عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-29-6
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٠

يوم الحديبيّة. (١)

[٢٣] (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣))

(سُنَّةَ اللهِ) ؛ أي : هذه سنّتي في أهل طاعتي وأهل معصيتي ؛ أنصر أوليائي وأعذّب أعدائي. وقيل : معناه : هذه طريقة الله وعادته السالفة أنّ كلّ قوم إذا قاتلوا أنبياءهم انهزموا وقتلوا. (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ) في نصرة رسله تغييرا. (٢)

[٢٤] (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

(كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) بالرعب (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) بالنهي. (بِبَطْنِ مَكَّةَ). يعني الحديبيّة. ذكر الله منّته على المؤمنين بحجزه بين الفريقين حتّى لم يقتتلا وحتّى اتّفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح. (٣)

(مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حتّى طلبوا منكم الصلح من بعد أن كانوا يغزونكم بالمدينة صاروا يطلبون الصلح بعد أن كنتم تطلبون الصلح منهم. (٤)

[٢٥] (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥))

(وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تطوفوا وتحلّوا من عمرتكم. يعني قريشا. (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) ؛ أي : وصدّوا الهدي. وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكانت سبعين

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٨٦.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٨٧.

(٣) مجمع البيان ٩ / ١٨٧.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٣١٦.

٥٤١

بدنة ـ حتّى بلغ ذا الحليفة فقلّد البدن وأشعرها وأحرم بالعمرة ونزل الحديبيّة ومنعه المشركون وكان الصلح. فلمّا تمّ الصلح ، نحروا البدن. فذلك قوله : (مَعْكُوفاً) ؛ أي : محبوسا عن (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) ؛ أي : منحره. لأنّ هدي العمرة لا يذبح إلّا بمكّة كما أنّ هدي الحجّ لا يذبح إلّا بمنى. (رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ). يعني المستضعفين الذين كانوا بمكّة بين الكفّار من أهل الإيمان. (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) بأعيانهم لاختلاطهم بغيرهم. (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بالقتل وتوقعوا بهم. (مَعَرَّةٌ) ؛ أي : إثم وجناية. أو : عيب يعيبكم المشركون بأنّهم قتلوا أهل دينهم. وقيل : هو غرم الدية والكفّارة في قتل الخطأ. وذلك أنّهم لو كبسوا مكّة وفيها قوم مؤمنون لم يتميّزوا من الكفّار ، لم يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفّارة وتلحقهم السيّئة بقتل من على دينهم. فهذه المعرّة التي صان الله المؤمنين عنها. وجواب لو لا محذوف. تقديره : لو لا المؤمنون الذين لم تعلموهم ، لوطأتم رقاب المشركين بنصرنا إيّاكم. (فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). يعني من أسلم من الكفّار بعد الصلح. (لَوْ تَزَيَّلُوا) ؛ أي : لو تميّز الكافرون من المؤمنين ، (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكّة (عَذاباً أَلِيماً) بالسيف والقتل بأيديكم ، ولكنّ الله يدفع بالمؤمنين عن الكفّار فلحرمة اختلاطهم بهم لم يعذّبهم. (١)

ثمّ أخبر عزوجل بعلّة الصلح بقوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) ـ الآية. يعني بمكّة. ولو لا الصلح وكان الحرب ، لقتلوا. ويقال : إنّ ذلك الصلح [كان] أعظم فتحا على المسلمين من غلبهم. قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألم يكن عليّ عليه‌السلام قويّا في بدنه قويّا في أمر الله؟ فقال : بلى. قال : فما منعه أن يدفع أو يمنع؟ قال : منعه آية من كتاب الله ؛ وهي : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) ـ الآية. إنّه كان لله عزوجل ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين. ولم يكن عليّ عليه‌السلام ليقتل الآباء حتّى يخرج الودائع. فلمّا خرجت ، ظهر على من ظهر وقتله. وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتّى تخرج ودائع الله. فإذا خرجت ، يظهر على من يظهر فيقتله. (٢)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٨٧.

(٢) تفسير القمّي ٢ / ٣١٦ ـ ٣١٧.

٥٤٢

[٢٦] (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

(إِذْ جَعَلَ). إذ متعلّق بقوله : (لَعَذَّبْنَا) ؛ أي : أذنّا لك في قتالهم حين جعلوا في قلوبهم الأنفة التي تحمي الإنسان ، أي حميت قلوبهم بالغضب. ثمّ فسّر تلك الحميّة فقال : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ؛ أي : عاداتهم في الجاهليّة أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له. وذلك أنّ كفّار مكّة كانوا يقولون : قتل محمّد آباءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا فتحدّث العرب أنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا. واللّات والعزّى لا يدخلونها علينا. فهذه حميّة الجاهليّة التي دخلت قلوبهم. وقيل : هي أنفتهم من الإقرار بمحمّد والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم حيث أراد أن يكتب كتاب العهد فيما بينهم. (كَلِمَةَ التَّقْوى). وهي قوله : لا إله إلّا الله. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) ؛ أي : كان المؤمنون أهل تلك الكلمة وأحقّ بها من المشركين. أو : كانوا أحقّ بنزول السكينة عليهم وأهلا لها. وقيل : كانوا أحقّ بمكّة أن يدخلوها. (١)

