عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

١

٢

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وأهل بيته الطاهرين سيّما بقيّة الله في الأرضين. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد ؛ فمن منن الله تعالى ونعمه العظيمة على هذه الأمّة المرحومة أن نزّل القرآن الكريم على نبيّه الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتلو عليهم آياته ويبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وما نزّل إليهم وأورثه الذين اصطفاهم من عباده وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

وعلى الأمّة المطيعة أن تحدّث بنعم ربّها وتشكر له على ذلك بالجمع لبيان النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام وأخذ التفسير منهم والاقتفاء لآثارهم الإلهيّة. وبحمد الله سبحانه قد تصدّى علماء الأمّة الإسلاميّة لهذه المهمّة وبذلوا جهودهم في تأليف كتب مفردة ليكون التعلّم أسهل للطالبين وأقرب للراغبين. والواجب علينا أن لا ننسى لهم ما قاموا به من الجهود العظيمة في إحياء القرآن وآثار أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن تلكم العلماء الكرام سماحة السيّد نعمة الله الجزائريّ قدس‌سره الذي برز في هذا الميدان وألّف الكثير في شرح الأخبار وتأويلها وتفسيرها فكان خير حلقة وصل بين الأئمّة عليهم‌السلام وشيعتهم.

٣

أحوال المؤلّف قدس‌سره

قد كتب المؤلّف شطرا من أحواله في خاتمة كتابه الأنوار النعمانيّة. وإليك نصّ ما كتبه :

اعلم ـ أطال الله بقاك ـ أنّ مولد الفقير هو سنة خمسين بعد الألف ، وسنة تأليف هذا الكتاب هي السنة التاسعة والثمانون بعد الألف. فهذا العمر القليل قد مضى منه تسعة وثلاثون سنة. فانظر إلى ما أصاب صاحبه من المصائب والأهوال.

ومجمل الأحوال هو : انّه لمّا مضى من أيّام الولادة خمس سنين ، وكنت مشعوفا باللهو واللّعب الذي يتداوله الأطفال ، فكنت جالسا يوما مع صاحب لي ونحن في بعض لعب الصبيان ، إذ أقبل إليّ المرحوم والدي فقال لي : يا بنيّ امض معي إلى المعلّم وتعلّم الخطّ والكتابة حتّى تبلغ درجة الأعلام. فبكيت من هذا الكلام وقلت : هذا شيء لا يكون. فقال لي : إنّ صاحبك هذا نأخذه معنا ويكون معك يقرأ عند المعلّم. فأتى بنا إلى المكتب وأجلسنا فيه. فقرأت أنا وصاحبي حروف الهجاء.

فأتيت اليوم الآخر إلى والدتي وقلت لها : ما أريد المكتب بل أريد اللّعب مع الصبيان. فحدّثت والدي فما قبل منها. فأيست من قبوله فقلت : ينبغي أن أجعل جدّي وجهدي في الفراغ من قراءة المكتب. فما مضت أيّام قلائل حتّى ختمت القرآن وقرأت كثيرا من القصائد والأشعار في ذلك الوقت وقد بلغ العمر خمس سنين وستّة أشهر.

فلمّا فرغت من قراءة القرآن ، جئت إلى والدتي وطلبت منها اللّعب مع الصبيان. فأقبل إليّ والدي ـ تغمّده الله برحمته ـ وقال لي : يا ولدي ، خذ كتاب الأمثلة وامض معي إلى رجل يدرّسك فيها. فبكيت. فأراد إهانتي وأخذني إلى رجل أعمى ، لكنّه كان قد أحكم معرفة الأمثلة والبصرويّة وبعض الزنجانيّ. فكان يدرّسني ، وكنت أقوده بالعصا وأخدمه. وبالغت في خدمته لأجل التدريس.

فلمّا قرأت الأمثلة والبصرويّة وأردت قراءة الزنجانيّ ، انتقلت إلى رجل سيّد من أقاربنا كان يحسن الزنجانيّ والكافية فقرأت عليه. وفي مدّة قراءتي عنده ، كان يأخذني معه

٤

كلّ يوم إلى بستانه ويعطيني منجلا ويقول لي : يا ولدي ، حشّ هذا الحشيش لبهائمنا. فكنت أحشّ له وهو جالس يتلو عليّ صيغ الصرف والإعلال والإدغام. فإذا فرغت شددت الحشيش حزمة كبيرة وحملته على رأسي إلى بيته. وكان يقول لي : لا تخبر أهلك بهذا.

فلمّا مضى فصل الحشيش وأقبل فصل رود الإبريسم ، فكنت كلّ يوم أحمل له حزمة من خشب التوت حتّى صار رأسي أقرع. فقال لي والدي رحمه‌الله : ما لرأسك؟ فقلت : لا أعلم. فداواني حتّى رجع شعر رأسي إلى حالته.

فلمّا فرغت من قراءة الزنجانيّ وأردت قراءة الكافية ، قصدت إلى قرية تسمّى كارون ونحن في قرية يقال لها الصباغيّة في شطّ المدك. فقرأت في تلك القرية عند رجل فاضل وأقمت عندهم. فكنت يوما في المسجد فدخل علينا رجل أبيض الثياب عليه عمامة كبيرة كأنّها قبّة صغيرة ، وهو يري الناس أنّه رجل عالم. فتقدّمت إليه وسألته بصيغة من صيغ الصرف ، فلم يردّ الجواب وتلجلج. فقلت له : إذا كنت لا تعرف هذه الصيغة ، فكيف وضعت على رأسك هذه العمامة الكبيرة؟ فضحك الحاضرون وقام الرجل من ساعته. وهذا هو الذي شجّعني على حفظ صيغ الصرف وقواعده. وأنا أستغفر الله من سؤال ذلك الرجل المؤمن ، لكنّي أحمد الله على وقوع ذلك قبل البلوغ والتكاليف. فبقيت هناك كم من شهر ومضيت إلى شطّ يقال له نهر عنتر ، لأنّي سمعت أنّ به رجلا عالما وقد كان أخي المرحوم المغفور الفاضل الصالح الورع السيّد نجم الدين يقرأ عنده. فلمّا وصلت إليه ، لقيت أخي راجعا من عنده فرجعت معه إلى قريتنا.

