء وصلا وقرأ يعقوب باثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها وصلا ووقفا. البدور الزاهرة ، ٦١.

(٨) عطف ، ب م : ـ س.

(٩) من اتبعني ، ب م : ومن تبعني ، س.

(١٠) المعجزة ، س : المعجز ، ب م.

١٤٧

والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) أي لمشركي العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) بالاستفهام للتوبيخ على المعاندة في معنى الأمر ، أي أسلموا ، فهل أنتم منتهون عن الكفر والشرك (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي إن أخلصوا في التوحيد والتصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد وجدوا الهداية وخرجوا من الضلالة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أعرضوا عن التوحيد والتصديق بمحمد عليه‌السلام (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي التبليغ بالرسالة دون الهداية (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [٢٠] أي بأعمالهم من الإيمان وعدمه ، قيل : هذه الآية نسخت بآية القتال (١).

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن والمعجزات على نبوة (٢) محمد عليه‌السلام (وَيَقْتُلُونَ) وقرئ «يقاتلون» بالألف (٣)(النَّبِيِّينَ) أي ويرضون بالقتل الذي فعله آباؤهم (بِغَيْرِ حَقٍّ) أي بظلم منهم ، نزل إخبارا عن كفار بني إسرائيل الذين قتلوا الأنبياء ، وأتباعهم عنادا توبيخا لأهل الكتاب والمشركين الذين كفروا بمحمد ويقاتلونه (٤) ، ثم قال (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (مِنَ النَّاسِ) وهم مؤمنو بني إسرائيل يأمرونهم بالمعروف وكانوا يقتلونهم ، فأوعد الله لهم النار بقوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [٢١] أي وجيع دائم ، والفاء في «فبشرهم» الذي هو الخبر يدل على أنهم مستحقون بهذه البشارة لتضمن اسم «إن» معنى الجزاء ، قيل : قتلوا ثلثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنى عشر رجلا من مؤمني بني إسرائيل ، فأمروهم بالمعرف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعهم آخر النهار من ذلك اليوم (٥).

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت حسنات أعمالهم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [٢٢] يمنعونهم من عذاب النار.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) أي أعطوا حظا (مِنَ الْكِتابِ) أي من علم التورية ، نزل حين دعا النبي عليه‌السلام اليهود إلى الإيمان فامتنعوا منه (٦) أو حين جاء أهل خيبر إلى النبي عليه‌السلام برجل وامرأة زنيا ، فحكم عليهما بالرجم ، فقال علماء اليهود : ليس عليهما الرجم ، فقال عليه‌السلام : بيني وبينكم التورية ، فقالوا : قد أنصفتنا (٧) فجاؤا بالتورية فوجدوا فيها (٨) الرجم ، فرجما ، فانصرف اليهود مغضبين (٩) ، قوله (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) في محل النصب على الحال من (الَّذِينَ أُوتُوا) ، أي حال كونهم مدعوين إلى حكم القرآن (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى) أي ينصرف عن سماع ذلك الحكم (فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [٢٣] عن قبول الحق ، والواو فيه للحال.

__________________

(١) انظر هبة الله بن سلامة ، ٢٩ ، لعله أخذه منه.

(٢) نبوة ، ب م : ـ س.

(٣) «ويقتلون» : قرأ حمزة بضم الياء وفتح القاف وألف بعدها وكسر التاء ، والباقون بفتح الياء وإسكان القاف وحذف الألف وضم التاء ، ولا خلاف في الموضع الأول وهو : ويقتلون النبيين أنه يقرأ كقراءة غير حمزة في الموضع الثاني. الدور الزاهرة ، ٦١.

(٤) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢٥٤ ، ٢٥٦ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٤٢ ، ٤٤٣.

(٥) نقله المؤلف عن البغوي ، ١ / ٤٤٣.

(٦) ذكر قتادة نحوه ، انظر البغوي ، ١ / ٤٤٣.

(٧) قد أنصفتنا ، م : أنصفتنا ، ب س.

(٨) فوجدوا فيها ، س : فوجد فيها ، ب ، فوجداها ، م.

(٩) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٥٦ ؛ والواحدي ، ٨٣.

١٤٨

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

(ذلِكَ) أي الإعراض عن الحق (بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي بسبب قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي أربعين يوما على عدد أيام عبادة العجل (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [٢٤] أي يكذبون بالعمد على الله وهو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه فيعفو عنا بتأخير العذاب.

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

ثم أوعدهم بقوله (فَكَيْفَ) أي كيف يصنعون ويحتالون (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه لمن يعقل الحق (وَوُفِّيَتْ) أي وفرت وأعطيت (كُلُّ نَفْسٍ) من أهل الكتاب وغيرهم (ما كَسَبَتْ) أي الذي عملته من السيئات والحسنات (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [٢٥] أي لا ينقصون من حسناتهم ولا يزادون على سيئاتهم.

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))

قوله (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) نزل حين فتح النبي عليه‌السلام مكة ووعد أمته ملك فارس والروم (١) ، فعلمه الله أن يدعو بهذا الدعاء أو حين حفر أصحابه الخندق ، فوصل الحفر إلى الصخرة وعجزوا عن حفرها ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعول وضرب ضربة ، فظهر من تلك الصخرة نور ، فقال له سلمان : رأيت شيئا عجبا يا رسول الله! فقال : ما رأيت؟ قال : رأيت قصور الحيرة من الشام ، ثم ضرب ضربة أخرى فظهر كذلك ، فقال : رأيت قصور أهل فارس ، فقال عليه‌السلام : سيظهر لأمتي ملك الشام وملك فارس ، فقال المنافقون : إن محمدا لا يأمن على نفسه واضطر إلى حفر الخندق ، فكيف يتمنى ملك الشام وفارس؟ (٢) فقال تعالى : قل يا محمد اللهم ، أي يا الله أمنا بخير ، أي اقصدنا يا مالك الملك كله (تُؤْتِي الْمُلْكَ) من النبوة وغيرها (مَنْ تَشاءُ) أي محمدا ومن آمن به (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أي من فارس والروم (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) أي بالإسلام أو بالملك (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بنزع الملك من أهله أو بالشرك (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي الخير والشر فيكون من قبيل الاكتفاء أو المراد الخير دون الشر ، لأن الكلام في ذكر الخير المسوق إلى المؤمنين إنك وهو الهداية والسعادة (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٢٦] من الإعزاز والإذلال.

