عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-29-6
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٠

١

٢

٣٠.

سورة الروم

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة الروم ، كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ملك يسبّح لله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيّع في يومه وليلته. (١)

الروم : من جعلها في إناء زجاج ضيّق الرأس في منزل قوم ، اعتلّ من فيه. وإن دخل إليه غريب اعتلّ. (٢)

[١ ـ ٢] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢))

(الم). مرّ تفسيرها في البقرة.

(الم غُلِبَتِ الرُّومُ). عن عليّ عليه‌السلام قال : نزلت فينا وفي بني أميّة. (٣)

(غُلِبَتِ الرُّومُ). وقرئ في شواذّ : «غلبت» بالفتح. (٤)

(غُلِبَتِ الرُّومُ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : انّ لهذا تأويلا لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم من الأئمّة. إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا هاجر إلى المدينة وقد ظهر الإسلام ، كتب إلى ملك الروم كتابا يدعوه إلى الإسلام ، وكتب إلى ملك فارس يدعوه إلى الإسلام. فأمّا ملك الروم فإنّه عظّم كتابه وأكرم رسوله. وأمّا ملك فارس ، فإنّه خرق كتابه واستخفّ برسوله. وكان ملك فارس يومئذ يقاتل ملك الروم. وكان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الروم ملك فارس وكانوا لناحية ملك الروم أرجى منهم لملك فارس. فلمّا غلب ملك فارس ، اغتمّ المسلمون.

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٥٩.

(٢) المصباح / ٦٠٩.

(٣) تأويل الآيات ١ / ٤٣٤.

(٤) تفسير الصافي ٢ / ٢٩٥.

٣

فأنزل الله : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ). (١)

(غُلِبَتِ الرُّومُ). قال المفسّرون : غلبت فارس الروم وظهروا عليهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفرح بذلك كفّار قريش من حيث إنّ أهل فارس لم يكونوا أهل كتاب. وساء ذلك المسلمين. وكان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين ، فدفعتهم فارس عنه. (٢)

(غُلِبَتِ الرُّومُ). كان المشركون يجادلون المسلمين ـ وهم بمكّة ـ يقولون : إنّ الروم أهل كتاب وقد غلبهم الفرس. وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيّكم ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم. فأنزل الله تعالى الآية. ثمّ أظهر الله الروم على فارس زمن الحديبيّة ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب. وعن ابن عبّاس : لقي نبيّ الله مشركي العرب والتقت الروم وفارس ، فنصر الله النبيّ والمسلمين على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم ، ففرح المسلمون بنصر الله إيّاهم ونصر أهل الكتاب على العجم. وقيل : إنّهم ظهروا يوم بدر. (٣)

(غُلِبَتِ الرُّومُ). قيل : احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى فغلبت فارس الروم. فبلغ الخبر مكّة فشقّ ذلك على المسلمين وفرح المشركون. (٤)

[٣] (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣))

(فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) ؛ أي : في أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس يريد الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى أرض فارس. (وَهُمْ). يعني الروم ، من بعد غلبة فارس عليهم ، سيغلبون فارس. (٥)

(فِي أَدْنَى الْأَرْضِ). وهي الشامات وما حولها. (٦)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥٢.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٦٠.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٦١.

(٤) الكشّاف ٣ / ٤٦٦.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٤٦٠.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥٢.

٤

قرئ في الشواذّ : (سَيَغْلِبُونَ) بالضمّ. وعليه بناء ما في كتاب الاستغاثه لابن ميثم. قال : فقد روينا من طريق علماء أهل البيت عليهم‌السلام في أسرارهم وعلومهم التي خرجت منهم إلى علماء شيعتهم : انّ قوما ينسبون إلى قريش وليسوا من قريش بحقيقة النسبة. وهذا ممّا لا يعرفه إلّا معدن النبوّة وورثة علم الرسالة. وذلك مثل بني أميّة. ذكروا أنّهم ليسوا من قريش وأنّ أصلهم من الروم. وفيهم تأويل هذه الآية : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ). معناه أنّهم غلبوا على الملك وسيغلبهم على ذلك بنو العبّاس. (١)

[٤] (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤))