ثمّ قصدت قرية يقال لها شطّ بني أسد للقراءة على رجل عالم كان فيها. فبقيت هناك مدّة مديدة. ثمّ رجعت إلى قريتنا. فمضى أخي المرحوم ، وكان أكبر منّي إلى الحويزة. فقلت لوالدي : إنّي أريد السفر إلى أخي إلى الحويزة لأجل طلب العلم. فأتى بي إلى شطّ سحاب وركبنا في سفينة وأتينا من طريق ضيّق قد أحاط به القصب من الجانبين وليس فيه متّسع إلّا للسفينة. وكان الوقت حارّا. وهاج علينا من ذلك القصب بقّ كلّ واحدة منها مثل الزنبور

٥

وأينما لدغ ورم موضعه. ذلك الطريق اسمه طريق الشريف.

وفي ذلك الطريق الضيّق رأينا جماعة من أهل الجاموس. فقصدناهم وكنّا جياعا. فخرجنا عليهم وقت العصر وفرش لنا صاحب البيت فراشا. فصار وقت المغرب. فلمّا صلّينا ، صرنا في انتظار العشاء. وما جاء لنا بشيء حتّى أتى وقت النوم واشتدّ جوعنا وأخذ النوم. فنمنا جياعا. فلمّا بقي من اللّيل بقيّة قليلة ، جاء صاحب البيت إلى قربنا وشرع ينادي جاموسه ويقول : يا صبغا ويا قرحاء هاي. فلمّا رفع صوته وسمعت الجاموس ذلك الصوت ، أقبلن إليه من بين القصب. فلمّا خرجن إليه ، سألت واحدا منهم : ما يريد هذا الرجل من هذا الجاموس؟ فقال : يريد أن يحلبهنّ ويبرّد الحليب ويطبخ لكم طعاما من الحليب والأرزّ. فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وأخذني النوم.

فلمّا قرب الصباح أتى بقصعة كبيرة وأيقظنا. فلم نر على وجه تلك القصعة شيئا من الأرزّ. فمددنا أيدينا فيها إلى المرافق فوقعنا على حبّات منه في قعر تلك الجفنة وشربنا من ذلك الحليب. ويا لها من ليلة ما أطولها وما كان أجوعنا فيها ، خصوصا لمّا شربنا من هذا الحليب!

فركبنا بعد طلوع الشمس وأتينا إلى الحويزة. وقد كان أخي قبلي ضيفا عند رجل من أكابرها ويقرأ في شرح الجامي عند رجل من أفاضلها. فتشاركنا في الدرس وبقينا نقرأ عنده في شرح الجاربرديّ على الشافية. وهذا الأستاد أيضا ـ رحمه‌الله تعالى ـ قد استخدم علينا كثيرا. واسمه الشيخ حسن بن سبتي. وكان قد عيّن على كلّ واحد منّا ، انّا إذا أردنا قضاء الحاجة أو البول ومضينا إلى جرف الشطّ ، أن يأتي كلّ واحد منّا معه بصخرتين أو آجرتين من قرب قلعة الترك. فربّما تردّدنا في اليوم إلى الشطّ مرارا وهذا حالنا. فلمّا اجتمع عنده صخر كثير ، أراد أن يبني منزله. فطلب وكنّا نحن العملة ، فبنينا له ما أراد بناه من البيوت.

وإذا مضينا معه إلى الحويزة العتيقة وأردنا الرجوع قال : يا أولادي ، تمضون وتمشون

٦

من غير حمل؟ فكان يطلب سمكا عتيقا من أهلها وأشياء أخرى ويقول لنا : احملوه. فكنّا نحمله وماؤه يجري على وجوهنا. وكنّا إذا أردنا كتابة حاشية من كتابه ما يأذن لنا ، لكن ربما أخذنا الكتاب منه سرقة وكتبنا منه بعض الحواشي. وهكذا كان حاله رحمه‌الله معنا. وكنّا راضين بخدمته غاية الرضا لبركات أنفاسه الشريفة في الدرس. وكان طاب ثراه حريصا على الكتب وبقيت بعده عند أزواج بناته لا يعرف لها قيمة.

وهذا كان حالنا في الدرس. وأمّا بالنسبة إلى المآكل ، فقد قلنا إنّنا كنّا في بيت رجل من أكابرها. وفي أكثر الأوقات كنّا نبقى في المدرسة لأجل المباحثة إلى وقت الظهر ، فإذا مضينا إلى منزل الرجل ، وجدناهم فرغوا من الغذاء فنبقى إلى اللّيل. وقد كان صاحبي يلقط قشور البطّيخ والرقي من الأرض ويأكلها بترابها. وكان يستتر عنّي بهذا حياء وخجلا. وكنت أنا أفعل مثل فعله. فأتيت يوما وطلبته فرأيته قد جمع القشور وجلس تحت الباب يأكلها بترابها. فلمّا رأيته ضحكت. فقال : وما يضحكك؟ فقلت : لأنّ هذه حالتي أنا وكلّ منّا يكتم حاله عن الآخر. فقال : فإذا كان هذه حالنا فنجمع هذه القشور كلّ يوم ونغسلها بالماء ونأكلها.

فبقينا على هذا مدّة ، وكنّا في تلك المدّة نطالع على نور القمر. وكنت تعمّدت حفظ متون الكتب مثل الكافية والشافية وألفيّة ابن مالك ونحوها ، فإذا كانت اللّيالي مقمرة ، كنت أطالع. وإذا جاءت اللّيالي السود ، كنت أكرّر قراءة تلك المتون على ظاهر قلبي حتّى لا أنساها. وكان أهل المجلس يجلسون وأنا معهم ، وكنت أظهر لهم صداع رأسي فأضع رأسي بين ركبتيّ وأقرأ تلك المتون.

وهكذا كان حالي. فبقيت على هذا مدّة. فأتى والدي من الجزائر وقال : إنّ أمّكما تريدكما. فأخذنا معه إلى الجزائر وبقينا فيها أيّاما قلائل. فرجعنا أيضا إلى الحويزة فرأينا رجلا من أهل الجزائر يريد السفر إلى شيراز. فأخذ المرحوم أخي كتبه وأسبابه ومضى إلى البصرة ، وأتيت أنا معه إلى الجزائر. وكان شهر رمضان. فبقيت عند أهلي أربعة أيّام. و

٧

ركبت أنا وذلك الرجل في سفينة وقصدنا البصرة. فلمّا ركبت السفينة من غير خبر من أهلي ، ظننت أنّ والدي يطلبني ، فقلت لأهل السفينة : أنا أخلع ثيابي وأنزل الماء وأقبض سكّان السفينة والسفينة تجري ، فكنت في الماء والسفينة تسير حتّى لا يراني أحد. فلمّا أيست من الطلب ركبت في السفينة.