وقوله : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) يعني قريشا حين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نعرف الرحمن الرحيم ، وقولهم : لو علمنا أنّك رسول الله ما حاربناك. فاكتب : محمّد بن عبد الله. (كَلِمَةَ التَّقْوى). قال : الإيمان. (٢)

(كَلِمَةَ التَّقْوى) : ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٣)

الشحّام قال : قلت للكاظم عليه‌السلام : الرجل من مواليكم عارف يشرب الخمر ويرتكب الموبق من الذنب نتبرّأ منه؟ فقال : تبرّؤوا من فعله ولا تتبرّؤوا من خيره وأبغضوا عمله. فقلت : يتّسع لنا أن نقول : فاسق فاجر؟ فقال : لا. الفاسق الفاجر الكافر الجاحد لنا ولأوليائنا. أبى الله أن يكون وليّنا فاسقا فاجرا وإن عمل ما عمل. ولكنّكم قولوا : فاسق

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٣١٧.

(٣) تأويل الآيات ٢ / ٥٩٥ ، عن الرضا عليه‌السلام.

٥٤٣

العمل فاجر العمل مؤمن النفس ، خبيث الفعل طيّب الروح والبدن. ولا يخرج وليّنا من الدنيا إلّا ونحن عنه راضون ، ويحشره الله على ما فيه من الذنوب مبيضّا وجهه لا خوف عليه ولا حزن. وذلك أنّه لا يخرج من الدنيا حتّى يصفّى من الذنوب إمّا بمصيبة في مال أو في نفس أو ولد أو مرض. وأدنى ما يصنع بوليّنا أن يريه الله رؤيا مهوّلة فيصبح حزينا لما رآه ، فيكون ذلك كفّارة [له] ، أو خوفا يرد عليه من أهل دولة الباطل ، أو يشدّ عليه عند الموت فيلقى الله طاهرا من الذنوب آمنة روعته بمحمّد وأمير المؤمنين. ثمّ يكون أمامه أحد الأمرين : الرحمة الواسعة ، أو شفاعة محمّد وأمير المؤمنين عليهما‌السلام. فعندها تصيبه رحمة الله الواسعة وكان أحقّ بها وأهلها وله إحسانها وفضلها. (١)

(كَلِمَةَ التَّقْوى). عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله [عن الله تعالى] : انّ عليّا الكلمة التي ألزمتها المتّقين. (٢)

[٢٧] (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

(لَقَدْ صَدَقَ) ـ الآية. قالوا : إنّ الله أرى نبيّه في المنام قبل أن يخرج إلى الحديبيّة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم يدخلون مكّة عامهم ذلك. فلمّا انصرفوا ولم يدخلوا مكّة ، قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام! فأنزل الله هذه الآية وأخبر أنّه أرى رسوله الصدق في منامه وأنّهم يدخلونه. وأقسم على ذلك فقال : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ). يعني العام المقبل. (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ). استثناء فيما يعلم ليستثني الناس فيما لا يعلمون. وقيل : إنّ الاستثناء من الدخول. لأنّ منهم من علم الله أنّه يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها. فأدخل الاستثناء لئلّا يقع في الخبر خلف. وقيل : إنّ الاستثناء داخل في الخوف والأمن. فأمّا الدخول فلا شكّ فيه. أي :

__________________

(١) تأويل الآيات ٢ / ٥٩٤.

(٢) أمالي الصدوق / ٣٨٦ ، ح ٢٣.

٥٤٤

لتدخلنّ المسجد الحرام آمنين من العدوّ إن شاء الله. قيل : إن هنا بمعنى إذ. أي : إذ شاء الله حين أرى رسوله ذلك. (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ؛ أي : محرمين يحلق بعضكم ويقصّر بعضكم. (فَعَلِمَ) من الصلاح في صلح الحديبيّة (ما لَمْ تَعْلَمُوا). وقيل : علم في تأخير دخول المسجد الحرام من الصلاح ما لم تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بينهم. (مِنْ دُونِ ذلِكَ) ؛ أي : قبل الدخول. (فَتْحاً قَرِيباً). يعني فتح خيبر. وقيل : يعني صلح الحديبيّة. وكذلك جرى الأمر في عمرة القضاء في السنة التالية للحديبيّة. وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعده ؛ وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون. فخرج النبيّ ودخل مكّة مع أصحابه معتمرين وأقاموا بمكّة ثلاثة أيّام ثمّ رجعوا إلى المدينة. (١)

[٢٨] (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

(بِالْهُدى) ؛ أي : القرآن. أو : الدليل الواضح. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) ؛ أي : على جميع الأديان بالبراهين ، أو بالغلبة والقهر والانتشار في البلدان. وقيل : إنّ تمام ذلك عند خروج المهديّ عليه‌السلام حتّى لا يبقى في الأرض دين سوى دين الإسلام. (شَهِيداً). أي بذلك. (٢)

[٢٩] (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ). تمّ الكلام هاهنا ثمّ أثنى على المؤمنين فقال : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٩١ ـ ١٩٢.

