عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٥

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-30-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٥١٨

السراب يجري فيها. من قولهم : عين ساهرة ، للّتي يجري ماؤها. (١)

قال : الزجرة النفخة الثانية في الصور. والساهرة موضع بالشام عند بيت المقدس. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : الساهرة الأرض. كانوا في القبور ، فلمّا سمعوا الزجرة ، خرجوا من قبورهم. (٢)

فإن قلت : بم تعلّق قوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ)؟ قلت : بمحذوف. معناه : لا يستصعبوها ، (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ). يعني : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله. فإنّها سهلة هيّنة في قدرته ؛ ما هي إلّا صيحة واحدة. يريد النفخة الثانية. (٣)

[١٥ ـ ١٦] (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦))

أهل الحجاز والبصرة : (طُوىً) غير منوّنة. والباقون بالتنوين. (هَلْ أَتاكَ) يا محمّد (حَدِيثُ مُوسى). استفهام يريد به التقرير حين دعاه الله وقال له : يا موسى. (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) ؛ أي : المطهّر. (طُوىً) اسم الوادي. وقيل : طوي بالتقديس مرّتين. وهو الموضع الذي كلّم الله فيه موسى. (٤)

[١٧ ـ ١٩] (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩))

(طَغى) : تجاوز الحدّ في الاستعلاء. (تَزَكَّى) : تطهّر من الشرك. وهذا تلطّف في الاستدعاء. أي : هل لك رغبة إلى أن تسلم وتصلح أحوالك؟ (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) ؛ أي : أدلّك إلى معرفة ربّك وأنّه خلقك وربّاك. (فَتَخْشى) ؛ أي : تفارق ما نهاك عنه. (٥)

[٢٠ ـ ٢٢] (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢))

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) ؛ يعني : أتى إليه ودعاه فأراه العصا أو اليد البيضاء. (فَكَذَّبَ)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٥٦٥.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٣.

(٣) الكشّاف ٤ / ٦٩٤.

(٤) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٤ ـ ٦٥٥.

(٥) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٥.

٣٤١

بأنّها من الله وجحد نبوّته. (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) ؛ أي : ولّى الدبر يطلب ما يكسر به حجّة موسى فما ازداد إلّا السعي في الفساد. وقيل : إنّه لمّا رأى الحيّة في عظمها ، خاف منها فسعى هاربا. (١)

[٢٣ ـ ٢٥] (فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥))

(فَحَشَرَ) جميع جنوده ونادى فيهم : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) لا ربّ فوقي. وقيل : إنّه جعل الأصنام أربابا فقال : أنا ربّها وربّكم. (نَكالَ الْآخِرَةِ). نكال مصدر مؤكّد. لأنّ معنى أخذه الله : نكل الله به نكال الآخرة والأولى بأن أغرقه في الدنيا ويعذّبه في الآخرة. وقيل : عاقبه الله بكلمته الأخرى وكلمته الأولى. فالآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) والأولى قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي). (٢) فنكل بها نكال هاتين الكلمتين. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : كان بين الكلمتين أربعون سنة. عن ابن عبّاس : قال موسى عليه‌السلام : يا ربّ أمهلت فرعون أربعمائة سنة وهو يقول : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)! فأوحى الله إليه أنّه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأردت أن أكافيه. (٣)

عن ابن عبّاس أنّ جبرئيل قال : يا محمّد ، لو رأيتني وفرعون يدعو بكلمة الإخلاص : آمنت أنّه لا إله إلّا الله ، (٤) وأنا أدسّه في الماء والطين لقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى). وهي كلمته الآخرة قالها حين انتهى إلى البحر. وكلمته الأولى : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي). وإنّما قال لقومه : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) حين انتهى إلى البحر فرآه قد يبست فيه الطريق فقال لقومه : ترون البحر قد يبست من خوفي! فصدّقوه لمّا رأوا ذلك. فذلك قوله : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٥.

(٢) القصص (٢٨) / ٣٨.

(٣) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٥ ـ ٦٥٦.

(٤) ورد في المصدر الآية ٩٠ من سورة يونس بدل هذه العبارة.