وفي أثناء الطريق رأينا جماعة على جرف الشطّ ونحن في وسطه. فصاح لهم ذلك الشيخ وقال : أنتم من الشيعة أم من السنّة؟ فقالوا : نحن من السنّة. فقال : لعن الله [فلان وأبا زينب وفلان. أتعرفون أنّ أبا زينب ـ خ ل] عمر وأبا بكر وعثمان. أتعرفون أنّ عمر كان مخنّثا؟ فصاحوا عليه بالشتم واللّعن. فضجّوا أهل السفينة عليهم والسفينة تجري وتلك الجماعة على جرف الشطّ يمشون ويرموننا بالحجارة. فبقينا على هذا الحال معهم نصف نهار ، فمضينا إلى البصرة. وكان سلطانها في ذلك الوقت حسين باشا. فبقينا فيها نقرأ عند رجل فاضل من أجلّاء السادة. فبقينا مدّة قليلة.

ثمّ إنّ والدي رحمه‌الله تبعنا فأتى ليأخذنا إلى الجزائر. فأظهرنا له الرغبة إلى ما أراد ، فأتينا إلى سفينة واستأجرنا مكانا فيها من غير خبر والدي فركبنا فيها وسافرنا إلى شيراز. فخرجنا من السفينة إلى بندر حماد. واستأجرت أنا وأخي دابّة واحدة لقلّة ما عندنا من الدراهم ، وذلك الطريق صعب جدّا من جهة الجبال. فقطعت تلك الجبال كلّها وأنا حافي الأقدام. وكان عمري في ذلك اليوم يقارب الإحدى عشرة سنة.

فوصلنا إلى شيراز صلاة الصبح فمضينا إلى بيت ذلك الشيخ الذي كان معنا. وكان منزله بعيدا من مدرسة المنصوريّة ونحن كنّا نريد السكنى فيها لأنّ بعض أقاربنا كان فيها. فقال لنا ذلك الشيخ : خذوا الطريق واسألوا وقولوا : مدرسة المنصوريّة «مى خواهيم». ومعناه بالعربيّة : نريدها. فمضينا نمشي. فحفظت أنا كلمة وأخي كلمة أخرى. فكنّا إذا سألنا قال أحدنا : مدرسة المنصوريّة ، قال الآخر : «مى خواهيم». فوصلنا إلى تلك المدرسة فجلست أنا في الباب ودخل أخي إليها. فكان كلّ من يخرج من طلبة العلم ويراني يرقّ

٨

لحالي وما أصابني من آثار التعب.

فلمّا وجدنا صديقنا ، قعدنا معه في حجرته ، وأخذنا في اليوم الآخر لزيارة رجل فاضل وهو الشيخ البحرانيّ ، فكان يدرّس في شرح ألفيّة ابن مالك. فسلّمنا عليه وأمر لنا بالجلوس. فلمّا فرغ سألنا : من أين القدوم؟ فحكينا له الأحوال. فقام معنا فأخذني إلى وراء أسطوانة المسجد فلزم أذني وعركها عركا شديدا وقال : أيّها الولد ، إن لم تجعل نفسك شيخا للعرب وتحبّ الرئاسة فيضيع به وقتك ، تصير رجلا فاضلا. فلزمت كلامه وانزويت عن الأحباب والأخلّاء في وقت قراءتي. فمضى معنا إلى متولّي المدرسة فعيّن لنا شيئا قليلا لا يفي بوجه من الوجوه.

ثمّ شرعنا قراءة الدرس عند ذلك الشيخ وعند غيره. فلمّا مضت لنا أيّام قلائل ، قال لي أخي وصديقي : ينبغي أن نرجع إلى الجزائر. لأنّ المعاش قد ضاق علينا. فقلت لهم : أنا أكتب بالأجرة وأعبر أوقاتي. فكتبت بالأجرة لمعاشي وكاغذي وما أحتاج إليه. وكنت أيضا أكتب أربعة دروس للقراءة وأحشّيها وأصحّحها وحدي. وكان حالي في وقت الصيف الحارّ أنّ طلبة العلم يصعدون إلى سطح المدرسة وأنا أغلق باب الحجرة وأشرع في المطالعة والحواشي وتصحيح الدرس إلى أن يناجي المؤذّن قريب وقت الصبح ، ثمّ أضع وجهي على الكتاب وأنام لحظة. فإذا طلع الصبح شرعت في التدريس إلى وقت الظهر. فإذا أذّن المؤذّن قمت أسعى إلى درسي التي أقرؤها. فربّما أخذت قطعة خبز من دكّان الخبّاز في طريقي فآكلها وأنا أمشي. وفي أغلب الأوقات ما كان يحصل فأبقى إلى اللّيل. وكنت في أكثر أحوالي إذا جاء اللّيل لم أعلم أنّي أكلت شيئا في النهار أم لا ، فإذا تفكّرت تحقّقته أنّي لم آكل شيئا.

فأتى لي زمان ما كان عندي دهن سراج للمطالعة ، فأخذت غرفة عالية وجلست بها وكان لها أبواب متعدّدة. فكنت إذا أضاء القمر فتحت كتابي للمطالعة. وكلّما دار القمر فتحت بابا من الأبواب. وبقيت على هذه الحالة مدّة سنتين ، فضعف بصري فهو ضعيف إلى هذا الآن. وكان لي درس أكتب حواشيه بعد صلاة الصبح في وقت الشتاء. وكان الدم يجري من

٩

يدي من شدّة البرد وكنت لا أشعر به.

وهكذا كانت الأحوال إلى ثلاث سنوات. فشرعت في تأليف مفتاح اللّبيب على شرح التهذيب في علم النحو ، ومتنه من مصنّفات شيخنا بهاء الدين محمّد تغمّده الله برحمته. وكتبت في ذلك الوقت شرحا على الكافية.

