عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-29-6
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٠

أي : واذكر ـ يا محمّد ـ إذ وجّهنا إليك جماعة من الجنّ (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ). أو : صرفناهم إليك من بلادهم بالتوفيق والألطاف حتّى أتوك. أو : صرفناهم عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب ـ ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه ـ فقالوا : ما حدث هذا في السماء إلّا من أجل شيء قد حدث في الأرض. فضربوا في الأرض حتّى وقفوا على النبيّ ببطن نخلة عائدا إلى عكاظ وهو يصلّي الفجر. فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلّي. (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) ؛ أي : القرآن أو النبيّ ، قال بعضهم لبعض : اسكتوا لنستمع إلى قراءته. فلمّا فرغ من تلاوته ، انصرفوا إلى قومهم محذّرين إيّاهم عذاب الله إن لم يؤمنوا. (١)

(نَفَراً). النفر دون العشرة. وجمعه أنفار. (٢)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه أقبل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التسعة من أشرافهم ـ واحد من جنّ نصيبين والثمان من بني عمرو بن عامر ـ وهم الذين يقول الله فيهم : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ) وهم التسعة (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ). فأقبل إليه الجنّ والنبيّ ببطن النخلة فاعتذروا بأنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا. ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحجّ والجهاد ونصح المسلمين ـ الحديث. (٣)

عن عمر بن يزيد قال : ضللنا سنة من السنين ـ ونحن في طريق مكّة ـ فأقمنا ثلاثة أيّام نطلب الطريق فلم نجده. فلمّا أن كان في اليوم الثالث وقد نفد ما كان عندنا من الماء ، عدنا إلى ما كان معنا من ثياب الإحرام ومن الحنوط فتحنّطنا وتكفّنّا بإزار إحرامنا. فقام رجل من أصحابنا فنادى : يا صالح ، يا أبا الحسين! فأجابه مجيب من بعد. فقلنا له : من أنت يرحمك الله؟ قال : أنا من النفر الذي قال الله عزوجل : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ) ـ الآية. ولم يبق منهم غيري. فأرشد الضالّ إلى الطريق. فلم نزل نتّبع الصوت حتّى خرجنا إلى الطريق. (٤)

[٣٠] (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٣٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٩٧.

(٣) الاحتجاج / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٤) المحاسن / ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ، ح ١٥٨.

٥٠١

إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠))

(سَمِعْنا كِتاباً). يعنون القرآن. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : لما تقدّمه من الكتب ، يرشد إلى الدين الحقّ. (١)

(مِنْ بَعْدِ مُوسى). إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا يهوديّا أو ما سمعوا بأمر عيسى. (٢)

[٣١] (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١))

(يا قَوْمَنا). من كلام الجنّ. (داعِيَ اللهِ). يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ دعاهم إلى توحيده. (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ؛ أي : يغفر لكم ذنوبكم. فجاؤوا إلى رسول الله فآمنوا به وعلّمهم شرائع الإسلام وأنزل الله سورة (قُلْ أُوحِيَ). وفيه دلالة على أنّه كان مبعوثا إلى الجنّ ولم يبعث الله نبيّا إلى الجنّ قبله. (٣)

(مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ؛ أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما يكون في خالص حقّ الله. فإنّ المظالم لا تغفر بالإيمان. (٤)

فإن قلت : هل للجنّ ثواب كما للإنس؟ قلت : اختلف فيه. فقيل : لا ثواب لهم إلّا النجاة من النار ؛ لقوله : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). وإليه يذهب أبو حنيفة. والصحيح أنّهم في حكم بني آدم لأنّهم مكلّفون مثلهم. (٥)

[٣٢] (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

(فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) ؛ أي : لا يعجز الله فيفوته وليس له من دونه أنصار يدفعون عنه العذاب.

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٣٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٩٨.

(٣) مجمع البيان ٩ / ١٤٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٩٨.

(٥) الكشّاف ٤ / ٣١٢.

٥٠٢

ويجوز أن يكون هذا من كلام الله ابتداء. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ) ؛ يعني : الذين لا يجيبون داعي الله في ضلال ؛ أي : عدول عن الحقّ. (١)

[٣٣] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣))

ثمّ قال منبّها على قدرته على البعث والإعاده : (أَوَلَمْ يَرَوْا) ؛ أي : يعلموا. (بِقادِرٍ). قرأ يعقوب : «يقدر» بالياء. (٢)

(عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من البعث وغيره. (٣)

[٣٤] (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤))

(أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ). هو محكيّ بعد قول مضمر. وهذا المضمر هو ناصب الظرف. وهذا إشارة إلى العذاب ؛ بدليل قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ). والمعنى التهكّم بهم والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(٤). (٥)

[٣٥] (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

(أُولُوا الْعَزْمِ) : أولو الجدّ والثبات والصبر. و (مِنَ) يجوز أن يكون للتبعيض ويراد بأولي العزم بعض الانبياء. قيل : هم نوح ، صبر على أذى قومه ـ كانوا يضربونه حتّى يغشى عليه ـ وإبراهيم على النار وذبح ولده ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقد ولد يوسف ، ويوسف على الجبّ ، وأيّوب على الضرّ ، وموسى لمّا قال له قومه : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٤٢.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٤٢ و ١٤١.

