عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ١

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٠٣

بعد غروب الشمس ، وهي علم للموقف ، سمي بالجمع ، منصرف ، ولا اعتبار للتاء في اللفظ ، لأنها علامة الجمع مع الألف قبلها ، ولا يجوز تقدير التاء للتأنيث كما في زينب ، لأن هذه التاء مانعة من التقدير لاختصاص الصيغة بجمع المؤنث ، وقيل : التنوين فيها ليس للصرف لكونه نظير النون في مسلمين (١) ، وسمي الموقف بها لاعتراف الناس فيه بالذنوب أو لأن آدم عليه‌السلام لما رأى حواء فيه عرفها ، قيل : فيه دليل على أن الوقوف بعرفة واجب ، لأن الإفاضة لا يكون إلا بعد الوقوف بها (٢) ولأن النبي عليه‌السلام قال : «الحج عرفة» (٣) ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج ، والمعنى : أنكم إذا وقفتم بعرفات ثم رجعتم من الوقوف زائرين البيت بمكة (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والتهليل والتكبير والدعاء (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي بالقرب منه والمشعر المعلم ، أي معلم لعباد الله ووصف بالحرام لحرمته (٤) ، والمراد به المزدلفة وجميعها موقف إلا المحسر ، وسمي بالمزدلفة لأن آدم اجتمع فيها حواء ودنا منها وقد تسمى جمعا لذلك أو لأن فيها يجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء في وقت واحد (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي كما أرشدكم لدينه وعلمكم كيف تذكرونه فلا تعدلوا عنه في إتيان مناسك حجه (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل الهدي (لَمِنَ الضَّالِّينَ) [١٩٨] أي الجاهلين بعادته وذكره لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه ، و «إن» هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة.

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩))

ونزل حين كان قريش وأتباعها يقفون بالمزدلفة ولا يخرجون من الحرم إلى عرفات ترفعا على الناس قائلين : نحن أهل الله وسكان حرمه لئلا يساويهم في الموقف والناس من أهل اليمن وغيرهم يقفون خارج الحرم بعرفات ويفيضون منها فأمر الله لهم أن يقفوا حيث يقف الناس ويفيضوا من حيث يفيضون قوله (٥)(ثُمَّ أَفِيضُوا) أي ارجعوا (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من عرفات ولا تكن إفاضتكم من المزدلفة ، و «ثم» لإظهار بعد ما بين الإفاضتين الصواب والخطأ ، وأراد ب «الناس» جميعهم إلا الحمس وهم قريش سميت به لشجاعتهم (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من مخالفتكم في الوقوف ونحوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب عن ذنبه (رَحِيمٌ) [١٩٩] بإثابته (٦) في الجنة فأمر النبي عليه‌السلام أبا بكر رضي الله عنه أن يخرج بالناس جميعا إلى عرفات فيقف بها ، روي : «ان الله يباهي ملائكته بأهل عرفات ويقول انظروا إلى عبادي جاؤا من كل فج عميق شعثا غبرا اشهدوا أني غفرت لهم» (٧).

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠))

ثم قال تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أي إذا فرغتم من أداء أمور الحج (فَاذْكُرُوا اللهَ) باللسان ، يعني اذكروه بالتكبير والثناء عليه (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) في ذلك الموقف بمنى ، أي بالغوا في ذكره بالكثرة كما تفعلون في ذكر آبائكم وكانت العرب إذا فرغت من حجتها وقفت فيه فذكرت مفاخر آبائهم ثم يتفرقون ، قوله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي أكثر ذكرا في موضع الجر ، عطف على «كم» في «ذكركم» ، تقديره : أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا لآبائكم أو (أَشَدَّ) نصب بمضمر ، تقديره : أو اذكروه ذكرا أشد من ذكركم لآبائكم ثم أشار تعالى إلى اختلاف أغراض الناس بالدعاء في الحج بقوله (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) وهم المشركون (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) أي ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء ومالا ولم يسألوا التوبة والمغفرة فقال تعالى (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [٢٠٠] أي نصيب ،

__________________

(١) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ١١٩.

(٢) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ١ / ١١٩.

(٣) رواه الترمذي ، الحج ، ٥٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١١٩.

(٤) لحرمته ، ب م : لحرمة ، د.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١٩٤.

(٦) باثابته ، ب م : بانابته ، د.

(٧) انظر السمرقندي ، ١ / ١٩٤. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

١٠١

لأن همه (١) مقصور على الدنيا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١))

(وَمِنْهُمْ) أي من المؤمنين (مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي التوبة والمغفرة والعلم النافع والعمل الصالح (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي الجنة ، قيل : «الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء» (٢) ، تأنيث الأحور ، وجمعه حور (وَقِنا) أي ادفع عنا (عَذابَ النَّارِ) [٢٠١] وقيل : المرأة السوء (٣) ، وقيل : كل ما يبعد العبد عن الله (٤) ، لأنه سبب عذاب النار.

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢))

(أُولئِكَ) أي الداعون بالحسنتين (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي دعوا (٥) ، والدعاء كسب ، لأنه عمل من الأعمال المكتسبة لقوله «بما (كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ»)(٦) ، ثم حثهم على أعمال الخير وحذرهم بالموت ، لأن الجزاء والحساب انما يكون بعد الموت بقوله (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [٢٠٢] أي بادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة ، فانه عن قريب يقيم القيامة ويحاسب العباد أو هو سريع الحفظ من غير غلط ونسيان لعدم احتياجه إلى عقد يد أو وعي صدر أو فكر ، بل حسابه (٧) أسرع من لمح البصر ، وهذا يدل على كمال قدرته ووجوب الحذر منه ، روي : أنه تعالى يحاسب في قدر حلب شاة أو في لمحة (٨).

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

(وَاذْكُرُوا اللهَ) أي بالتكبير عقيب الصلوات وعند رمي الجمرات (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) أي معروفات بالحصر ، وهي أيام التشريق ، يعني أيام منى ، وأجري التأنيث بالجمع على لفظ «أيام» (٩) ، والقياس أيام معدودة ، وقابل الجمع بالجمع مجازا إذ لا يقال يوم معدودة ، وقيل : يجوز أن يراد باليوم الساعة لاشتمال الزمان عليهما فيصح النعت بالمؤنث (١٠) والأيام المعلومات العشر من ذي الحجة (١١) ، وقيل : هي أيام النحر (١٢) ، فالتكبير مشروع للحاج وغيره عقيب الصلوات في أيام التشريق وهو : الله أكبر ثلثا متوالية عند الشافعي ، واثنين عند غيره وتممامه : لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، لقوله عليه‌السلام : «كبروا دبر كل صلوة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق» (١٣).

(فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي طلب الخروج من منى (فِي يَوْمَيْنِ) أي في اليوم الثاني بعد يوم النحر من أيام التشريق (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بتعجيله وترك الرمي في اليوم الثالث منها ، لأنه رخص له ذلك ، فعند أبي حنيفة رضي الله عنه يجوز الخروج فيه قبل طلوع الفجر منه (وَمَنْ تَأَخَّرَ) عن الخروج حتى رمى في اليوم الثالث ثم يخرج إذا فرغ من رمي الجمار كما يفعل الناس الآن وهو مذهب الشافعي والإمامين (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بترك الترخص ، فالمعنى : أنهم مخيرون بين النفرين وإن كان التأخر (١٤) أفضل لجواز التخيير بين الفاضل والأفضل ، قيل : يجوز تقديم الرمي في

__________________

(١) همه ، دم : همهم ، ب.

(٢) عن علي رضي الله عنه ، انظر الكشاف ، ١ / ١٢١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٢٥٨.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٢١.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٥) دعوا ، ب م : ادعوا ، د ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٢١.

(٦) الشوري (٤٢) ٣٠.

(٧) حسابه ، ب د : حساب ، م.

(٨) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ١ / ١٢١.

(٩) «أيام» ، ب د : الأيام ، م.

(١٠) وهذه الأقوال منقولة عن الكشاف ، ١ / ١٢١.

(١١) نقله المفسر عن البغوي ، ١ / ٢٦٠.

(١٢) نقله المؤلف عن البغوي ، ١ / ٢٦٠.

(١٣) انظر السمرقندي ، ١ / ١٩٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(١٤) التأخر ، د م : المتأخر ، ب.

١٠٢

اليوم الثالث على الزوال عند أبي حنيفة ولا يجوز عندهم (١) ، قوله (لِمَنِ اتَّقى) خبر مبتدأ محذوف ، أي جواز التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لمن يتقي المناهي بعد انصرافه من الحج وإنما (٢) خصه به ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، ثم زاد في التحذير بقوله (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [٢٠٣] أي تجمعون فيجازيكم بأعمالكم ، لأنهم كانوا إذا رجعوا من حجهم تجترؤن على الله بالمعاصي فشدد في تحذيرهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤))

قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) نزل حين جاء أخنس بن شريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وكان حلو الكلام ، حسن المنظر ، فاجر السريرة ، وقال : إنما جئت أريد الإسلام وقال الله يعلم أني صادق وأحبك فأعجب النبي عليه‌السلام كلامه ، ثم خرج من عنده فمر بزرع ثقيف من المسلمين ، فأحرقه ليلا وأهلك مواشيهم ، لأنه كان بينه وبينهم عداوة فأخبر الله تعالى عنه بقوله ومن الناس من يسرك كلامه ويعظم في قلبك (٣)(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما يقول لك في غرض المعيشة في الدنيا ، لأن ما ادعى من محبتك إنما هو لطلب حظ من الدنيا ، فيتعلق (٤) الجار والمجرور بقوله المذكور (٥)(وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي يقول الله شاهد على محبتك والإسلام في قلبي ، والواو للحال في (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) [٢٠٤] أي أشد الخصومة والعداوة للمسلمين ، ويجوز أن يكون الخصام جمع خصم ، أي ألد الخصوم خصومة.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥))

(وَإِذا تَوَلَّى) أي أدبر عنك ورجع (سَعى فِي الْأَرْضِ) أي مضى فيها بعمل المعاصي (لِيُفْسِدَ فِيها) أي ليظهر الظلم بسفك دماء المسلمين (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) بحرق الزروع (٦) وعقر الدواب (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [٢٠٥] أي لا يرضى بعمل المعاصي.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦))

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) أي خف من الله في صنعك السوء (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) أي حملته حمية الجاهلية ملتبسة (بِالْإِثْمِ) الذي ينهى عنه ، يعني ألزمته نخوته وكبره وقوته ارتكاب الإثم لجاجا على رد قول الناصح والواعظ له ، قيل : من الذنوب التي لا يغفر أن يقال للرجل اتق الله ، فيقول عليك حسبك أو (٧) عليك نفسك (٨) ، يقول الله (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي هي كافية له (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) [٢٠٦] أي الفراش والمقر ، فصارت الآية عامة لجميع الناس من المنافقين.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) أي يبيع (نَفْسَهُ) نزل فيمن يبذلها في الجهاد أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يقتل (٩) ، وقيل : نزل في صهيب بن سنان أكرهه المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفرا كانوا معه ، فقال لهم أنا شيخ كبير أن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فخلوني وما أنا عليه ، أي من الإسلام وخذوا مالي فقبلوا منه ماله إلا مقدار راحلته ، وتوجه إلى المدينة فلما دخلها لقيه أبو بكر رضي الله عنه

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٢١.