فقرأت علوم العربيّة عند رجل فاضل من أهل البغداد ، والأصول عند رجل محقّق من أهل الأحساء ، والمنطق والحكمة عند المحقّقين المدقّقين شاه أبي الوليّ وميرزا إبراهيم ، وعلم القراءة عند رجل فاضل من أهل البحرين. وكنّا جماعة نقرأ عند الشيخ الجليل الشيخ جعفر البحرانيّ. وكنت أنا أسمع ذلك الدرس بقراءة غيري. فإذا أتينا إلى ذلك الشيخ ، فكلّ من يجلس قبل يقول له : اقرأ ، حتّى يجلس القارئ. وكان يشجّعنا على الدرس وعلى فهم معناه من المطالعة ويقول لنا : إنّ الأستاد إنّما هو للتيمّن والتبرّك ، وإلّا ففهم الدرس وتحقيق معناه إنّما هو من مطالعة التلميذ.

وقد اتّفق أنّه جاءنا خبر فوت جماعة من أعمامنا وأقاربنا ، فجلسنا ذلك اليوم في عزائهم وما رحنا إلى الدرس. فسأل عنّا وقيل له : إنّهم أهل مصيبة. فمضينا إلى الدرس اليوم الثاني ، فلم يرض أن يدرّسنا وقال : لعن الله أبي وأمّي إن درّستكم! كيف ما جئتم أمس إلى الدرس؟ فحكبنا له ، فقال : كان ينبغي أن تجيئوا إلى الدرس فإذا أقرأتموه انصرفتم إلى عزائكم. هذا أبوكم يأتيكم أيضا خبر فوته فتقطعون الدرس. فحلفنا له أنّا لا نقطع الدرس يوما واحدا ولو أصابنا ما أصابنا ، فقبل أن يدرّسنا بعد مدّة.

واتّفق أنّنا كنّا نقرأ عنده في أصول الفقه في شرح العميديّ ، فاتّفقت فيه مسألة لا تخلو من إشكال ، فقال لنا ـ ونحن جماعة ـ : طالعوها هذه اللّيلة. فإذا أتيتم غدا ، فكلّ من عرفها يركب صاحبه ويحمله من هذا المكان إلى ذلك المكان. فلمّا أتينا إليه غدا وقرّر أصحابي تلك المسألة ، قال لي : تكلّم أنت. فتكلّمت. فقال : هذا هو الصواب. وكلّ ما قاله الجماعة غلط. فقال لي : أمل عليّ ما خطر بخاطرك حتّى أكتبه حاشية على كتابي. فكنت أنا أملي عليه

١٠

وهو يكتب. فلمّا فرغ قال لي : اركب على ظهر واحد واحد من أصحابك إلى هناك. فحملوني إلى ذلك المكان. وهذا كان حاله.

فأخذني ذلك اليوم معه إلى بيته وقال لي : هذه ابنتي أريد أن أزوّجك بها. فقلت : إن شاء الله تعالى إذا توسّعت في طلب العلم. فاتّفق أنّه سافر إلى الهند وصار مدار حيدر آباد عليه. وقد سألته يوما عن تفسير شيخنا الشيخ عبد عليّ الحويزيّ الذي ألّفه من الأخبار ، فقال لي : ما دام الشيخ عبد عليّ حيّا فتفسيره لا يساوي قيمة فلس. فإذا مات ، فأوّل من يكتبه بماء الذهب أنا. ثمّ قرأ :

ترى الفتى ينكر فضل الفتى

لوما وبخلا فإذا ما ذهب

لجّ به الحرص على نكتة

يكتبها عنه بماء الذهب

ونظير هذا أنّ رجلا من فضلاء إصفهان صنّف كتابا ، فلم يشتهر ولم يكتبه أحد. فسأله رجل من العلماء : لم لا يشتهر كتابك؟ فقال : إنّ له عدوّا. فإذا مات اشتهر كتابي. فقال له : وما هو؟ قال : أنا. وقد صدق في هذا الكلام.

وبقيت في شيراز تسع سنوات تقريبا ، وقد أصابني فيها من الجوع والتعب ما لا يعلم به إلّا الله. وفي خاطري : انّي قد بقيت يوم الأربعاء والخميس ما وقع في يدي إلّا الماء. فلمّا أتت ليلة الجمعة ، رأيت الدنيا تدور بي وقد اسودّت كلّها في عيني. فمضيت إلى قبّة السيّد أحمد بن الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام فأتيت إلى قبره ولزمته وقلت له : أنا ضيفك. فكنت واقفا ، فإذا رجل سيّد قد أعطاني قوت تلك اللّيلة من غير طلب. فحمدت الله وشكرته.

ومع ما كنت فيه من الجدّ والاجتهاد ، كنت كثيرا مّا أتنزّه في البساتين والأماكن الحسنة مع الأصحاب والأعلام ، وفي وقت الورودات نمضي إلى البساتين ونبقى فيها أسبوعا وأقلّ وأكثر ، ولكنّ الاشتغال ما كنت أفوته من يدي. وقد منّ الله عليّ في شيراز بأصحاب صلحاء نجباء علماء وكانوا موافقين لي في السنّ.

ومن جملة رياضاتي للدرس أنّ صاحبا لي كان منزله في طرف شيراز. وكنت أبات

١١

عنده لأجل دهن السراج حتّى أطالع. وكان لي درس أقرؤه على ضوء السراج آخر اللّيل في مسجد الجامع ، وهو في طرف آخر من البلاد ، وأقوم من هناك ـ وقد بقي من اللّيل بقيّة كثيرة ـ ومعي عصا وبين ذلك المنزل وبين المسجد أسواق كثيرة ، وفي آخر اللّيل وليس في شيء منها سراج بل كلّها مظلمة. والداهية العظيمة أنّ عند كلّ دكّان بقّال كلب يقرب من العجل لحراسة ذلك الدكّان. وكنت أجيء وحدي من ذلك المكان البعيد. فإذا وصلت إلى السوق ، لزمت جداره حتّى أهتدي إلى الطريق. وإذا وصلت إلى دكّان البقّال ، شرعت في قراءة الأشعار جهرا حتّى لا يظنّ الكلب أنّي سارق ، بل كان يظنّ أنّنا جماعة عابرين الطريق. وكنت عند كلّ دكّان أحتال على الكلب بحيلة حتّى أخلص منه.

وبقيت على هذا برهة من الزمان. وكنت في مدرسة المنصوريّة وحجرتي فوق ولا كنت أحبّ أحدا يجيء إليّ ولا يمشي إلى قريب منها ، وكنت أحبّ الانفراد والوحدة. وبقيت على هذه الأحوال تلك المدّة.