(فِي بِضْعِ سِنِينَ). من الثلاثة إلى العشرة. (مِنْ قَبْلُ) ؛ أي : من قبل أن غلبت الروم. (وَمِنْ بَعْدُ) أن غلبت الروم. فإن شاء جعل الغلبة لأحد الفريقين على الآخر وبالعكس ، وإن شاء أهلكهما جميعا. (يَوْمَئِذٍ) ؛ أي : يوم يغلب الروم فارسا. (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) بدفع الروم فارسا عن بيت المقدس ، فإنّهم كفّار ، ولاغتمام المشركين بذلك ، ولتصديق خبر الله ورسوله ، ولأنّه مقدّمة لنصرهم على المشركين. (٢)

(فِي بِضْعِ سِنِينَ). قال أبو عبيدة : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أليس الله يقول : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وقد مضى للمسلمين سنين كثيرة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي إمارة أبي بكر وإنّما غلبت المؤمنون في إمارة عمر! فقال : ألم أقل لك إنّ لهذا تأويلا وتفسيرا والقرآن ناسخ ومنسوخ؟ أما تسمع قوله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) يعني إليه المشيّة في القوم (٣) أن يؤخّر ما قدّم ويقدّم ما أخّر إلى يوم تحتّم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين. وذلك قوله : (وَيَوْمَئِذٍ) ـ الآية. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قيام القائم عليه‌السلام. (٥)

__________________

(١) تفسير الصافيّ ٢ / ٢٩٥.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٦٠.

(٣) المصدر : القول.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥٣.

(٥) تأويل الآيات ١ / ٤٣٤.

٥

[٥] (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥))

(بِنَصْرِ اللهِ) ؛ أي : تغليب من له كتاب على من لا كتاب له. (١)

(الْعَزِيزُ) في الانتقام من أعدائه. (الرَّحِيمُ) بمن أناب إليه من خلقه. (٢)

[٦] (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦))

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ). أي بظهور الروم على فارس. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) ؛ أي : كفّار مكّة (لا يَعْلَمُونَ) صحّة ما أخبرناهم. (٣)

[٧] (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

أي : يعلمون منافع الدنيا ومضارّها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يبنون وهم جهّال بالآخرة ، فعمروا دنياهم وخرّبوا آخرتهم. وقد بلغ علم أحدهم بدنياه أن يقلّب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلّي. (٤)

(ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا). ظاهر الدنيا ما يعرفه الجهّال من التمتّع بزخارفها. وأمّا حقيقة باطنها ، فهو أنّها مجاز إلى الآخرة يتزوّد منها إليها بالطاعات. وفي تنكير الظاهر إشارة إلى أنّهم لا يعلمون إلّا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها. (٥)

[٨] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))

(فِي أَنْفُسِهِمْ). يحتمل أن يكون ظرفا. أي : ألم يحدثوا التفكّر في أنفسهم؟ أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر. ويجوز أن يكون صلة للتفكّر. كقولك : تفكّر في الأمر. و (ما خَلَقَ) متعلّق بالقول المحذوف. معناه : ألم يتفكّروا فيقولوا هذا القول؟ وقيل : معناه فيعلموا. لأنّ في

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٦٧.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٦٠.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٦٠.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٦١.

(٥) الكشّاف ٣ / ٤٦٨.

٦

الكلام دليلا عليه. (إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ؛ أي : ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة. وإنّما خلقها مقرونة بالحقّ وبتقدير أجل مسمّى لا بدّ لها من أن تنتهي إليه وهو قيام الساعة. والباء في قوله : (إِلَّا بِالْحَقِّ) للملابسة والمعيّة. فإن قلت : إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكّر ، فما معناه؟ قلت : معناه : أو لم يتفكّروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات ـ وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ـ فيتدبّروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالّة على التدبير دون الإهمال وأنّه لا بدّ لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكيم حتّى يعلموا عند ذلك أنّ سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنّه لا بدّ لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت. (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ). أي إلى الأجل المسمّى. (١)

[٩] (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩))