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

ثم أشار إلى قدرته الباهرة الدالة على توحيده وكبريائه بقوله (تُولِجُ اللَّيْلَ) أي تدخله (فِي النَّهارِ) أي في مكانه ، لأن ما نقص من الليل يدخل في مكان (٣) النهار حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة (وَتُولِجُ النَّهارَ) أي تدخله (فِي اللَّيْلِ) أي في مكانه حتى يصير النهار (٤) خمس عشرة ساعة (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) بالتخفيف والتشديد (٥) ، أي تظهر الحيوان من النطفة أو الطير من البيضة أو العالم من الجاهل أو المؤمن من الكافر أو النبات من الأرض اليابسة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) وهذا عكس الأول (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [٢٧] أي من غير أن يحاسب في الإعطاء ، لأنه المالك حقيقة ليس فوقه من يحاسبه فيه أو ترزقه بلا تقتير أو بلا حسبان وظن له.

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٥٧ ؛ والواحدي ، ٨٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٤٥.

(٢) اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢٥٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٨٣ ـ ٨٥.

(٣) مكان ، س م : ـ ب.

(٤) (وتولج النهار) أي تدخله (في الليل) أي في مكانه حتي يصير النهار ، س : (وتولج النهار في الليل) أي يدخله فيه حتي يصير الليل ، م ، (وتولج النهار في الليل) أي تدخله فيه حتي يصير النهار ، ب.

(٥) «الميت» معا : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة بتخفيف الياء ساكنة ، والباقون بتشديدها مكسورة. البدور الزاهرة ، ٦١.

١٤٩

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨))

قوله (لا يَتَّخِذِ) بكسر الذال ورفعه (١) نهيا أو خبرا في معناه (الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أي أحباء (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي مكان المؤمنين وبدلهم (٢) ، نزل في شأن المنافقين كعبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود في العون والنصرة ويأتونهم بالأخبار من المؤمنين (٣) أو في شأن حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة لكون أولادهم وأقربائهم فيها (٤) ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، أي اجتنبوا أيها المؤمنون عن موالاة الكفار فلكم غنية عنها بموالاة المؤمنين ، لأنهم أعداء الله (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي موالاة (٥) الكفار (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) أي من دينه وتوفيقه (فِي شَيْءٍ) أي في حظ ، لأن من والى عدو الله فقد دخل في عداوة الله ، وانسلخ من ولاية الله رأسا لأنهما متنافيان لا يجتمعان ، ثم استثنى الخائفين منهم فقال (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) في محل النصب مفعول له ، أي لا توالوهم إلا لأجل أن تخافوا (٦)(مِنْهُمْ تُقاةً) بالألف والإمالة (٧) ، أي مخافة بوجه يجب الآحتراز منه ، وذلك بأن يغلب الكفار أو يقع المسلم بينهم فيرضيهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه ، وهذا رخصة منه تعالى فلو صبر حتى قتل كان أجره عظيما (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي يقول الله إياكم ونفسي ، يعني احذروا من سخطي بموالاة (٨) أعدائي ، قيل : إنما يحذر نفسه من يعرفه بالمكاشفة (٩) فأما (١٠) من لا يعرفه فخطابه (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)(١١)(وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [٢٨] أي المرجع تحذير آخر بالبعث والجزاء.

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا) أي إن تضمروا (١٢)(ما فِي صُدُورِكُمْ) أي ما في قلوبكم من موالاة الأعداء ونقض العهود والعمل بما لا يرضى الله به (١٣)(أَوْ تُبْدُوهُ) أي تظهروه للمؤمنين (يَعْلَمْهُ اللهُ) جزم بجواب الشرط ، قوله (وَيَعْلَمُ) استئناف في معنى التعليل ، أي لا يخفى عليه ذلك ، لأنه يعلم (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيعلم سركم وجهركم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي من السر والعلن والعذاب والمغفرة (قَدِيرٌ) [٢٩] أي مقتدر بقدرة ذاتية لا يختص بمقدور دون مقدور.

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

(يَوْمَ) أي اذكر يوم (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) في الدنيا (مِنْ خَيْرٍ) أي ثوابه من غير نقص ، بيان ل «ما» بمعنى الذي ، أي تجده (مُحْضَراً) أي مكتوبا في صحفهم يقرؤنه ، قوله (١٤)(وَما عَمِلَتْ) مبتدأ بمعنى الذي عملته النفس (مِنْ سُوءٍ) أي من شر في الدنيا ولا يصح أن يكون شرطية ، لأن قوله (تَوَدُّ) لم يسمع فيه الجزم الذي هو المختار من القراء ، فهو (١٥) في محل الرفع على أنه خبر المبتدإ ، أي تحب النفس وتتمنى (لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) أي أن يكون

__________________

(١) أخذ المؤلف هذه القراءة عن السمرقندي ، ١ / ٢٥٨.

(٢) وبدلهم ، ب م : وبدله ، س.

(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٥٨ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٨٥.

(٤) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٥٨ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٤٨.

(٥) موالاة ، م : ولاء ، ب س.

(٦) أن تخافوا ، ب س : أن يخافوا ، م.

(٧) «تقاه» : قرأ يعقوب بفتح التاء وكسر القاف وتشديد الياء مفتوحة علي وزن مطية ، والباقون بضم التاء وفتح القاف وبعدها ألف. البدور الزاهرة ، ٦١.

(٨) بموالاة ، س م : بموالات ، ب ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٤٩ ؛ والكشاف ، ١ / ١٦٩.

(٩) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(١٠) فأما ، ب س : وأما ، م.

(١١) البقرة (٢) ، ٢٨١.

(١٢) أي إن تضمروا ، س م : أي تضمروا ، ب.

(١٣) لا يرض الله به ، ب م : أي تضمروا ، ب.

(١٤) قوله ، س م : ـ ب.

(١٥) فهو ، ب س : وهو ، م.

١٥٠

أن (١) بين النفيس وبين السوء (أَمَداً بَعِيداً) أي مسافة واسعة كما بين المشرق والمغرب ، ولم تعمل ذلك السوء قط (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرر التحذير من نفسه لئلا يغفلوها عنه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [٣٠] أي بليغ (٢) الرحمة بهم حيث لم يعجل بعقوبتهم.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١))

قوله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) نزل حين دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن الأشرف ومن تابعه إلى الإيمان ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقال تعالى لنبيه : قل لهم إني رسول الله أدعوكم إليه ، فان كنتم تحبونه فاتبعوني على دينه (٣) ، وامتثلوا أمري يحببكم الله ويرض (٤) عنكم (٥)(وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فان من ادعي محبة الله وخالف سنة نبيه فهو كذاب بنص كتاب الله تعالى ، والمراد من محبة الله عصمته (٦) بالتوفيق والعفو وإنعامه بالرحمة ، ومن محبة العباد رغبتهم في طاعة الله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٣١] للتائب المطيع.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