ثمّ كاتبني والدي ووالدتي وألحوّا عليّ في الوصول إلى الجزائر ، فمضيت إليهم أنا وأخي سنة موج الجزائر الأخير. لأنّ الموج الأوّل موج عواد. فلمّا وصلنا إلى الأهل ، فرحوا بنا لقدومنا ولأنّ كلّ من مضى من تلك البلاد رجع من غير علم. فقالت والدتي : ينبغي أن تتزوّجا حتّى أرضى عنكما. فقلت : إنّ علم الحديث والفقه قد بقي علينا قراءته. فقالت : لا بدّ أن تتزوّجا. وكان الحامل لها على هذا هو أنّا إذا تزوّجنا ألزمنا السكنى معها. فقبلنا كلامها وتزوّجنا.

وبقيت بعد التزويج قريبا من عشرين يوما ، فمضيت إلى زيارة رجل فاضل في قرية يقال لها نهر صالح. فلمّا اجتمعنا وتباحثنا في العلوم العقليّة فقال لي : وا أسفا عليك! كيف فاتك علم الحديث؟ فقلت : وكيف فاتني علم الحديث؟ قال : لقولهم : ذبح العلم في فروج النساء. فرماني في الغيرة فقلت له : والله ـ يا شيخ ـ لا أرجع إلى أهلي. وها أنا إذا قمت من مجلسك ، توجّهت إلى شيراز. فاستبعد قولي. فقمت منه وركبت في سفينة وأتيت إلى القرنة.

١٢

وكان فيها سلطان البصرة ، فأخذني معه إلى الصحراء للتنزّه. فلمّا رجعنا أتيت إلى البصرة ولاحظت أنّ والدي يتبعني. فركبت في سفينة وقصدت شيراز فأتيت إلى تلك المدرسة ولحقني أخي فأقمنا فيها. وأتى إلينا خبر فوت الوالد ـ تغمّده الله برحمته ـ فبقينا بعده شهرا أو أقلّ.

ثمّ إنّ مدرسة المنصوريّة احترقت واحترق فيها واحد من طلبة العلم واحترق لي فيها بعض الكتب. وصارت بعض المقدّمات فسافرنا إلى إصفهان. وكنّا جماعات كثيرة. وأصابنا في الطريق برد تيقّنّا معه الهلاك. فمنّ الله علينا بالوصول فجلسنا في مدرسة ليس فيها إلّا أربع حجرات في «سر نيم آورد». وجلسنا في حجرة واحدة. وكنّا جماعة كثيرة. فكنّا إذا نمنا في تلك الحجرة وأراد واحد منّا الانتباه في اللّيل لحاجة ، انتبهنا جميعا.

ثمّ إنّه قد تضايقت علينا أمور المعاش وبعنا ما كان عندنا من ثياب وغيرها. وكنّا نتعمّد أكل الأطعمة المالحة لأجل أن نشرب ماء كثيرا ونأكل الأشياء الثقيلة لذلك أيضا.

ثمّ بعد هذا منّ الله عليّ بالمعرفة مع أستادنا المجلسيّ ـ أدام الله أيّام سلامته ـ فأخذني إلى منزله وبقيت عندهم في ذلك المنزل أربع سنين تقريبا. وقد عرّفت أصحابي عنده فأيّدهم بأسباب المعاش وقرأنا عليه الحديث.

ثمّ إنّ رجلا اسمه ميرزا تقيّ بنى مدرسة وأرسل إليّ وجعلني فيها مدرّسا ، والمدرسة تقرب من حمّام الشيخ بهاء الدين محمّد تغمّده الله برحمته. فأقمت في إصفهان أقرأ وأدرّس ثمان سنوات تقريبا.

ثمّ أصابني ضعف في البصر بكثرة المطالعة ، وكان في إصفهان جماعة كحّالون فداووا عيوني بكلّ ما عرفوا ، فما رأيت من دوائهم إلّا زيادة الألم. فقلت في نفسي : أنا أعرف منهم بالدواء. فقلت لأخي رحمه‌الله : إنّي أريد السفر إلى المشاهد العالية. فقال : أنا أكون معك.

فسافرنا من طريق إصفهان. وفي أثناء الطريق وصلنا إلى كرمان شاه وتجاوزناها ، وقمنا من منزل ونريد منزلا آخر وهو الهارونيّة بناها هارون الرشيد لعنه الله تعالى. فلمّا

١٣

صعدنا الجبل ، أصابنا فوقه مطر وهواء بارد ، وصار الصخر تزلق فيه الأقدام ولا يقدر يستمسك الراكب على الدابّة من الهواء البارد وشدّته والمطر. فشرعت أنا في قراءة آية الكرسيّ ، فليس أحد من أهل القافلة إلّا وقد سقط من الدابّة وأنا ـ بحمد الله ـ وصلت إلى المنزل سالما.

فلمّا وصلنا المنزل كان فيه خان صغير وله حوش وليس فيه حجر. وإنّما فيه طوائل للدوابّ ومرابطها. فأدخلنا أعراضنا والكتب إلى طويلة ووضعنا فوق صفّتها. فاتّفق أنّ تلك الطوائل كان فيه أسماد كثير وقد عمد إليه بعض المتردّدين ووضع فيه النار لأجل أن يحترق ذلك السماد ، فما كان في تلك الطوائل إلّا الدخان الخانق ومطرت السماء فتحيّرنا بين المطر والدخان ، فكنّا نقبض على خياشمنا ، فإذا ضاقت أنفاسنا خرجنا من الطويلة إلى الحوش وتنفّسنا ورجعنا. فكنّا تلك اللّيلة وقوفا ليس لنا حاجة إلّا الخروج للتنفّس. ويا إخوان ما كان أطول تلك اللّيلة! فلمّا أصبح الصباح وطلعت الشمس وخرجنا إلى الحوش وجاءنا أهل تلك القرية يبيعون علينا الخبز وغيره ، فأتت إلينا امرأة منهم وكان لها لحية طويلة نصفها بيضاء ونصفها سوداء فتعجّبنا منها.