٥٤٥

ـ الآية. محمّد مبتدأ ، ورسول الله عطف بيان ، والذين معه عطف على محمّد ، وأشدّاء خبر محمّد. وقيل : محمّد مبتدأ ، ورسول الله خبره ، والذين معه مبتدأ وما بعده خبر. (رُكَّعاً سُجَّداً). إخبار عن كثرة صلاتهم. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) ؛ أي : علاماتهم يوم القيامة أن يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر. وقيل : هو التراب على الجباه لأنّهم يسجدون على التراب لا على الأثواب. وقيل : هو الصفرة والنحول. قال الحسن : إذا رأيتهم [حسبتهم] مرضى وما هم بمرضى. (فِي التَّوْراةِ). يعني أنّ ما ذكر من وصفهم هو ما وصفوا به في التوراة. ثمّ ذكر نعتهم في الإنجيل : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) ؛ أي : فراخه. وقيل : ليس بينهما وقف. أي : مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع. (فَآزَرَهُ) ؛ أي : أعانة وقوّاه. يعني أنّ هذه الأفراخ لحقت الأمّهات حتّى صارت مثلها. (فَاسْتَغْلَظَ) ؛ أي : غلظ. (عَلى سُوقِهِ) ؛ أي : قصبه وأصوله ، فاستوى الصغار مع الكبار. والسوق : جمع الساق. والمعنى أنّه تناهى وبلغ الغاية. ابن كثير : (شَطْأَهُ) بفتح الطاء ، والباقون بسكونها. وابن عامر : «فأزره» بقصر الهمزة ، والباقون بالمدّ. (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ). قال الواحديّ : هذا مثل ضربه الله تعالى لمحمّد [وأصحابه. فالزرع محمّد] والشطء أصحابه والمؤمنون حوله. وكانوا في ضعف وقلّة كما يكون أوّل الزرع دقيقا [ثمّ غلظ] وقوي وتلاحق. وكذلك المؤمنون قوّى بعضهم بعضا حتّى استغلظوا واستووا على أمرهم. (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). وإنّما كثّرهم الله وقوّاهم ليكونوا غيظا للكافرين باتّفاقهم على الطاعة. (١)

(سِيماهُمْ). وهي السمة التي تحدث في جبهة السجّاد من كثرة السجود. (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ؛ أي : من التأثير الذي يؤثّره السجود كما كان لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام. (ذلِكَ) الوصف (مَثَلُهُمْ) ؛ أي : وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعا. ثمّ ابتدأ فقال : (كَزَرْعٍ). يريد : هم كزرع. وقيل : تمّ الكلام عند قوله : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ثمّ ابتدأ : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ). ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ).

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٩٢ و ١٨٩.

٥٤٦

كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). (١) وقيل : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. (٢)

(سِيماهُمْ). عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ). قال : هو السهر في الصلاة. (٣)

عن ابن عبّاس في قوله : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قال : أصل الزرع عبد المطّلب ، وشطؤه محمّد. و (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ). قال : عليّ بن أبي طالب. (٤)

(شَطْأَهُ). يعني فلانا. (فَآزَرَهُ). يعني فلانا. (٥)

(وَعَدَ اللهُ) ـ الآية. عن ابن عبّاس قال : سئل النبيّ عن هذه الآية فيمن نزلت ، فقال : إذا كان يوم القيامة ، عقد لواء من نور أنور ونادى مناد : ليقم سيّد المؤمنين ومعه الذين آمنوا وقد بعث الله محمّدا. (٦) فيقوم عليّ عليه‌السلام فيعطى اللّواء من النور الأبيض بيده تحته جميع السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار لا يخالطهم غيرهم حتّى يجلس على منبر من نور ربّ العزّة ويعرض الجميع عليه رجلا رجلا فيعطى أجره ونوره. فإذا أتي على آخرهم قيل لهم : قد عرفتم منازلكم من الجنّة. إنّ ربّكم يقول لكم : عندي لكم مغفرة وأجر عظيم. يعني الجنّة. فيقوم عليّ والقوم تحت لوائه حتّى يدخل الجنّة. ثمّ يرجع إلى منبره ولا يزال يعرض عليه جميع المؤمنين فيأخذ نصيبه منهم إلى الجنّة ويترك أقواما إلى النار ـ الحديث. (٧)

__________________

(١) الحجر (١٥) / ٦٦.