٣٤٢

ما هَدى)(١). (٢)

قال فخر الدين الرازيّ : إنّ العاقل لا يشكّ في نفسه أنّه ليس خالق السموات والأرض. فالوجه أن يقال : إنّ فرعون كان دهريّا منكرا للصانع والحشر والجزاء وكان يقول : ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي سواى ، فأنا مربّيكم والمحسن إليكم. أقول : كما أنّ نسبة الإنسان خلق العالم إلى نفسه يوجب الحكم عليه بالجنون ، فالقول بنفي الصانع ونسبة [وجود] الأشياء إلى ذواتها يوجب الحكم عليه بعدم العقل. فلا فرق بين الأمرين. (٣)

[٢٦] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

(لَعِبْرَةً) ؛ أي : لعظة لمن يخشى الله ويخاف عقابه. (٤)

[٢٧ ـ ٢٩] (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩))

(أَأَنْتُمْ). أي المنكرون للبعث. يعني أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم أم خلق السماء؟ وهما في قدرة الله واحد. وهذا كقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ). (٥)(سَمْكَها) ؛ أي : سقفها. (فَسَوَّاها). أي بلا فطور وبلا شقوق. (وَأَغْطَشَ) ؛ أي : أظلم. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) : أبرز نهارها. (٦)

[٣٠ ـ ٣٣] (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

(بَعْدَ ذلِكَ) ؛ أي : بعد خلق السموات. (دَحاها) ؛ أي : بسطها. قال ابن عبّاس : إنّ الله تعالى دحا الأرض بعد السموات. وكانت الأرض خلقت قبل السموات وكانت ربوة

__________________

(١) طه (٢٠) / ٧٩.

(٢) سعد السعود / ٢١٨.

(٣) تفسير النيسابوريّ ٣٠ / ٢٠.

(٤) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٦.

(٥) غافر (٤٠) / ٥٧.

(٦) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٩.

٣٤٣

مجتمعة تحت الكعبة فبسطها. (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) ؛ أي : فجرّها بالأنهار والعيون. (١)

(أَخْرَجَ مِنْها). فإن قلت : هلّا أدخل حرف العطف على أخرج قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يكون معنى دحاها : بسطها ومهّدها للسكنى. ثمّ فسّر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتّي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار والسكون عليها بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال أوتادا. وثانيها أن يكون أخرج حالا بإضمار قد. وأراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام. (مَتاعاً لَكُمْ) ؛ أي : فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : كان الله ولا شيء غيره. فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه ، وهو الماء فجعل نسب كلّ شيء إليه. وخلق الريح من الماء فسلّط الريح على الماء فشقّقت الريح متن الماء حتّى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء الله أن يثور. فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقيّة ليس فيها صدع ولا ثقب ، ثمّ طواها فوضعها فوق الماء. ثمّ خلق الله النار من الماء فشقّقت النار متن الماء حتّى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله. فخلق من ذلك الدخان سماء صافية ليس فيها صدع ولا ثقب. وذلك قوله : (السَّماءُ بَناها) ـ الآية. ثمّ طواها فوضعها فوق الأرض. ثمّ دحا الأرض ـ الحديث. (٣)

[٣٤] (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤))

ودلّ سبحانه بخلق هذه الأشياء على صحّة البعث فقال : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى). (٤)

(الطَّامَّةُ) : الداهية التي تطمّ على الدواهي ؛ أي : تعلو وتغلب. وهي القيامة. وقيل : النفخة الثانية. وقيل : الساعة التي يساق فيها أهل الجنّة إلى الجنّة وأهل النار إلى النار. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٩.

(٢) الكشّاف ٤ / ٦٩٧.

(٣) الكافي ٨ / ٩٤ ـ ٩٥ ، ح ٦٧.

(٤) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٩.

(٥) الكشّاف ٤ / ٦٩٧.

٣٤٤

[٣٥ ـ ٣٩] (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩))

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ). بدل من «إذا جاءت» يعني : إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكّرها ، وكان قد نسيها لقوله : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ). (١)(وَبُرِّزَتِ) ؛ أي : أظهرت لكلّ أهل الساهرة.