(٣) الكشّاف ٤ / ٣١٣.

(٤) الشعراء (٢٦) / ١٣٨.

(٥) الكشّاف ٤ / ٣١٣.

٥٠٣

قال : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)(١) ، وداوود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنّها معبر فاعبروها ولا تعمروها. وقال الله في آدم : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(٢) وفي يونس : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ). (٣) ويجوز أن يكون للبيان فيكون أولو العزم صفة الرسل كلّهم. (وَلا تَسْتَعْجِلْ) لكفّار قريش بالعذاب ؛ أي : لا تدع لهم بتعجيله ؛ فإنّه نازل بهم لا محالة وإن تأخّر. وإنّهم يستقصرون مدّة لبثهم حينئذ في الدنيا حتّى يحسبوها (ساعَةً مِنْ نَهارٍ). (بَلاغٌ) : هذا بلاغ ؛ أي : هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة. أو : هذا تبليغ من الرسول. (فَهَلْ يُهْلَكُ) إلّا الخارجون عن الاتّعاظ به. (٤)

(فَاصْبِرْ) على أذى هؤلاء الكفّار (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). من هنا للتبعيض. وهو قول أكثر المفسّرين والظاهر في روايات أصحابنا. ثمّ اختلفوا فقيل : أولو العزم من أتى بشريعة نسخت شريعة من تقدّمه. وهم خمسة : نوح ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ موسى ، ثمّ عيسى ، ثمّ محمّد صلوات الله عليهم. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقيل : هم الذين أمروا بالجهاد والقتال. وقيل : هم أربعة : إبراهيم ، ونوح ، وهود ، ومحمّد عليهم‌السلام. والعزم هو الوجوب والحتم. وأولو العزم من الرسل الذين شرعوا الشرائع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الآخرة. (لَمْ يَلْبَثُوا) ؛ أي : إذا عاينوا العذاب صار طول مكثهم في الدنيا والبرزخ كأنّه ساعة من نهار. لأنّ ما مضى كأن لم يكن وإن كان طويلا. وتمّ الكلام ثمّ قال : (بَلاغٌ) ؛ أي : هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم. والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل : معناه : ذلك اللّبث [بلاغ]. (٥)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(٦) قال : عهد إليه في محمّد والأئمّة عليهم‌السلام من بعده فترك ولم يكن له عزم فيهم أنّهم هكذا. وإنّما سمّي أولو العزم لأنّهم عهد إليهم في محمّد والأوصياء من بعده والمهديّ و

__________________

(١) الشعراء (٢٦) / ٦١ ـ ٦٢.

(٢) طه (٢٠) / ١١٥.

(٣) القلم (٦٨) / ٤٨.

(٤) الكشّاف ٤ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٥) مجمع البيان ٩ / ١٤٣.

(٦) طه (٢٠) / ١١٥.

٥٠٤

سيرته فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك فالإقرار به. (١)

سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) فقال : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم‌السلام. قلت : كيف صاروا أولي العزم؟ قال : لأنّ نوحا بعث بكتاب وشريعة وكلّ من جاء بعد نوح ، أخذ بكتابه وشريعته حتّى جاء إبراهيم بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به. فكلّ نبيّ جاء بعد إبراهيم ، أخذ بشريعة إبراهيم حتّى جاء موسى بالتوراة وبعزيمة ترك الصحف. فكلّ نبيّ جاء بعد موسى ، أخذ بالتوراة حتّى جاء المسيح بالإنجيل. فكلّ نبيّ جاء بعد المسيح ، أخذ بشريعته ومنهاجه حتّى جاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء بالقرآن. فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة. فهؤلاء أولو العزم من الرسل. (٢)

أقول : روي هذا المضمون في كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام (٣) وفي غيره من الكتب بالطرق المستفيضة. فلا مجال للتوقّف في عموم دعوة هؤلاء الخمسة من الأنبياء الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

__________________

(١) علل الشرائع / ١٢٢ ، ح ١ ، والكافي ١ / ٤١٦ ، ح ٢٢.