ثم قالوا بعد نزول هذه الآية : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله فيريد أن نحبه كما أحبت (٧) النصارى عيسى ابن مريم فنزل (٨)(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أمرا لهم بالجمع بين طاعته وطاعة رسوله رغما لهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أعرضوا عن طاعتهما (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) [٣٢] أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر (٩) لهم لكفرهم ، قيل : يحتمل أن يكون «تولوا» مضارعا بأن يكون أصله تتولوا (١٠) فخذفت التاء الأولى (١١) ويدخل في جملة ما يقوله الرسول وأن يكون ماضيا بلا حذف ولم يدخل فيها.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣))

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي اختار (١٢)(آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) أي نفس إبراهيم وعمران أو هما وأولادهما كإسماعيل وإسحق وذريتهما وكموسى وهرون وباقي الأنبياء من بني يعقوب ، يعني اختص آدم ومن ذكر معه من الأنبياء ومن أولادهم بالنبوة وارتضى بدينهم وفعلهم (عَلَى الْعالَمِينَ) [٣٣] أي عالمي زمانهم.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

قوله (ذُرِّيَّةً) نصب على الحال من المصطفين بعد آدم أو بدل من نوح وما عطف عليه أو بدل من الآلين بمعنى أن الآلين ذرية واحدة (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) جملة اسمية ، محلها نصب وصف ل «ذرية» ، أي ذرية متسلسلة انشعب بعضها من بعض بالتوالد ، وقيل : بعضها من بعض في الدين والتناصر (١٣)(وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالتهم (عَلِيمٌ) [٣٤] بدينهم وأعمالهم.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥))

قوله (١٤)(إِذْ قالَتِ) نصب بمحذوف (١٥) ، أي أذكر وقت قالت (امْرَأَتُ عِمْرانَ) هي حنة ، أم مريم وعمران بن ماثان في زمن زكريا لا عمران أبو موسى وهرون ، وكان بينهما ألف وثمانمائة سنة فأحبت حنة الولد بعد ما

__________________

(١) أن ، س م : ـ ب.

(٢) بليغ ، ب س : تبليغ ، م.

(٣) فاتبعوني علي دينه ، ب م : فاتبعون علي ديني ، س.

(٤) ويرض ، ب م : ويرضي ، س.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٦١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٥١ ؛ والواحدي ، ٨٦ (عن الكلبي).

(٦) عصمته ، س م : ـ ب.

(٧) أحبت ، ب م : أحببت ، س.

(٨) فنزل ، ب س : ثم نزل ، م. أخذه من السمرقندي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٦١.

(٩) ولا يغفر لهم ، س م : لا يغفر لهم ، ب.

(١٠) نقله المفسر عن الكشاف ، ١ / ١٧٠.

(١١) التاء الأولي ، س م : تاء الأولي ، ب.

(١٢) أي اختار ، س م : اختار ، ب.

(١٣) اختصره من البغوي ، ١ / ٤٥٣.

(١٤) قوله ، م : ـ ب س.

(١٥) نصب بمحذوف ، م : ـ ب س.

١٥١

أسنت فدعت ربها (١) أن يرزقها ولدا ونذرته أن تجعله من خدم بيت المقدس ، فلما أحست في نفسها بالولد قالت (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) من الولد (مُحَرَّراً) حال من «ما» بمعنى الذي ، ولم يقل محررة ، لأن نذرهما (٢) كان في الغلمان (٣) ، أي عبدا خالصا لله لا يعمل عمل الدنيا ولا يتزوج فيتفرغ لعمل الآخرة ، والمحرر المعتق الذي لم يملك من الحر ، قيل : من كان أسيرا لشهوته فليس بحر (٤)(فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائي (الْعَلِيمُ) [٣٥] بنيتي ، ثم مات عمران فبقيت حنة حاملا بمريم.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦))

(فَلَمَّا وَضَعَتْها) أي ولدت النسمة وهي أنثى (قالَتْ) تحسرا أو اعتذارا أو (٥) توهما أن لا يقبل نذرها لكونها أنثى (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وهو حال من المفعول في (وَضَعَتْها) ، والأصل وضعته أنثى ، وإنما أنثت لتأنيث الحال (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) بفتح العين وسكون التاء ، فيكون الجملة من مقول الله وبسكون العين وضم التاء (٦) فيكون من مقول حنة ، وكذا قوله (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) يحتمل أن يكون مقول الله وأن يكون مقول حنة ، فلو كانت الجملتان مقول الله كانتا اعتراضا بين قول حنة (٧)(إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وقولها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) ، وفائدته التسلية (٨) لنفس حنة والتعظيم لوضعها ويكون المعنى : الله أعلم بسر وضعها أنثى وحكمته ، فانها خير من الذكر في علمه ، لأنه يجعلها آية بولادة عيسى عليه‌السلام للعالمين ، وهي جاهلة بذلك ومن جهلها (٩) تحسرت ، فقالت (١٠) : إني وضعتها أنثى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ، واللام فيهما للعهد ، يعني هي أفضل من مطلوبها وهي لا تعلم ، ولو كانتا مقول حنة كان المعنى : أن الله أعلم بسر ما وضعت أنا ، لعل هذه الأنثى خير من الذكر الذي طلبت بالنذر ، وليس الذكر كالأنثى في الخدمة لضعفها (١١) ولما يعترضها من أحوال النساء ، ففيه تحزن لها لوقوع خلاف نذرها لله تعالى ، قوله (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) من مقول حنة ، عطف على قوله «إني وضعتها» ، أي إني جعلت اسمها مريم ، وهو العابدة في لغتهم ، وأرادت بذلك التقرب إلى الله والطلب أن يعصمها من الشيطان ليكون فعلها مطابقا لاسمها ، ولذلك أتبعه بقوله (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها) أي أولادها (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [٣٦] أي المطرود من الرحمة ، قال عليه‌السلام : «ما من مولود يولد إلا والشيطان يخنسه ـ أي يطعنه بإصبعه ـ حين يولد فيستهل صارخا من الشيطان إلا مريم وابنها» (١٢) ، فانه طعن في الحجاب.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))

(فَتَقَبَّلَها) أي قبل مريم من حنة (رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي بأمر ذي قبول مرضي ، فسلك بها سبيل السعداء (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي سوي خلقها ، ورباها تربية حسنة ، قيل : كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في

__________________

(١) ربها ، س : ربه ، ب م.

(٢) نذرهما ، م : نذرهم ، ب س.

(٣) في الغلمان ، ب م : في غلمان ، س.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٥) أو ، س : و ، ب م.

(٦) «وضعت» : قرأ الشامي وشعبة ويعقوب باسكان العين وضم التاء ، والباقون بفتح العين وإسكان التاء. البدور الزاهرة ، ٦٢.

(٧) حنة ، ب م : أم مريم ، س.

(٨) التسلية ، ب م : تسلية ، س.

(٩) جهلها ، ب س : جهتها ، م.

(١٠) فقالت ، س م : قالت ، ب.

(١١) لضعفها ، ب م : ـ س.