ثمّ إنّنا وصلنا إلى بعقوبا فأودعنا كتبنا وأعراضنا لأهل القافلة ومضينا نحن مع جماعة قليلة إلى سرّ من رأى. فلمّا عزلنا القافلة وسرنا فرسخا تقريبا ، لقينا رجل فقال لنا : إنّكم تمضون واللّصوص أمامكم في نهر الباشا. فتردّدنا في الرجوع والمضيّ ، فصار العزم على المضيّ. فلمّا وصلنا إلى ذلك النهر ، طلعت علينا خيولهم فعدوا علينا ، فقرأت آية الكرسيّ وأمرت أصحابي بقراءتها. فلمّا وصلوا إلينا ، انفردوا عنّا ناحية وكانوا يتفكّرون. فرأيناهم جاؤوا إلينا وقالوا لنا : قد ضللتم عن الطريق. وكان الحال كما قالوا. فأرسلوا معنا رجلا منهم وسار معنا إلى قرب المنزل وهو القازاني استقبلنا جماعة من سادات سرّ من رأى لأجل أن يأخذونا. وكان آخر اختيارنا من أرواحنا وأموالنا أوّل وقوعنا بأيديهم. وكانت عندنا دوابّ. فقالوا : ينبغي أن تركبوا دوابّنا لأجل الأجرة. فركبنا دوابّهم.

١٤

فوصلنا إلى المشهد المبارك في اللّيل فنزلنا في بيت ذلك السيّد. فأتت إلينا امرأة بقبضة حطب قيمتها أقلّ من الفلس. فلمّا صلّينا الصبح قلنا له : نروح إلى الزيارة. قال : لا حتّى تأكلوا الضيافة من عندي. فقلنا له : نحن معنا من الخبز واللّحم ما يكفينا. فقال : لا يكون هذا. فبعد ساعة قدّم إلينا جفنة من الخشب كبيرة وفيها ماء أسود لا ندري ما يكون تحته وفيها خواشيق. فقلنا : هذا أيّ شيء؟ فقال : مدّوا أيديكم. فمددنا أيدينا. وكان ذلك الماء حارّا ، فمددنا الخواشيق فقصرت عن الوصول إلى قعر الجفنة. فمددنا بعض أيدينا وتناولنا بالخواشيق ما في قعر الجفنة. فكان حبّات أرزّة ، وكان قد غلاها مع ذلك الماء. فشربنا كلّ واحد خاشوقة وقمنا للزيارة. فقال لنا ذلك السيّد المبارك : اعلموا ـ يا ضيفاني ـ أنّ سادة سامرّا ليس لهم خوف من الله ولا حياء ، فإذا دخلتم قبّة الإمام عليه‌السلام أخذوا ثيابكم. ولكنّكم أكلتم ملحي ، فأنا أنصحكم أن تجعلوا ما عندكم من الثياب الجديدة عندي في منزلي وخذوا خلقان ثيابكم حتّى لو أخذت منكم ترجعون إلى هذه الثياب. فاستعقل كلامه أصحابنا ووضعوا ثيابهم عنده. وأمّا أنا فقلت : قد أصابني البرد هذه البارحة. فلبست ثيابي واحدا فوق الآخر.

فلمّا مضينا إلى الزيارة ، أخذوا منّا في الباب الأوّل من كلّ واحد أربع محمّديّات. فلمّا وصلنا الباب الثاني ، أخذوا منّا أيضا. فزرنا موالينا وأتينا إلى السرداب. فلمّا نزلنا إليه أحاطوا بنا تحت الأرض فأخذوا ما أرادوا. وكأنّي أرى طرف مئزر واحد من أصحابي في يده ، والطرف الآخر في يد رجل سيّد من السادة ، فأخذه السيّد وبقي صاحبي مكشوف الرأس.

فأتينا إلى منزل صاحبنا فقلنا له : هات الثياب. فقال : أوّلا حاسبوني على حقوقي وادفعوها إليّ. فقلنا : هكذا يكون فاحسبها أنت. فقال : الأوّل حقّ الاستقبال. فقلنا له : هذا حقّ واضح. فقال : لخواطركم كلّ واحد محمّديّتين. فأخذ منّا. ثمّ قال : حقّ المنزل البارحة. فأخذ حقّه. ثمّ قال : حقّ الحطب. فأخذ من كلّ واحد نصف محمّديّة. ثمّ قال : حقّ المرأة التي

١٥

أتت به. فأخذ ما أراد ثمّ قال : والحقّ الأعظم حقّ الضيافة وهو من كلّ واحد محمّديّة. فأخذ ذلك الحقّ ثمّ قال : حقّ الحماية وهو أنّكم في منزلي. ولولاه كان السادة أخذوا ما معكم. فأخذ ذلك الحقّ فقال : حقّ المشايعة. فأخذه. فلمّا قبض الحقوق كلّها قلنا له : أعطنا الثياب. فقال : قولوا مع أنفسكم إنّنا أخذناها معنا لمّا دخلنا القبّة الشريفة ، وأما كان السادة يأخذونها منكم؟ فها أنا من السادة وأخذتها منكم من غير إهانة بكم. فقلنا له : جزاك الله خيرا!

فرجعنا إلى بغداد وأتينا من بغداد إلى مشهد الكاظمين عليهما‌السلام. ثمّ أتينا إلى زيارة مولانا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام وكنت قد أخذت ترابا من عند رأس كلّ إمام. فأخذت من تراب رجلي الحسين عليه‌السلام ووضعته فوق ذلك التراب واكتحلت به. ففي ذلك اليوم قوي بصري على المطالعة وصار أقوى من الأوّل. وكنت قد ألّفت شرحا على الصحيفة الشريفة ، فشرعت في إتمامه ذلك اليوم. وإلى الآن كلّما عرض لي رمد أو غيره ، اكتحلت بشيء من ذلك التراب ويكون هو الدواء.