(٢) الكافي ٢ / ١٧ ـ ١٨ ، ح ٢.

(٣) عيون الأخبار ٢ / ٧٩ ، ح ١٣.

٥٠٥
٥٠٦

٤٧.

سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأها ، كان حقّا عليه تعالى أن يسقيه من أنهار الجنّة. (١)

وعن الصادق عليه‌السلام : من قرأها ، لم يدخله شكّ في دينه أبدا ـ الخبر. (٢)

محمّد : من علّقها عليه في القتال ، نصر. ومن شرب ماءها ، أذهب عنه الرعب والزجر. ومن قرأها في البحر ، أمن منه. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : من قرأ سورة «الذين كفروا» لم يدخله شكّ في دينه أبدا ولم يبله الله بفقر أبدا حتّى يموت. فإذا مات ، وكّل الله به في قبره ألف ملك يصلّون في قبره ويكون ثواب صلاتهم له ، ويشيّعونه حتّى يوقفوه موقف الأمن عند الله في أمان الله وأمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٤)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١))

نزلت في مشركي عرب. (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) التي كانوا يزعمون أنّها قربة كالعتق والصدقة وإقراء الضيف. وقيل : نزلت في المطعمين ببدر وكانوا عشرة أنفس أطعم كلّ واحد منهم الجند يوما. (٥)

نزلت في أصحاب محمّد الذين ارتدّوا بعده وغصبوا أهل بيته حقّهم وصدّوا عن أمير المؤمنين وعن ولاية الأئمّة عليهم‌السلام. أبطل أعمالهم الذي تقدّم منهم مع رسول الله من الجهاد.

__________________

(١) المصباح / ٥٩١.

(٢) المصباح / ٥٩١.

(٣) المصباح / ٦١٠.

(٤) ثواب الأعمال / ١٤٢ ، ح ١.

(٥) مجمع البيان ٩ / ١٤٦.

٥٠٧

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين بعد وفاة رسول الله والناس في المسجد مجتمعون بصوت عال : (الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ الآية. فقال له ابن عبّاس : لم قلت ما قلت؟ قال : قرأت شيئا من القرآن. قال : لقد قلت لأمر. قال : نعم. إنّ الله يقول : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). (١) فتشهد على رسول الله أنّه استخلف أبا بكر؟ قال : ما سمعته أوصى إلّا إليك. قال : فهلّا بايعتني؟ قال : اجتمع الناس على أبي بكر فكنت منهم. فقال أمير المؤمنين : كما اجتمع أهل العجل على العجل. وها هنا فتنتم. ومثلكم (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ـ الآية (٢). (٣)

[٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢))

وقال أبو عبد الله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) في عليّ (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). هكذا نزلت. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ـ الآية. نزلت في أبي ذرّ وسلمان وعمّار والمقداد. (آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) ؛ أي : ثبتوا على ولاية عليّ عليه‌السلام وهو الحقّ من ربّهم الذي نزّل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٤)

(وَهُوَ الْحَقُّ) ؛ أي : ما نزّل على محمّد. لأنّه ناسخ لجميع الشرائع. وقيل : معناه : محمّد هو الحقّ من ربّهم دون ما يزعمون من أنّه سيخرج نبيّ في آخر الزمان من العرب فليس هذا هو. فردّ الله ذلك عليهم. (كَفَّرَ) الله (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) المتقدّمة بسبب الإيمان. (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) ؛ أي : معاشهم في أمر دنياهم. وقيل : أمر دينهم ودنياهم بالنصر على الأعداء ودخول الجنّة. (٥)

قال أبو جعفر عليه‌السلام : إذا قام القائم من آل محمّد ، ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن

__________________

(١) الحشر (٥٩) / ٧.

(٢) البقرة (٢) / ١٧.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠١.

(٥) مجمع البيان ٩ / ١٤٦.

٥٠٨

على ما أنزل الله. فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ، لأنّه يخالف التأليف. (١)

[٣] (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ) ؛ أي : ذلك الإضلال والإصلاح باتّباع المشركين الشرك واتّباع المؤمنين التوحيد والقرآن. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) ؛ أي : كالبيان الذي ذكرنا يبيّن الله سبحانه للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيّئات الكافرين. وقيل : أراد به المثل المقرون به فجعل الكافر كمن دعاه الباطل إلى نفسه فأجابه والمؤمن كمن دعاه الحقّ إلى نفسه فأجابه. وقيل : معناه : كما بيّن عاقبة الكفّار والمؤمنين وجزاء كلّ منهما ، ضرب للناس أمثالا يستدلّون بها فيزيدهم علما ووعظا. وأضاف المثل إليهم لأنّه مجعول لهم. (٢)

[٤] (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤))

