عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-29-6
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٠

العرب تفاجىء أعداءها بالغارات صباحا ، فخرج الكلام على عادتهم [و] لأنّ الله سبحانه أجرى العادة بتعذيب الأمم وقت الصباح ، كما مضى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)(١). (٢)

[١٧٨] (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨))

[١٧٩] (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩))

(وَأَبْصِرْ). تأكيد إلى تأكيد وإطلاق بعد تقييد للإشعار بأنّه يبصر وأنّهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من أصناف المسرّة وأنواع المساءة. أو الأوّل لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الآخرة. (٣)

[١٨٠] (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠))

(عَمَّا يَصِفُونَ) ؛ أي : عمّا قال المشركون فيه. وأضاف الربّ إلى العزّة لاختصاصها به ؛ إذ لا عزّة إلّا له أو لمن أعزّه وقد أدرج فيه جملة صفاته الثبوتيّة والسلبيّة مع الإشعار بالتوحيد. (٤)

(سُبْحانَ رَبِّكَ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى ، فليقل إذا أراد أن يقوم من مجلسه : (سُبْحانَ رَبِّكَ) ـ الآيات. [وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من أراد ... ، فليكن آخر قوله : (سُبْحانَ ...).] فإنّ له من كلّ مسلم حسنة. وعن عليّ عليه‌السلام : فليقل دبر كلّ صلاة. (٥)

[١٨١ ـ ١٨٢] (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما أفاض عليهم ومن اتّبعهم من النعم. (٦)

__________________

(١) هود (١١) / ٨١.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٧٢١ ـ ٧٢٢.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٥.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٥.

(٥) نور الثقلين ٤ / ٤٤١ ، عن الكافي (٢ / ٤٩٦ ، ح ٣) والفقيه (١ / ٢١٣ ، ح ٩٥٤) وقرب الإسناد (ص ١٧).

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٥.

٢٤١
٢٤٢

٣٨.

سورة ص

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة ص ، أعطي من الأجر بوزن كلّ جبل سخّره الله لداوود حسنات ، وعصمه الله أن يصرّ على ذنب صغيرا أو كبيرا. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة ، أعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب ، وأدخله الله الجنّة وكلّ من أحبّ من أهل بيته حتّى خادمه الذي يخدمه وإن كان لم يكن في حدّ عياله ولا في حدّ من يشفع فيه. (٢)

قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) إلى : (شَرابٌ)(٣) من أكثر من تلاوة هذه الآية وهو يحفر بئرا ، حسن نبعها. (٤)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١))

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه : وأمّا ص ، فعين تنبع من تحت العرش. وهي التي توضّأ منها النبيّ ليلة المعراج. ويدخلها جبرئيل كلّ يوم دخلة فينغمس فيها ، ثمّ يخرج منها فينفض أجنحته. فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلّا خلق الله منها ملكا يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره ويحمده إلى يوم القيامة. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٧٢٣.

(٢) ثواب الأعمال / ١٣٩ ، ح ١.

(٣) ص (٣٨) / ٤٢.

(٤) المصباح / ٦٠٩.

(٥) معاني الأخبار / ٢٢ ، ح ١.

٢٤٣

النزول : قال المفسّرون : إنّ أشراف قريش ـ وهم خمسة وعشرون منهم الوليد بن مغيرة وأبو جهل ـ أتوا أبا طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا. وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا. فدعاه أبو طالب وقال : يابن أخ ، هؤلاء قومك [يسألونك]. فقال : ماذا [يسألونني]؟ قالوا : دعنا وآلهتنا ، ندعك وإلهك. فقال : تعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟ فقال أبو جهل : نعطيك ذلك عشر أمثالها. قال : قولوا : لا إله إلّا الله. فقاموا وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً)؟ (١) فنزلت هذه الآيات. فقال : يا عمّ ، ما أترك هذا القول حتّى أنفذه أو أقتل دونه. فقال أبو طالب : امض لأمرك. فو الله لا أخذ لك أبدا. واختلف في (ص) فقيل : هو اسم للسورة. وقال ابن عبّاس : هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وروي ذلك عن الصادق عليه‌السلام. وقيل : معناه : صدق. وقيل : هو اسم من أسماء القرآن. فيجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير حذف حرف القسم. ويجوز أن يكون رفعا على تقدير : هذه ص ، في مذهب من جعله اسما للسورة. (ذِي الذِّكْرِ) ؛ أي : البيان (٢) الذي يؤدّي إلى الحقّ ويهدي إلى الرشد. أو فيه ذكر الله وتوحيده. وجواب القسم محذوف. أى : والقرآن ذي الذكر ، فقد جاء الحقّ وظهر الأمر. أو إنّ جوابه (ص) ؛ فإنّ معناه صدق. أقسم سبحانه بالقرآن أنّ محمّدا صدق. وقيل : إنّ الجواب ممّا كفى منه قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا). (٣)