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا). تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاد وثمود وغيرهم. ثمّ أخذ يصف لهم أحوالهم وأنّهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) ؛ أي : حرثوا. وسمّي ثورا لإثارته الأرض وبقرا لأنّها تبقرها ؛ أي : تشقّها. (وَعَمَرُوها). يعني أولئك المدمّرون. (مِمَّا عَمَرُوها) : من عمارة أهل مكّة ، وأهل مكّة أهل واد غير ذي زرع ما لهم إثارة الأرض ولا عمارة لها. فما هو إلّا تهكّم بهم. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ؛ أي : ما كان تدميره إيّاهم ظلما. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عملوا ما يوجب تدميرهم. (٢)

(أَثارُوا الْأَرْضَ) أي : قلبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وزرع البذور وغيرها. (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها). يعني أهل مكّة. فإنّهم أهل واد غير ذي زرع. وهو تهكّم بهم

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٦٩.

٧

من حيث إنّهم مغترّون بالدنيا مفتخرون بها وهم أضعف حالا فيها ؛ إذ مدار أمرها على التصرّف في أقطار الأرض بأنواع العمارة وهم ضعفاء ملجؤون إلى واد لا نفع له. (١)

[١٠] (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

(عاقِبَةَ). قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر بالنصب ، والباقون بالرفع. (أَساؤُا) إلى أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب الرسل. (السُّواى) أي : الخلّة التي تسوء صاحبه إذا أدركها وهي عذاب النار. (أَنْ كَذَّبُوا) ؛ أي : لتكذيبهم. (٢)

(عاقِبَةَ). من قرأ : (عاقِبَةَ) بالنصب ، يكون الاسم (السُّواى) أو (أَنْ كَذَّبُوا). (٣)

(السُّواى) أي : إنّهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثمّ كان عاقبتهم السوء ، إلّا أنّه وضع المظهر موضع المضمر. أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنّم. (أَنْ كَذَّبُوا). يجوز أن يكون أن بمعنى أي. لأنّه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء كانت في معنى القول ، نحو نادى وكتب. أو يكون (أَساؤُا السُّواى) بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هو أسوأ الخطايا و (أَنْ كَذَّبُوا) عطف بيان لها وخبر كان محذوف إرادة الإبهام. وكتب (السُّواى) بألف قبل الياء إثباتا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها. (٤)

[١١] (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

(تُرْجَعُونَ). أبو عمرو بالياء. (٥)

[١٢] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢))

(يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) ؛ أي : ييأسون من رحمة الله. (٦)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٦.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٦٢ و ٤٦٤.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٦٢ و ٤٦٤.

(٤) الكشّاف ٣ / ٤٧٠.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٤٦٥.

(٦) مجمع البيان ٨ / ٤٦٦.

٨

(يُبْلِسُ). الإبلاس ؛ أي : يبقى ساكنا غير متحرّك متحيّرا. (١)

[١٣] (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣))

(مِنْ شُرَكائِهِمْ) الذين عبدوهم من دون الله. (كافِرِينَ). أي بإلهيّتهم ويجحدونها. أو :

وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. (٢)

[١٤] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤))

(يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) فيصير المؤمنون أصحاب اليمين والمشركون أصحاب الشمال فيتفرّقون تفرّقا لا يجتمعون بعده. (٣)

[١٥] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥))

(فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) ؛ أي : في الجنّة ينعمون ويسرّون سرورا يبين أثره عليهم. والروضة : البستان المتناهي منظرا وطيبا. وقيل : معنى يحبرون يلذّذون بالسماع. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من عبد يدخل الجنّة إلّا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور تغنّيان بأحسن صوت سمعه الإنس والجنّ ، وليس بمزمار الشيطان ولكن بتمجيد الله وتقديسه. وعنه وقد ذكر الجنّة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي القوم أعرابيّ فجثا لركبتيه وقال : يا رسول الله ، هل في الجنّة من سماع؟ قال : نعم يا أعرابيّ. إنّ في الجنّة نهرا حافتاه الأبكار من كلّ بيضاء يتغنّين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها. فذلك أفضل نعيم الجنّة. يتغنّين بالتسبيح. وفي الخبر أنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا. (٤)

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٧٠.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٧٠.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٦٦.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

٩

[١٦] (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

(لِقاءِ الْآخِرَةِ) ؛ أي : البعث والقيامة. (١)