(٢) وإنما ، ب د : فإنما ، م.

(٣) عن السدي ، انظر الواحدي ، ٥٢ ـ ٥٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٢٦٢ (عن الكلبي).

(٤) فيتعلق ، ب م : فتعلق ، د.

(٥) المذكور ، ب د : ـ م.

(٦) الزروع ، ب م : الزرع ، د.

(٧) أو ، ب م : و ، د.

(٨) عن عبد الله بن مسعود ، انظر البغوي ، ١ / ٢٦٤.

(٩) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٢٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٥٤.

١٠٣

فقال له ربح البيع يا صهيب فقال وما ذاك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب (١) ، والشرى من الأضداد يستعمل في البيع والابتياع ، ونصب (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) مفعول له ، أي يشري نفسه لطلب رضوانه تعالى (وَاللهُ رَؤُفٌ) أي كثير الرحمة (بِالْعِبادِ) [٢٠٧] لأنه كلفهم الجهاد لحصول الثواب لهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨))

ونزل حين استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤا التورية ويعملوا ببعض ما فيها (٢)(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) بكسر السين وفتحها (٣) ، أي في الانقياد ، والمراد الإسلام (كَافَّةً) حال من الضمير في (ادْخُلُوا) ، أي اثبتوا جميعا على شرائع الإسلام ودين محمد ولا تخرجوا منها (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي آثاره وسننه بعد مجيء سنن الإسلام برسالة محمد عليه‌السلام (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [٢٠٨] أي ظاهر العداوة فلا تتبعوا طرقه التي يدعوكم إليها لترجعوا (٤) عن الصراط المستقيم.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩))

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) أي ملتم عن الإسلام وشرائعه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الواضحات على أن ما دعاكم إليه محمد حق (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [٢٠٩] أي غالب بالنقمة لا ينتقم إلا بالحق.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

ثم قال تعالى يا محمد (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظرون بترك الدخول في الإسلام (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أي بأسه وقضاؤه بالعذاب في الدنيا أو يوم القيامة (فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة وهي ما أظل ، وقوله (مِنَ الْغَمامِ) أي الغيم ، صفة (ظُلَلٍ) ، قيل : فيه إيذان بشدة العذاب ، لأن الغمام مظنة الرحمة فاذا نزل منه العذاب كان أصعب (٥) ، كأنه قال من حيث لم يحتسبوا ، قوله (وَالْمَلائِكَةُ) رفع ، عطف على (اللهُ) ، أي يأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي وفرغ من حسابهم أو أتم أمر هلاكهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [٢١٠] معلوما ومجهولا وبالتاء والياء (٦).

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١))

وثم أمر الله تعالى نبيه محمدا عليه‌السلام بأن يسأل اليهود تبكيتا بقوله (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم ، ف «كم» يحتمل كونها استفهامية وخبرية ، ومعنى الاستفهام فيها للتقرير ، وتبينت بقوله (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي واضحة على نبوة موسى أو محمد عليهما‌السلام كانفلاق البحر لهم وإهلاك عدوهم ونزول المن والسلوى عليهم أو شق القمر نصفين وإنطاق الحجر وغيرهما من المعجزات (وَمَنْ يُبَدِّلْ) أي ومن يغير (نِعْمَةَ اللهِ) التي هي آيات الله الدالة على صدق محمد ودينه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي من (٧) بعد ما عرفها وصحت عنده (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [٢١١] لمن لم يشكر نعمته لاستحقاقه العقوبة بكفر النعمة.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ١٩٦ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ١٩٧ ؛ والواحدي ، ٥٤ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٦٨.

(٣) «السلم» : قرأ المدنيان والمكي والكسائي بفتح السين ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٤٨.

(٤) لترجعوا ، ب س : ليزجعوا ، م.

(٥) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ١٩٨ ؛ والكشاف ، ١ / ١٢٣.

(٦) «ترجع» : قرأ المدنيان والمكي والبصري وعاصم بضم التاء وفتح الجيم ، والباقون بفتح التاء وكسر الجيم. البدور الزاهرة ، ٤٨.

(٧) من ، س : ـ ب م.

١٠٤

ونزل في شأن المنافقين أو المشركين (١)(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي ما بسط لهم من الأموال التي هي متاع الحيوة الدنيا ، والمزين هو الله بأن خذلهم وأحبوها أو الشيطان بأن حسنها في أعينهم بوساوسه (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي من فقراء المؤمنين كعبد الله بن مسعود وعمار وصهيب وخبيب وبلال (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) من الشرك والنفاق وأطاعوا الله (فَوْقَهُمْ) في الجنة والحجة في الدنيا وهؤلاء الكفار في النار (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وفي هذه الآية إيذان بأن الكافر لا يسعد بكثرة الدنيا عند الله ، وإن المؤمن (٢) لا يسعد عنده إلا بالتقوى لذكره بعد ذكر الإيمان (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [٢١٢] أي يعطي رزقا كثيرا في الآخرة أو في الدنيا بحيث لا يعرف حسابه أو يرزق الكثير في الدنيا ، ولا يحاسب عليه في الآخرة أو يرزق من يشاء وليس أحد يحاسب منه بما يرزقه ، لأنه المالك المطلق وقيل : يرزقه بغير حسبانه (٣) ، أي من حيث لا يحتسب.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) فيه إيماء للمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا في الحق من المشركين ، وأهل الكتاب باخباره تعالى أن بني آدم كانوا عند أخذ الميثاق عليهم مسلمين أو من آدم إلى نوح ، أي كان الناس وهم عشرة قرون على دين واحد وعلى ملة واحدة من الحق ، ثم تفرقوا واختلفوا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) بالثواب لمن يؤمن ويطيع (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب لمن يكفر ويعصي ، وهما حالان من النبيين (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الكتب ، يعني أنزل مع كل نبي كتاب (بِالْحَقِّ) أي ملتبسا بالصدق ، حال من الكتاب (لِيَحْكُمَ) أي الله أو النبي الذي معه الكتاب أو الكتاب (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في دين الإسلام (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي في الحق أو في الكتاب (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي أعطوا الكتاب المنزل (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الواضحات على صدق الكتاب ، و «من» متعلق ب («مَا اخْتَلَفَ» (بَغْياً) أو حسدا وظلما (بَيْنَهُمْ) أو بين المختلفين بتكذيب بعض بعضا وكتمان صفة محمد وحكم الحق للحسد على حطام الدنيا ورياستها وقلة الإنصاف منهم (فَهَدَى) أي وفق (اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا) أي إلى الذي (٤)(اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ) وهو بيان لما اختلفوا فيه ، قوله (بِإِذْنِهِ) متعلق ب «هدى» ، أي بارادته ورحمته حتى أبصروا الحق بنور التوفيق من الباطل (وَاللهُ يَهْدِي) أي يرشد (مَنْ يَشاءُ) هدايته (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٢١٣] أي إلى دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

قوله (أَمْ حَسِبْتُمْ) نزل لما أصاب المسلمين جهد في غزوة أحد (٥) أو في حفر الخندق (٦) ، «أم» فيه منقطعة والهمزة فيه لإنكار الحسبان ، واستبعاده ، أي أظننتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) أي والحال لم يجئكم (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا) أي صفة الذين مضوا (مِنْ قَبْلِكُمْ) من النبيين والأمم ، وأصل «لما» لم ، ضم إليها ما ليفيد معنى التوقع ، أي إتيان ذلك المثل متوقع منتظر لكم ، والجملة الآتية مبنية لحالهم ومثلهم ، كأن قائلا يقول كيف كان مثلهم؟ فقيل : استئنافا (٧)(مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) أي أصابتهم الشدة والفقر أو البلاد والأمراض (وَزُلْزِلُوا) زلزالا شديدا ، أي حركوا وأزعجوا بأنواع البلايا إزعاجا شديدا لم يبق لهم به صبر (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) برفع

__________________

(١) نقله عن البغوي ، ١ / ٢٧١.

(٢) المؤمن ، ب س : المؤمنين ، م.

(٣) لعل المفسر اختصره من السمرقندي ، ١ / ١٩٩.

(٤) الذي ، ب م : الذين ، س.

(٥) نقله عن البغوي ، ١ / ٢٧٥.

(٦) عن قتادة والسدي ، انظر الواحدي ، ٥٤ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٧٥.

(٧) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٢٤.

١٠٥

(يَقُولَ) وأريد به الحال ، وبنصب (يَقُولَ)(١) باضمار أن بعد (حَتَّى) بمعنى إلى أن يقول ، والمعنى على المضي لا على الاستقبال ، أي إلى غاية ، قال الرسول فيها (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) استبطاء للنصر الموعود لهم لا شكا (مَتى نَصْرُ اللهِ) الموعود فأجيبوا ، وقيل لهم (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [٢١٤] أي غير متأخر عنكم ، قيل : «هذا في كل نبي بعث إلى أمته ، وأجهد فيه حتى قال : متى نصر الله؟» (٢) ووقع ذلك للرسول حين بلغ له ضجر شديد قبل فتح مكة فقال له في يوم الأحزاب حيث أصاب أصحابه شدة ولم يبق لهم صبر حتى ضجوا وطلبوا النصرة ، فأرسل الله ريحا وجنودا وهزم الكفار بهما.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

قوله (يَسْئَلُونَكَ) نزل حين حث النبي عليه‌السلام على التصدق في سبيل الله وسأل عمرو بن الجموح وكان ذا مال فقال : يا رسول الله! كم ننفق (٣)؟ وما ذا ننفق (٤)؟ (٥) فقال تعالى : يسألونك (ما ذا يُنْفِقُونَ) أي أي شيء يتصدقونه من أموالهم (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ) أي ما تصدقتم (مِنْ خَيْرٍ) أي من مال (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وهذا الكلام جواب بما هو أهم وهو بيان المصرف بكل مال حلال ، لأن الصدقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها ، قيل : نسخت الآية بآية الزكوة (٦) ، وقيل : يجوز حملها على النفل ، فلا نسخ (٧) حينئذ ، لأن المراد بها البر على هؤلاء المذكورين (٨)(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) إذا كان من المال الحلال ، ف «من» للبيان (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [٢١٥] فيجازيكم به لا محالة.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))

قوله (كُتِبَ) أي فرض (عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أي الجهاد للكفار ، نزل حين أمرهم الله بالجهاد وكرهوا الخروج لمشقته (٩) ، والواو في قوله (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) واو الحال ، أي القتال مكروه ، يعني شاق عليكم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) أي الغزو (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن فيه فتحا وغنيمة أو شهادة وجنة (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) وهو الجلوس عن الغزو (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) لأن فيه تسلط عدوكم عليكم وهلاككم (وَاللهُ يَعْلَمُ) مصالحكم دينا ودنيا (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [٢١٦] ما فيه صلاحكم لحبكم القعود عن الغزو.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧))

قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) نزل حين بعث النبي عليه‌السلام عبد الله بن جحش مع تسعة رهط في آخر جمادي الأخرى قبل بدر بشهرين (١٠) ليترصد إلى عير قريش ، فيها عبد الله بن الحضرمي وثلثة معه ، فقتلوه ليلا وأسروا اثنين وفلت واحد ، فعيرهم المشركون ، وقالوا : قد استحل محمد الشهر الحرام ، وجاء عبد الله بن

__________________

(١) قرأ نافع برفع اللام ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٤٨.