(١٢) أخرجه البخاري ، الأنبياء ، ٤٤ ؛ ومسلم ، الفضائل ، ١٤٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٦٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٥٥.

١٥٢

السنة (١) ، قيل : لما وضعتها حنة لفتها في خرقة ، ثم أتت بها إلى بيت المقدس ، ووضعتها عند المحراب فاجتمعت الأحبار في المسجد ، فقالت حنة لهم : خذوا مني هذه النذيرة للخدمة في المسجد ، فرغبوا فيها ، لأنها كانت بنت إمامهم ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، لأن خالتها عندي ، فقالوا : أمها أحق بها من خالتها ولكنا نتقارع بالقاء الأقلام في النهر ، وكانت أقلامهم من النحاس ، فخرجوا إلى عين سلوان ، فألقوا أقلامهم فيها ، فغابت أقلامهم في الماء فبقي قلم زكريا على وجه الماء ، فعلموا أن الحق له (٢)(وَكَفَّلَها) بتشديد الفاء (٣) ، أي ضمها الله (زَكَرِيَّا) بالمد والقصر (٤) ، وبتخفيف الفاء ، أي ضمها زكريا إلى نفسه وهو معنى قوله «فتقبلها ربها» الآية (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) أي غرفتها من المسجد ، والمحراب أشرف المجالس في اللغة ، قيل : إنه بنى لها غرفة في المسجد ، وجعل باب الغرفة في وسط الحائط ، لا يصعد إليها إلا بالسلم ، واستأجر لها ظئرا تربيها ، وكان إذا خرج يغلق عليها الباب ، ولا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت (٥) ، وإذا دخل عليها في أيام الشتاء (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي فاكهة الصيف وفي أيام الصيف فاكهة الشتاء (قالَ) زكريا (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين لك هذا الرزق؟ ولا يدخل عليك أحد غيري (قالَتْ هُوَ) أي هذا الرزق (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي من جنته تكلمت صغيرة كما تكلم عيسى في المهد (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [٣٧] أي بغير تقدير لكثرته وفي غير آوانه أو بلا محاسبة أو من حيث لا يحتسب.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨))

قوله (هُنالِكَ) أي حيث كان قاعدا عند مريم في المحراب ورأى حصول الفاكهة في غير أوانها فتنبه على إمكان ولادة العاقر وكان آيسا من ذلك (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي) أي ارزقني (مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي ولدا صالحا ، والذرية تقع على الواحد والجمع (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [٣٨] أي مجيب الدعوات.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩))

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) بالياء لإرادة معنى الجنس ، وبالتاء (٦) لتأنيث (٧) لفظ الجماعة ، والمراد بالقراءتين جبرائيل عليه‌السلام ، أي ناداه جبرائيل عليه‌السلام (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) الواو في الجملة واو الحال ، أي ناداه حال كونه في الصلوة (أَنَّ اللهَ) بكسر الهمز (٨) على إضمار القول وبفتحها (٩) على أنه مفعول ثان (١٠) ل «نادته» ، يعني قالوا : إن الله (يُبَشِّرُكَ) بالتشديد من التبشير وبالتخفيف (١١) ، من أبشر أو من بشر معلوما (بِيَحْيى) أي بولد ، اسمه يحيى ، لأنه حيي به (١٢) رحم أمه أو لأنه يحيي المجالس من وعظه ، وهو لا ينصرف لوزن الفعل والتعريف كزيد ويشكر أو للعجمة والتعريف إن كان أعجميا (١٣)(مُصَدِّقاً) حال من «يحيى» ، أي مؤمنا (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ)

__________________

(١) أخذه المؤلف عن البغوي ، ١ / ٤٥٦.

(٢) اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢٦٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٥٦.

(٣) «وكفلها» : قرأ الكوفون بتخفيف الفاء والباقون بالتشديد. البدور الزاهرة ، ٦٢.

(٤) «زكريا» : قرأ حفص والأخوان وخلف بالقصر من غير همز ، والباقون بالمد مع الهمز ورفعه إلا شعبة فبالنصب. البدور الزاهرة ، ٦٢.

(٥) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٢٦٤.

(٦) «فنادته» : قرأ الأخوان وخلف بألف بعد الدال ، والباقون بتاء ساكنة بعدها. البدور الزاهرة ، ٦٣.

(٧) لتأنيث ، ب س : التأنيث ، م.

(٨) الهمز ، ب م : الهمزة ، س.

(٩) «أن الله» : قرأ ابن عامر وحمزة بكسرة همزة «إن» ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٦٣.

(١٠) ثان ، ب م : ثاني ، س.

(١١) «يبشرك» : قرأ الأخوان هنا في الموضعين بفتح الياء وإسكان الباء وضم الشين مخففة ، والباقون بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة. البدور الزاهرة ، ٦٣.

(١٢) حيي به ، ب م : حيى ، س.

(١٣) أعجميا ، ب س : عجميا ، م.

١٥٣

أي بكتاب منه تعالى ، وقيل : المراد من «كلمة» (١) عيسى عليه‌السلام (٢) ، أي بكلمة كائنة من الله بأن قال له «كن» من غير أب ، فكان كما قال ، فوقع عليه اسم الكلمة (وَسَيِّداً) على قومه ، يعني يفوقهم في الشرف بأنه (٣) لم يرتكب سيئة قط (وَحَصُوراً) أي بليغ المنع من شهوة النساء ، وقد تزوج (٤) مع ذلك ليكون أغض لبصره (٥) ، قيل : إنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما خلقت للعب (٦)(وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [٣٩] أي ناشئا من الأنبياء ، لأنه كان من أصلاب الأنبياء.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠))

(قالَ) زكريا عند نداء الملائكة إياه وبشارتهم له بالولد بالاستفهام تعجبا وسرورا من حيث العادة (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) أي كيف يحصل (لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ) أي نالني (الْكِبَرُ) أي كبر السن العالية فأضعفني (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) أي عقيم لا تلد ، وكان زكريا ابن تسع وتسعين ، وامرأته بنت ثماني وتسعين (قالَ) أي الله (كَذلِكَ) أي كما قلت إنه قد بلغك الكبر وامرأتك عاقر لا تلد (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [٤٠] من خلق الولد بين الهرمين وغيره لا اعتراض عليه أو معنى (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل ، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعاقر ، الله يفعل ما يشاء أو معناه (كَذلِكَ اللهُ) مبتدأ وخبر ، أي هذه الصفة الله ، وقوله (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيان له.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة يعلم بها لي وقت حمل زوجتي لأزيد في الشكر والعبادة (قالَ آيَتُكَ) أي علامة حمل امرأتك (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي تمتنع عن كلامهم وأنت صحيح وتذكر الله وتسبح وتعبد (٧) قضاء لشكر تلك النعمة العظيمة التي طلبت الآية من أجله (٨)(ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أي إشارة بيد أو رأس أو عين ، وسمي الرمز كلاما لأنه يؤدي ما يؤديه الكلام ، ويفهم ما يفهم من الكلام ، فلذا جاز الاستثناء المتصل منه ، قيل : كانت إشارته بالإصبع المسبحة (٩) ، ولم يكن الامتناع من الكلام عقوبة له ، بل كان كرامة له ومعجزة دالة على إجابة دعائه في ظهور الحبل ، ودفعا لوسوسة الشيطان حيث صور له ، وقال : إن النداء البشارة لك ليس من الله ، وإنما هو من الشيطان ، ونصب «رمزا» على الحال من الفاعل والمفعول معا ، أي إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ، ثم أمره تعالى بذكر ربه لعدم منعه عن ذكر الله ، فقال (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ) وهو من زوال الشمس إلى غروبها (وَالْإِبْكارِ) [٤١] مصدر ، والمراد طلوع الفجر الثاني إلى الضحى ، أي سبحه في وقتيهما ، وقيل : في الليل والنهار (١٠).