(مُحْضَرُونَ) ؛ أي : مدخلون لا يغيبون عنه. (٢)

[١٧] (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧))

(فَسُبْحانَ). خبر في معنى الأمر. أي : سبّحوه ونزّهوه عمّا لا يليق به في وقت مجيء ظلام اللّيل ومجيء ضياء النهار. (٣)

[١٨] (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨))

(فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي : هو المستحقّ لحمد أهلها. (وَعَشِيًّا) ؛ أي : وقت العشاء. (حِينَ تُظْهِرُونَ) : حين تدخلون في الظهيرة وهو نصف النهار. وقيل : إنّ الآية تدلّ على الصلوات الخمس. لأنّ قوله : (حِينَ تُمْسُونَ) يقتضي المغرب والعشاء الآخرة ، و (حِينَ تُصْبِحُونَ) يقتضي صلاة الصبح ، و (عَشِيًّا) يقتضي صلاة العصر ، و (حِينَ تُظْهِرُونَ) يقتضي صلاة الظهر. وهو الأحسن ، لأنّه خصّ هذه الأوقات بالذكر. وإنّما خصّ صلاة اللّيل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد ، لأنّ الإنسان في النهار متقلّب في أحوال يوجب تنزيه الله تعالى من الأسواء فيها فلذلك صار الحمد بالنهار أخصّ فسمّيت به صلاة النهار ، والتسبيح باللّيل أخصّ فسمّيت به صلاة اللّيل. (٤)

[١٩] (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٦٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٧.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٦٧.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٦٨.

١٠

(يُخْرِجُ الْحَيَّ) ؛ أي : يخرج الإنسان من النطفة ، ويخرج النطفة من الإنسان. و [قيل :] يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) ؛ أي : بعد جدبها. (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ؛ أي : كما أحيا الأرض بالنبات ، فكذلك يحييكم بالبعث وتخرجون من قبوركم أحياء. (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ). حمزة والكسائيّ بفتح التاء والباقون بضمّها. (١)

[٢٠] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠))

(وَمِنْ آياتِهِ) ؛ أي : دلالاته على وحدانيّته وكمال قدرته (أَنْ خَلَقَكُمْ) ؛ أي : خلق آدم الذي هو أبوكم (مِنْ تُرابٍ) ثمّ خلقكم منه. وذلك قوله : (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ؛ أي : ثمّ إذا أنتم ذرّيّة [بشر] من لحم ودم تتفرّقون في أطراف الأرض. فهلّا دلّكم ذلك على أنّه لا يستحقّ العبادة غيره؟ (٢)

[٢١] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

(مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ أي : من شكلكم وجنسكم. لأنّ الشكل إلى الشكل أميل. وقيل : معناه : انّ حوّاء خلقت من ضلع آدم. وقيل : إنّ المراد بقوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أنّ النساء خلقن من نطف الرجال. (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) ؛ أي : لتطمئنّوا [إليها] ويستأنس بعضكم ببعض. (رَحْمَةً) ؛ أي : شفقة. (فِي ذلِكَ) ؛ أي : في خلق الأزواج مشاكلة للرجال. (لَآياتٍ) ؛ أي : دلالات واضحات. (٣)

[٢٢] (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٦٨ و ٤٦٥.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٦٨.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٧٠.

١١

(وَمِنْ آياتِهِ) الدالّة على توحيده (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من عجائب خلقه وبدائع صنعه. (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ). وهو أن ينشئها الله تعالى مختلفة في الشكل والهيئة فيختلف نغماتها وأصواتها من نفسين هما أخوان. وقيل : إنّ اختلاف الألسنة هو اختلاف اللّغات من العربيّة والعجميّة وغيرهما. ولا شيء من الحيوان يتفاوت لغاتها كتفاوت لغات الإنسان. فإن كانت اللّغات توقيفيّا من الله ، فهو الذي فعلها وابتدأها. وإن كانت مواضعة من قبل العباد ، فهو الذي يسّرها. (وَأَلْوانِكُمْ) ؛ أي : اختلاف ألوانكم من البياض والحمرة وغيرهما فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة. وما ذلك إلّا للتراكيب الغريبة. (لِلْعالِمِينَ). حفص بكسر اللّام الأخيرة ، والباقون بفتحها. (١)