(فَأَمَّا). جواب (فَإِذا). (هِيَ الْمَأْوى) يعني : مأواه. (٢)

[٤٠ ـ ٤١] (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١))

(وَنَهَى النَّفْسَ). قيل : إنّه الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها. (٣)

(وَنَهَى النَّفْسَ) الأمّارة بالسوء عن اتّباع الشهوات. قيل : الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أحد ووقى رسول الله بنفسه حتّى نفذت المشاقص في جوفه. (٤)

(وَأَمَّا مَنْ خافَ) قال : هو العبد إذا وقف على معصية الله وقدر عليها ، ثمّ تركها مخافة الله ونهى النفس عنها ، فمكانه الجنّة. (٥)

[٤٢ ـ ٤٤] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤))

(مُرْساها) ؛ أي : منتهاها. (أَيَّانَ مُرْساها) : متى إرساؤها ؛ أي : إقامتها. أرادوا : متى يقيمها الله ويكوّنها؟ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها). تعجّب من كثرة ذكره لها كأنّه قيل : في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها؟ والمعنى : انّهم يسألونك عنها ، فلحرصك على

__________________

(١) المجادلة (٥٨) / ٦.

(٢) الكشّاف ٤ / ٦٩٧ ـ ٦٩٨.

(٣) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٠.

(٤) الكشّاف ٤ / ٦٩٨.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٤.

٣٤٥

جوابهم ، لا تزال تذكرها وتسأل عنها. (مُنْتَهاها) ؛ أي : منتهى علمها ، لم يؤت علمها أحدا من خلقه. وقيل : فيم إنكار لسؤالهم. أي : فيم هذا السؤال؟ ثمّ قيل : أنت من ذكراها. أي : إرسالك ـ وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في أوّل أوقات الساعة ـ ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها. فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها. (١)

(فِيمَ أَنْتَ) ؛ أي : ليس عندك علم بوقتها ، وإنّما تعلم أنّها تكون لا محالة. وقيل : إنّ هذا من حكاية قولهم. والمعنى : انّك قد أكثرت من ذكراها. متى تكون؟ فقل لهم إلى ربّك منتهى أمرها ومتى تكون. (٢)

(ذِكْراها) ؛ أي : في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم؟ أي : ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء. فإنّ ذكرها لا يزيدهم إلّا غيّا. (٣)

[٤٥] (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥))

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ) ؛ أي : لم تبعث لتعلمهم بوقتها الذي لا فائدة لهم في علمه. وإنّما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفا له في الخشية منها. (٤)

أبو جعفر : (مُنْذِرُ) بالتنوين. والباقون بغير التنوين. (٥)

[٤٦] (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) ؛ أي : يعاينون القيامة (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) ؛ أي : إلّا قدر آخر نهار أو أوّله. وقيل : معناه إنّهم إذا رأوا الآخرة ، صغرت الدنيا في أعينهم حتّى كأنّهم لم يقيموا بها إلّا مقدار عشيّة أو مقدار ضحى تلك العشيّة. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٦٩٨ ـ ٦٩٩.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٥٦٧.

(٤) الكشّاف ٤ / ٦٩٩.

(٥) مجمع البيان ١٠ / ٦٥٧.

(٦) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٠.

٣٤٦

(أَوْ ضُحاها). أقول : يحتمل أن يقال : إنّ مبدأ اليوم بليلته كان قبل شرعنا في أكثر الأديان من نصف النهار وقد صار في شرعنا من أوّل الفجر. فكأنّهم حين أرادوا التعبير عن بعض اليوم قالوا : إن كان المبدأ من نصف النهار ، فنحن لم نلبث إلّا عشيّة وهو ما بعد الزوال إلى الغروب. وإن كان [المبدأ] من أوّل الفجر ، لم نلبث إلّا من الفجر إلى الضحى. ولعلّ هذا هو السرّ في تقديم العشيّة على الضحى مع رعاية الفواصل. (١)

__________________

(١) تفسير النيسابوريّ ٣٠ / ٢٣ ـ ٢٤.

٣٤٧
٣٤٨

٨٠.

سورة عبس

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأها ، جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر. (١)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : من قرأ عبس وكوّرت ، كان تحت جناح الله من الجنان وفي ظلّ الله وكرامته. ولا يعظم ذلك على الله. (٢)

من حملها ، أصاب الخير في طريقه وكفي ما أهمّه. ومن قرأها على عين قد نضبت ثلاثة أيّام كلّ يوم سبعا ، غزرت. ومن قرأها على مدفون قدّ ضلّ عنه ، أرشده الله إليه. (٣)

قيل : نزلت في ابن أمّ مكتوم. وذلك أنّه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعبّاس بن عبد المطّلب وجماعة من المشركين يدعوهم إلى الإسلام فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله. فجعل يكرّر النداء ولا يدري أنّه مقبل على غيره ، حتّى ظهرت الكراهة على وجه رسول الله لقطعه كلامه وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنّما أتباعه العميان والعبيد. فأعرض وأقبل على القوم كلّمهم ، فنزلت الآيات. وكان رسول الله يكرمه إذا رآه ويقول : مرحبا بمن عاتبني به ربّي ، ويقول له : هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين. قال أنس بن مالك : فرأيته يوم القادسيّة وعليه درع ومعه راية سوداء. قال علم الهدى رحمه‌الله : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبيّ ، بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. وفيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره. لأنّ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ / ٦٦١.