(ص). قسم. وقيل : صدق محمّد فيما جاء به. وقيل : صدق الله في وعده. وقرئ (ص) بكسر الدال من المصاداة بمعنى المعارضة. أي : عارض القرآن بعملك وقابله. وقرئ بالجرّ والتنوين على إعمال حرف الجرّ وهو محذوف. (م ح د)

[٢] (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكّة (فِي عِزَّةٍ) ؛ أي : في تكبّر عن قبول الحقّ (وَشِقاقٍ) و

__________________

(١) ص (٣٨) / ٥.

(٢) في النسخة زيادة : والشرف»

(٣) مجمع البيان ٨ / ٧٢٥ ـ ٧٢٦ و ٧٢٤ ـ ٧٢٥.

٢٤٤

هو الخلاف والعداوة. (١)

[٣] (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣))

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) بتكذيبهم الرسل. (فَنادَوْا) عند وقوع الهلاك بالاستغاثة وليس الوقت وقت منجى ولا نداء ينجي. (٢)

(وَلاتَ). هي لا المشبّهة بليس زيدت عليه تاء التأنيث كما زيدت على ربّ وثمّ للتوكيد. وتغيّر بذلك حكمها حيث لم تدخل إلّا على الأحيان ولم يبرز إلّا [أحد مقتضيها] إمّا اسمها أو خبرها وامتنع بروزهما جميعا. وعند الأخفش أنّها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصّت بنفي الأحيان و (حِينَ مَناصٍ) منصوب بها. (٣)

[٤ ـ ٥] (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥))

(هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يزعم أنّه رسول الله. (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ). استفهام إنكار وتعجّب من ذلك. (٤)

[٦] (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦))

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ) ؛ أي : أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلين بعضهم لبعض : امشوا واثبتوا على عبادة آلهتكم فلا ينفعكم مكالمته. و (أَنِ) هي المفسّرة. لأنّ الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول. (لَشَيْءٌ يُرادُ) : إنّ هذا الأمر لشيء من ريب الزمان يراد بنا فلا مردّ له. أو : إنّ هذا الذي يدّعيه من التوحيد ـ أو يقصده من الرئاسة والترفّع على العرب والعجم ـ لشيء يمني ويريده كلّ أحد. أو : إنّ دينكم

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٧٢٦.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٧٢٦.

(٣) الكشّاف ٣ / ٧١.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٧٢٦.

٢٤٥

[لشيء] يطلب ليؤخذ منكم. (١)

(يُرادُ) ؛ أي : إنّ هذا الأمر يراد بنا من زوال نعمة أو نزول شدّة. لأنّهم كانوا يعتقدون في الأصنام أنّهم لو تركوا عبادتها ، أصابهم القحط والشدّة. (٢)

[٧] (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧))

(ما سَمِعْنا بِهذا) ؛ أي : بأن يكون هذا في آخر الزمان. (٣)

(ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يقوله (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) التي أدركنا عليها آباءنا ، أو في ملّة عيسى التي هي آخر الملل. فإنّ النصارى يثلّثون. (إِلَّا اخْتِلاقٌ) : كذب اختلقه. (٤)

[٨] (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨))

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ). إنكار لاختصاصه بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرئاسة : لقوله : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). (٥) وأمثال ذلك دليل على أنّ مبدأ تكذيبهم لم يكن إلّا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيويّ. (مِنْ ذِكْرِي) ؛ أي : القرآن أو التوحيد ، لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل. بل لم يذوقوا عذابي بعد.