[٢٣] (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

(وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ). أي بالنهار. وقيل : إنّ اللّيل والنهار معا وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل. لأنّ من الناس من يتصرّف في كسبه ليلا وينام نهارا. (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ذلك فيقبلونه ويتفكّرون فيه. (٢)

[٢٤] (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤))

(يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) ؛ أي : النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر ويطمع فيه المقيم. أو : خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث. أو : خوفا من أن يخلف ولا يمطر وطمعا في المطر. (بَعْدَ مَوْتِها) ؛ أي : بعد انقطاع الماء عنها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ؛ أي : للعقلاء المكلّفين. (٣)

(يُرِيكُمُ الْبَرْقَ). مقدّر بأن. كقوله :

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٧٠ و ٤٦٩.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٧٠ ـ ٤٧١.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٧١.

١٢

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي

أو الفعل فيه منزل منزلة المصدر. كقولهم : تسمع بالمعيدي [خير من أن تراه]. أو صفة لمحذوف تقديره : آية يريكم [بها] البرق. (١)

[٢٥] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

(أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) بلا دعامة تدعمها. (بِأَمْرِهِ) لهما بالقيام. وقيل : (بِأَمْرِهِ) ؛ أي : بفعله وإمساكه. (مِنَ الْأَرْضِ) ؛ أي : من القبر. يأمر الله عزوجل إسرافيل فينفخ في الصور فيخرج الخلائق من قبورهم. (تَخْرُجُونَ). أي من الأرض أحياء. وقيل : إنّه سبحانه جعل النفخة دعاء لأنّ إسرافيل يقول : أجيبوا داعي الله ، فيدعو بأمر الله. (٢)

(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً). عطف على (أَنْ تَقُومَ) على تأويل مفرد. كأنّه قيل : ومن آياته قيام السموات والأرض بأمره ثمّ خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة فيقول : أيّها الموتى ، اخرجوا. (٣)

[٢٦] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦))

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء يملكهم ويملك التصرّف فيهم. وإنّما خصّ العقلاء لأنّ ما عداهم في حكم التبع. (قانِتُونَ) ؛ أي : مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة. (٤)

[٢٧] (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٩.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٧١.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٩.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٧١ ـ ٤٧٢.

١٣

(يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي : يخترعهم ابتداء. (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ؛ أي : يعيدهم. فجعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على ما خفي من إعادته ، استدلالا بالشاهد على الغائب. ثمّ أكّد ذلك بقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ؛ أي : هيّن. أو إنّه إنّما قال : (أَهْوَنُ) لما تقرّر في العقول أنّ إعادة الشيء أهون من ابتدائه ؛ أي : أيسر وأسهل. وهم كانوا مقرّين بالابتداء ، فكأنّه قال لهم : كيف تقرّون بما هو أصعب وتنكرون ما هو أهون عندكم؟ وقيل : الهاء في (عَلَيْهِ) يعود إلى الخلق بمعنى المخلوق. والإعادة على المخلوق أهون من النشأة الأولى ، [لأنّه إنّما يقال له في الإعادة كن فيكون وفي النشأة الأولى] كان نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاما ثمّ كسيت العظام لحما ثمّ نفخ فيه الروح. فهذا على المخلوق أصعب والإنشاء يكون أهون عليه. وهذا قول النحويّين. وروي مثله عن ابن عبّاس. قال : وهو أهون على المخلوق لأنّه يقول له يوم القيامة كن فيكون. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ؛ أي : الصفات العليا (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وهي أنّه لا إله إلّا هو وحده لا شريك له. لأنّها دائمة يصفه بها الثاني كما يصفه بها الأوّل. وقيل : هي [أنّه] ليس كمثله شيء. وقيل : هي جميع ما يختصّ به عزّ اسمه من الصفات العلى التي لا يشاركه فيها سواه والأسماء الحسنى التي تفيد التعظيم كالقاهر والإله. (الْعَزِيزُ) في ملكه. (الْحَكِيمُ) في خلقه. (١)

[٢٨] (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨))

(مَثَلاً). كان سبب نزولها أنّ قريشا والعرب كانوا إذا حجّوا يلبّون وكانت تلبيتهم : لبّيك اللهمّ لبّيك لا شريك لك ، وهي تلبية إبراهيم. فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال : ليس هذا تلبية أسلافكم. كانوا يقولون : لبّيك اللهمّ لبّيك. لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٧٣.