(٢) قاله الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٠٠.

(٣) ننفق ، ب س : تنفق ، م.

(٤) ننفق ، ب س : ينفق ، م.

(٥) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٥٤ ـ ٥٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٠٠.

(٦) عن السدي ، انظر الكشاف ، ١ / ١٢٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٧٦.

(٧) فلا نسخ ، ب م : فلا تنسخ ، س.

(٨) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٢٠١.

(٩) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٢٠١.

(١٠) بشهرين ، ب : شهرين ، س م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٠١ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٧٨.

١٠٦

جحش وأصحابه بالعير والأسيرين إلى النبي ، وقالوا : يا رسول الله! فعلنا هذا وما ندري أن تلك الليلة من جماذي الأخرى (١) أم كانت من رجب فوقف النبي عليه‌السلام العير والأسيرين وامتنع عن أخذها ، فقال تعالى «يسئلونك عن القتال في الشهر الحرام» (٢) ، قوله (قِتالٍ فِيهِ) أبدل من الشهر بدل اشتمال لاشتمال الشهر على القتال (قُلْ قِتالٌ فِيهِ) أي في الشهر الحرام (كَبِيرٌ) أي إثم عظيم عند الله فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البعير والأسيرين إلى قريش ، قوله (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) مبتدأ وهو مع خبره الجملة عطف على جملة (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ، أي قل يا محمد للكفار تعييرا لهم منع الناس عن الإيمان بالله (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على (صَدٌّ) ، أي والشرك بالله ، وتعطف (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بالجر على سبيل الله ، أي ومنع المسلمين عن دخول مكة وزيارة بيت الله (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) مبتدأ ، أي أهل المسجد ، يعني النبي ومن آمن به (مِنْهُ) أي من المسجد عطف على (صَدٌّ) ، وخبر المبتدأ (أَكْبَرُ) أي أعظم إثما (عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ) أي الشرك بالله (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي من قتل بن الحضرمي ومن القتال في الشهر الحرام ، المعنى : قل للمشركين توبيخا لهم : أفعالكم من الصد والكفر وإخراج المسلمين من مكة أكبر إثما مما فعل بعض المسلمين من القتل ، والقتال في الشهر الحرام ، قوله (وَلا يَزالُونَ) أي الكفار (يُقاتِلُونَكُمْ) إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين ، أي هم لا ينفكون عن قتالكم أيها المؤمنون (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) أي يصرفوكم عن دين الإسلام إلى دينهم الكفر (إِنِ اسْتَطاعُوا) دينهم الإسلام بقوله (وَمَنْ يَرْتَدِدْ) شرط مبتدأ ، أي يرجع (مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) الإسلام إلى دينهم الكفر سرا و (٣) جهرا (فَيَمُتْ) بالجزم عطفا على «يرتد» (وَهُوَ كافِرٌ) أي وهو مرتد عن دينه بالكفر ، وخبر المبتدأ وجواب الشرط (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ) أي بطلت (أَعْمالُهُمْ) أي حسناتهم ، يعني لا ثواب لها ، لأن عبادتهم لم تصح (فِي الدُّنْيا وَ) لم يثابوا بها في (الْآخِرَةِ) وبه استدل الشافعي أن الردة لا تحبط (٤) العمل حتى يموت مرتدا ، وأبطلها أبو حنيفة رحمه‌الله بالردة وإن لم يمت ورجع مسلما (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [٢١٧] أي مقيمون لا يخرجون عنها.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي فارقوا أهلهم ومنازلهم (وَجاهَدُوا) أي وحاربوا (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله ، نزل ترغيبا للجمع بين هذه الخصال وإن كان الثواب حاصلا بكل واحدة منها ، نزل حين قال الكفار للمقاتلين من المسلمين في الشهر الحرام : لو لم يكن عليهم وزر فليس لهم أجر (٥) ، وخبر «إن» (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) أي ينالون الجنة برحمته ، لأن من طلب وجد وجد (وَاللهُ غَفُورٌ) لذنوبهم بقتالهم في الشهر الحرام (رَحِيمٌ) [٢١٨] بفضله الجنة لهم ، قيل نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام بقوله (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا)(٦) الآية (٧).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩))

قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) نزل حين كان المسلمون يشربون الخمر ويستعملون القمار مولعين فيهما (٨) ، أي يسألونك عن جواز تناولهما فقال تعالى (قُلْ فِيهِما) أي في استعمالهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي ذنب عظيم ،

__________________

(١) الأخري ، م : ـ ب س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٠١.

(٢) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٢٠١ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٥٥ ـ ٥٨ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٣) و ، ب م : أو ، س.

(٤) لا تحبط ، ب م : لا يحبط ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٢٧.

(٥) نقله عن الكشاف ، ١ / ١٢٦.

(٦) التوبة (٩) ، ٣٦.

(٧) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٢.

(٨) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٣ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٥٨ ـ ٥٩ ؛ والوحدي ، ١ / ٢٨٢.

١٠٧

قرئ بالباء والثاء (١) من الكثرة ، أي وافر من الفحش والمخاصمة والعداوة بسببهما (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من اللذة واستمرار الطعام وكسب المال بالتجارة في الخمر ونيل المال بلا تعب في الميسر وانتفاع الفقراء بلحم الجزور ، روي في صفة الميسر : أنهم كانوا يشترون جزورا في الجاهلية وينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء ثم يضربون سهامهم بالقدح ، يعني يعين كل واحد سهمه بقدح موسوم به ، ويتركون قدحا بلا نصيب موسوما باسم رجل ، ويجعلون جميع الأقداح في خريطة ، ويضعونها على يد عدل ، ثم يدخل يده فيخرج باسم رجل قدحا منها ، فمن خرج سهمه أولا يأخذ نصيبه من اللحم ، ولا يكون من الثمن عليه شيء ومن خرج قدحه بلا نصيب كان عليه ثمن الجزور ، ولا شيء له من اللحم ، ويطعمونها الفقراء وهم لا يطعمون منها ، ويفتخرون بذلك (٢) ، والمراد من الميسر هنا جميع القمار ، فتركهما بعض الناس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركهما كثير منهم ، وقالوا : نأخذ منفعتهما ونترك إثمهما ، ثم نزلت آية (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٣) حين قرأ بعضهم (أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)(٤) في الصلوة بترك (لا) في (لا أَعْبُدُ) ، فترك الخمر بعض الناس ، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلوة حتى نزلت آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ)(٥) إلى آخرها حين شرب قوم في دعوة عتاب بن مالك ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا وتهاجوا فضرب بعضهم رأس بعض بلحيي بعير فشجه موضحة فشكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر رضي الله عنه : «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» ، فلما نزلت الآية إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٦) قال عمر : انتهينا يا رب ، فصار شربها حراما عليهم حتى قال البعض : ما حرم علينا شيء أشد من الخمر ، وهي ما غلا واشتد وقذف الزبد بلا طبخ النار من عصير العنب يحد شاربها ويفسق ويكفر مستحلها بالإجماع ، وأصل الخمر الستر ، لأنها تستر العقول ، قيل : كل ما أسكر من كل شراب حرام قليله وكثيره عند أكثر الفقهاء ، منهم الشافعي رحمه‌الله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يحرم إلا المتخذ من عصير العنب والرطب ونقيع الزبيب والتمر والقدر المسكر من كل شراب حالة الشرب (٧) ، قال النبي عليه‌السلام : «من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة» (٨) ، والميسر مفعل من اليسر ضد العسر ، وهو قمار العرب ، سمي به لأن الإنسان يأخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير تعب ، قال علي رضي الله عنه : «النرد والشطرنج ميسر» (٩) ، ويشير به إلى أنهما حرام ، وعن النبي عليه‌السلام : «إياكم وهاتين اللعبتين المشؤمتين فانهما من ميسر العجم» (١٠)(وَإِثْمُهُما) أي عقاب الإثم في تناولهما بعد التحريم (أَكْبَرُ) أي أعظم (مِنْ نَفْعِهِما) قبل التحريم ، وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار والطرب فيهما وغيرهما مما ذكر (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أي أي شيء يتصدقون من الأموال (قُلِ الْعَفْوَ) بالنصب أي ينفقون العفو ، أي الفضل عن قدر الحاجة لنفسه وعياله ، فكانوا يكتسبون وينفقون الفاضل عن الحاجة في عهد النبي عليه‌السلام ، ثم نسخ بآية الزكوة (١١) ، وقرئ بالرفع (١٢) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي المنفق العفو (كَذلِكَ) أي مثل هذا التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) من الأمر والنهي (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [٢١٩]) فتسعون فيما هو صلاحكم.

__________________

(١) «كبير» : قرأ الأخوان بالثاء المثلثة ، والباقون بالباء الموحدة. البدور الزاهرة ، ٤٩.

(٢) أخذ هذا المعنى عن الكشاف ، ١ / ١٢٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٣) النساء (٤) ، ٤٣.

(٤) الكافرون (١٠٩) ، ٤.

(٥) المائدة (٥) ، ٩٠.

(٦) المائدة (٥) ، ٩١.

(٧) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢٠٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ؛ والكشاف ، ١ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٨) رواه مسلم ، الأشربة ، ٧٣ ؛ وأبو داود ، الأشربة ، ٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٢٨٤.