فإذا ذاقوا ، زال شكّهم. والمعنى أنّهم لا يصدّقون حتّى يمسّهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه. (٦)

[٩] (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩))

أي : بل أعندهم خزائن رحمته وفي تصرّفهم حتّى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوا عمّن شاؤوا فيتخيّروا للنبوّة بعض صناديدهم؟ والمعنى أنّ النبوّة عطيّة من الله يتفضّل بها

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٧.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٧٢٧.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٧٢٧ ـ ٧٢٨.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٧.

(٥) الزخرف (٤٣) / ٣١.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٨.

٢٤٦

على من يشاء من عباده لا مانع له. فإنّه العزيز ؛ فإنّه العزيز ؛ أي : الغالب. (١)

[١٠] (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠))

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ) فيتهيّأ لهم أن يمنعوا الله من مراده؟ (٢)

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ). كأنّه لمّا أنكر عليهم التصرّف في نبوّته بأن ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها ، أردف ذلك بأنّه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسمانيّ الذي هو جزء يسير [من خزائنه] فمن أين لهم أن يتصرّفوا فيها. (٣)

(فَلْيَرْتَقُوا). ثمّ قصد بهم غاية التهكّم فقال : فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرّف في قسمة الرحمن وكانت عندهم الحكمة التي يميّزون بها بين من هو حقيق بالنبوّة وغيره ، فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصّل بها إلى العرش حتّى يستووا عليه ويدبّروا أمر العالم وينزلوا الوحي إلى من يختارون. ثمّ خسأهم عن ذلك بقوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ). (٤)

[١١] (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

(ما) زائدة. أخبره الله سبحانه ـ وهو بمكّة ـ أنّه سيهزم جند المشركين ، فجاء تأويلها يوم بدر. و (هُنالِكَ) إشارة إلى بدر ومصارعهم بها. أي : هؤلاء الذين يقولون هذا القول ، جند مغلوبون من جملة الكفّار الذين تحزّبوا على الأنبياء ، وأنت منصور عليهم ، فلا تكترث بأقوالهم. وقيل : هم أهل الخندق. يعني : [كيف] يرتقون السماء وهم فرق من قبائل شتّى مهزومون؟ (٥)

[١٢] (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢))

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٨.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٧٢٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٨.

(٤) الكشّاف ٤ / ٧٤.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٧٢٩ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٨.

٢٤٧

(ذُو الْأَوْتادِ). لأنّه كانت له ملاعب من أوتاد وحبال يلعب له عليها أمامه. وقيل : إنّه كان إذا غضب على أحد ، وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض. أو لأنّه صاحب الجنود والجموع الكثيرة فهم يشدّدون ملكه كما يشدّ الوتد الشيء. (١)

[١٣] (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣))

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ). هم قوم شعيب. والأيكة : الغيضة. (الْأَحْزابُ). يعني المتحزّبين على الرسل الذين جعل الجند المهزوم منهم. (٢)

[١٤] (إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤))

(إِنْ) كلّ واحد من الأحزاب (إِلَّا كَذَّبَ) جميع الرسل. لأنّهم إذا كذّبوا واحدا منهم فقد كذّبوهم جميعا. (فَحَقَّ عِقابِ) ؛ أي : فوجب عليهم عذابي. (٣)

[١٥] (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ). يعني كفّار مكّة. (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً). هي النفخة الأولى. (مِنْ فَواقٍ) ؛ أي : من توقّف ، لم تستأخر هذا الوقت من الزمان. كقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً). (٤) وعن ابن عبّاس : ما لها من رجوع وترداد. من أفاق المريض ، إذا رجع إلى الصحّة. وفواق الناقة : ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها. يريد أنّها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردّد. (٥)

[١٦ ـ ١٧] (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٧٢٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٠٨.

(٣) الكشّاف ٤ / ٧٦ ، ومجمع البيان ٨ / ٧٣٠.