(٢) ثواب الأعمال / ١٤٩ ، ح ١.

(٣) المصباح / ٦١١.

٣٤٩

العبوس ليس من صفات النبيّ مع الأعداء فكيف مع المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء ، لا يشبه أخلاقه الكريمة ؛ لقوله سبحانه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). (١) والظاهر أنّ المراد بقوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) غيره. وروي عن الصادق عليه‌السلام : انّها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّ فجاء ابن أمّ مكتوم فلمّا رآه تقذّر منه وعبس في وجهه وجمع نفسه. فحكى الله عنه ذلك وأنكره عليه. فإن قيل : لو صحّ الخبر الأوّل ، هل يكون العبوس ذنبا أم لا؟ الجواب : انّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء ـ لأنّه لا يشقّ عليه ذلك ، فلا يكون ذنبا. فيجوز أن يكون إنّما عاتبه ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق وينبّهه على عظم حال المؤمن المسترشد ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إسلامه. وقال الجبّائيّ : وفي هذا دلالة على أنّ الفعل يكون معصية فيما بعد لمكان النهي. فأمّا في الماضي ، فلا يدلّ على أنّه كان معصية قبل ان ينتهى عنه. وقيل : إنّ ما فعل الأعمى كان من سوء الأدب ، فحسن تأديبه بالإعراض عنه إلّا أنّه كان يجوز أن يتوهّم أنّه إنّما أعرض عنه لفقره وأقبل عليهم لرئاستهم تعظيما لهم ، فعاتبه الله على ذلك. (٢)

[١ ـ ٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤))

قال : نزلت في عثمان وابن أمّ مكتوم. وكان ابن أمّ مكتوم مؤذّنا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أعمى. وجاء إلى رسول الله وعنده أصحابه. فقدّمه رسول الله على عثمان ، فعبس عثمان وجهه وتولّى. فأنزل الله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى). يعني عثمان. (يَزَّكَّى) ؛ أي : يكون طاهرا أزكى (أَوْ يَذَّكَّرُ). قال : يذكّره رسول الله. (٣)

(أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) : لأن جاءه الأعمى. كأنّه يقول : قد استحقّ عنده العبوس و

__________________

(١) القلم (٦٨) / ٤.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٣ ـ ٦٦٤.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٣٥٠

الإعراض لأنّه أعمى وكان يجب أن يزيده لعماه تعطّفا وتقريبا وترحيبا. ولقد تأدّب الناس في هذا بأدب الله تأدّبا حسنا. فقد روي عن الثوريّ أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء. (الذِّكْرى) ؛ أي : موعظتك له. وقيل : الضمير في (لَعَلَّهُ) للكافر. يعني : انّك طمعت في أن يتزكّى بالإسلام [أو يتذكّر] فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحقّ. وما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن؟ (١)

(عَبَسَ) ؛ أي : قبض وجهه. (يَزَّكَّى) بالعمل الصالح وما يتعلّمه منك. (أَوْ يَذَّكَّرُ) : يتّعظ بما تعلّمه من القرآن. قالوا : وفي هذا لطف بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يقل عبست ، فلمّا جاوز العبوس ، عاد إلى الخطاب فقال : (وَما يُدْرِيكَ). (٢)

[٥ ـ ٧] (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧))

ثمّ خاطب عثمان فقال : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى). قال : أنت إذا جاءك غنيّ تتصدّى له وترفعه. (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) ؛ أي : لا تبالي أزكيّا كان أو غير زكيّ إذا كان غنيّا. (٣)

(مَنِ اسْتَغْنى) بالمال ، أو كان عظيما في قومه. (تَصَدَّى) : تقبل عليه بوجهك. قرأ الباقر عليه‌السلام بضمّ التاء : (تَصَدَّى). (وَما عَلَيْكَ) : أيّ شىء يلزمك إن لم يتطهّر من الكفر؟ إذ ليس عليك إلّا البلاغ. (٤)

[٨ ـ ١٠] (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠))

(يَسْعى) ؛ أي : يعمل في الخير. يعني ابن أمّ مكتوم. (وَهُوَ يَخْشى) الله. (تَلَهَّى) : تشتغل عنه بغيره. قرأ الباقر عليه‌السلام بضمّ التاء : (تَلَهَّى). (٥)

(يَسْعى). يعني ابن أمّ مكتوم. (تَلَهَّى) : تلهو ولا تلتفت إليه. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٧٠١.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٤.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٥.