١٤

لك. فنفرت قريش من هذا القول. فقال لهم إبليس : على رسلكم حتّى آتي [على] آخر كلامي. فقالوا : ما هو؟ فقال : إلّا شريك هو لك تملكه وما يملك. ألا ترون أنّه يملك الشريك وما ملك؟ فرضوا بذلك. وكانوا يلبّون بهذا قريش خاصّة. فلمّا بعث الله رسوله ، أنكر عليهم ذلك وقال : هذا شرك. فأنزل الله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً). (١)

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً). احتجّ سبحانه على عبدة الأوثان فقال : (ضَرَبَ لَكُمْ) أيّها المشركون (مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ أي : بيّن لكم شبها لحالكم ذلك المثل من أنفسكم. [ثمّ بيّنه] فقال : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : من عبيدكم وإمائكم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) من المال والأملاك والنعم؟ أي : هل يشاركونكم في المال؟ (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) ؛ أي : فأنتم وشركاؤكم من عبيدكم فيما رزقناكم شرع سواء. (تَخافُونَهُمْ) أن يشاركوكم فيما ترثونه من آبائكم (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ؛ أي : كما يخاف الرجل الحرّ [شريكه الحرّ] في المال يكون بينهما أن ينفرد دونه بأمر فهو يخاف شريكه. يعني أنّ هذه الصفة لا يكون بين المالكين والمملوكين كما تكون بين الأحرار. ومعنى أنفسكم ها هنا أمثالكم من الأحرار. والمعنى : انّكم إذا لم ترضوا في عبيدكم أن يكونوا شركاء في أموالكم ، فكيف ترضون لربّكم أن يكون له شركاء في العبادة؟ (٢)

ومن الأولى للابتداء. لأنّ معناه : مثلا منتزعا من أحوال نفوسكم التي هي أقرب الأمور إليكم. ومن الثانية للتبعيض. والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. (كَذلِكَ) : مثل هذا التفصيل. (نُفَصِّلُ الْآياتِ) : نبيّنها. فإنّ التمثيل ممّا يكشف المعاني ويوضحها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : يستعملون عقولهم في تدبّر الأمثال. (٣)

(مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) ؛ أي : ترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك؟ وإن لم ترضوا أنتم أن يكون لكم شريك فيما تملكوه ، فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكا فيما

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥٤.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٢٠.

١٥

أملك؟ (١)

[٢٩] (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ) ؛ أي : اتّبعوا أهواءهم في الشرك بغير علم جاءهم من الله. فهم جاهلون لا يكفّهم شيء. فإنّ العالم إذا اتّبع [هواه] ربما ردعه علمه. (٢)

(فَمَنْ يَهْدِي) إلى الثواب والجنّة. (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) : من ضلّ عن الله الذي هو خالقه والمنعم عليه مع ما نصبه له من الأدلّة. فمن يهديه بعد ذلك؟ وهو من قولهم : أضلّ [فلان] بعيره بمعنى ضلّ. (مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم العذاب إذا حلّ بهم. (٣)

[٣٠] (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ). عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) قال : هي الولاية. وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في قوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال : هو (لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين ولي الله». إلى ها هنا التوحيد. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) قال : يقوم في الصلاة لا يلتفت يمينا ولا شمالا. (٤)

(فَأَقِمْ). خطاب للنبيّ والمراد منه جميع المكلّفين. أي : أقم قصدك للدين وكن معتقدا له غير ملتفت عنه. وهو تمثيل للإقبال والاستقبال عليه والاهتمام به. وقيل : معناه : اثبت ودم على الاستقامة عليها. (حَنِيفاً) ؛ أي : مائلا إليه ثابتا عليه. (فِطْرَتَ اللهِ) ؛ أي : اتّبع فطرة الله ، وهي الدين والإسلام والتوحيد ، التي خلق الناس عليها ولها وبها ؛ أي : لأجلها والتمسّك