(٢) الكشّاف ٤ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٣) الفقيه ١ / ٢٩٩ ، ح ١٣٦٩.

(٤) تأويل الآيات ٢ / ٦٠٠.

(٥) لم نجده في المصادر.

(٦) المصدر : ... الذين آمنوا بعد بعث محمّد.

(٧) أمالي الطوسيّ ١ / ٣٨٧.

٥٤٧
٥٤٨

٤٩.

سورة الحجرات

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة وفي كلّ يوم ، كان من زوّار محمّد. (١)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة الحجرات ، أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ من أطاع الله ورسوله. (٢)

الحجرات : إذا علّقت في مكان ، لم يقربه شيطان. (٣) وإن شربت المرأة ماءها ، درّ لبنها.

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١))

عن أبي جعفر عليه‌السلام : ما سلّت السيوف ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا جهر بأذان ولا أنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) حتّى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج. (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ). أي لا تعجلوا بالأمر دونه. وقيل : معناه : لا تقدّموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله ورسوله ؛ حتّى قيل : إنّه لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها. وقيل : معناه : لا تمكّنوا أحدا يمشي أمام رسول الله ، بل كونوا له تبعا وأخّروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله. وقيل : نزل في قوم ذبحوا الأضحيّة قبل العيد فأمرهم رسول الله بالإعادة. وقال ابن عبّاس : نهوا أن يتكلّموا قبل كلامه. أي : إذا كنتم جالسين فى مجلس فسئل عن مسألة

__________________

(١) المصباح / ٥٩٢.

(٢) المصباح / ٥٩٢.

(٣) المصباح / ٦١١. وما يأتي بعده لا يوجد في المصدر.

٥٤٩

فلا تسبقوه بالجواب. والأولى حمل الآية على الجميع. (١)

(تُقَدِّمُوا). معنى القراءة المشهورة : لا تقدّموا أمرا على ما أمركم الله به. فالمفعول محذوف. يعقوب بفتح التاء والدال. (٢)

[وفي قوله تعالى :](لا تُقَدِّمُوا) من غير ذكر مفعول وجهان ؛ أن يحذف ليتناول كلّ ما يقع في النفس ممّا تقدّم ، وأن لا يقصد قصد مفعول ولا حذفه ويتوجّه بالنهي إلى نفس التقدمة ؛ كأنّه قيل : لا تقدّموا على التلبّس بهذا الفعل. ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم. (٣)

(لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ). نزلت في وفد بني تميم كانوا إذا قدموا على رسول الله وقفوا على باب حجرته فنادوا : يا محمّد ، اخرج إلينا. وإذا خرج إليهم ، تقدّموه في المشي وإذا كلّموه رفعوا أصواتهم فوق صوته ويقولون : يا محمّد ، يا محمّد ، ما تقول في كذا؟ كما يكلّم بعضهم بعضا. (٤)

[٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢))

(أَصْواتَكُمْ). لأنّه إمّا نوع استخفاف به ، وهو الكفر ، وإمّا سوء الأدب وهو خلاف التعظيم المأمور به. (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) ؛ أي : غضّوا أصواتكم عند مخاطبتكم إيّاه. وقيل : معناه : لا تقولوا له : يا محمّد ، كما يخاطب بعضكم بعضا ، بل خاطبوه بالتعظيم بأن تقولوا : يا رسول الله. (أَنْ تَحْبَطَ) ؛ أي : لأن تحبط. وقال أصحابنا : إنّ المعنى في قوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) أنّه يحبط ثواب ذلك العمل. لأنّهم لو أوقعوه على وجه التعظيم ، لاستحقّوا الثواب ، فلمّا فعلوه خلاف ذلك الوجه ، استحقّوا العقاب وفاتهم الثواب فانحبط عملهم. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٩٥.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٩٤.

(٣) الكشّاف ٤ / ٣٤٩.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٣١٨.

(٥) مجمع البيان ٩ / ١٩٦.