(٩) انظر البغوي ، ١ / ٢٨٦ ؛ والكشاف ، ١ / ١٢٧. ولم أعثر عليه بهذا اللفظ في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(١٠) أخرج نحوه أحمد بن حنبل ، ١ / ٤٤٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٢٧.

(١١) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٣.

(١٢) «العفو» : قرأ أبو عمرو برفع الواو والباقون بالنصب. البدور الزاهرة ، ٤٩.

١٠٨

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠))

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي لتتفكروا أن الدنيا زائلة والآخرة باقية فتطلبوا الآخرة بترك الدنيا في سبيل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) أي عن مخالطتهم ، وذلك بعد نزول قوله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)(١) وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً)(٢) الآية ، فتركوا مخالطتهم ومواكلتهم ، وشق ذلك عليهم حتى لو كان عند رجل يتيم يجعل له بيتا على حدة وطعاما على حدة ، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، قد عزلنا عن اليتامى بما أنزل الله من الشدة أفيصلح لنا أن نخالطهم (٣) فنزل (٤)(قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي إصلاح مالهم بنظركم فيه خير لكم من ترك الخلطة والنظر عليهم لتثابوا ، وخير لهم ليتيازد مالهم ، وذلك إصلاح لهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) أي وإن تخلطوا أموالكم إلى أموالهم وتشاركوهم فيها (فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم في الدين ، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه ويعينه ولا يضره (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ) لمال اليتيم (مِنَ الْمُصْلِحِ) لماله ، يعني إذا قصدتم به الإصلاح فلا بأس عليكم بالخلطة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) إعناتكم (لَأَعْنَتَكُمْ) أي ليضيق عليكم بالشدة ، يعني لما أباح لكم مخالطتهم وشق ذلك عليكم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب على أن يعنت عباده (حَكِيمٌ) [٢٢٠] في صنيعه ، يعني لا يكلفهم فوق طاقتهم.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

قوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) أي تتزوجوهن وهن الوثنيات (حَتَّى يُؤْمِنَّ) أي حتى يصدقن بالله وبمحمد عليه‌السلام ، نزل حين سأل أبو مرثد النبي عن تزوجه بامرأة يقال لها عناق وكانت مشركة لا من أهل الكتاب ، فنهاه عنه (٥) ثم قال (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) أي نكاح امرأة مؤمنة حرة كانت أو أمة ، فالمراد من الأمة أمة الله خير من نكاح حرة مشركة (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي ولو أعجبكم نكاحها وتحبونها (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) أي لا تزوجوهم نساءكم المؤمنات (حَتَّى يُؤْمِنُوا) بالله ورسوله فلا يجوز تزويج مسلمة لكافر إجماعا (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) أي نكاح عبد من عباد الله حرا كان أو رقيقا (خَيْرٌ مِنْ) تزويج (مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) تزويجه وتحبونه (أُولئِكَ) أي المشركات والمشركون (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى عمل أهلها (وَاللهُ يَدْعُوا) أي على لسان أنبيائه (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي إلى أعمال الجنة وأسباب المغفرة من التوبة والإنابة والتقوى (بِإِذْنِهِ) أي بارادته وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) من الأمر والنهي في أمر التزويج وغيره (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [٢٢١] أي يتعظون وينتهون عن المعاصي.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢))

قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) عطف على السؤال قبله ، وإنما ترك حرف العطف الذي هو (٦) واو الجمع في الأسولة التي ذكرت ليدل على أن تلك الحوادث وقعت في أحوال متفرقة ، وذكره في الأسولة الأخيرة ، لأنهم سألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد ، كأنه قيل : يجمعون لك بين هذه السؤالات منها السؤال عن المحيض (٧) ، نزل في شأن رجل من الأنصار ، اسمه أبو الدحداح ، سأل رسول الله ، كيف نصنع بالنساء إذا حضن

__________________

(١) الأنعام (٦) ، ١٥٢ ؛ والاسراء (١٧) ، ٣٤.

(٢) النساء (٤) ، ١٠.

(٣) أن نخالطهم ، ب م : أن يخالطهم ، س.

(٤) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٤.

(٥) نقله المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٤ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٥٩ ـ ٦٠ (عن مقاتل بن حيان).

(٦) حرف العطف الذي هو ، س م : ـ ب.

(٧) السؤال عن المحيض ، ب س : ـ م.

١٠٩

أنقربهن أم لا (١)؟ أي يسألونك عن الوطئ في زمان الحيض ، فيكون المحيض اسم الزمان هنا (قُلْ هُوَ) أي الدم (أَذىً) أي شيء نجس يؤذي من يقربه مجامعا (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي اتركوا مجامعتهن أيام حيضهن (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) بالجماع (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بفتح الطاء والهاء مع التشديد ، أي يغتسلن ، وبسكون الطاء وضم الهاء مع التخفيف (٢) ، أي يطهرن من المحيض وينقطع دمهن ، قيل : إذا انقطع الدم في أقل من عشرة لا يجوز قربانها ما لم يغتسل أو يمضي عليها وقت الصلوة ، فاذا تمت العشرة وانقطع الدم جاز أن يقربها ، وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجوز ما لم تغتسل (٣)(فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي اغتسلن (فَأْتُوهُنَّ) أي جامعوهن (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي من الفرج ولا تعدوه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الشرك والذنوب (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [٢٢٢] أي المغتسلين بالماء من الجناية والأحداث أي المتنزهين من اتيانهن في الحيض أو في أدبارهن.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

قوله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أي مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات في موقع البيان لقوله (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)(٤)(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي نساءكم في محل الزرع وهو القبل (أَنَّى شِئْتُمْ) أي كيف أردتم مستقبلين أو مستدبرين بعد أن كان المأتي واحدا ، وهو موضع الحرث فيه تحريم الأدبار وتحليل الإقبال لطلب النسل لا لقضاء الشهوة ، قال عليه‌السلام : «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (٥)(وَقَدِّمُوا) أي الأعمال الصالحة (لِأَنْفُسِكُمْ) أي لا تعملوا المناهي أو قدموا التسمية على الوطئ أو طلب الولد ، قال عليه‌السلام : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلثة : صدقة جارية بعده أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (٦)(وَاتَّقُوا اللهَ) أي اخشوه على كل حال من عمل السيئة (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي صائرون إليه فاستعدوا له بما لا تفتضحون به (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [٢٢٣] يا محمد ، أي الذين يصدقون بوعده تعالى ويحافظون حدوده.

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤))

قوله (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً) أي علة معترضة (لِأَيْمانِكُمْ) جمع يمين ، والمراد هنا المحلوف عليه ، وسمي به لملابسة اليمين ، فاللام يتعلق ب (عُرْضَةً) لما فيها من معنى الاعتراض ، ويجوز أن يتعلق بالفعل ، والمعنى : ولا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه باليمين بالله على ترك فعل الخير من الإحسان لأحد أو صلة الرحم وإصلاح ذات البين و (٧) العبادة كالصوم والصلوة (٨) أو غير ذلك من الخيرات ، فيقولون : نحن حلفنا بالله فنخاف من اليمين به ان نفعله فنحنث في يميننا ، ومحل قوله (أَنْ تَبَرُّوا) أي لأن لا تحسنوا ، نصب على أنه مفعول له ، وكذا (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي لأن لا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس أو بتقدير كراهة أن تبرؤا ، نزل في عبد الله بن رواحة الأنصاري حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشر بن نعمان ولا يكلمه ، فجعل يقول حلفت بالله أن لا أفعل ولا يحل لي إلا أن أبر في يميني (٩) فصارت الآية عامة في كل من كان يحلف بالله أن لا يحسن أحدا ولا يتقي من العصيان ، فيعمل ما اشتهت نفسه وأن لا يصلح بين الناس إذا وقعت فيهم العداوة والبغضاء ، فقال تعالى

__________________

(١) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٥.

(٢) «يطهرن» : قرأ شعبة والأخوان وخلف بفتح الطاء والهاء مع التشديد فيهما ، والباقون بسكون الطاء وضم الهاء مخففة. البدور الزاهرة ، ٤٩.

(٣) تغتسل ، ب م : يغتسل ، س. اختصره من السمرقندي ، والكشاف ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٠٥ ؛ والكشاف ، ١ / ١٢٩.

(٤) البقرة (٢) ، ٢٢٢.

(٥) انظر السمرقندي ، ١ / ٢٠٦ ؛ والبغوي ، ١ / ٢٩٦. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٦) رواه مسلم ، الوصية ، ١٤ ؛ وأبو داود ، الوصايا ، ١٤ ؛ والترمذي ، الأحكام ، ٣٦ ؛ والنسائي ، الوصايا ، ٨ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٢ / ٣٧٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٢٩٧.

(٧) و ، ب م : أو ، س.

(٨) والصلوة ، س م : ـ ب.

(٩) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٠٦ ؛ والواحدي ، ٦٥ ؛ والبغوي ، ٢٩٧.

١١٠

كل ذلك خير وطاعة لا يمنعها حلفكم فان حلفتم عليها فلتكفروا عن حلفكم ولتفعلوا (١) تلك الخيرات من البر والتقوى والإصلاح بين الناس ، قال عليه‌السلام : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فاليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» (٢)(وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) [٢٢٤] بنياتكم فيجازيكم عليها.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥))

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) أي لا يعاقبكم بلغو يمينكم ، واللغو هو المطروح من الكلام لكونه باطلا ، يقال : لغي لغوا إذا قال باطلا ، ولغو اليمين أن يحلف الرجل بالله على شيء يظن أنه صادق فيه وليس كذلك سواء كان الذي يحلف ماضيا أو غيره فليس له إثم ولا كفارة ، هذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، وأما عند الشافعي رضي الله عنه فلغو اليمين ما سبق إليه اللسان بلا قصد الحلف نحو لا والله وبلى والله ، وفي الآية معنيان : أحدهما لا يعاقبكم الله باللغو (فِي أَيْمانِكُمْ) بالظن (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ) أي يعاقبكم (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) من قصد الإثم بالكذب في اليمين ، وهو أن يحلف الرجل على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس ، وسميت بالغموس لا نغماس صاحبها في الإثم بها ، وثانيهما لا يؤاخذكم ، يعني لا يلزمكم الله الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ولكن يلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من اليمين لا بكسب اللسان وحده (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن حنث وفرّ عن يمينه (حَلِيمٌ) [٢٢٥] حيث لم يعاقبكم باللغو في اليمين ، ورخص لكم الحنث والتكفير في غيره ، قيل : إذا حلف أحدكم بشيء فحنث ، إن كان مستقبلا فعليه كفارة وهو اليمين المنعقدة وإن كان ماضيا فان كان الحالف عالما بالواقع وحلف على خلافه فاليمين كبيرة ولا كفارة عند أبي حنيفة رضي الله عنه في الكبائر ، وعند الشافعي رحمه‌الله يجب الكفارة فيه وهو اليمين الغموس وإن كان الحالف جاهلا بالواقع ويرى أنه صادق فيه وليس كذلك فلا كفارة فيه وهو يمين اللغو عند أبي حنيفة ، واليمين (٣) الغموس عند الشافعي رضي الله عنه ويحكم فيه بالكفارة (٤).