(٤) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٤ ـ ٦٦٥ و ٦٦٢.

(٥) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٥ و ٦٦٢.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٥.

٣٥١

(يَخْشى). قيل : جاء وليس معه قائد فهو يخشى الكبوة. (١)

[١١ ـ ١٢] (كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢))

(كَلَّا) ؛ أي : لا تعد لذلك وانزجر عنه. (إِنَّها) ؛ أي : آيات القرآن (تَذْكِرَةٌ) وموعظة للخلق. (ذَكَرَهُ) ؛ أي : القرآن أو الوعظ. أي : فمن شاء أن يذكره ذكره. (٢)

(ذَكَرَهُ) ؛ أي : كان حافظا له غير ناس. وذكّر الضمير لأنّ التذكرة في معني الذكر. (٣)

[١٣ ـ ١٦] (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

ثمّ أخبر سبحانه بجلالة قدر القرآن عنده فقال : (فِي صُحُفٍ) ؛ أي : القرآن أو هذه التذكرة في كتب معظّمة عند الله ، وهي اللّوح المحفوظ. عن ابن عبّاس. (مَرْفُوعَةٍ). أي في السماء السابعة. أو رفعها الله عن الأدناس. (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ). (٤)(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ). يعني الكتبة من الملائكة ، أو السفرة بالوحي بين الله وبين رسوله. عن الصادق عليه‌السلام : الحافظ للقرآن العامل به ، مع السفرة الكرام البررة. (كِرامٍ) على ربّهم. (بَرَرَةٍ) : مطيعين. (٥)

(سَفَرَةٍ) : الأئمّة عليهم‌السلام. (٦)

[١٧ ـ ٢٣] (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣))

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) ؛ أي : لعن. (٧)

(قُتِلَ الْإِنْسانُ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام. [(ما أَكْفَرَهُ). يعني

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٧٠٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٥.

(٣) الكشّاف ٤ / ٧٠٢.

(٤) الواقعة (٥٦) / ٧٩.

(٥) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٥.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٥.

(٧) الاحتجاج / ٢٥٠.

٣٥٢

بقتلكم إيّاه.](١) ثمّ نسب أمير المؤمنين عليه‌السلام وما أكرمه الله به فقال : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ). قال : من طينة الأنبياء. (فَقَدَّرَهُ) للخير. (ثُمَّ السَّبِيلَ). يعني سبيل الهدى. (يَسَّرَهُ) : يسّر له طريق الخير. (أَماتَهُ) ميتة الأنبياء. (أَنْشَرَهُ). قال : يمكث بعد قتله في الرجعة فيقضي ما أمره. (٢)

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) ؛ أي : لعن. وهو إشارة إلى كلّ كافر. وقيل : عتبة ؛ إذ قال : كفرت بربّ النجم إذا هوى. (ما أَكْفَرَهُ) : وما أشدّ ضلاله. (٣)(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ؛ أي : لم لا ينظر إلى أصل خلقه ليدلّه على وحدانيّة الله. ثمّ فسّره فقال : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أطوارا نطفة وعلقة إلى آخر خلقه. (السَّبِيلَ) ؛ أي : سبيل الخروج من بطن أمّه. وذلك أنّه كان واقفا في بطن أمّه ثمّ قلبه ليسهل عليه الخروج. وقيل : المراد سبيل الذين والخير والشرّ مكّنه منه. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). (٤)(فَأَقْبَرَهُ) ؛ أي : جعله ممّن يقبر ولم يجعله ممّن يلقى إلى السباع والطير. (أَنْشَرَهُ) : أحياه من قبره إذا شاء أن يحييه للجزاء. (كَلَّا) ؛ أي : حقّا. (ما أَمَرَهُ) الله به من إخلاص عبادته. (لَمَّا يَقْضِ) ؛ أي : لم يؤدّ حقّ الله مع كثرة نعمه. (٥)