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢))

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) عطف على قوله «إذ قالت امرأة عمران» ، أي اذكر وقت قولهم ، يعني جبرائيل ، جمع تعظيما (١١)(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك أولا حين تقبلك من أمك (وَطَهَّرَكِ) من الذنوب والحيض والنفاس ومسيس الرجال (وَاصْطَفاكِ) أي اختارك آخرا بأن وهب لك عيسى بلا أب دون أحد من النساء ، يعني فضلك (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [٤٢] أي على عالمي زمانها أو على جميع النساء لولادة عيسى من غير مسيس

__________________

(١) كلمة ، س : الكلمة ، ب م.

(٢) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٢٦٥ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٦٠.

(٣) بأنه ، س م : بأن ، س.

(٤) وقد تزوج ، م : وتزوج ، ب س.

(٥) لبصره ، ب م : ببصره ، س.

(٦) نقله عن الكشاف ، ١ / ١٧٣.

(٧) تسبح وتبعد ، ب س : ـ م.

(٨) من أجله ، ب س : من أجله وتسبح وتعبد ، م.

(٩) إشارته بالإصبع المسبحة ، م : إشارته بالمسبحة ، ب س ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٦٣ ، لعله أخذه عنه.

(١٠) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٦٦

(١١) جمع تعظيما ، م : ـ ب س.

١٥٤

رجل ، قيل : كلمها جبرائيل شفاها إظهارا لنبوة عيسى عليه‌السلام (١).

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

ثم أمرها بالصلوة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلوة فقال (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) أي أطيعي (لِرَبِّكِ) وأطيلي القيام في الصلوة له تعالى (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [٤٣] أي صلي مع المصلين ، يعني مع الجماعة ، ويحتمل أن يكون معناه : كوني مع الراكعين لا مع من لا يركع ، لأن في زمانها كان من يقوم ويسجد ولا يركع ، ولم يقل الراكعات (٢) لعموم الراكعين الرجال والنساء على سبيل التغليب.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))

(ذلِكَ) أي خبر يحيى وزكريا ومريم وعيسى (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار الغيب الذي لم تعرفها إلا بالوحي (نُوحِيهِ) أي الخبر (إِلَيْكَ) يا محمد ، وفيه تعريض لمنكري الوحي ودلالة على نبوته حيث أخبر عما غاب عنه (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي ولم تكن حاضرا عند الاخبار وقومك عالمون به ، ونفي الحضور عن النبي عليه‌السلام تهكم لمنكري (٣) الوحي ، لأنه معلوم لهم (٤) ولعلمهم يقينا (٥) أنه ليس من أهل السماع والقراءة (إِذْ يُلْقُونَ) أي يطرح الأحبار في بيت المقدس (أَقْلامَهُمْ) في الماء بالقرعة ، وهي الأقلام التي يكتبون التورية بها (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي ليعلموا أيهم يضمها إلى نفسه للتربية ، يعني ما كنت عالما بذلك الخبر قبل هذا الوقت ، وإنما تخبرهم بالوحي ، وأكد ذلك (٦) بقوله (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [٤٤] في أمر مريم من التكفل بها بالرغبة.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥))

قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) بدل من (إِذْ قالَتِ) قبلها ، أي اذكر وقت قولهم لمريم (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) أي يفرحك بولد مخلوق (مِنْهُ) أي من الله بأمره ، وهو قوله «كن» فكان (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) وهو المبارك ، والضمير في (اسْمُهُ) راجع إلى المسمى بالكلمة لا إلى الكلمة ، وهو مبتدأ ، خبره (الْمَسِيحُ) ، وقيل : بمعنى الماسح (٧) ، لأنه كان يمسح وجه الأعمى فيبصر ، وسمي الدجال مسيحا بمعنى الممسوح ، لأنه ذهبت إحدى عينيه ، قوله (عِيسَى) عطف بيان للمسيح ، وهو لقبه ، قوله (٨)(ابْنُ مَرْيَمَ) نعت لعيسى أو هو خبر مبتدأ محذوف (٩) ، أي هو ابن مريم وإنما أضاف إليها إعلاما أنها تلد من غير أب ، فلا ينسب إلا إلى أمه ، وإنما جمع هذه الثلثة في الاسم ، لأن الاسم علامة يعرف بها ، فكأنه قيل يعرف به هذا الولد ويتميز عمن سواه مجموع هذه الثلثة ، قوله (وَجِيهاً) حال من «الكلمة» ، أي صاحب قدر وجاه بالنبوة (فِي الدُّنْيا) أي بين الناس فيها (وَالْآخِرَةِ) أي ذا قدر في الآخرة بالشفاعة وارتفاع درجة (١٠) في الجنة (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [٤٥] عند ربه بارتفاعه إلى السماء وصحبته الملائكة فيها.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي صغيرا قبل وقت الكلام ، روي : أنه كان (١١) يحدث أمه وهو في بطنها إذا

__________________

(١) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ١ / ١٦٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٦٤.

(٢) الراكعات ، ب م : راكعات ، س.

(٣) لمنكري ، ب م : بمنكري ، س.

(٤) لهم ، م : له ، ب س.

(٥) يقينا ، س م : هينا ، ب.

(٦) ذلك ، س م : ـ ب.

(٧) نقله المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٢٦٨.

(٨) قوله ، ب م : ـ س.

(٩) محذوف ، م : ـ ب س.

(١٠) درجة ، س م : الدرجة ، ب.

(١١) كان ، ب م : كأنه ، س.