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦))

قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) أي يحلفون على القربان ، من الإيلاء وهو يتعدى ب «على» ، لكنه ضمن معنى البعد فتعدى ب «من» ، فكأنه قال : يبعدون بالقسم (مِنْ نِسائِهِمْ) نزل فيمن كان يكره امرأته ويخاف أن يطلقها فيتزوجها غيره فيحلف على أن لا يقربها فيتركها لا ذات بعل ولا أيما (٥) ، فبين الله تعالى الحكم في المؤلين ، فقال للذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي انتظار أجل أربعة أشهر بعد الحلف (فَإِنْ فاؤُ) تفصيل للذين يؤلون ، أي فهم بعد الإيلاء ان رجعوا عن اليمين في تلك الأشهر وجامعوا نساءهم من قبل أن تمضي المدة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر للمؤمنين لرجوعهم من ضرار نسائهم بالإيلاء (رَحِيمٌ) [٢٢٦] يرحم لهم بترخيص الكفارة في ذلك ، قيل : إن فاء الحالف إليها في المدة بالوطئ إن أمكنه أو بالقول إن عجز عن الوطئ صح الفيء وحنث بالوطئ ولزمته كفارة اليمين ولا تلزمه (٦) بالفيء بالقول وإن مضت المدة ولم يفئ إليها بانت بتطليقة (٧) عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، وعند الشافعي رضي الله عنه لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ، أي يحلف الرجل على أنه لا يقربها أكثر من أربعة أشهر ، فاذا مضت المدة وقف فأما أن يجامع أو يطلق فان أبى طلق عليه القاضي وإن عجز عن الجماع فاء بلسانه ، والحر والعبد سواء في مدة الإيلاء عند الشافعي رضي الله

__________________

(١) ولتفعلوا ، ب : وليفعلوا ، س م.

(٢) أخرجه مسلم ، الأيمان ، ١١ ـ ١٣ ؛ والترمذي ، النذور ، ٦ ؛ والنسائي ، الأيمان ، ١٥ ، ١٦ ؛ وابن ماجة الكفارات ، ٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٣) اليمين ، ب س : يمين ، م.

(٤) لعله اختصره من البغوي ، ١ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ؛ والكشاف ، ١ / ١٣٠.

(٥) لعل المفسر أخذه باختصار من البغوي ، ١ / ٣٠٠.

(٦) تلزمه ، س : يلزمه ، ب م.

(٧) بتطليقة ، س : بتطليقه ، ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٣٠.

١١١

عنه ويتنصف بالرق عند أبي حنيفة رضي الله عنه ويعتبر رق المرأة ، ومالك يعتبر رق الزوج (١).

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

(وَإِنْ عَزَمُوا) أي أقعوا (الطَّلاقَ) بترك الجماع في المدة (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لمقالتهم بكلمة الإيلاء منهم (عَلِيمٌ) [٢٢٧] بنياتهم منه.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

(وَالْمُطَلَّقاتُ) لفظه (٢) مطلق (٣) في تناول الجنس يصلح (٤) لكله (٥) وبعضه فأريد به البعض هنا ، أي النساء اللاتي طلقن وهن مدخول بهن (يَتَرَبَّصْنَ) أي ينتظرن ، خبر بمعنى الأمر ، أي ليتربصن (بِأَنْفُسِهِنَّ) فلا يتزوجن ، وفي ذكر الأنفس زيادة بعث لهن على التربص ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال غالبا فأمرن أن يقهرن أنفسهن ويخبرنها على أن ينتظرن لوجوب العدة عليهن (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي مضى ثلثة أقراء ، ونصبها مفعول به ، وضع الجمع الكثرة موضع جمع القلة ، والقرء بضم القاف والفتح (٦) هو الطهر عند الشافعي ، والحيض عند أبي حنيفة ، أي ثلثة أطهار أو ثلث حيض ، ويظهر فائدة الخلاف في المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة ، فعند الشافعي رحمه‌الله انقضت عدتها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا تنقضي عدتها حتى تنقضي الحيضة الثالثة ، قوله (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ) نزل في شأن المطلقة التي تحت زوجها بالطلاق الرجعي (٧) وتريد فراق زوجها فتكتم (٨) حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها أو تكتم حيضها وهي حائض وتقول قد ظهرت استعجالا للطلاق ، لأن الطلاق السني إنما يكون في الطهر لا في الحيض ، أي لا يباح للمطلقات (أَنْ يَكْتُمْنَ) أي يخفين (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) من الحبل والحيض بأن تقول المرأة لست بحامل وهي حامل أو تقول لست بحائض وهي حائض لتبطيل (٩) حق الزواج من الولد والرجعة ، ثم عظم ذلك بقوله (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ) أي يصدقن (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأن المؤمن هو الخائف من ذلك الفعل (وَبُعُولَتُهُنَّ) جمع بعل ، وهو الزوج ، والتاء لتأنيث الجمع ، أي أزواجهن (أَحَقُّ) أي أحرى وأولى (بِرَدِّهِنَّ) أي برجعتهن (فِي ذلِكَ) أي في العدة وهي مدة ذلك التربص (إِنْ أَرادُوا) أي إن أراد الزوج والزوجة والولي بالرجع (إِصْلاحاً) بينهما وحسن المعاشرة ولم يريدوا مضارتهن (وَلَهُنَّ) أي وللنساء على رجالهن (مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) للرجال من الحقوق (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما عرف شرعا ، يعني لا يكلفن الرجال ما ليس لهن ولا يكلفهن الرجال ما ليس لهم في الشرع أو في عادة النساء من المهر والنفقة والحلي والتزين ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي» (١٠)(وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي بعد اشتراكهما في اللذة لهم الفضيلة عليهن في المهر والنفقة والرجعة أو بالعقل والشهادة والقيام لمصلحتها (وَاللهُ عَزِيزٌ) بالانتقام عمن يعصي أمره (حَكِيمٌ) [٢٢٨] بالحكم بالرجعة في الطلاق الرجعي.

__________________

(١) اختصره المفسر من الكشاف ، ١ / ١٣٠.

(٢) لفظه ، ب م : لفظة ، س.

(٣) مطلق ، ب س : يطلق ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٣١.

(٤) يصلح ، س م : يصح ، ب ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٣١.

(٥) لكله ، ب س : بكله ، م.

(٦) «قروء» لحمزة وهشام في الوقف عليه إبدال الهمزة واوا وإدغام الواو قبلها فيها مع السكون المحض والروم وليس فيه نقل نظرا لزيارة الواو. البدور الزاهرة ، ٥٠.

(٧) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٨) تكتم ، ب م : يكتم ، س.

(٩) لتبطيل ، س م : لتبطل ، م.

(١٠) انظر البغوي ، ١ / ٣٠٥.

١١٢

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))

قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) نزل فيمن كان يطلق زوجته ثم يراجعها مرارا كثيرة مضارة للزوجة (١) ، أي الطلاق الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان ، أي مرة بعد مرة وليس المراد الجمع بينهما فان راجعها بعد الرجعة الثانية (فَإِمْساكٌ) أي فالحكم أن يمسكها (بِمَعْرُوفٍ) أي بما عرف شرعا من الحقوق التي هي الإنفاق عليها وكسوتها وحسن معاشرتها وترك إيذائها ، ولا يراجعها لقصد تطويل العدة عليها مضارة لها (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي أن يرسلها من غير قصد سوء بها ، قوله (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) نزل في جميلة بنت عبد الله بن أبي وزوجها ثابت بن قيس كان يحبها وهي كانت تبغضه فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالت لا أنا ولا ثابت ، وكان قد أعطاها حديقة فخلعت من زوجها على أن ترد إليه الحديقة فافتدت بها منه (٢) ، وهو أول خلع وقع في الإسلام ، أي لا يباح لكم أيها الأزواج (أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) أي أعطيتموهن من المهر (شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا) أي يظن الزوجان منكم أو يعلما (٣)(أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي أن لا يحفظا أوامره ونواهيه المعروفة شرعا في حسن الصحة ، قيل : محل (أَنْ يَخافا) نصب على الحال (٤) ، أي خائفين ، والأصوب فيه أن يقدر المضاف أي إلا زمان خوفهما ، ومحل أن لا (يُقِيما) نصب على أنه مفعول («يَخافا» (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما) أي إن علمتم أيها الأئمة والحكام أن لا يحفظ الزوجان (حُدُودَ اللهِ) المعروفة في إصلاح الزوجية بينهما (فَلا جُناحَ) أي لا حرج (عَلَيْهِما) أي على الزوج فيما أخذ ولا على الزوجية (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) من المال إذا كان النشوز من قبل المرأة ، لأنها ممنوعة عن إتلاف المال بغير حق ، أما إذا كان النشوز من قبل الزوج لا يحل له أن يأخذ شيئا مما آتيها لقوله تعالى (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً)(٥) ، ففيه إشعار لجواز الخلع (تِلْكَ) أي هذه المذكورات (حُدُودَ اللهِ) أي أوامره ونواهية (فَلا تَعْتَدُوها) أي لا تتجاوزوها (٦)(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي ومن يتجاوز (٧) أحكام الله بترك امره ونهيه ولم يعمل بهما (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [٢٢٩] أي الضارون بأنفسهم ، يعني من تجاوز عن الطلاقين والإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان فقد ظلم نفسه واستحق العقوبة.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

قوله (فَإِنْ طَلَّقَها) أي الطلقة الثالثة (فَلا تَحِلُّ) تلك المرأة (لَهُ) أي لزوجها (مِنْ بَعْدُ) أي بعد الطلقة الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ) أي حتى تتزوج تلك المرأة (زَوْجاً غَيْرَهُ) أي بزوج آخر ويدخل بها وعرف الدخول بالسنة لحديث امرأة رفاعة ، فانه طلقها ثلثا فتزوجها عبد الرحمن بن زبير ، فأتت النبي عليه‌السلام ، وقالت : طلقني عبد الرحمن فبت طلاقي ، وإن ما معه هدبة الثوب ، فقال عليه‌السلام لها : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ قالت : نعم قال : ليس لك ذلك ما لم تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك (٨)(فَإِنْ طَلَّقَها) أي الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي على الزوج الأول والزوجة بعد انقضاء عدتها (أَنْ يَتَراجَعا) أي يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بتجديد النكاح (إِنْ ظَنَّا) أي علما أو غلب ظنهما (أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) المعروفة في حق الصحبة بين

__________________

(١) لعله اختصره من البغوي ، ١ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧ (عن عروة بن الزبير).