[٢٤ ـ ٣٢] (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ). لمّا ذكر خلقه ، ذكر رزقه وكيف مكّنه الله من تحصيله وهيّأه له فقال : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) ؛ أي : أنزلنا الغيث إنزالا. أهل الكوفة : (أَنَّا صَبَبْنَا) بالفتح والباقون بالكسر. (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) بالنبات. (وَقَضْباً). وهو القتّ الرطب يقضب مرّة بعد أخرى

__________________

(١) في النسخة : «قال : «ما أكفره» ؛ أي : ما فعل وأذنب حتّى قتلوه» بدل ما بين المعقوفتين. وورد في المصدر هذه العبارة في تفسير الآية قبل رواية الباقر عليه‌السلام.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٦.

(٣) المصدر : «أي : ما أشدّ كفره وما أبين ضلاله».

(٤) البلد (٩٠) / ١٠.

(٥) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٥ ـ ٦٦٦.

٣٥٣

يكون علفا للدوابّ. (وَحَدائِقَ غُلْباً) ؛ أي : بساتين محوّطة يشتمل على أشجار غلاظ عظام مختلفة. وقيل : (غُلْباً) : ملتّفة الشجر. (وَأَبًّا). وهو المرعى والكلأ الذي لم يزرعه الناس ممّا تأكل الأنعام. وقيل : إنّ الأبّ للأنعام كالفاكهة للناس. (مَتاعاً) ؛ أي : منفعة (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ). (١)

روي أنّ أبا بكر سئل عن قول الله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فلم يعرف معنى الأبّ وقال : أيّ سماء تظلّني أم أيّ أرض تقلّني إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم؟ فبلغ أمير المؤمنين عليه‌السلام مقاله ذلك فقال عليه‌السلام : أما علم أنّ الأبّ هو الكلأ والمرعى؟ وإنّ الله امتنّ على عباده بما خلق لهم ولأنعامهم. (٢)

أقول : نقل صاحب الكشّاف أنّ أبا بكر وعمر لم يعرفا معنى الأبّ. (٣) وهذا يدلّ على قصور منهما في معرفة لغة العرب ولسانها. وقد اعتذر لهما في الكشّاف بما لا يفيد. فارجع إليه.

[٣٣] (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣))

(الصَّاخَّةُ). يعني صيحة القيامة. والصاخّة : الصاكّة لشدّة صوتها الآذان فتصمّها. وقيل : لأنّها تصيخ لها الخلائق ؛ أي : تستمع. (٤)

[٣٤ ـ ٣٦] (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦))

(وَصاحِبَتِهِ) : زوجته. (وَبَنِيهِ) : أولاده الذكور. أي : لا يلتفت إلى أحد من هؤلاء لما هو فيه من شغل نفسه. وقيل : يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم إيّاه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم. وقيل : لعلمه بأنّهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا. ويجوز أن يكون مؤمنا وأقرباؤه

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٦ ـ ٦٦٨.

(٢) الإرشاد / ٩٥ ـ ٩٦.

(٣) الكشّاف ٤ / ٧٠٤ ـ ٧٠٥.

(٤) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٨ و ٦٦٧.

٣٥٤

من أهل النار [فيعاديهم أو يفرّ منهم] لئلّا يرى ما نزل بهم من الهوان. (١)

روي عن الرضا عليه‌السلام أنّ رجلا سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أخبرنا عن قول الله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) ـ الآية. فقال : قابيل يفرّ من هابيل. والذي يفرّ من أمّه موسى. والذي يفرّ من أبيه إبراهيم. يعني الأب المربّي لا الوالد. والذي يفرّ من صاحبته لوط. والذي يفرّ من ابنه نوح. وابنه كنعان. قال مصنّف هذا الكتاب : إنّما يفرّ موسى من أمّه خشية أن يكون قصّر فيما وجب عليه من حقّها. أو إبراهيم إنّما يفرّ من الأب المربّي لا الوالد وهو تارخ. (٢) أقول : ويجوز كما قاله جماعة من المعاصرين أن يكون المراد من أمّ موسى هنا المربّية الكافرة التي أرضعته أو ربّته في بيت فرعون.