٥٥٠

(أَعْمالُكُمْ). منصوب الموضع على أنّه مفعول له. وفي متعلّقه وجهان : أحدهما أن يتعلّق بمعنى النهي فيكون المعنى : انتهوا عمّا نهيتم عنه لحبوط أعمالكم ؛ أي : لخشية حبوطها ، على تقدير [حذف] المضاف. والثاني أن يتعلّق بنفس الفعل ويكون المعنى أنّهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط. لأنّه لمّا كان بصدد الأداء إلى الحبوط ، جعل كأنّه فعل لأجله. وقد دلّت الآية على أمرين هائلين : أحدهما أنّ فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله. والثاني أنّ في آثامه ما لا يدري أنّه محبط ولعلّه عند الله كذلك. فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يتحرّز ويتوقّى. (١)

[٣] (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

(عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) ؛ أي : في مجلسه ، إجلالا له. (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ؛ أي : اختبرها فأخلصها للتقوى. مأخوذ من امتحان الذهب بالنار حتّى يذهب غشّه ويبقى خالصه. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث ذكر فيه وفاة الحسن عليه‌السلام وما كان من الحميراء عند ذلك ، وفيه قال الحسين عليه‌السلام : وقد قال الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ). ولعمري ، لقد ضربتي لأبيك وفاروقه عند أذن رسول الله المعاول. وقال الله : (الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ). ـ الآية. ولعمري ، لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله بقربهما منه الأذى وما رعيا من حقّه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله : إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء. (٣)

[٤] (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤))

(يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ). وهم الجفاة من بني تميم لم يعلموا في أيّ هجرة هو فكانوا

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٩٦.

(٣) الكافي ١ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، ح ٣.

٥٥١

يطوفون على الحجرات وينادونه. أبو جعفر : (الْحُجُراتِ) بفتح الجيم. (لا يَعْقِلُونَ). إذ لم يعرفوا مقدار ما يستحقّه من التعظيم ، فهم بمنزلة البهائم. (١)

[٥] (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

(لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من أن ينادوك من وراء الحجرات في دينهم بما يحرزونه من الثواب وفي دنياهم باستعمالهم حسن الأدب في مخالطة الأنبياء. وقيل : معناه : لأطلقت أسراهم من غير فداء. فإنّ رسول الله كان سبى قوما من بني العنبر فجاؤوا في فدائهم فأعتق نصفهم وفادى النصف. فيقول : ولو أنّهم صبروا ، لكنت تعتق كلّهم. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب منهم. (٢)

[٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

(إِنْ جاءَكُمْ) ـ الآية. نزل في الوليد بن عقبة ؛ بعثه رسول الله في صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقّونه فرحا به. وكانت بينهم عداوة في الجاهليّة ، فظنّ أنّهم همّوا بقتله. فرجع إلى رسول الله وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم. وكان الأمر بخلافه. فغضب رسول الله وهمّ أن يغزوهم. فنزلت الآية. (بِنَبَإٍ) ؛ أي : خبر عظيم الشأن. (فَتَبَيَّنُوا) صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بخبره. (أَنْ تُصِيبُوا) : حذرا من أن تصيبوا قوما في أنفسهم وأموالهم بغير علم بحالهم وما هم عليه من الطاعة. (نادِمِينَ) لا يمكنكم تداركه. وفيه دلالة على أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل. لأنّ المعنى : إن جاءكم من لا تأمنون أن يكون خبره كذبا ، فتوقّفوا فيه. وهذا التعليل موجود في خبر يجوز فيه الكذب. وقد استدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا ، من حيث إنّ الله أوجب التوقّف في خبر الفاسق فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه. وهذا لا يصحّ. لأنّ دليل الخطاب

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٩٧ و ١٩٤.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٩٧.

٥٥٢

لا يعوّل [عليه] عندنا وعند أكثر المحقّقين. (١)

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ). نزلت في الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمّه. وهو الذي ولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص فصلّى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا ثمّ قال : هل أزيدكم؟ فعزله عثمان. و (٢) لمّا كان رسول الله والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلّا في الندرة ، قيل : (إِنْ جاءَكُمْ) بحرف الشكّ. وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة لئلّا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور. (٣)

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ـ الآية. نزلت في مارية القبطيّة أمّ إبراهيم. وذلك أنّ عائشة قالت لرسول الله : إنّ إبراهيم ليس هو منك. وإنّما هو من جريح القبطيّ يدخل إليها في كلّ يوم. فغضب رسول الله وقال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : خذ السيف وائتني برأس جريح. فقال : يا رسول الله ، إذا بعثتني في أمرك أكون فيه كالسفّود المحماة في النار (٤). فكيف تأمرني هنا؟ أتثبّت فيه أم أمضي على ذلك؟ فقال : بل تثبّت. فجاء أمير المؤمنين إلى مشربة أمّ إبراهيم. فلمّا نظر إليه جريح ، هرب منه [وصعد النخلة]. فقال له أمير المؤمنين : انزل. فقال له : يا عليّ اتّق الله ما هاهنا بأس (٥). إنّي مجبوب. ثمّ كشف عورته فإذا هو مجبوب. فأتى به رسول الله فقال : يا رسول الله ، القبط مجبوب. فقال له : ما شأنك يا جريح؟ فقال : يا رسول الله ، إنّ القبط يجبّون حشمهم ومن يدخل إلى أهليهم. والقبطيّون لا يأنسون إلّا بالقبطيّين. فبعثني أبوها لأدخل عليها وأخدمها وأونسها. فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ) ـ الآية. (٦)

أقول : إن صحّ هذا الخبر ، فلعلّه إنّما بعث عليّا عليه‌السلام ليظهر الحقّ ويصرف السوء وكان قد علم أنّه لا يقتله بمحض دخولها. (حسن)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) في النسخة زيادة : إنّما قال إن جاءكم.