(٤) الأعراف (٧) / ٣٤.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٧٣٠ ، والكشّاف ٤ / ٧٧.

٢٤٨

القطّ : القسط والنصيب. ويقال لصحيفة الجائزة قطّ لأنّها قطعة من القرطاس. يعني : يقول هؤلاء الكفّار على وجه الاستهزاء : عجّل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم الحساب. كما قال : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ). (١) و [قيل : معناه :] أرنا حظّنا من النعيم في الجنّة في الآخرة حتّى نؤمن. وقيل : لمّا نزل : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ)(٢) قالت قريش : زعمت ـ يا محمّد ـ أنّا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجّل لنا كتبنا التي نقرؤها في الآخرة ، استهزاء منهم بهذا الوعيد. فقال سبحانه : (اصْبِرْ) يا محمّد (عَلى ما يَقُولُونَ) من تكذيبك. فإنّ وباله يعود عليهم. (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) ؛ أي : القوّة على الأعداء والتمكين العظيم. لأنّه كان ينام حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال. وقيل : أي : القوّة على العبادة. كان يقوم نصف اللّيل ويصوم نصف الدهر. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) ؛ أي : توّاب يرجع عن كلّ ما يكرهه الله إلى ما يحبّ. فإن قلت : كيف تطابق قوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) وقوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا) حتّى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت : كأنّه قال لنبيّه : اصبر على ما يقولون وعظّم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصّة داوود وهو نبيّ من أنبياء الله أولاه الله النبوّة والملك ثمّ زلّ زلّة فبعث إليه الملائكة وو بخّه حتّى استغفر وأناب ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم ونقش جنايته في بطن كفّه. فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال : اصبر على ما يقولون وصن نفسك وحافظ عليها أن تزلّ فيما كلّفت من مصابرتهم وتحمّل أذاهم. واذكر أخاك داوود كيف زلّ تلك الزلّة اليسيرة فلقي ما لقي. (٣)

[١٨] (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨))

(يُسَبِّحْنَ) إذا سبّح. ويحتمل أن يكون الله سبحانه خلق في الجبال التسبيح ، أو بنى فيها بنية يتأتّى فيها التسبيح. (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) ؛ أي : بالرواح والصباح. قال البلخيّ : يجوز أن يكون المراد بتسبيح الجبال معه ما أعطاه الله من حسن الصوت بقراءة الزبور فكان إذا قرأ

__________________

(١) الحجّ (٢٢) / ٤٧.

(٢) الحاقّة (٦٩) / ٢٥.

(٣) الكشّاف ٤ / ٧٧ ، ومجمع البيان ٨ / ٧٣١.

٢٤٩

الزبور ورفع صوته بالتسبيح بين الجبال ، ردّ الجبال مثله عليه من الصدى فسمّى الله ذلك تسبيحا. (١)

[١٩] (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩))

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) : مجموعة عليه تسبّح الله معه. (كُلٌّ) ؛ أي : كلّ الطير والجبال (لَهُ أَوَّابٌ) : رجّاع إلى ما يريد مطيع له بالتسبيح معه. (٢)

[٢٠] (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) ؛ أي : قوّينا ملكه بالحرس والجنود و [كثرة] العدد والعدّة. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ). وهي النبوّة. (وَفَصْلَ الْخِطابِ). يعني الشهود والأيمان وأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر. لأنّ خطاب الخصوم لا ينفصل ولا ينقطع إلّا بهذا. وقيل : فصل الخطاب هو العلم بالقضاء والفهم. (٣)

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) ؛ أي : نصرناه بالهيبة. وسببه أنّ غلاما ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة ، فسأل داوود من الغلام البيّنة فعجز. فرأى داوود فى المنام أنّ الله أمره أن يقتل المدّعى عليه ويسلّم البقرة إلى الغلام. فقال داوود : هذا منام. فأتاه الوحي بذلك في اليقظة. فأخبر بني إسرائيل ، فجزعوا وقالوا : يقتل رجلا بلطمة! فقال : هذا أمر الله. فسكتوا. ثمّ أحضر الرجل وأخبره أنّ الله أمره بقتله ، فقال الرجل : صدقت يا نبيّ الله. إنّي قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة. [فقتله داوود.] وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا : إنّه يقضي بالوحي من السماء. (فَصْلَ الْخِطابِ). هو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتّى يكون كاملا مكمّلا مفهّما. (٤)

(وَفَصْلَ الْخِطابِ). عن الرضا عليه‌السلام : هو معرفة اللّغات كلّها. ثمّ قال : وقد أتانا الله فصل

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٧٣١ ـ ٧٣٢.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٧٣١.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٧٣٢.