أقول : لا يخفى أنّ موسى لم يرضع إلّا من أمّه الوالدة له ؛ كما قال : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ). (٣) ومتون الكتب مشحونة بأنّ موسى لم يقبل ثدي امرأة حتّى ردّه الله تعالى على والدته. فتأمّل. (حسن عفي عنه)

[٣٧] (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧))

(شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ؛ أي : أمر عظيم يشغله عن الأقرباء. ومعنى (يُغْنِيهِ) أنّه ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الأهوال. وعن سودة زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : يبعث الناس حفاة عراة عزلا يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الأذن. قلت : يا رسول الله ، وا سوأتاه! ينظر بعضنا إلى بعض؟ قال : شغل الناس عن ذلك. وتلا هذه الآية : (لِكُلِّ امْرِئٍ) ـ اه. (٤)

[٣٨ ـ ٣٩] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩))

(مُسْفِرَةٌ) ؛ أي : مشرقة مضيئة. وأراد بالوجوه أصحابها. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٨.

(٢) الخصال / ٣١٨ ، ح ١٠٢ ، وعيون الأخبار ١ / ١٩٢ ، ح ١.

(٣) القصص (٢٨) / ١٢.

(٤) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٨.

٣٥٥

[٤٠ ـ ٤٢] (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

(تَرْهَقُها) ؛ أي : تعلوها. (قَتَرَةٌ) ؛ أي : سواد وكسوف عند معاينة النار. (هُمُ الْكَفَرَةُ) في أديانهم (الْفَجَرَةُ) في أفعالهم. (١)

(غَبَرَةٌ) : غبار يعلوها. (قَتَرَةٌ) : سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه ، كما ترى في وجوه الزنوج إذا أغبرت. وكان الله يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمعوا الفجور إلى الكفر. (٢)

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ / ٦٦٨ ـ ٦٦٩.

(٢) الكشّاف ٤ / ٧٠٦.

٣٥٦

٨١.

سورة التكوير

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : من قرأ عبس وكوّرت ـ وقد مرّ آنفا. (١)

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ إذا الشمس كوّرت ، أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته. (٢)

كوّرت : قراءتها على العينين يقوّي بصرهما ويزيل الرمد والغشاوة. (٣)

ومن أحبّ أن ينظر إليّ يوم القيامة ، فليقرأ التكوير. كذا في الحديث [عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله]. (٤)

[١ ـ ٢] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢))

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ الشمس تغيب في السماء ثمّ ترفع من سماء إلى سماء إلى تحت العرش فتسجد وتسجد معها الملائكة الموكّلون بها ثمّ تقول : يا ربّ من أين أطلع؟ من مغربي أم من مطلعي؟ فذلك قوله : (الشَّمْسُ تَجْرِي) ـ الآية. (٥) فيأتيها جبرئيل بحلّة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار فتلبس تلك الحلّة وتنطلق وتطلع عن مطلعها. وكأنّي بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثمّ لا تكسى ضوءا وتؤمر أن تطلع من مغربها. فذلك قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). والقمر كذلك من مطلعه ومجراه [في أفق السماء ومغربه] وارتفاعه إلى السماء السابعة ويسجد تحت العرش ثمّ يأتيه جبرئيل بالحلّة من نور

__________________

(١) ثواب الأعمال / ١٤٩ ، ح ١.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ٦٧٠.

(٣) المصباح / ٦١٣.

(٤) المصباح / ٥٩٧.

(٥) يس (٣٦) / ٣٨.

٣٥٧

الكرسيّ. فذلك قوله : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً)(١). (٢)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ). في التكوير وجهان : أن يكون من كوّرت العمامة ، إذا لففتها. أي : يلفّ ضوؤها لفّا فيذهب انبساطه في الآفاق. وهو عبارة عن إزالتها. لأنّها ما دامت باقية ، يكون ضوؤها غير ملفوف. أو يكون من طعنه فكوّره ، إذا ألقاه. أي : تطرح عن فلكها. (انْكَدَرَتْ) : انقضّت. ويروى في الشمس والنجوم أنّها تطرح في جهنّم ليراها من يعبدها. (٣)

[٣] (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣))

(سُيِّرَتْ). أي عن وجه الأرض وأبعدت. أو سيّرت في الجوّ تيسير السحاب. كقوله : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)(٤). (٥)

[٤] (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤))

(الْعِشارُ عُطِّلَتْ). قال : الإبل تتعطّل إذا مات الخلق فلا يكون من يحلبها. (٦)

(الْعِشارُ) : جمع عشراء ، الناقة التي [أتى] على حملها عشرة أشهر. ثمّ هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة وهي أعزّ ما تكون عند أهلها. (عُطِّلَتْ) عن الحلب ، لاشتغالهم بأنفسهم. (٧)

[٥] (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥))

(حُشِرَتْ) : جمعت من كلّ ناحية. قيل : يحشر كلّ شيء حتّى الذباب للقصاص. وقيل : إذا قضي بينهما ، ردّت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم كالطاووس ونحوه. وعن

__________________

(١) يونس (١٠) / ٥.