(٣) الكشّاف ٤ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٤) المصدر : الوبر.

(٥) المصدر : أناس.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٣١٨ ـ ٣١٩.

٥٥٣

حمزة والكسائيّ : فتثبتوا أي : فتوقّفوا إلى أن يظهر لكم الحال. (١)

[٧] (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧))

(فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ). فاتّقوا أن تكذبوه. فإنّ الله يخبره بذلك فتفتضحوا. وقيل : معناه : واعلموا بما أخبر الله من كذب الوليد. (لَعَنِتُّمْ) ؛ أي : لوقعتم في العنت ، وهو الإثم والهلاك. (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) بالألطاف الداعية إليه. (وَالْفُسُوقَ) ؛ أي : الخروج عن الطاعة. وقيل : هو الكذب. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. (أُولئِكَ). يعني الذين وصفهم بالإيمان وزيّنه في قلوبهم. (هُمُ الرَّاشِدُونَ) ؛ أي : المهتدون إلى محاسن الأمور. (٢)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) : يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام. (كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) : الأوّل والثاني والثالث. (٣)

[٨] (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

(فَضْلاً). تعليل لكرّه أو حبّب وما بينهما اعتراض. (٤)

[٩] (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩))

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). لا دلالة فيه على أنّهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان ويطلق عليهما هذا الاسم. ولا يمتنع أن يفسق إحدى الطائفتين أو يفسقا جميعا. (فَإِنْ بَغَتْ) كأن طلبت ما

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤١٦.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٣١٩.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤١٦.

٥٥٤

لا يجوز لها. (تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) : ترجع إلى طاعة الله وتترك قتال الطائفة المؤمنة. (الْمُقْسِطِينَ) ؛ أي : العادلين. وهذه الآية نزلت في الأوس والخزرج وقع بينهما قتال بالسعف والنعال. (١)

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالنصح والدعاء إلى حكم الله. (يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يحمد فعلهم بحسن الجزاء. (٢)

فإن قلت : ما وجه قوله : (اقْتَتَلُوا) والقياس اقتتلتا؟ قلت : هو حمل على المعنى دون اللّفظ لأنّ الطائفتين بمعنى القوم والناس. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : (وَإِنْ طائِفَتانِ) ـ الآية ـ : إنّما جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة وهم أهل هذه الآية. وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين وكان الواجب عليه قتالهم وقتلهم حتّى يفيئوا إلى أمر الله. ولو لم يفيئوا ، لكان الواجب عليه فيما أنزل الله أن لا يرفع عنهم السيف حتّى يرجعوا عن رأيهم. لأنّهم بايعوه طائعين غير مكرهين ، وهي الفئة الباغية. فكان الواجب على أمير المؤمنين أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم ، كما عدل رسول الله في أهل مكّة. إنّما هو منّ عليهم وعفا. وكذلك صنع أمير المؤمنين بأهل البصرة حيث ظفر بهم حذو النعل بالنعل. (٤)

[١٠] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

(بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ؛ أي : بين كلّ رجلين تقاتلا وتخاصما. ومعنى الاثنين يأتي على الجمع لأنّ تأويله : بين كلّ أخوين. وسمّى المؤمنين إذا كانوا متّفقين في دينهم إخوة لاتّفاقهم في الدين ورجوعهم إلى أصل النسب لأنّهم لأمّ واحدة وهي حوّاء. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ٢٠٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤٤٦.

(٣) الكشّاف ٤ / ٣٦٤.

(٤) الكافي ٨ / ١٨٠ ، ح ٢٠٢.

(٥) مجمع البيان ٩ / ٢٠٠.