ولمّا قدمت إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وزرته ، مددت يدي إلى تحت الفراش من عند رأسه المبارك لأخذ شيء من التراب ، فجاءت في يدي درّة بيضاء من درّ النجف فأخذتها. ولمّا خرجت قلت لإخواننا المؤمنين فتعجّبوا وقالوا : ما سمعنا بأنّ أحدا وجد درّة النجف في هذا المكان ، بل هذا ملك أتى بها ووضعها في هذا المكان. وذلك أنّه قبل ذلك التاريخ بأعوام كثيرة قد وجد واحد من الخدّام درّة في صحن الحوش فأخذها منه المتولّي وأرسلها إلى حضرة الشاه صفيّ لأنّها وجدت في ذلك المكان. والحاصل أنّ تلك الدرّة صنعناها خاتما وهي الآن عندنا نتبرّك بميامنها. وقد شاهدنا لتلك الدرّة أحوالات عجيبة :

منها أنّني كنت لا بسا ذلك الخاتم ، فمضيت إلى مسجد الجامع في شوشتر فصلّيت المغرب والعشاء وأتيت إلى المنزل. فلمّا جلست عند السراج ونظرت إلى فصّ الخاتم لم أره. وكان قد وقع في ذلك اللّيل. فضاق صدري وحزنت حزنا عظيما. فقال لي بعض تلامذتي : نأخذ

١٦

سراجا ونروح في طلبه. فقلت لهم : لعلّه أن يكون قد وقع منّي النهار وأنا اليوم مضيت إلى أماكن متعدّدة. فقلت لهم : توكّلوا على الله واطلبوه. فأخذوا سراجا ومضوا. فأوّل ما وضعوا السراج قرب الأرض لطلبه وجدوه ، مع أنّه بمقدار الحمصة. فعجب الناس من هذا. فلمّا بشّروني ، تخيّلت أنّ أموال الدنيا وهبت لي. والحمد لله هو الآن موجود.

ولمّا فرغنا من الزيارة ، شرعنا في زيارة الأفاضل والمجتهدين والمباحثة معهم ومصاحبتهم. ثمّ أتينا إلى الرماحية وكنت ضيفا عند رجل من المجتهدين. وبقيت عنده أيّاما قلائل. فاستأجرت سفينة وركبت فيها قاصدا للجزائر. فسارت السفينة فرسخين تقريبا ، ثمّ وقفت على الطين فبقيت واقفة يوما وليلة ، ثمّ سارت فرسخا أو أكثر ، ثمّ وقفت كالأوّل ، ثمّ سارت وهكذا. فتعجّب أهل السفينة وقالوا : ما جرى هذا قطّ على سفينتنا. فتفكّرت أنا وقلت في نفسي : هذا الشهر جمادى وصارت زيارة رجب قريبة وأنا تركتها وقصدت الجزائر. ولا يكون هذا التعويق إلّا لهذا.

فقلت لصاحب السفينة : إن أردت أن تسير سفينتك فأخرجني منها. وقلت له الكلام فتعجّب. فقلت له : إنّ قدّامنا في حقروص رجلا من إخواننا. فأنا أخرج إلى منزله حتّى تصل السفينة إلى مقابل منزله فنخرج أثاثنا. فأخرج معي رجلا ليدلّني على الطريق. فلمّا خرجنا ومشينا ، جرت السفينة ، وقد تقدّمتنا فوصلنا إلى منزل ذلك المؤمن وأرسل غلامه وتبع السفينة حتّى أتى بأسبابي منها. فبقيت عند ذلك المؤمن أيّاما قلائل وسافرت أنا وهو إلى زيارة رجب ، ثمّ زرنا مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ثانيا.

فلمّا فرغنا من الزيارات ، أتينا إلى منزل ذلك الرجل المؤمن في حقروص وكان على شاطئ الفرات. وكان له مجلس فوق غصن شجرة قويّ في وسط الماء ، والسفن تجري من تحته. فما رأيت مكانا أنزه ولا ألطف ولا آنس منه. وكانوا في النهار يصيدون الحجل والدرّاج ونأكله في اللّيل وماء الفرات. ولا تسأل عن عذوبته ولطافته وحلاوته وبركته ؛ لأنّه ورد في الحديث أنّه يصبّ فيه ميزاب من ماء الجنّة كلّ يوم. وفي الحديث أنّه كان

١٧

يبرئ الأكمه والأبرص وذوي العاهة ، لكن باشره نجاسة أبدان المخالفين فأزال عظيم بركته وبقي القليل. وكان مولانا الصادق عليه‌السلام يقصده من المدينة ليشرب منه ويغتسل به ويرجع. وقد ورده يوما فقال لرجل كان على الماء : ناولني بهذا القدح ماء. فناوله. ثمّ قال : ناولني أخرى. فناوله فشرب وأجرى الماء على لحيته الشريفة. فلمّا فرغ قال : الحمد لله ربّ العالمين. ما أعظم بركته!

ثمّ إنّي ركبت في السفينة وجئت إلى الجزائر. فلقيت جماعة من أهل السفينة الأولى فقالوا لي : إنّه من وقت خروجك منها ما وقفت ساعة واحدة إلّا بالمنزل. فلمّا وصلت إلى الجزائر إلى منزلنا في الصباغيّة في نهر المدك ، فرحوا أهلي. وذلك أنّ أخي تقدّمني بالمجيء من شطّ بغداد ولمّا رأته والدتي ، خطر ببالها الخواطر من جانبي وأنّه ما تأخّر إلّا لقضيّة حادثته. فبقيت في الجزائر مع أخي في الصباغيّة ثلاثة أشهر وشرعت في شرح تهذيب الحديث هناك. ثمّ انتقلنا إلى نهر صالح فرأينا أهلها أخيارا صلحاء وعلماؤها من أهل الإيمان منزّهين عن النفاق والحسد. فأحسن كلّهم إلينا إحسانا كاملا. فبقينا هناك ستّة أشهر أو أكثر. وبنوا لنا مسجدا جامعا كان من الأوّل يصلّي فيه شيخنا الأجلّ خاتمة المجتهدين الشيخ عبد النبيّ الجزائريّ ، وكنّا نصلّي فيه جماعة لا جمعة.

ثمّ إنّ السلطان محمّد بعث عساكره إلى سلطان البصرة للحرب معه ويأخذ منه الجزائر والبصرة. فذهب فكر سلطان البصرة إلى أنّه يخرّب الجزائر والبصرة وينقل أهلهما إلى مكان اسمه سحاب قريب الحويزة. فانتقلنا كلّنا إليها ووضع عسكره في قلعة القرنة ، وجلس هو مع أهل الجزائر في سحاب. وكان يجيء إلى عندنا ، فإذا جاء وضعوا له في الصحراء عباءة ، وإذا أتيت إليه قام وأجلسني معه على تلك العباءة. وكان يظهر المحبّة والوداد لي كثيرا. فلمّا قرب إلينا عساكر السلطان محمّد وحصروا القلعة ، كانوا يرمونها كلّ يوم ألف مدفع أو أقلّ ، وكانت الأرض ترجف من تحتنا هذا وأنا مشغول في تأليف شرح التهذيب. فبعثت العيال وأكثر الكتب مع أخي إلى الحويزة وبقيت أنا وكتب التأليف.