(الَّذِينَ كَفَرُوا). يعني أهل دار الحرب. (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي : فاضربوا رقابهم. (أَثْخَنْتُمُوهُمْ) ؛ أي : أثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم. وقيل : إذا بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل حتّى ضعفوا فأحكموا وثاقهم في الأسر. أمر سبحانه بكثرة قتلهم ليذلّوا ، فإذا ذلّوا بالقتل أسروا. فالأسر يكون بعد المبالغة في القتل. كما قال سبحانه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ). (٣)(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) ؛ أي : تمنّون عليهم منّا بعد الأسر فتطلقوهم بغير عوض ، وإمّا أن تفدوهم فداء. واختلف في ذلك. فقيل : كان الأسر محرّما بآية الأنفال ، ثمّ أبيح بهذه الآية. لأنّ هذه السورة نزلت بعدها. فإذا أسر فالإمام مخيّر بين

__________________

(١) روضة الواعظين ٢ / ٢٦٥.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٤٦.

(٣) الأنفال (٨) / ٦٧.

٥٠٩

المنّ والفداء بأسارى المسلمين وبالمال وبين القتل والاستعباد. وهو قول الشافعيّ. وقيل : الإمام مخيّر بين المنّ والفداء والاستعباد وليس له القتل بعد الأسر. وقيل : حكم الآية منسوخ بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(١)(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) ـ الآية. (٢) [و] قيل : إنّ حكم الآية غير منسوخ. قالوا : لأنّ النبيّ منّ على أبي غرّة وقتل عتبة (٣) بن أبي معيط وفادى أسارى بدر. والمرويّ عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام أنّ الأسارى ضربان : ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة. فهؤلاء الإمام يكون مخيّرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتّى ينزفوا ، ولا يجوز المنّ والفداء. والضرب الآخر الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقضى القتال. فالإمام مخيّر فيهم بين المنّ والفداء وبين الاسترقاق وضرب الرقاب. (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ) ؛ أي : حتّى يضع أهل الحرب (أَوْزارَها) ؛ أي : أسلحتهم فلا يقاتلون. وقيل : حتّى لا يبقى دين غير دين الإسلام. قال الزجّاج : أي : اقتلوهم وأسروهم حتّى يؤمنوا. فما دام الكفر ، فالحرب قائمة أبدا. (ذلِكَ) ؛ أي : الأمر الذي ذكرنا. (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي : من الكفّار بإهلاكهم. (وَلكِنْ) أمركم بالحرب وبذل الأرواح ليمتحن بعضكم ببعض فيظهر المطيع من العاصي. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا). قرأ أهل البصرة وحفص : (قُتِلُوا) على ما لم يسمّ فاعله ، والباقون : «قاتلوا» بالألف. (فِي سَبِيلِ اللهِ) ؛ أي : الجهاد يوم أحد. ومن قرأ : «قاتلوا» فالمعنى : جاهدوا سواء قتلوا أو لم يقتلوا. (فَلَنْ يُضِلَّ) ؛ أي : لن يضيّع الله (أَعْمالَهُمْ). (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ الآية ـ : فهذا السيف الذي هو إلى عليّ عليه‌السلام (٥) على مشركي العجم من الزنادقة ومن ليس عنده كتاب من عبدة النيران والكواكب. وقوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ) المخاطبة للجماعة والمعنيّ رسول الله والإمام من بعده عليهما‌السلام. (٦)

عن الباقر عليه‌السلام : انّ الله بعث محمّدا بخمسة أسياف ثلاثة منها شاهرة لا تغمد إلى أن تضع

__________________

(١) التوبة (٩) / ٥.

(٢) الأنفال (٨) / ٥٧.

(٣) المصدر : عقبة.

(٤) مجمع البيان ٩ / ١٤٧ ـ ١٤٨ و ١٤٥.

(٥) المصدر : ـ «هو إلى عليّ عليه‌السلام».

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠١ ـ ٣٠٢.

٥١٠

الحرب أوزارها. [ولن تضع الحرب أوزارها] حتّى تطلع الشمس من مغربها ـ إلى قوله : ـ وسيف على مشركي العجم. قال الله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا). فهؤلاء لا يقبل منهم إلّا القتل أو الدخول في الإسلام. (١)

عن سليمان بن خالد قال : سألني أبو عبد الله عليه‌السلام فقال : أيّ شيء كنتم يوم خرجتم مع زيد؟ فقلت : مؤمنين. قال : فما كان عدوّكم؟ قلت : كفّارا. [قال :] فإنّي أجد في كتاب الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ) ـ الآية. فابتدأتم أنتم بتخلية من أسرتم. سبحان الله! ما استطعتم أن تسيروا بالعدل ساعة! (٢)

(لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي : أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر. (٣)

[٥] (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥))

(سَيَهْدِيهِمْ) إلى طريق الجنّة والثواب ويصلح شأنهم وحالهم. (٤)

[٦] (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))

(عَرَّفَها لَهُمْ). قال مجاهد : يهتدي أهل الجنّة إلى مساكنهم منها لا يخطئون كأنّهم كانوا سكّانها منذ خلقوا لا يستدلّون عليها. وقيل : إنّ الملك الذي وكّل بحفظ عمله في الدنيا ، يمشي بين يديه فيعرّفه كلّ شيء أعطاه الله. (٥)

(عَرَّفَها لَهُمْ) ؛ أي : بيّنها لهم حتّى عرفوها إذا دخلوها واستقرّوا في منازلهم ، فكانوا أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم. وقيل : معناه : أعلمهم بوصفها على ما

__________________

(١) الخصال / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، ح ١٨.

(٢) الكافي ٨ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ ، ح ٣٥١.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤٠١.

(٤) مجمع البيان ٩ / ١٤٨.

(٥) الكشّاف ٤ / ٣١٨.

٥١١

يشوّق إليها فيرغبون فيها ويسعون لها. وقيل : معناه : طيّبها لهم. من العرف [وهو] الرائحة الطيّبة. (١)

[٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧))

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) ؛ أي : دين الله بالجهاد. (يَنْصُرْكُمْ) على عدوّكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) ؛ أي : يقوّي قلوبكم لتثبتوا. وقيل : ينصركم في الآخرة ويثبّت أقدامكم عند الحساب وعلى الصراط ، أو في الدنيا والآخرة ، وهو الوجه. (٢)

[٨] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا). يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسّره (فَتَعْساً لَهُمْ). كأنّه قال : أتعس الذين كفروا. وقوله : (وَأَضَلَّ) عطف على الفعل الذي نصب تعسا. لأنّ المعنى : فقال : تعسا لهم ، أو فقضى لهم تعسا ؛ أي : عثورا وانحطاطا. وعن ابن عبّاس : في الدنيا القتل ، وفي الآخرة النار. (٣)

[٩] (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))

(ما أَنْزَلَ اللهُ). أعني القرآن وما فيه من التكاليف. لأنّهم قد ألفوا إطلاق العنان في الشهوات فشقّ عليهم ذلك. (٤)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : نزل جبرئيل على محمّد عليه‌السلام بهذه الآية هكذا : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله في علي إلّا أنّه كشط الاسم (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ). (٥)

[١٠] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٤٨.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٤٩.

(٣) الكشّاف ٤ / ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٤) الكشّاف ٤ / ٣١٩.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠٢.

٥١٢

عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠))

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا) ؛ أي : ينظروا في أخبار الأمم الماضية. (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ؛ أي : أهلكهم وعذّبهم. (وَالْكافِرِينَ). يعني الذين كرهوا ما أنزل الله في عليّ. (أَمْثالُها) ؛ أي : لهم مثل ما كان للأمم الماضية من العذاب والهلاك. (١)

(دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ). دمّر عليه : أهلك عليه ما يختصّ به. والمعنى : دمّر الله عليهم ما اختصّ بهم من الأموال والأولاد وكلّ ما كان لهم. (أَمْثالُها). الضمير للعاقبة المذكورة ، أو للهلكة ، لأنّ التدمير يدلّ عليها. (٢)

(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) ؛ أي : للكافرين بك ـ يا محمّد ـ أمثالها من العذاب إن لم يؤمنوا. أي إنّهم يستحقّون أمثالها. (٣)

[١١] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١))

(ذلِكَ) ؛ أي : الذي فعلناه في الفريقين. (٤)

ثمّ ذكر المؤمنين الذين ثبتوا على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ـ الآية. (٥)

(مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) : وليّهم وناصرهم. وأمّا قوله تعالى : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)(٦) فالمولى هناك بمعنى الربّ ومالك الأمر. فلا تناقض. (٧)

[١٢] (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠٢.

(٢) الكشّاف ٤ / ٣١٩.

(٣) مجمع البيان ٩ / ١٤٩.

(٤) مجمع البيان ٩ / ١٥١.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠٢.

(٦) يونس (١٠) / ٣٠.

(٧) الكشّاف ٤ / ٣١٩.