٥٥٥

[١١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

ثمّ نهى سبحانه عن أسباب الفرقة فقال : (لا يَسْخَرْ). السخريّة : الاستهزاء. والقوم يقع على الرجال دون النساء لقيام بعضهم مع بعض في الأمور ولأنّهم قوّامون على النساء. أي : لا يسخر غنيّ من فقير لفقره. ولو سخر مؤمن من كافر احتقارا له ، لم يكن مأثوما. (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ؛ أي : لا يطعن بعضكم على بعض. لأنّ المؤمنين كنفس واحدة. والهمز لا يكون إلّا باللّسان. واللّمز يكون بالعين واللّسان والإشارة. و [قيل :] اللّمز : العيب في المشهد. والهمز : العيب في المغيب. (بِالْأَلْقابِ). وهو كلّ اسم إذا دعي به كرهه. وقيل : هو قوله : يا كافر ، يا فاسق ، يا منافق. وقيل : كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد ذلك : يا يهوديّ ويا نصرانيّ. [فنهوا عن ذلك.] أو أن يعيّر الإنسان بما فعل من القبيح بعد التوبة. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) ؛ أي : بئس الاسم أن يقول له : يا يهوديّ ويا نصرانيّ ، وقد آمن. أي : بئس الشيء أن تسمّوه باسم الفسوق ـ يعني الكفر ـ بعد الإيمان. وقيل : معناه : بئس الشيء اكتساب اسم الفسوق باغتياب المسلمين. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) من التنابز والمعاصي. (الظَّالِمُونَ) أي نفوسهم باستحقاق العقاب. (١)

(لا يَسْخَرْ قَوْمٌ) ـ الآية. نزلت في صفيّة بنت حييّ بن أخطب وكانت زوجة رسول الله. وذلك أنّ عائشة وحفصة كانتا يؤذيانها ويشتمانها ويقولان لها : يا بنت اليهوديّة! فشكتهما إلى رسول الله. فقال لها : ألا تجيبينهما؟ فقالت : بماذا يا رسول الله؟ قال لها : قولي : إنّ أبي هارون نبيّ الله ، وعمّي موسى كليم الله ، وزوجي محمّد رسول الله. فما تنكران منّي؟ فقالت لهما. فقالتا : هذا ممّا علّمك رسول الله. فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ إلى آخرها. (٢)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٢.

٥٥٦

[١٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

(كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ). وهو أن يظنّ بأهل الخير سوءا. فأمّا أهل السوء والفسق ، فلنا أن نظنّ بهم ما ظهر منهم. وقيل : أن يظنّ بأخيه المسلم سوءا. فلا بأس به ما لم يتكلّم به. فإذا تكلّم بذلك الظنّ ، فهو آثم. وقوله : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) يعني ما أعلنه ممّا ظنّه بأخيه. وقيل : إنّما قال : (كَثِيراً) لأنّ بعض الظنّ ما يجب العمل عليه وإنّما يكون إثما إن كان طريق إلى العلم بدله. والظنّ المحمود مثل قوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً). (١)(تَجَسَّسُوا) ؛ أي : تتّبعوا عثرات المؤمنين وعيوبهم لتهتكوا العيوب التي سترها أهلها. (أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ). يعني أنّ ذكرك بالسوء من لم يحضرك ، بمنزلة أن تأكل لحمه وهو ميّت. (فَكَرِهْتُمُوهُ). أي كأنّهم قالوا : لا ، فقيل : فكرهتموه. أي : فكما كرهتم لحمه ميتا ، فاكرهوا غيبته حيّا. (وَاتَّقُوا اللهَ). معطوف على هذا الفعل المقدّر. (٢)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه. فأمّا الأمر الظاهر فيه ـ مثل الحدّة والعجلة ـ فلا. والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه. (٣)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من اغتاب مسلما ، بطل صومه ونقض وضوؤه ، وجاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّى به أهل الموقف. ومن مات قبل أن يتوب ، مات مستحلّا لما حرّم الله عزوجل. ومن ردّ غيبة عن أخيه ، ردّ الله عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة. فإن هو لم يردّها وهو قادر على ردّها ، كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة. (٤)

وروي أنّ أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله ليأتي لهما بطعام. فبعثه إلى أسامة بن

__________________

(١) النور (٢٤) / ١٢.

(٢) مجمع البيان ٩ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٣) الكافي ٢ / ٣٥٨ ، ح ٧.

(٤) الفقيه ٤ / ٨ ـ ٩ ، ح ١.

٥٥٧

زيد ـ وكان خازن رحل رسول الله ـ فقال : ما عندي شيء. فعاد إليهما. فقالا : بخل أسامة. ولو بعثنا سلمان إلى بئر سمحة (١) لغار ماؤها. ثمّ انطلقا إلى رسول الله ، فقال : ما لي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما؟ قالا : يا رسول الله ، ما تناولنا اليوم لحما. قال : ظللتم [تأكلون] لحم سلمان وأسامة. فنزلت الآية. (٢)

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك منه. ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا. (٣)

وقال عليه‌السلام : والذي لا إله إلّا هو ، ما أعطي مؤمن قطّ خير الدنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه بالله ورجائه وحسن خلقه والكفّ عن اغتياب المؤمنين. (٤)

وقال عليه‌السلام : إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزيه ، فقد ظلمه. وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل ، فقد غرر. (٥)

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إيّاكم والغيبة. فإنّ الغيبة أشدّ من الزنى. لأنّ صاحب الزنى يتوب فيتوب الله عليه وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتّى يكون صاحبه الذيّ يحلّه. (٦)