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥٤.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٧٤ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٢٢٠.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٧٤.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

١٦

بها. فيكون كقوله : (وَما خَلَقْتُ) ـ الآية. (١) وهو كما يقول القائل لرسوله : بعثت على هذا ولهذا وبهذا ، والمعنى واحد. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مولود يولد ـ الحديث. وقيل : معناه : اتّبع من الدين ما دلّك عليه فطرة الله وهو ابتداء خلقه للأشياء ، لأنّه خلقهم وركّبهم على وجه يدلّ على أنّ لهم صانعا لا يشبهه شيء. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ؛ أي : لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثبات عليه في التوحيد والعدل والإخلاص في العبادة. وهو بمعنى النهي. أي : لا تبدّلوا دين الله التي أمرتم بالثبات عليها. وقيل : المراد به النهي عن الخصاء. عن ابن عبّاس. وقيل : معناه : لا تبديل لخلق الله فيما دلّ عليه ، بمعنى أنّه فطره الله على وجه يدلّ على صانع حكيم ولا يمكن أن يجعله خلقا لغير الله حتّى يبطل وجه الاستدلال. (٢)

(فِطْرَتَ اللهِ) ؛ أي : خلقته. نصب على الإغراء أو المصدر لما دلّ عليه ما بعدها. (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) : خلقهم عليها. وهي قبولهم للحقّ وتمكّنهم من إدراكه. أو : ملّة الإسلام. فإنّهم لو خلّوا وما خلقوا عليه ، أدّى بهم إليها. وقيل : العهد المأخوذ من آدم وذرّيّته. (ذلِكَ) إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له ، أو الفطرة إن فسّرت بالملّة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استقامته لعدم تدبّرهم. (٣)

[٣١] (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١))

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ). زعم النحويّون أنّ معناه : فأقيموا وجوهكم منيبين إليه ، لأنّ مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تدخل معه [فيها] الأمّة. فقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) معناه : فأقيموا وجوهكم منيبين إليه ؛ أي : راجعين إلى كلّ ما أمر به من التقوى وأداء الفرائض. (٤)

[٣٢] (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ). بدل من المشركين. وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدون على

__________________

(١) الذاريات (٥١) / ٥٦.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٧٤ ـ ٤٧٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٢٠.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

١٧

اختلاف أهوائهم. وعلى قراءة «فارقوا» بمعنى : تركوا دينهم الذي أمروا به. (شِيَعاً) ؛ أي : فرقا تتابع كلّ فرقة إمامها الذي هو أضلّ دينها. (فَرِحُونَ) ؛ أي : مسرورون ظنّا بأنّه الحقّ. ويجوز أن يجعل فرحون صفة (كُلُّ) على أنّ الخبر (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا). (١)

[٣٣] (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣))

(دَعَوْا رَبَّهُمْ) ؛ أي : إذا أصابهم مرض أو فقر ، دعوا ربّهم مخلصين له في الدعاء. (أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) بأن يعافيهم من المرض أو ينجيهم من الشدّة. (يُشْرِكُونَ) ؛ أي : يعودون إلى عبادة غير الله على خلاف ما يقتضيه العقل من مقابلة النعم بالشكر. (٢)

[٣٤] (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤))

(لِيَكْفُرُوا). ثمّ بيّن سبحانه أنّهم يفعلون ذلك ليكفروا بما آتيناهم من النعم ؛ إذ لا غرض في الشرك إلّا كفران نعم الله. وقيل : إنّ هذه اللّام للأمر على وجه التهديد ؛ مثل قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). (٣) ثمّ قال سبحانه مخاطبا لهم على وجه التهديد : (فَتَمَتَّعُوا) بهذه الدنيا وانتفعوا بنعيمها الفاني كيف شئتم. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة كفركم. (٤)

(لِيَكْفُرُوا). اللّام مجاز ، مثلها في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا)(٥). (٦)

[٣٥] (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥))

(أَمْ أَنْزَلْنا). هذا استفهام مستأنف معناه : بل أنزلنا عليهم برهانا وحجّة يتسلّطون بذلك على ما ذهبوا إليه؟ (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) ؛ أي : فذلك البرهان كأنّه يتكلّم بصحّة شركهم ويحتجّ لهم به. والمعنى أنّهم لا يقدرون على تصحيح ذلك ولا يمكنهم ادّعاء برهان و

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٢٠.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٧٦.