٥١٣

(يَتَمَتَّعُونَ) : ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أيّاما قلائل. (وَيَأْكُلُونَ) غير متفكّرين في العاقبة. (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) في مسارحها ومعالفها غافلة عمّا هي بصدده من الذبح والنحر. (مَثْوىً لَهُمْ) : منزل ومقام. (١)

[١٣] (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣))

(مِنْ قَرْيَتِكَ) ؛ أي : من أهلها. ولذلك قال : (أَهْلَكْناهُمْ). ومعنى أخرجوك : كانوا سبب خروجك. (فَلا ناصِرَ لَهُمْ). يجري مجرى الحال المحكيّة. كأنّه قال : أهلكناهم فهم لا ينصرون. (٢)

[١٤] (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ). يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام. (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ). يعني الذين غصبوه (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). (٣)

(زُيِّنَ لَهُ). وهم أهل مكّة الذين زيّن لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله. و (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ؛ أي حجّة من عنده وبرهان وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات. هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٤)

(كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ). قيل : هم المنافقون. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. (٥)

[١٥] (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٣٢٠.

(٢) الكشّاف ٤ / ٣٢٠.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٤) الكشّاف ٤ / ٣٢٠.

(٥) مجمع البيان ٩ / ١٥١.

٥١٤

أَمْعاءَهُمْ (١٥))

ثمّ وصف الجنّات التي وعدها المؤمنين بقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي). قرأ عليّ عليه‌السلام وابن عبّاس : أمثال الجنة على الجمع. (غَيْرِ آسِنٍ) ؛ أي : غير متغيّر لطول المقام كمياه الدنيا. وقرأ ابن كثير : «أسن» مقصورا ، والباقون بالمدّ. (لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بحموضة ولا غيرها لذيذة يلتذّون بشربها بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المرارة والسكر والصداع. (مُصَفًّى) ؛ أي : خالص من الشمع والقذى. (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ممّا يعرفون اسمها وممّا لا يعرفون. (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ؛ أي : ولهم مع ذلك ستر ذنوبهم وينسيهم إساءتهم حتّى لا يتنغّص عليهم نعيم الجنّة. (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) ؛ أي : من كان في هذا النعيم ، كمن هو خالد في النار؟ (حَمِيماً) : شديد الحرّ يقطّع أمعاءهم. (١)

عن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أربعة أنهار من الجنّة : الفرات ، والنيل ، وسيحان ، وجيحان. فالفرات الماء في الدنيا والآخرة. والنيل العسل. وسيحان الخمر. وجيحان اللّبن. (٢)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) ؛ أي : صفة الجنّة فيما نقصّ عليكم. ثمّ شرع في قصّتها بقوله : (فِيها أَنْهارٌ). فيكون (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ وخبره محذوف والوقف على (الْمُتَّقُونَ). (٣)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ). مبتدأ خبره (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). وتقدير الكلام : أمثل أهل الجنّة (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) ؛ أي : كمثل من هو خالد في النار. أو : أمثل الجنّة كمثل جزاء من هو خالد؟ (فِيها أَنْهارٌ). استئناف لشرح المثل. أو حال من العائد المحذوف. أو خبر لمثل. (٤)

عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحوض. فقال : حوض ما بين بصرى إلى صنعاء. تحبّ أن تراه؟ فأخذ بيدي [وأخرجني] إلى ظهر المدينة. ثمّ ضرب برجله. فنظرت إلى نهر تجري لا تدرك حافتاه إلّا الموضع الذي أنا فيه قائم وإنّه شبيه بالجزيرة وفي جانبيه

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٥٠ ـ ١٥٢.

(٢) الخصال / ٢٥٠ ، ح ١١٦.

(٣) تفسير النيسابوريّ ٢٦ / ٢٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤٠٢.

٥١٥

ماء أبيض من الثلج وفي وسطه خمر أحسن من الياقوت. فما رأيت شيئا أحسن من [تلك] الخمر بين اللّبن والماء. فقلت : جعلت فداك ؛ ومن أين يخرج هذا ومجراه؟ قال : هذه العيون التي ذكرها الله في الجنّة : عين من ماء ، وعين من لبن ، وعين من خمر ، تجري في هذا النحر. ورأيت حافتيه عليهما شجر فيهنّ جوار معلّقات برؤوسهنّ ما رأيت شيئا أحسن منهنّ وبأيديهنّ آنية. فأومى بيده لنفسه. (١) فنظرت إليها وقد مالت لتغرف من النهر فمال الشجر معها فاغترفت وناولته فشرب. وأشار إليها فناولتني. فشربت ، فما رأيت شرابا ألذّ منه. فنظرت في الطاس وإذا فيها ثلاثة ألوان من الشراب. وقال لي : هذا ما أعدّه الله لشيعتنا بعد الموت. (٢)

[١٦] (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦))