(٢) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ١ / ٢٠٨ ؛ والبغوي ، ١ / ٣٠٨.

(٣) أي يظن الزوجان منكم أو يعلما ، م : أي يظنا أو يعلما أي الزوجان منكم ، ب م.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٥) النساء (٤) ، ٢٠.

(٦) أي لا تتجاوزوها ، ب : أي لا يتجاوزوها ، س م.

(٧) يتجاوز ، ب م : تتجاوز ، س.

(٨) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٩.

١١٣

الزوجين ، قيل : النكاح المعقود بشرط التحليل باطل عند الأكثر وجائز عند أبي حنيفة رحمه‌الله مع الكراهة إن صرحا التحليل وإن أضمراه فلا كراهة (١)(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي أحكامه المعلومة (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [٢٣٠] لأنهم يحفظونها ، والجاهل إذا بين له لا يحفظ ولا يتعاهد.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))

ونزل فيمن طلق امرأته فلما دنت عدتها من الخروج راجعها ثم طلقها مضارة لها قوله (٢)(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي قربن من انقضاء المدة ، وذلك بأن مضى عليها ثلث حيض قبل أن تغتسل أو قبل أن تخرج من العدة (فَأَمْسِكُوهُنَّ) أي راجعوهن (بِمَعْرُوفٍ) أي من غير طلب إضرار لهن بالرجعة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ) أي اتركوهن (بِمَعْرُوفٍ) أي خلوهن حتى تبين (٣) بانقضاء عدتهن (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) أي لا ضرارهن أو ضارين بهن بتطويل العدة عليهن بالرجعة في آخر العدة والطلاق بعدها (لِتَعْتَدُوا) أي لتظلموهن بتطويل الحبس فتلجؤهن إلى الإفتداء بالمال (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الإضرار (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي أضرها بمعصيته (٤) في الإضرار أو عرض نفسه بعذاب النار (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) أي القرآن (هُزُواً) أي لعبا بأن يطلق الزوج ويقول : كنت لاعبا أو ينكح أو يعتق ويقول : كنت لاعبا ، قال عليه‌السلام : «ثلثة ، جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والعتاق» (٥) ، وفي رواية «الرجعة» مكان «العتاق» (وَاذْكُرُوا) أي احفظوا (نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي الإسلام (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةِ) أي الفقه في الدين والموعظة للعمل (يَعِظُكُمْ) الله (بِهِ) أي بالنازل عليكم (وَاتَّقُوا اللهَ) من المخالفة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [٢٣١] أي بسركم وجهركم من أعمالكم فيجازيكم به.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

قوله (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي انقضت عدتهن (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) نزل في معقل بن يسار حين طلق أبو الدحداح أخته ، ثم ندم فخطبها بعد عدتها فرضيت ومنعها أخوها أن تتزوجه (٦) ، أي لا تحبسوهن وتمنعوهن من (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن (إِذا تَراضَوْا) أي النساء والمريدون نكاحهن (بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بما يحسن في الدين من نكاح جديد ومهر صالح ، وقيل : بمهر المثل عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فلأوليائها أن يعترضوا إلى أن يكمل وإلا فلهم أن يفرقوها عنه لذلك (٧)(ذلِكَ) أي النهي والخطاب لكل إنسان أو للنبي عليه‌السلام (يُوعَظُ بِهِ) أي ينهى ويؤمر به (مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالحساب والعقاب والثواب (ذلِكُمْ) أيها الجمع (أَزْكى) أي أصلح (لَكُمْ وَأَطْهَرُ) لقلوبكم من الريبة وأنفسكم من دنس الإثم (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في قلب أحدكم من الحب لصاحبه أو ما فيه صلاحكم من الأحكام والشرائع (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [٢٣٢] أي وأنتم تجهلون ذلك ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٣٣.

(٢) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ١ / ٣١٢ ـ ٣١٣ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٦٧ ، ٦٨.

(٣) تبين ، س م : يبين ، ب.

(٤) بمعصيته ، ب س : بمعصية ، م.

(٥) رواه الترمذي ، الطلاق ، ٩ ؛ وأبو داود ، الطلاق ، ٩ ؛ وابن ماجة ، الطلاق ، ٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٣١٣ ؛ والكشاف ، ١ / ١٣٤.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٦٧. أن تتزجوه ، ب س : أن يتزوجه ، م.

(٧) نقله المؤلف عن الكشاف ، ١ / ١٣٥.

١١٤

معقلا ، فقال : إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي الدحداح ، فقال : آمنت وزوجها منه ، ففيه دليل على أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح كان للحاكم أن يزوجها (١).

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

قوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أي أربعة وعشرين شهرا ، من الرضع ، نزل لبيان مدة الرضاع المثبت للحرمة ، وقوله (يُرْضِعْنَ) خبر في معنى الأمر ، أي ليرضعن للاستحباب ، لأنه لا يجب على المطلقة إرضاع ولدها من زوجها الذي طلقها إن وجد ظئرا ترضعه ، ويجب إن لم توجد (٢) أو لم يقبل الولد إلا ثدي أمه أو عجز الأب عن الاستئجار ، وقوله (كامِلَيْنِ) وصف لل (حَوْلَيْنِ) بالكمال لتأكيد إرادة الحقيقة ، لأن بعض الحولين يسمى حولين تجوزا ، فعلم به أن المراد حولان بغير نقصان ، ثم نزل لليسر والتخفيف قوله (٣)(لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بيان لمن توجه إليه الحكم ، أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع أو اللام يتعلق ب (يُرْضِعْنَ) ، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يكمل الإرضاع من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم إلا إذا تطوعت الأم بارضاعه ، وهو مستحب منها ، ولا تجبر عليه ، ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة رضي الله عنه مادامت زوجة أو معتدة من نكاح ، ويجوز عند الشافعي رضي الله عنه ، فاذا انقضت العدة جاز بالاتفاق (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي وعلى الأب ، ولم يقل على الوالد ليعلم أن الأولاد للآباء ، لأن الزوجة انما تلد الولد للزوج ، ولأن نسبة الولد إليه لا إليها ، يعني على الوالدين (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) أي رزق الأمهات إذا أرضعن أولادهم ولباسهن ، وكذا أجر الرضاع للأظائر (٤)(بِالْمَعْرُوفِ) أي على قدر طاقته (لا تُكَلَّفُ) أي لا تحمل (نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) من كل واحد منهما ، وهو تفسير لقوله (بِالْمَعْرُوفِ) ، يعني لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته (لا تُضَارَّ) برفع الراء نفي ، أي لا تضارر معلوما أو لا تضارر مجهولا على الخبر ، وبرفع الراء نهي مجزوم حركت لالتقاء الساكنين (٥) ، أي لا تتضرر (والِدَةٌ بِوَلَدِها) بأن ينزع ولدها منها بعد رضاها بارضاعه (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) بأن يلقي الولد إلى أبيه بعد ما ألف الولد أمها ، وتقول الأم للأب :

خذ له ظئرا ترضعه ، فلا يجوز أن يفعل كل واحد منهما مثل ذلك الإضرار إلى صاحبه ، وإضافة «الولد» إليها وإليه للاستعطاف ، لأنه ليس بأجنبي من كل واحد منهما ، فالحق أن يشفع عليه منه (وَعَلَى الْوارِثِ) أي على وارث الصبي (مِثْلُ ذلِكَ) أي مثل ما كان على الأب فيكون النفقة والإرضاع عليه إذا لم يكن له أب ، ويجوز أن يراد به الصبي نفسه فيكون أجر الرضاع عليه إن كان له مال كما كان على أبيه وإلا فعلى الأم إرضاعه ، قيل : يجب عند أبي حنيفة رحمه‌الله نفقة الصبي على الورثة إلا على من ليس بذي رحم محرم كابن العم ، وعند الشافعي رحمه‌الله لا نفقة للصبي إلا على الوالدين حسب (٦)(فَإِنْ أَرادا) أي الوالدان (فِصالاً) أي فطاما للصغيرة قبل الحولين (عَنْ تَراضٍ) أي باتفاق (مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) أي بمشاورتهما مع العلماء أن الفطام لا يضر الولد ، وإنما اعتبر اتفاق الوالدين لما في الأب من الولاية ، وفي الأم من الشفقة (فَلا جُناحَ) أي لا حرج (عَلَيْهِما) في ذلك ، يعني سواء زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد التحديد ، قوله (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) أي المراضع ،

__________________

(١) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٢١٠.

(٢) توجد ، س م : يوجد ، ب.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٣٥.

(٤) للأظائر ، ب م : للأظائر يعني علي الوالدين ، س.

(٥) «لا تضار» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب برفع الراء مشددة ، وقرأ أبو جعفر بسكون الراء مخففة ، والباقون بفتح الراء مشددة ، وهو عند الجميع مد لازم لالتقاء الساكنين. البدور الزاهرة ، ٥٠.

(٦) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ١٣٦.