١٥٥

دخلت به وحدثته وإذا اشتغلت عنه سبح في بطنها وهي تسمع تسبيحه (١) ، ومحل (فِي الْمَهْدِ) نصب على الحال ، قوله (وَكَهْلاً) عطف عليه ، أي يكلمهم في كبره بعد نزوله من السماء ، والمعنى : أنه يكلمهم في هاتين الحالتين بكلام الأنبياء من الحكمة والعبرة من غير تفاوت بين حال الطفولة والكهولة التي يكمل فيها العقل ويستنبأ الأنبياء ليكون على طرفي كلامه معجزة ، لأنه لا يشبه كلام سائر الناس ، وتكلمه معهم دليل على حدوثه لحدوث الأصوات والحروف (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [٤٦] أي حال كونه مع النبيين في الجنة ، قيل : هذه أحوال أربعة مقدرة ، يبشر الله مريم بها أنه موصوف بهذه الصفات ولم يجمع هذه المجموعة فيمن سواه من الناس (٢).

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))

(قالَتْ رَبِّ) أي قالت مريم يا سيدي (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي) أي لم يصبني (بَشَرٌ) وهو كناية عن الجماع (قالَ) أي الله بواسطة جبرائيل (كَذلِكِ) أي كما قلت أنه لم يمسسك بشر (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً) أي إذا حكم بخلق أمر وحدوثه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [٤٧] أي يحدث في أسرع وقت ، فنفخ جبرائيل في نفسها فعلقت بذلك.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨))

قوله (وَيُعَلِّمُهُ) بالياء والنون (٣) عطف على (يُبَشِّرُكِ) أو كلام مستأنف ، أي ويعلمه الله (الْكِتابَ) أي الكتابة ، يعني الخط بالإلهام والوحي (وَالْحِكْمَةَ) أي الفقه والمعرفة (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [٤٨] فيحفظهما عن (٤) ظهر القلب.

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))

(وَرَسُولاً) أي ويجعله (٥) مرسلا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أو يكلم الناس حال كونه رسولا إليهم (٦) ومحل قوله (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) نصب بنزع الخافض ، أي بأني قد جئتكم (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بعلامة منه تعالى تدل على صدقي ، والمراد من الآية الجنس ، لأنه أتى بآيات كثيرة ، ومحل (أَنِّي أَخْلُقُ) بفتح الهمزة نصب بدل من «إني قد جئتكم» أو جر بدل من «آية» أو رفع على هي أني أخلق (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) وقرئ بكسر «إن» (٧) على الاستئناف ، أي قال عيسى بعد أن أوحي إليه في حال الكبر : قد جئتكم بآية من ربكم لبيان الآية الدالة على صدقه أني أخلق لكم ، أي أشكل شكلا وأقدره من الطين (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي كصورته (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في ذلك الشكل (فَيَكُونُ طَيْراً) جمعا وطائرا مفردا (٨)(بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره ومشيته ، قيل : لم يخلق سوى الخفاش ، لأنهم طلبوه منه لكونه أعجب الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بلا ريش ، ويضحك كالإنسان ، ويحيض كالمرأة ويلد كما يلد الحيوان ، ولا يبيض (٩) كسائر الطيور ولا يبصر (١٠) في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ١٧٥.

(٣) «ويعلمه» : قرأ بالياء نافع وعاصم وأبو جعفر ويعقوب ، والباقون بالنون. البدور الزاهرة ، ٦٣.

(٤) عن ، ب م : علي ، س.

(٥) أي ويجعله ، ب م : أي يجعله ، س.

(٦) إليهم ، ب م : عليهم ، س.

(٧) «أني أخلق» : قرأ المدنيان بكسر «إني» ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٦٣.

(٨) «طيرا» : قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بألف بعد الطاء وهمزة مكسورة بعده ، والباقون بغير ألف وبياء ساكنة مكان الهمزة. البدور الزاهرة ، ٦٤.

(٩) يبيض ، ب م : تبيض ، س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٦٩.

(١٠) ولا يبصر ، ب س : ولا تبصر ، م.

١٥٦

بعد غروب الشمس وبعد طلوع الفجر في ساعة قبل الإسفرار (١) ، فلما رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا : هذا سحر (وَأُبْرِئُ) أي أشفى (الْأَكْمَهَ) وهو مطموس العين أو الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) أي الذي به وضح وإنما خصهما (٢) بالذكر للشفاء ، لأنهما مما أعيا الأطباء في تداويهما ، لأنه بعث زمان الطب ، وسألوا الأطباء منهما ، فقال جالينوس وأصحابه : إذا ولد أعمى لا يبرأ بالعلاج ، وكذا الأبرص إذا كان بحال لو غرزت الإبرة فيه لا يخرج منه الدم لا يقبل العلاج ، فرجعوا إلى عيسى ، وجاؤا بالأكمه والأبرص ، فمسح يده بعد الدعاء عليهما فأبصر الأعمى وبرئ الأبرص ، فآمن به البعض وجحد البعض ، وقالوا : هذا سحر ، روي : أنه أبرأ في يوم واحد خمسين ألفا من المرضى (٣) ، ثم قال (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) فسألوا جالينوس عنه ، فقال : الميت لا يحيى بالعلاج ، فان كان هو يحيي الميت فهو نبي وليس بطبيب ، وطلبوا منه ، أي يحيي الموتى فأحيى أربعة : عازر وكان صديقا له وابن العجوز الذي حمل على سرير وابنة العاشر ماتت وأتى عليها ليلة وسام ابن نوح ، وكان قوم عيسى يقولون : إنه يحيي من كان موته قريبا ، فلعلهم أصابتهم سكتة فحييوا (٤) ، فقالوا له : أحي سام ابن نوح ، فقال : دلوني على قبره ، فجاؤا به على قبره فدعا الله فأحياه فقال له عيسى : كيف شاب رأسك؟ ولم يكن له شيب في حيوتك ، فقال : شاب رأسي حين سمعت صوتا يقول أجب روح الله ، فحسبت أن القيامة قد قامت ، فشاب من هول ذلك رأسي ، قيل : كان موته أكثر من أربعة آلاف سنة (٥) ، فقال للقوم : صدقوه فانه نبي فآمن به بعض وكفر به (٦) البعض قائلين بأنه سحر ، وكرر قوله «باذن الله» نفيا لتوهم (٧) الألوهية فيه ، ثم قالوا لعيسى : أرنا آية نعلم بها أنك صادق ، فقال (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) من أنواع المآكل (وَما تَدَّخِرُونَ) أي وما تخبئون للغد (فِي بُيُوتِكُمْ) فكان يخبر الرجل لما أكل قبل وبما يأكل (٨) ويخبر الصبيان ، وهو في المكتب بما يصنع أهلهم وبما يأكلون ويشربون (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما صنع عيسى عليه‌السلام (لَآيَةً لَكُمْ) أي علامة لنبوته (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [٤٩] أي مصدقين أنه نبي.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠))