(٢) التوحيد / ٢٨٠ ـ ٢٨١ ، ح ٧.

(٣) الكشّاف ٤ / ٧٠٦ ـ ٧٠٧.

(٤) النمل (٢٧) / ٨٨.

(٥) الكشّاف ٤ / ٧٠٧.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٧.

(٧) الكشّاف ٤ / ٧٠٧.

٣٥٨

ابن عبّاس : حشرها عبارة عن موتها. (١)

[٦] (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦))

(سُجِّرَتْ). أهل البصرة : (سُجِّرَتْ) بالتخفيف. (٢)

(الْبِحارُ). قال : تتحوّل البحار التي حول الدنيا كلّها نيرانا. (٣)

(سُجِّرَتْ). من سجّر التنّور ، إذا ملأه حطبا. أي : ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتّى تعود بحرا واحدا. وقيل : ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار. (٤)

[٧] (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧))

(زُوِّجَتْ) : قرنت كلّ نفس بشكلها. وقيل : قرنت الأرواح بالأجساد. (٥)

(زُوِّجَتْ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : أمّا أهل الجنّة ، فزوّجوا الخيرات الحسان. وأمّا أهل النار ، فمع كلّ إنسان منهم شيطان فهم قرناؤهم. (٦)

[٨ ـ ٩] (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩))

عن أبي جعفر عليه‌السلام (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) قال : من قتل في مودّتنا. (٧)

وعن أمير المؤمنين وأبي جعفر عليهما‌السلام (٨) : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ). والمراد بذلك الرحم والقرابة. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : يراد قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن قتل في جهاد ومن قتل في مودّتنا وولايتنا. (قُتِلَتْ). أبو جعفر بالتشديد. (٩)

(الْمَوْؤُدَةُ) ووأد ، إذا أثقل. قال سبحانه : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما). (١٠) لأنّه إثقال بالتراب.

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٧٠٧.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ٦٧١.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٧.

(٤) الكشّاف ٤ / ٧٠٧.

(٥) الكشّاف ٤ / ٧٠٧.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٧.

(٧) تفسير القمّيّ ٢ / ٤٠٧.

(٨) المصدر : وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).

(٩) مجمع البيان ١٠ / ٦٧١ ـ ٦٧٢.

(١٠) البقرة (٢) / ٢٥٥.

٣٥٩

كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ، ألبسها جبّة من صوف ترعى له الإبل والغنم. وإن أراد قتلها ، تركها حتّى إذا كانت سداسيّة فيقول لأمّها : زيّنيها. وقد حفر لها بئرا فيقول لها : انظري فيها ، ثمّ يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب. فإن قلت : ما حملهم على وأد البنات؟ قلت : الخوف من لحوق العار بهم من أجلهنّ ، أو الخوف من الإملاق. وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، فهو أحقّ بهنّ. فإن قلت : ما معنى سؤال الموؤودة وهلّا سئل الوائد من موجب قتله لها؟ قلت : سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها. مثلها في قوله تعالى لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) ـ الآية. (١) وفيه دليل بيّن على أنّ أطفال المشركين لا يعذّبون. (٢)

[١٠] (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠))

ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ : (نُشِرَتْ) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. (الصُّحُفُ). يعني صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال أهلها من خير وشرّ ، تنشر ليقرأها أصحابها وتظهر الأعمال فيجازوا. أبو عمرو : (نُشِرَتْ) بالتشديد مبالغة في النشر أو لكثرة الصحف أو شدّة التطاير. (٣)

[١١] (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١))

(كُشِطَتْ) : قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة. (٤)

[١٢] (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢))

(سُعِّرَتْ) : أوقدت حتّى ازدادت شدّة على شدّة. وقيل : سعّرها [غضب] الله وخطايا بني آدم. (٥)

__________________

(١) المائدة (٥) / ١١٦.

(٢) الكشّاف ٤ / ٧٠٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٥٧٣ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٧٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٥٧٣.

(٥) مجمع البيان ١٠ / ٦٧٥.

٣٦٠