١١٥

وهو المفعول الأول حذف للاستغناء ، والثاني (أَوْلادَكُمْ) بعث بالخطاب للوالدين وغيرهما من الأولياء على ايتاء الأجر للأظائر منجزا يدا بيد تطييبا لنفوسهن وإصلاحا لشأن الصبي ، أي إذا طلبتم أن تأخذوا ظئرا لإرضاع أولادكم (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا إثم لكم فيه (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع (ما آتَيْتُمْ) بالمد أي أعطيتم وبالقصر (١) ، أي جئتم به ، يعني الذي سميتم وشرطتم لهن (بِالْمَعْرُوفِ) متعلق ب (سَلَّمْتُمْ) ، أي إذا أعطيتموه لهن بطيبة نفس وحسن خلق بقبول جميل ، وقيل : المراد ب «المعروف» أن يكون الأجر من الحلال (٢) ، لأن المرضع إذا أكلت الحلال كان اللبن أنفع للصبي وأقرب إلى صلاحه ، ثم هددهم في مخالفة الأمر والإضرار وقال (وَاتَّقُوا اللهَ) أي ليخف كل منكم أن يضر بصاحبه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٢٣٣] من الإضرار وغيره فيجازيكم به.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤))

قوله (وَالَّذِينَ) أي زوجات الذين بتقدير المضاف (يُتَوَفَّوْنَ) أي يموتون (مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ) أي يتركون (أَزْواجاً) أي نساء من بعدهم (يَتَرَبَّصْنَ) أي ينتظرن بالاعتداد (بِأَنْفُسِهِنَّ) أي لا يخرجن ولا يتزين (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وإنما قال «عشرا» بالتأنيث ، ولم يقل عشرة مع أن العدة أربعة أشهر وعشرة أيام ذهابا إلى الليالي ، لأن التاريخ بالليلة لكونها أول الشهر والأيام تابعة لها (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي انقضت عدتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء أو الأئمة وجماعة المسلمين (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من الزينة والكحل والخضاب ودهن الرأس بكل دهن مطيب وغيره (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالوجه الذي عرف شرعا في التزين والتزوج بزوج آخر إذا كان كفوا لها فلا يمنعن من ذلك ، قيل : المرأة إذا اعتدت بعدة الوفاة يجب عليها ترك الزينة والطيب ، وجوز أبو حنيفة رحمه‌الله الاكتحال بالأسود للضرورة ، والشافعي رحمه‌الله ليلا وتمسحه نهارا للضرورة (٣) ، وكانت عدة الوفاة في أول الإسلام سنة فنسخت بهذه المدة (٤) إلا الحوامل (٥) ، فان عدتها بوضع الحمل لحديث سبيعة (٦) ، فانها وضعت بعد موت زوجها بليال ، فاستأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذن لها أن تنكح (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [٢٣٤] أي عالم بالطاعة والتخلف بالمعصية ، قيل : تستوي (٧) المدخولة وغير المدخولة والصغيرة والكبيرة في وجوب العدة من الزينة والمنع من النكاح والخروج وغير ذلك (٨).

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) أي لا حرج ولا بأس عليكم في الكلام الذي تعرضونه للمرأة المتوفي عنها زوجها ، أي تلوحونه وتشيرونه إليها (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) أي من طلب نكاحها بالتخاطب (٩) في العدة بأن يقولوا من غير تصريح إرادة النكاح إنك لجميلة أو إنك لتعجبيني أو إنك لموافقة لي ونحو ذلك من الكلام الموهم لإرادة نكاحها حتى تحبس نفسها على القائل به ، فهذا هو التعريض ، والجار والمجرور في محل النصب على الحال ، والعامل «عرضتم» (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) أي أو فيما أضمرتموه (فِي أَنْفُسِكُمْ) أي في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا بالتصريح ولا بالتعريض ، قوله (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) فيه نوع توبيخ ، أي علم الله أنكم

__________________

(١) «ما آتيتم» : قرأ ابن كثير بقصر الهمزة ، والباقون بمدها. البدور الزاهرة ، ٥١.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٣) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ١ / ٣١٩ ـ ٣٢٠. للضرورة ، ب م : ـ س.

(٤) المدة ، ب س : الآية ، م.

(٥) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ١ / ٣١٩.

(٦) رواه الترمذي ، الطلاق ، ١٨ ؛ والدارمي ، الطلاق ، ١١ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٦ / ٣١٤.

(٧) تستوي ، ب س : يستوي ، م.

(٨) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٢١١.

(٩) بالتخاطب ، ب س : بالمخاطب ، م.

١١٦

ستذكرونهن لميلكم إليهن وعدم صبركم عنهن فتنطقونه برغبتكم فيهن فاذكروهن (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) مفعول به ، أي جماعا ، يعني لا يصف الراغب فيها نفسه بأنه كثير الجماع أو ظرف على معنى : لا تواعدوهن النكاح في السر ، لأنه مستقبح عند أهل المروة ، قوله (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) استثناء من المفعول المطلق ، أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة ، يعني عدة حسنة مثل أنك الجميلة وإني راغب فيك ، فالمراد منها التعريض ، وقيل : القول المعروف أن يتواثقا (١) على أن لا تتزوج غيره (٢)(وَلا تَعْزِمُوا) أي لا تنووا ولا تقصدوا (٣)(عُقْدَةَ النِّكاحِ) في العدة (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ) أي ما كتب وفرض من العدة (أَجَلَهُ) يعني حتى تنقضي (٤) عدتها (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) أي ما في قلوبكم من الوفاء وغيره (فَاحْذَرُوهُ) أي خافوا عقابه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [٢٣٥] يغفر ولا يعجل بالعقوبة عليكم.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦))

ونزل في رجل طلق امرأته وكان لم يسم لها مهرا ولم يجامعها (٥)(لا جُناحَ) أي لا بأس (عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) وقرئ «تماسوهن» بالألف (٦) ، أي ما لم تجامعوهن (أَوْ تَفْرِضُوا) أي ما لم تسموا (لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي مهرا بمعنى مفروضة ، وإنما نفي الجناح ، لأن الطلاق مكروه في الشرع لقول النبي عليه‌السلام : «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» (٧) ، يعني لا حرج عليكم أن تطلقوا النساء قبل المسيس والدخول ، ولا أن تتزوجوهن (٨) ولم تمسوا لهن مهرا فطلقوهن (وَمَتِّعُوهُنَّ) أي أعطوهن المتعة بما ينتفعون به وهي درع وملحفة وخمار على حسب الحال (عَلَى الْمُوسِعِ) أي على ذي السعة واليسر منكم (قَدَرُهُ) بفتح الدال وسكونها (٩) ، أي بقدر وسعه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ) أي على الضيق الحال ، يعني العسر (قَدَرُهُ) أي بقدر عسره وضيقه (مَتاعاً) مصدر مؤكد لفعله ، أي متعوهن متاعا (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا) أي واجبا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [٢٣٦] أو حق ذلك حقا على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع ، وصفهم بالإحسان باعتبار ما يؤول إليه.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) أي تجامعوهن وقبل الخلوة بهن (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي سميتم لهن مهرا (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي فعلى الزوج واجب نصف ما فرض لزوجته من المهر وإن مات أحدهما قبل الدخول فيجب عليه كله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي إلا أن تترك الزوجات المطلقات عن أزواجهن فلا يأخذن منهم شيئا ، فالواو فيه لام الفعل لا للجمع ، والنون ضمير النساء لا للإعراب وإلا لكانت محذوفة ب «أن» ، فظهر الفرق بينه وبين قولك : الرجال يعفون ، فان الواو فيه ضميرهم والنون علم للرفع ، وعطف عليه قوله (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي أو يترك الولي الذي يلي عقد نكاحهن ، وهو قول الشافعي في القديم ، وقيل المراد

__________________

(١) أن يتثاوقا ، س : أن يتوافقا ، ب ، أن تتواثقا ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٣٨.

(٢) نقله المؤلف عن الكشاف ، ١ / ١٣٨.

(٣) ولا تقصدوا ، م ، وتقصدوا ، ب س.

(٤) تنقضي ، ب س : ينقضي ، م.

(٥) اختصره من البغوي ، ١ / ٣٢٤.

(٦) «تمسوهن» : معا ، قرأ الأخوان وخلف بضم التاء وإثبات ألف بعد الميم فيمد لذلك مدا طويلا ، والباقون بفتح التاء من غير ألف ولا مد ووقف عليها يعقوب بهاء السكت. البدور الزاهرة ، ٥١.

(٧) أخرجه أبو داود ، الطلاق ، ٣ ؛ وابن ماجة ، الطلاق ، ١.

(٨) تتزوجوهن ، ب : يتزوجوهن ، م ، تزوجوهن ، س.

(٩) «قدره» : معا قرأ ابن ذكوان وحفص والأصحاب وأبو جعفر بفتح الدال والباقون بسكونها. البدور الزاهرة ، ٥١.

١١٧

منه الزوج وعفوه أن يصرف كل الصداق إليها ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي آخرا (١) ، وسمي الزيادة على النصف عفوا بطريق المشاكلة ، والأول أظهر ، لأن العفو يطابقه (وَأَنْ تَعْفُوا) فهو (٢)(أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) مبتدأ وخبر وتعليل ، أي ترك بعضهم بعضا حقه أقرب لأجل التقوى ، إذ الأخذ كأنه عوض من غير معوض عنه أو ترك المروة عند ذلك ترك للتقوى ، وفي الآية ندب إلى الإنسانية بينهم ، لأنه تعالى أمر كل واحد منهما بالعفو ، ثم قال تأكيدا لها (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) أي التفضل والإحسان (بَيْنَكُمْ) باعطاء الرجل (٣) كل المهر لها وترك المرأة نصيبها منه (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٢٣٧] أي عالم بأعمالهم فيجازيكم بها ، قيل : تزوج جبير بن مطعم امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق ، وقال : أنا أحق بالعفو (٤).

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨))

قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) حث للمؤمنين على محافظة الصلوة واستدامتها بقطع التعلق بحظوظ أنفسهم ، لأنه يفوت القربة بالله أي داوموا على المكتوبات بمواقيتها وحدودها ، إذ لا فريضة بعد التوحيد أعظم من الصلوة وإقامتها بما هو مشروع فيها من الأفعال والأقوال (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي المتوسطة بين الصلوات أو الفضلى ، يقال للأوسط أفضل ، وإنما أفردت بالذكر لانفرادها بالفضل ، قيل : هي صلوة الفجر (٥) ، لأنها بين صلوتي الليل وصلوتي النهار ، وقيل : صلوة الظهر (٦) ، لأنها في وسط النهار ، وقيل : صلوة العصر لحديث ورد فيها وهو قوله عليه‌السلام يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلوة الوسطى صلوة العصر ملأ الله بيوتهم نارا» (٧) ، ولأنها بعد صلوتي النهار وقبل صلوتي الليل (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [٢٣٨] أي طائعين خاضعين في صلوتكم.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

نزل حين كانوا يتكلمون في الصلوة فنهوا عنه (٨)(فَإِنْ خِفْتُمْ) أي إن كان بكم خوف من عدو وغيره (فَرِجالاً) أي فصلوا راجلين ، نصب على الحال (أَوْ رُكْباناً) أي راكبين على دوابكم ، قال الشافعي رحمه‌الله يصلي : ماشيا وراكبا ومقاتلا حيث كان وجهه سواء مستقبل القبلة أو غير مستقبلها يومئ بالركوع والسجود ، والسجود يكون أخفض من الركوع في الإيماء ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصلى ماشيا ولا مقاتلا إذا لم يمكن الوقوف ، وعند الكل لا ينتقص (٩) عدد الركعات (١٠) ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : «صلوة الخوف ركعة» (١١)(فَإِذا أَمِنْتُمْ) أي إذا زال خوفكم من العدو وغيره (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالصلوة ، أي صلوا لله صلوات الخمس أو اشكروه (١٢) على الأمن (كَما عَلَّمَكُمْ) أي اذكروه ذكرا مثل تعليمه (١٣) إياكم وإحسانه إليكم كيف تصلون الصلوة في حال الأمن وفي حال الخوف (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [٢٣٩] أي الذي لم تكونوا عالمين به من الشرائع.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠))

ثم قال (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) مبتدأ ، أي يموتون (مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ) أي يتركون (١٤)(أَزْواجاً) أي نساء من بعدهم

__________________

(١) لعل المؤلف اختصره من الكشاف ، ١ / ١٣٩.