قوله (وَمُصَدِّقاً) حال معطوف على قوله «بآية» ، أي وجئتكم مصدقا بالكتاب الذي أنزل علي ، وهو الإنجيل (لِما بَيْنَ يَدَيَّ) أي لما تقدمني (٩)(مِنَ التَّوْراةِ) يعني أنه موافق له في الدين (١٠)(وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) أي وجئتكم لأن أرخص لكم (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في شريعة موسى عليه‌السلام من لحوم السمك ولحوم الإبل والشحوم والثروب ، جمع ثرب وهو شحم دقيق يتصل بالأمعاء ولحم كل ذي ظفر ، فأحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا صيصية له ، وهي شوكة الحائك التي بها يسوي السدي واللحمة أو أحل لهم جميع المحرم عليهم ، فيكون «بعض» بمعنى كل ، قوله (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كرره تأكيدا ، أي ما جئت لكم إلا ببرهان بين يجب اتباعي به عليكم (فَاتَّقُوا اللهَ) فيما يأمركم به وينهاكم (وَأَطِيعُونِ) [٥٠] فيما أدعوكم إليه ولا تخالفوني فيما أنصح لكم.

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢))

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أي إلهي وإلهكم ورازقي ورازقكم (فَاعْبُدُوهُ) ولا تعصوه بالشرك (هذا) أي التوحيد الذي أدعوكم إليه (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [٥١] لا عوج فيه يوصلكم إلى معرفة الله ودخول الجنة (فَلَمَّا أَحَسَّ) أي

__________________

(١) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٦٩.

(٢) خصهما ، ب م : اختصهما ، س.

(٣) عن وهب ، انظر البغوي ، ١ / ٤٦٩.

(٤) فحييوا ، ب س : فحيوا ، م.

(٥) هذا الأثر مأخوذ عن السمرقندي ، ١ / ٢٦٩.

(٦) وكفر به ، س : وكفر ، ب م.

(٧) لتوهم ، ب م : لتهمة ، س.

(٨) يأكل ، ب م : أكل ، س.

(٩) تقدمني ، ب س : يقدمني ، م.

(١٠) في الدين ، م : في الدين قوله ، ب س.

١٥٧

أدرك وعلم يقينا (عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) بالله وأرادوا قتله (قالَ مَنْ أَنْصارِي) أي من أعواني (إِلَى اللهِ) أي مع الله ، وهو جمع نصير (قالَ الْحَوارِيُّونَ) أي أصفياء عيسى ، سموا بذلك لتقاء قلوبهم أو الراجعون إلى الله ، من حار يحور إذا رجع أو القصارون من التحوير ، وهو التبييض (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أعوان دينه ، قيل : مر بهم عيسى وهم يغسلون الثياب وكانوا قصارين ، فقال لهم (١) : ألا أدلكم بقصارة أنفع من هذا ، قالوا : نعم ، قال : طهروا أنفسكم من الذنوب فبايعوه (٢) ، وقال (آمَنَّا بِاللهِ) أي صدقنا بتوحيده (وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [٥٢] أي داخلون في الإسلام بالإخلاص ، وإنما قالوا ذلك تأكيدا لإيمانهم ، لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))

ثم زادوا في التأكيد بقولهم (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الإنجيل على عيسى (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي عيسى على دينه (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [٥٣] لله بالوحدانية أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم ، ثم أخبر الله عن كفار قومه الذين أحس منهم الكفر ، فقال (وَمَكَرُوا) أي أرادوا قتله (وَمَكَرَ اللهُ) أي جازاهم على مكرهم (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [٥٤] أو أقويهم مكرا (٣) وأنفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعرون. روي : «أن اليهود اجتمعوا على قتل عيسى فهرب منهم فدخل البيت فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء ، فقال ملكهم لرجل خبيث اسمه يهوذا : ادخل عليه فاقتله ، فدخل ولم يجده ، فألقى الله عليه شبه عيسى (٤) ، فلما خرج ليخبرهم رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه ، ثم اختلفوا فيه (٥) ، فقال بعضهم : وجهه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا ، فليس هو بعيسى فقتل بعضهم بعضا لذلك» (٦) ، وعيسى يطير مع الملائكة في السماء لابسا النور يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥))

قوله (٧)(إِذْ قالَ اللهُ) أي اذكر وقت قول الله (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي منيمك (٨) أو قابضك من الأرض أو إني مستوفي أجلك ولا أدع أن يقتلوك ، يعني أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخرك إلى أجل كتبته في الدنيا (وَرافِعُكَ إِلَيَّ) أي إلى السماء (وَمُطَهِّرُكَ) أي مبعدك ومنجوك (٩)(مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ، قيل : سينزل عيسى من السماء على عهد الدجال ليقتله ويتزوج بعد قتله امرأة من العرب وتلد له (١٠) ابنة فتموت ابنته ثم يموت هو بعد ما يعيش سنين كثيرة ، لأنه سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة فاستجاب الله دعاءه (١١)(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) في دينك الإسلام (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك وبدينك ، أي يعلونهم بالحجة وبالسيف (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) قال ابن عباس رضي الله عنه : «الذين اتبعوه هم أمة محمد عليه‌السلام ، لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع» (١٢)(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي إلى رجوع الذين اتبعوك والذين كفروا بك (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي بين المؤمنين والكافرين في الآخرة (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [٥٥] من الذين في الدنيا.

__________________

(١) لهم ، ب م : ـ س.

(٢) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٢٧١.

(٣) مكرا ، ب م : ـ س.

(٤) شبه عيسى ، ب م : شبهه ، س.

(٥) فيه ، ب م : ـ س.

(٦) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٧١ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٧٥ ، ٤٧٦.

(٧) قوله ، ب س : ـ م.

(٨) أي منيمك ، ب م : أي مميتك ، س.

(٩) ومنجوك ، س م : ومنجيك ، ب.

(١٠) له ، ب س : منه ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٧٢.

(١١) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٧٢.

(١٢) انظر السمرقندي ، ١ / ٢٧٢ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٧٧ ، ٤٧٨ ؛ والكشاف ، ١ / ١٧٧.

١٥٨

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦))

ثم أخبر عن حكم كل من الفريقين بقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالسيف والسبي وأخذ الجزية (وَالْآخِرَةِ) بعذاب النار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [٥٦] أي مانع يمنعهم من العذاب.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧))

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ) بالياء والنون (١) ، أي يعطيهم (٢) بلا نقص (أُجُورَهُمْ) أي ثواب أعمالهم الخير (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [٥٧] أي لا يرضي دين الكافرين.