ويستثنى من الغيبة المحرّمة أمور تسعة. الأوّل : المتظلّم عند من يرجو إزالة ظلم إذا نسب من ظلمه إلى الآثام. والأحوط الاقتصار بقدر الحاجة. الثاني : الاستعانه على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى منهج الصلاح. الثالث : الاستفتاء. كما يقول للمفتي : ظلمني أبي وأخي ، فكيف طريقي في الخلاص؟ الرابع : تحذير المسلم من الوقوع في الخطر والشرّ ونصح المستشير. كما إذا رأيت رجلا يتردّد إلى فاسق يخفى أمره وخفت عليه بسبب الصحبة الوقوع فيما لا يوافق الشرع ، فلك أن تنبّهه على فسقه. الخامس : الجرح والتعديل للشاهد و

__________________

(١) المصدر : سميحة.

(٢) جوامع الجامع / ٤٥٩.

(٣) الكافي ٢ / ٣٦٢.

(٤) الكافي ٢ / ٧١.

(٥) نهج البلاغة / ٤٨٩.

(٦) وسائل الشيعة ١٢ / ٢٨٤.

٥٥٨

راوي الحديث. السادس : أن يكون المقول فيه متظاهرا به كالفاسق المتظاهر بفسقه. السابع : أن يكون الإنسان معروفا باسم يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش والأشتر. الثامن : شهود الزنى والحدّ والتعزير. التاسع : إذا علم المحكيّ له المعصية. لأنّ حكايتها له لا يؤثّر. وفيه تخصيص للعمومات من غير حجّة فيما أعلم. (من الكفاية. نقله ح.)

[١٣] (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

(مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) : من آدم وحوّاء. يعني أنّكم متساوون في النسب. (شُعُوباً) : جمع شعب وهو الحيّ العظيم مثل مضر وربيعة. (وَقَبائِلَ). هي دون الشعب كبكر من ربيعة وتميم من مضر. هذا قول أكثر المفسّرين. سمّيت بذلك لتشعّبها وتفرّقها. (لِتَعارَفُوا) ؛ أي : يعرف بعضكم بعضا بنسبه وقومه وأبيه وأمّه لا لتتفاخروا. وروي أنّ رجلا سأل عيسى عليه‌السلام : أيّ الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من التراب ثمّ قال : أيّ هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب. فأكرمهم أتقاهم. (١)

الشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الستّ التي عليها العرب ؛ وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة يجمع العمائر ، والعمارة يجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل. خزيمة شعب. وكنانة قبيلة. وقريش عمارة. وقصيّ بطن. وهاشم فخذ. والعبّاس فصيلة. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قال : أعمالكم بالتقيّة. (٣)

[١٤] (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٢) الكشّاف ٤ / ٣٧٤.

(٣) كمال الدين / ٣٧١ ، ح ٥.

٥٥٩

(قالَتِ الْأَعْرابُ). وهم قوم من بني أسد أتوا النبيّ في سنة جدبة وأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السرّ إنّما كانوا يطلبون الصدقة. والمعنى أنّهم قالوا : صدّقنا بما جئت به ، فأمره سبحانه أن يخبرهم بذلك ليكون معجزة له. (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) ؛ أي : لم تصدّقوا في الباطن حقيقة. (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ؛ أي : انقدنا واستسلمنا مخافة السبي والقتل. ثمّ بيّن سبحانه أنّ الإيمان محلّه القلب واللّسان. قال : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ؛ أي : لم تصدّقوا بعد ما أسلمتم تعوّذا من القتل. فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر. والذي يظهر الإسلام تعوّذا من القتل غير مؤمن في الحقيقة إلّا أنّ حكمه في الظاهر حكم المسلمين. (لا يَلِتْكُمْ) ؛ أي : لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا. لات يليت ؛ أي : نقص. أهل البصرة : لا يألتكم بالألف. (١)

(وَلَمَّا يَدْخُلِ). توقيت لقولوا. فإنّه حال من ضميره. أي : ولكن قولوا أسلمنا ولم تواطىء قلوبكم ألسنتكم بعد. (٢)

[١٥ ـ ١٦] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ). نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٣)

(لَمْ يَرْتابُوا) ؛ أي : لم يشكّوا في دينهم بعد الإيمان. (هُمُ الصَّادِقُونَ) في أقوالهم دون من يقول ما ليس في قلبه. فلمّا نزلت الآيتان ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحلفون أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان ، فأنزل الله : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) ؛ أي : إنّه عالم بذلك فلا يحتاج إلى إخباركم به. وهذا استفهام إنكار وتوبيخ. أي : كيف تعلّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض؟ (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨ و ٢٠٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤١٨.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٢٢.

(٤) مجمع البيان ٩ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٥٦٠