(٣) الكهف (١٨) / ٢٩.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٧٦.

(٥) القصص (٢٨) / ٨.

(٦) الكشّاف ٣ / ٤٨٠.

١٨

حجّة عليه. (١)

[٣٦] (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦))

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) ؛ أي : الكفّار. (رَحْمَةً) ؛ أي : نعمة وعافية من صحّة بدن أو سعة رزق أو نحو ذلك. (فَرِحُوا) بتلك الرحمة. (سَيِّئَةٌ). وهو ما يسؤوهم بذنوبهم التي قدّموها كالقحط وانقطاع المطر. (يَقْنَطُونَ) من رحمة الله. (٢)

[٣٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))

ثمّ نبّههم على توحيده فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) ـ الآية. (وَيَقْدِرُ) ؛ أي : يضيّق على من يشاء. (إِنَّ فِي ذلِكَ) ؛ أي : بسط الرزق لقوم وتضييقه لقوم آخرين ، لدلالات لقوم يؤمنون. (٣)

[٣٨] (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨))

(فَآتِ) ؛ أي : وأعط ذوي قرباك ـ يا محمّد ـ حقوقهم التي جعلها الله لهم من الأخماس. وروى أبو سعيد الخدريّ أنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى فاطمة عليها‌السلام فدكا وسلّمه إليها. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقيل : إنّه خطاب له ولغيره. والمراد بالقربى قرابة الرجل. وهو أمر بصلة الأرحام بالمال والنفس. (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ). معناه : وآت المسكين والمسافر المحتاج ما فرض الله لهم في مالك. (ذلِكَ) ؛ أي : إعطاء الحقوق مستحقّيها. (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) بالإعطاء دون الرياء والسمعة.

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٧٦.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٧٨.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٧٨.

١٩

(الْمُفْلِحُونَ) ؛ أي : الفائزون بثواب الله. (١)

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى). فإن قلت : كيف تعلّق قوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى) بما قبله حتّى جيء بالفاء؟ قلت : لمّا ذكر أنّ السيّئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك. وحقّ ذي القربى صلة الأرحام. (٢)

(وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ما فرض لهما من الزكاة. والخطاب للنبيّ أو لمن بسط له. (٣)

[٣٩] (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

قيل في هذا الربا قولان. أحدهما : انّه ربا حلال ؛ وهو أن يعطي الرجل العطيّة أو يهدي الهديّة ليثاب أكثر منها. فليس فيه أجر ، لأنّه لم يقصد بها وجه الله ، ولا وزر ، لعدم الربا فيه. عن ابن عبّاس. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. والقول الآخر : انّه الربا المحرّم ، فيكون كقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ). (٤) يريد : وما أعطيتم أكلة الربا من ربا (لِيَرْبُوَا فِي) أموالهم ليزيد ويزكو في أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه. وأمّا قراءة ابن كثير : (آتَيْتُمْ) بالقصر ، فمعناه : ما جئتم به من إعطاء الربا. وهو يؤول إلى معنى ا لمدّ. (٥)

(آتَيْتُمْ). ابن كثير مقصورة الألف غير ممدودة ، والباقون بالمدّ. وأهل المدينة : «لتربوا» بالتاء وضمّها وسكون الواو. والباقون : «ليربو» بالياء وفتحها ونصب الواو. (٦)

ومعنى قراءة : «لتربوا» أي : لتزيدوا في أموالهم. كقوله : (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ؛ أي : يزيدها. (مِنْ زَكاةٍ) ؛ أي : صدقة تبتغون به وجهه خالصا لا تطلبون به مكافاة ولا رئاء ولا سمعة. (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) : ذوو الإضعاف من الحسنات. قيل : نزلت في ثقيف وكانوا يربون. و

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٧٨.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٢١.

(٤) البقرة (٢) / ٢٧٦.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٤٧٩ و ٤٧٧ ، والكشّاف ٣ / ٤٨١.

(٦) مجمع البيان ٨ / ٤٧٧.

٢٠