١٨

ثمّ إنّي طلبت الإذن من السلطان في السفر إلى الحويزة. فلم يأذن لي وقال : إذا خرجت أنت من بيننا ، ما يبقى معي أحد. فبقينا في الحصار أربعة أشهر تقريبا ، فأتى شهر الله شهر رمضان فسافرت إلى الحويزة وكنت أنتظر الأخبار. فلمّا كان ليلة الحادية عشرة من ذلك الشهر وهي ليلة الجمعة ، خاف سلطان البصرة من خيانة عسكره وفرّ هاربا إلى الدورق.

فبلغ الخبر إلى أهل الجزائر طلوع فجر يوم الجمعة ، ففرّت النساء والرجال والأطفال والشيوخ والعميان وكلّ من كان ذلك الإقليم طالبين الحويزة ، وبينهم وبينها مسير ثلاثة أيّام ، لكنّها مفازة لا فيها ماء ولا كلاء بل أرض يابسة. فمات من أهل الجزائر في تلك المفازة عطشا وجوعا وخوفا ما لا يحصي عددهم إلّا الله تعالى. وكذلك العسكر الذي في القرنة قتل منه أيضا خلق كثير. والحاصل أنّ من شاهد تلك الواقعة عرف أحوال يوم القيامة.

وأمّا سلطان الحويزة قدّس الله روحه وهو السيّد علي خان ، فأرسل عساكر لاستقبال أهل الجزائر وأرسل لهم ماء وطعاما. جزاه الله عنهم كلّ خير. ثمّ إنّنا أقمنا عنده في الحويزة شهرين تقريبا وسافرنا إلى إصفهان لكن من طريق شوشتر.

فلمّا وصلنا شوشتر ، رأينا أهلها من أهل الصلاح والفقر ويودّون العلماء. وكان فيهم رجل سيّد من أكابر السادة اسمه ميرزا عبد الله. فأخذنا إلى منزله وعيّن لنا كلّ ما نحتاج إليه. والآن هو قد مضى إلى رحمة الله ، لكنّه أعقب ولدين السيّد شاه مير والسيّد محمّد مؤمن وفيهما من صفات الكمال ما لا يحصى مع صغر سنّهما ، ولا وجد في العرب والعجم أكرم منهما ولا يقارب أخلاقهما. وفّقهما الله تعالى لجميع مراضيه. ثمّ إنّ والدهما أرسل إلى أهلنا من الحويزة. ولمّا جاؤوا عيّن لهم منزلا وكلّ ما يحتاجون إليه. فبقينا في شوشتر تقريبا من ثلاثة أشهر وسافرنا إلى إصفهان على طريق ديه دشت وبقي الأهل في شوشتر. فلمّا قدمنا ديه دشت ، أخذنا حجرة في الخان وجلسنا بها. ثمّ بعد ساعة قلت لواحد من الرفقاء : اذهب وانظر لعلّ لنا فيها صديقا يأخذ لنا منزلا إلى كم يوم.

فلمّا خرج أتى برجل سيّد كان يقرأ عندي في إصفهان. فلمّا رآني فرح فرحا شديدا و

١٩

قال : إنّ جماعة من تلاميذك من سكّان هذه البلاد فأخبرهم. وكانوا هم سادات ديه دشت فأخذوا لنا منزلا. وكان الحاكم في تلك البلاد محمّد زمان خان ، وكان عالما كريما سخيّا لا يقارب في الكرم. فلمّا سمع بنا ، أرسل وزيره وعيّن لنا ما نحتاج إليه وما لا نحتاج إليه. فطلبنا الحاكم في يوم آخر. فلمّا وردنا عليه قال لي : سمعت أنّك شرحت الصحيفة. قلت : نعم. فقال : إنّ في دعاء عرفة فقرة كيف شرحتها؟ فقلت : ما هذه الفقرة؟ قال : هي قوله عليه‌السلام : «تغمّدني فيما اطّلعت عليه منّي بما يتغمّد به القادر على البطش لو لا حلمه.» فذكرت له وجوها ثلاثة في حلّها. فقال لي : أحد هذه الوجوه خطر بخاطري. والآخر خطر بخاطر الآقا حسين الخوانساريّ. فاستحسنها وشرعنا في المباحثة ، وكنت أحترمه في الكلام. فجلس على ركبتيه ورمى حلّته من فوق ظهره وقال : تكلّم كما كنت تتكلّم في المدرسة مع طلبة العلم ولا تحتر مني. فتباحثنا وكنت أنقله من علم إلى علم ، وكان يسبقني في الكلام إلى ذلك العلم ، حتّى جاء وقت صلاة الظهر فقطعنا الكلام. ثمّ عدنا إلى المباحثة يوما آخر وكنت في بلاده ثلاثة أشهر تقريبا على هذا الحال. فما رأيت أحدا أفهم منه ولا أفصح منه لسانا. وأمّا في جانب الكرم وإمداد العلماء والفقراء ، فحاله فيه مشهور.

ولمّا استأذنّا منه على السفر إلى إصفهان ، أحسن إلينا غاية الإحسان. فلمّا سافرنا إلى إصفهان ، فانظر إلى ما جرى عليّ في الطريق ، وهو : انّنا لمّا وصلنا إلى منزل قبل منزل كنار سقاوة ، نزلنا في منزل وكان في غاية النزاهة من جهة الماء الجاري والأشجار والأنهار فحصل لنا نهاية الانتعاش. فقلت في خاطري : أعوذ بالله من فرح هذا اليوم. لأنّي عوّدت روحي إن أفرح اليوم ، ألقى بعده حزنا طويلا. فلمّا جاء وقت الركوب ، ركبنا فانتهينا إلى بقعة في كنار سقاوة ، وكان معنا رفقاء يمشون وواحد منهم أطرش. فلمّا تقدّمنا ، جلس في وسط الطريق تحت صخرة ، فجئت أنا وأخي ونحن ركوب. فلمّا وصلت الخيل إليه ، فاجأها بالقيام فنفرت ونحن لا نعلم ، فألقتني الدابّة على صخرة عظيمة. فلمّا أفقت ، رأيت أنّ يدي اليسرى قد عرض لها الصدع العظيم. فأتاني الرفقاء وشدّوها. وبقيت إلى إصفهان كلّ يوم

٢٠