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

قوله (ذلِكَ) مبتدأ ، خبره (نَتْلُوهُ) أي خبر عيسى وغيره من الأخبار التي بيناها في القرآن نقرؤه (عَلَيْكَ) يا محمد (مِنَ الْآياتِ) حال من ضمير المفعول أو خبر بعد خبر ، أي من البيان المعجز (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [٥٨] أي من الكلام المحكم الممنوع من كل خلل لا يقدر عليه أحد أو الناطق بالحكمة وهو القرآن ، وصف بصفة من هو من سببه.

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩))

قوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ) نزل حين جاء وفد نجران مع علمائهم إلى النبي عليه‌السلام فناظروه في أمر عيسى عليه‌السلام ، فقالوا : إنك تقول هو عبد الله ورسوله ، قال عليه‌السلام : أجل أنه عبد الله ورسوله ، فقالوا : هل رأيت ولدا من غير أب؟ فقال تعالى : إن صفة عيسى عند الله (٣)(كَمَثَلِ آدَمَ) أي كصفته ، يعني شبه خلق عيسى كشبه خلق آدم في الغرابة ، قوله (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) تفسير للمثل لا محل له من الإعراب ، أي خلق الله آدم من تراب ، يعني صوره جسدا من طين (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [٥٩] أي فكان وهو حكاية حال ماضية ، أي فصار بشرا بغير أب فكذلك خلق عيسى بشرا من غير أب ، فاشتركا في الوجود الخارج عن العادة المستمرة ، بل الوجود في آدم أغرب من وجود عيسى ، لأن الوجود من غير أب وأم أخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع لشبهة الخصم إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))

قوله (الْحَقُّ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق ، يعني خبر عيسى ومثله ثابت (مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [٦٠] أي من الشاكين ، وهذا نهي له ، والمراد غيره أو هو من باب التهييج على الثبات والطمأنينة.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي فمن خاصمك من النصارى في حق عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من البينات الموجبة للعلم في أمر عيسى (فَقُلْ تَعالَوْا) أي هلموا (نَدْعُ أَبْناءَنا) أي حسنا وحسينا (وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا) أي فاطمة (وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا) أي النبي عليه‌السلام وعليا زوج فاطمة رضي الله عنهما (وَأَنْفُسَكُمْ) يعني لنجتمع نحن وأنتم في موضع (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) بالجزم عطف على (نَدْعُ) المجزوم في جواب الأمر ، أي نلتعن ، من البهل وهو اللعن ثم استعمل الابتهال لكل دعاء خير أو شر وإن لم يكن التعانا (فَنَجْعَلْ) بالجزم عطف عليه ، أي فنفعل (لَعْنَتَ اللهِ) بالدعاء على وجه التضرع (عَلَى الْكاذِبِينَ) [٦١] منا ومنكم في حق عيسى عليه‌السلام ،

__________________

(١) «فيوفيهم» : قرأ حفص ورويس بالياء التحتية ، والباقون بالنون. البدور الزاهرة ، ٦٥.

(٢) يعطيهم ، س : نعطيهم ، ب م.

(٣) هذا مأخوذ عن البغوي ، ١ / ٤٧٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٨٧.

١٥٩

وهذا غاية الإنصاف وإنما ضم الأبناء والنساء إلى نفسه في دعاء المباهلة ليتبين الكاذب والصادق وهو يختص به وبمن يكاذبه ، لأن ضمهم إلى نفسه آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، فلما سمعوا الآية من (١) النبي عليه‌السلام ، قالوا حتى ننظر في أمرنا ونأتيك غدا وتفرقوا على الموعدة (٢) ، ثم ندموا فأتوا النبي عليه‌السلام من الغد ، وقد خرج عليه‌السلام آخذا بيد الحسن والحسين وخرج معه علي وفاطمة رضي الله عنهم (٣) إلى الموضع الذي واعدهم ، فطلب منهم المباهلة ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن جبلا عن مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا فأبوا المباهلة ، فقال عليه‌السلام لهم : إما أن تبتهلوا وإما أن تسلموا وإما أن تقبلوا الجزية فقبلوا الجزية وصالحوه على مال يؤدونه إليه كل عام وانصرفوا إلى بلادهم ، فقال عليه‌السلام : «لو أنهم ابتهلوا لهلكوا كلهم حتى العصافير في سقوف الحيطان» (٤).

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢))

ثم قال تعالى (إِنَّ هذا) أي إن خبر عيسى (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي الخبر الصادق من أنه عبد الله ورسوله لا شك فيه ، والأصل أن يدخل اللام على المبتدأ إلا أن يمنع مانع فيدخل على الخبر ، وههنا قد دخل الفصل ، لأنه إذا جاز دخوله على الخبر كان دخوله على الفصل أجوز ، لأنه أقرب إلى المبتدأ (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) أي لا شريك له في الألوهية (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه ينتقم عمن عصاه (الْحَكِيمُ) [٦٢] في أمره ، أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من خلق عيسى بلا أب ، ومن خلق آدم من تراب ، ومن خلق بنيه من أب وأم وغير ذلك.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أبوا عن الحق ولم يؤمنوا به (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) [٦٣] وهو وعيد شديد لهم بقوله (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)(٥).

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤))

قوله (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) نزل حين قال اليهود : نحن على دين إبراهيم ، فانه كان يهوديا ، وقال النصارى : نحن على دين إبراهيم وكان نصرانيا ، فقال النبي عليه‌السلام : كلاهما بريء منه ، لأنه كان حنيفا مسلما ، ونحن على دينه (٦) ، فأمر الله نبيه بقوله قل لأهل الكتاب (٧) من اليهود والنصارى (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) أي إلى كلمة واحد مفيد عدل (سَواءٍ) أي يستوي (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) لا يختلف فيه الكتب السماوية ويرتفع الأهواء المختلفة باعتقاده على وجه الإنصاف ، ثم بين الكلمة بقوله (أَلَّا نَعْبُدَ) أي لا نوحد (إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) من خلقه (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا نقول : عزير ابن الله ولا المسيح بن الله ، ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوه من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أو أعرضوا عن هذا التوحيد (فَقُولُوا) أنتم لهم (اشْهَدُوا) أي اعلموا (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [٦٤] أي مخلصون لله بالتوحيد والعبادة.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥))

ثم قال الله تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ) من اليهود والنصارى (لِمَ تُحَاجُّونَ) أي لم تخاصمون (فِي إِبْراهِيمَ) أي في دينه زاعمين أنه في دينكم (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) وأنتم سميتم باليهودية والنصرانية بعد

__________________

(١) من ، ب س : عن ، م.

(٢) الموعدة ، ب م : المواعدة ، س.

(٣) عنهم ، س م : عنهما ، ب.

(٤) انظر السمرقندي ، ١ / ٢٨٥.

(٥) النحل (١٦) ، ٨٨.

(٦) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ١ / ٤٨٢.

(٧) قل لأهل الكتاب ، ب س : قل يا أهل الكتاب ، م.

١٦٠