(٢) فهو ، م : ـ ب س.

(٣) الرجل ، س : ـ ب م.

(٤) نقله عن الكشاف ، ١ / ١٣٩.

(٥) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ١ / ٢١٣

(٦) عن زيد بن ثابت ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢١٣.

(٧) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢١٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٨) عن زيد بن أرقم ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢١٤.

(٩) لا ينتقص ، ب م : ينقص ، س.

(١٠) لعله أختصره من البغوي ، ١ / ٣٣٢ ؛ والكشاف ، ١ / ١٣٩.

(١١) انظر البغوي ، ١ / ٣٣٢.

(١٢) اشكروه ، س : اشكروا الله ، م ، اشكروا ، ب.

(١٣) اذكروه ذكرا مثل تعليمه ، م : ذكرا مثل تعليمه ، ب ، اذكروا مثل تعليمه ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٤٠.

(١٤) أي ويتركون ، س : أي يتركون ، ب م.

١١٨

(وَصِيَّةً) بالنصب مصدر ، فعله محذوف ، أي يوصون وصية ، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ ، وقرئ بالرفع (١) ، أي فعليهم وصية ، والجملة خبر (الَّذِينَ) أو حكم الذين يتوفون وصية (لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً) نصب بالوصية أو بفعلها المقدر ، أي الحكم أن يوصوا لهم ما يتمتعن به (إِلَى الْحَوْلِ) أي من النفقة أو السكنى ، و (إِلَى الْحَوْلِ) إما صفة (مَتاعاً) أو متعلق بفعله المقدر إذا كان مصدرا ، أي متعوهن متاعا بما يحتجن إليه ، قوله (غَيْرَ إِخْراجٍ) صفة (مَتاعاً) أو حال من أزواجهم ، أي غير مخرجات من البيت الذي مات فيه الزوج ، قيل معناه : حق على من يموت أن يوصي ورثته بأن ينفقوا على زوجته من تركته ويسكنونها منزله سنة (٢) ، فكان (٣) ذلك واجبا في أول الإسلام ، ثم نسخت النفقة بالميراث الربع والثمن والحول بأربعة أشهر وعشرا (٤) التي تقدم ذكرها تلاوة وهي متأخرة تنزيلا ، واختلف في السكنى فعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا سكنى لهن (٥)(فَإِنْ خَرَجْنَ) من مساكنهن بعد الحول (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من التزين والتعرض للخطاب (مِنْ مَعْرُوفٍ) أي بما عرف شرعا من التزين لا بما ينكره الشرع ، قيل : الخروج يحتمل أن يكون بعد مضي الحول وأن يكون في الحول إذا خرجت بالعذر في أمر لا بد لها منه (٦)(وَاللهُ عَزِيزٌ) لمن ظلم (حَكِيمٌ) [٢٤٠] في أمره.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١))

قوله (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) نزل فيمن سمع قوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(٧) ، وقال : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد لم أفعل (٨) ، فبين تعالى أن يكون لكل مطلقة متاع على الزوج ، أي متعة كما ذكرت في الآية المتقدمة (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما عرف حقه على حسب حال الزوج وأكد الوجوب بقوله تعالى (حَقًّا) أي واجبا (عَلَى الْمُتَّقِينَ) [٢٤١] من عقابه تعالى ، قيل : كانت المتعة فيما مر واجبة في مطلقة واحدة وهي المطلقة قبل الدخول ولم يسم (٩) لها مهر وفي الباقيات (١٠) ، أي التي لم يسم لها مهرا (١١) ودخل بها الزوج ، والتي سمي لها مهرا (١٢) ولم يدخل بها ، والتي سمي لها مهرا (١٣) ، ودخل بها الزوج (١٤) كانت مستحقة لزوال ضغن القلوب ، ثم أوجبها الله في هذه الآية لجميع المطلقات ، وقيل : المراد من ال «متاع» ههنا نفقة العدة ، وهي واجبة عند أبي حنيفة رضي الله عنه (١٥).

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

(كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) من الأحكام والشرائع (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [٢٤٢] أي تفهمونها وتعملون بها.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ

__________________

(١) «وصية» : قرأ المدينا والمكي وشعبة والكسائي ويعقوب وخلف في اختياره برفع بالتاء ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٥١.

(٢) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ١ / ١٤٠.

(٣) فكان ، ب س : وكان ، م.

(٤) وعشرا ، ب س : وعشر ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(٥) لعل المؤلف اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢١٥ ؛ والبغوي ، ١ / ٣٣٣ ؛ والكشاف ، ١ / ١٤٠.

(٦) أخذ هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(٧) البقرة (٢) ، ٢٣٦.

(٨) اختصره من البغوي ، ١ / ٣٣٤.

(٩) ولم يسم ، ب س : ولم يسمي ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(١٠) اختصره من السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(١١) مهرا ، س : مهر ، ب م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(١٢) مهرا ، ب س : مهر ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(١٣) مهرا ، ب س : مهر ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(١٤) الزوج ، ب م : ـ س.

(١٥) هذا القول منقول عن الكشاف ، ١ / ١٤٠.

١١٩

عَلِيمٌ (٢٤٤))

قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا) بعث على امتثال أمر الله تعالى من الجهاد في سبيل الله وغيره لمن سمع هذه القصة ، وتعجيب (١) من شأن أهلها ليعتبروا ويعلموا ، أي لا مفر من حكم الله وقضائه ، وهو استفهام على سبيل التقرير ، أي ألم تعلم ، يعني قد انتهى علمك إلى خبر الذين خرجوا (مِنْ دِيارِهِمْ) أي من بلادهم داوردان قبل واسط (وَهُمْ أُلُوفٌ) أي جماعات (٢) كثيرة ، قيل : كانوا ثمانية آلاف (٣) ، وقيل : سبعين ألفا (٤)(حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوف الطاعون والوباء هاربين ، فنزلوا واديا واستقروا فيه (فَقالَ لَهُمُ اللهُ) على لسان ملك (مُوتُوا) أو معنى هذا القول فأماتهم الله ، وإنما جيء بهذه العبارة ليدل على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمره ومشيته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة فماتوا جميعا وبقوا فيه موتى ثمانية أيام ، وقيل : مر بهم نبي اسمه حزقيل عليه‌السلام بعد زمان طويل وقد تفرقت أوصالهم وعريت عظامهم ، فقال الحمد لله القادر على أن يحيي هذه النفوس البالية ليعبدوه ، فدعا لهم (٥)(ثُمَّ أَحْياهُمْ) الله تعالى ليعلموا أن الحذر لا يغني من القدر ، وهذا تبكيت لمن يفر (٦) من القضاء المحتوم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث يبصرهم (٧) ما يعتبرون أو لذو من على أولئك القوم حين أحياهم ليعتبروا ويفوزوا ، ولو شاء الله لتركهم موتى إلى يوم البعث (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) [٢٤٣] رب هذا الفضل والنعمة.

ثم خاطب تشجيعا للذين أحيوا ، وقيل : لهذه الأمة بالعطف على مقدر (٨) ، أي لا تحذوا الموت (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته أعداءه الكفار (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لمقالتكم بالتخلف عن الامتثال (عَلِيمٌ) [٢٤٤] بما تضمرونه من الأغراض في الجهاد ، يعني من غرض الدنيا وغرض الآخرة.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) استفهام للتحريض على التصدق ، نزل في شأن أبي الدحداح حيث قال : يا رسول الله! إن لي حديقتين ، لو تصدقت إحديهما أكان (٩) لي مثلها في الجنة؟ قال : نعم (١٠) ، أي من يعطي عباده بالتصدق (قَرْضاً حَسَناً) أي اعطاء جميلا بطيبة نفس يطلب منه الجزاء (فَيُضاعِفَهُ) بالألف مخففا وبغيرها مشددا وضم الفاء للعطف على «يقرض» وبالألف وبغيرها ونصب الفاء (١١) لكونه في جواب الشرط ، أي فيزيده (لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) لا يعلم عددها لكثرتها إلا الله ، وأصل التضعيف أن يزاد على الشيء مثله أو أمثاله ، ثم أخبر أن التصدق لا يمكنهم إلا بتوفيق الله تعالى بقوله (وَاللهُ يَقْبِضُ) أي يمسك الرزق عن خلقه (ويبسط) بالسين والصاد (١٢) ، أي يوسع الرزق على خلقه ، ثم حثهم على ترك الدنيا وسهله عليهم فقال (وَإِلَيْهِ) أي إلى

__________________

(١) تعجيب ، ب م : تعجب ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ١٤٠.

(٢) جماعات ، س : جماعة ، ب ، جماعاة ، م.

(٣) عن مقاتل والكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢١٥ ؛ والبغوي ، ١ / ٣٣٥.

(٤) عن عطاء بن أبي رباح ، انظر البغوي ، ١ / ٣٣٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢١٥.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ١ / ١٤٠.

(٦) يفر ، ب م : ينفر ، س.

(٧) يبصرهم ، س : ـ ب م.

(٨) اختصره من البغوي ، ١ / ٣٣٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢١٦.

(٩) أكان ، ب م : لكان ، س.

(١٠) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٢١٦.

(١١) «فيضاعفه» : قرأ نافع وأبو عمرو والأخوان وخلف بتخفيف العين وألف قبلها مع رفع الفاء ، وقرأ المكي وأبو جعفر بتشديد العين وحذف الألف مع رفع الفاء ، وقرأ الشامي ويعقوب بتشديد العين وحذف الألف مع نصب الفاء ، وقرأ عاصم بالتخفيف والنصب. البدور الزاهرة ، ٥١.

(١٢) «ويبسط» : قرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي وروح وأبو جعفر بالصاد ، وقرأ قنبل وأبو عمرو وهشام وحفص ورويس وخلف عن حمزة وفي اختياره بالسين ، وقرأ ابن ذكوان وخلاد بالصاد والسين. البدور الزاهرة ، ٥٢.

١٢٠