ثمّ بيّن حال المنافقين فقال : (وَمِنْهُمْ) ؛ أي : من الكفّار من يستمع إلى قرائتك ودعوتك وكلامك. (أُوتُوا الْعِلْمَ) من المؤمنين. عن عليّ عليه‌السلام قال : إنّا كنّا عند رسول الله فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه. فإذا خرجنا قالوا : (ما ذا قالَ آنِفاً) ؛ أي : أيّ شيء قال الساعة؟ وإنّما قالوه استهزاء وإظهار أنّا لم نشتغل بوعيه وفهمه. وقيل : بل قالوا ذلك تحقيرا لقوله. أي لم يقل شيئا فيه فائدة. (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ؛ أي : وسم قلوبهم بسمة الكفّار إذ خلّى بينهم وبين اختيارهم. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) : شهوات نفوسهم وما مالت إليه طبائعهم دون ما قامت عليه الحجّة. في بعض الروايات عن ابن كثير : «أنفا» بالقصر. والمشهور المدّ. (٣)

(ما ذا قالَ آنِفاً) ؛ أي : يقولون لعلماء الصحابة : ماذا قال؟ استعلاما ؛ إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به. (٤)

__________________

(١) المصدر : لتسقيه.

(٢) بصائر الدرجات / ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، ح ٣.

(٣) مجمع البيان ٩ / ١٥٤ و ١٥٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤٠٣.

٥١٦

[١٧] (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧))

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بما سمعوا من النبيّ (زادَهُمْ) الله أو النبيّ أو قراءة القرآن. وقيل : زادهم استهزاء المنافقين إيمانا وتصديقا. (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ؛ أي : وفّقهم الله للتقوى. أو آتاهم ثواب تقواهم. أو : بيّن لهم ما يتّقون وهو ترك الرخص والأخذ بالعزائم. (١)

[١٨] (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) ؛ أي : القيامة. (أَشْراطُها) ؛ أي : علاماتها. قال ابن عبّاس : والنبيّ من أشراطها. وقد قال : بعثت [أنا] والساعة [كهاتين]. (فَأَنَّى لَهُمْ) ؛ أي : فمن أين لهم ذلك الوقت الاتّعاظ والتوبة. لأنّه لا ينفع ذلك الوقت الإيمان والطاعة لزوال التكليف. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الساعة. فقال : عند إيمان بالنجوم وتكذيب بالقدر. (٣)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. (٤)

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من أشراط الساعة أن يفشوا الفالج وموت الفجأة. (٥)

أقول : وفي تفسير الثقة عليّ بن إبراهيم رحمة الله عليه حديث طويل يشتمل على علامات القيامة. من أراده طلبه هناك.

[١٩] (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

ثمّ قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والمراد جميع المكلّفين ـ : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ). قال الزجّاج : أي :

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٥٤.

(٢) مجمع البيان ٩ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٣) الخصال / ٦٢.

(٤) علل الشرائع / ٩٥ ، ح ٣.

(٥) الكافي ٣ / ٢٦١ ، ح ٣٩.

٥١٧

أقم على هذا العلم واعمل في مستقبل عمرك ما تعلمه الآن. وقيل : إنّه يتعلّق بما قبله. أي : إذا جاءتهم [الساعة] فاعلم أنّه لا إله إلّا الله ؛ أي : لا ملك ولا حكم لأحد إلّا له سبحانه. وقيل : إنّه كان ضيّق الصدر من أذى قومه ، فقيل له : فاعلم أنّه لا كاشف لذلك إلّا الله. (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ). الخطاب له والمراد به الأمّة. وقيل : المراد بذلك الانقطاع إلى الله. فإنّ الاستغفار عبادة يستحقّ به الثواب. (مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) ؛ أي : متصرّفكم في أعمالكم في الدنيا ومسيركم في الآخرة إلى الجنّة أو النار. عن ابن عبّاس. وقيل : (يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) : متصرّفكم بالنهار (وَمَثْواكُمْ) ؛ أي : مضجعكم باللّيل. أو المعنى أنّه عالم بجميع أحوالكم. (١)

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ؛ أي : إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين ، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانيّة وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وهضمها بالاستغفار لذنبك. (مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا. فإنّها مراحل لا بدّ من قطعها. (وَمَثْواكُمْ) في العقبى. فإنّها دار إقامتكم. فاتّقوا الله واستغفروه واستعدّوا لمعادكم. (٢)

[٢٠ ـ ٢١] (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١))

(لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) : هلّا نزّلت. لأنّهم كانوا يأنسون بنزول القرآن ويستوحشون لإبطائه ليعلموا أوامر الله فيهم وتعبّده لهم.

(سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) ليس فيها متشابه ولا تأويل. وقيل : سورة ناسخة لما قبلها من إباحة التخفيف في الجهاد. قال قتادة : كلّ سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة. وهي أشدّ [القرآن] على المنافقين. وقيل : محكمة ؛ أي : مقرونة بوعيد يؤكّد الأمر. (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) ؛ أي : أمر

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٥٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٤٠٣.

٥١٨

فيها بالقتال. (مَرَضٌ) ؛ أي : شكّ ونفاق. (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ). يريد أنّهم يشخصون نحوك بأبصارهم ـ كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت ـ لثقل ذلك عليهم. (فَأَوْلى لَهُمْ). تهديد ووعيد. قال الأصمعيّ : معنى قولهم في التهديد : أولى لك : وليك وقاربك ما تكره. وقيل : معناه : العقاب أو الوعيد لهم. فيكون أولى اسما و (فَأَوْلى لَهُمْ) مبتدأ وخبرا. وقيل معناه : طاعة الله ورسوله وقول معروف أولى لهم. فيكون (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) متّصلا بما قبله. ويجوز أن يكون (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مبتدأ وخبره محذوف تقديره : أمثل وأليق من حال هؤلاء المنافقين ، أو : خير لهم من جزعهم عند نزول فرض الجهاد. أو يكون خبر مبتدأ محذوف. أي : قولوا : أمرنا طاعة وقول معروف. [وهذا] أمر من الله سبحانه للمنافقين. وقيل : هو حكاية عنهم. يعني أنّهم كانوا يقولون ذلك. (عَزَمَ الْأَمْرُ) ؛ أي : جدّ الأمر وفرض القتال. وجواب إذا محذوف يدلّ عليه (صَدَقُوا اللهَ) ؛ أي : نكلوا وكذبوا فيما وعدوا. [فلو] صدقوا الله فيما أمرهم من الجهاد ، لكان خيرا من النفاق. (١)

(سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) : مبيّنة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلّا وجوب القتال. وقيل : آية القتال محكمة لأنّ النسخ لا يرد عليها من قبل أنّ القتال قد نسخ ما كان من الصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) ؛ أي : جدّ. والعزم والجدّ لأصحاب الأمر وإنّما يسندان إلى الأمر إسنادا مجازيّا. (٢)

[٢٢] (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢))

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ) يا معاشر المنافقين (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) الأحكام وجعلتم ولاة (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بأخذ الرشاء وسفك الدم الحرام وقطع الأرحام ، كما قتلت قريش بني هاشم وقتل بعضهم بعضا. وقيل : (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) معناه : إن أعرضتم. قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن القرآن؟ ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن؟ قرأ يعقوب و

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٥٥ ـ ١٥٨.

(٢) الكشّاف ٤ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٥١٩

سهل : (وَتُقَطِّعُوا) بفتح التاء والطاء وسكون القاف. (١)

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ) ؛ أي : يتوقّع منكم الإفساد. فإن قلت : كيف يصحّ هذا في كلام الله وهو عالم بما كان ويكون؟ قلت : معناه : وإنّكم ـ لما عهد منكم ـ أحقّاء بأن يقول لكم كلّ من عرف رخاوة عقدكم في الإيمان : يا هؤلاء ، ما ترون؟ هل يتوقّع منكم إن تولّيتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم تهالكا على الدنيا؟ وقيل : إن أعرضتم وتولّيتم عن دين رسول الله أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه من الإفساد وقطع الأرحام؟ وفي قراءة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : (تَوَلَّيْتُمْ) على المجهول. أي : إن تولّاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : إنّ عمر لقي أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أنت الذي تقرأ هذه الآية : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)(٣) تعرّض بي وبصاحبي؟ قال : أفلا أخبرك بآية نزلت في بني أميّة؟ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) إلى قوله : (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ). فقال عمر : كذبت! بنو أميّة أوصل للرحم منك ، ولكنّك أثبتّ العداوة لبني أميّة وبني عديّ وبني تيم. (٤)

[٢٣] (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

(لَعَنَهُمُ اللهُ) ؛ أي : أبعدهم عن رحمته فلا يسمعون الخبر ولا يرون ما فيه الاعتبار فكأنّهم صمّ عمي. وقيل : إنّهم في الآخرة لا يهتدون إلى الجنّة بمنزلة الأصمّ الأعمى [في الدنيا]. (٥)

[٢٤] (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤))

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) بأن يتفكّروا فيه فيقضوا [ما] عليهم من الحقّ. (أَمْ عَلى

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٥٨ و ١٥٧.

(٢) الكشّاف ٤ / ٣٢٥.

(٣) القلم (٦٨) / ٨.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٠٨ ، والكافي ٨ / ١٠٣ ، ح ٧٦.

(٥) مجمع البيان ٩ / ١٥٨.

٥٢٠