(٤) تفسير النيسابوريّ ٢٣ / ٨٩ ـ ٩٠.

٢٥٠

الخطاب. وفي الزيارة الجامعة للجواد عليه‌السلام : وفصل الخطاب عندكم. (١)

(وَفَصْلَ الْخِطابِ). عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : هو قوله : البيّنة على المدّعي. واليمين على المدّعى عليه. (٢)

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) : الزبور وعلم الشرائع. وقيل : كلّ كلام وافق الحقّ فهو حكمة. والفصل : التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البيّن فصل بمعنى المفصول نقيض الملتبس. (٣)

(فَصْلَ الْخِطابِ). يروى : انّ الله علّق لأجل داوود سلسلة من السماء ليقضي بها بين الناس ؛ فمن كان على الحقّ ، أخذ السلسلة ، ومن كان على الباطل ، لا يقدر على أخذها. ثمّ إنّ رجلا غصب من آخر لؤلؤة وجعلها في جوف عصا ، ثمّ خاصمه المدّعي إلى داوود. فقال المدّعي : إنّ هذا أخذ منّي لؤلؤة ولم يردّها عليّ. وإنّي لصادق في مقالتي. فأخذ السلسلة. ثمّ قال المدّعى عليه : خذ منّي العصا. فأخذ عصاه. فقال : إنّي رددت عليه اللّؤلؤ وإنّي لصادق في مقالتي. فأخذ السلسلة. فتحيّر داوود في ذلك. فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبيّنة واليمين ؛ وهو فصل الخطاب. وقيل : هو قوله : أمّا بعد. وهو أوّل من تكلّم به. (٤)

[٢١ ـ ٢٢] (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢))

(وَهَلْ أَتاكَ) يا محمّد ، خبر (الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ؛ أي : صعدوا إليه المحراب وأتوه من أعلى سوره وهو مصلّاه. وإنّما جمعهم لأنّه أراد المدّعي والمدّعى عليه ومن معهما. (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) لدخولهم عليه في غير الوقت الذي يحضر فيه الخصوم من غير الباب الذي يدخل منه الخصوم ، ولأنّهم دخلوا عليه بغير إذنه. (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) فجئناك لتقضي

__________________

(١) نور الثقلين ٤ / ٤٤٤ ، عن العيون (٢ / ٢٣٠ و ٢٧٩). ولا يخفى أنّ الزيارة الجامعة منقولة عن الإمام الهادي عليه‌السلام والمؤلّف قدس‌سره لم يصحّح خطأ صاحب نور الثقلين.

(٢) جوامع الجامع / ٤٠٤.

(٣) الكشّاف ٤ / ٨٠.

(٤) تفسير النيسابوريّ ٢٣ / ٩٠.

٢٥١

بيننا. وذلك قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) ؛ أي : لا تجر علينا في حكمك. (إِلى سَواءِ الصِّراطِ) ؛ أي : وسط الطريق الحقّ. (١)

[٢٣] (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣))

(إِنَّ هذا أَخِي) بالدين أو الصحبة. (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ؛ أي : غلبني في المخاطبة بأن جاء بحجاج لم أقدر ردّه. أو في مغالبته إيّاي في الخطبة حيث تزوّجها دوني. (٢)

(نَعْجَةً). وهي الأنثى من الضأن. والعرب تكنّي [عن] النساء بالنعاج. (أَكْفِلْنِيها) ؛ أي : اجعلني كافلا لها. أي : أعطنيها. أو معناه : انزل لي عنها حتّى تصير في نصيبي. (وَعَزَّنِي) ؛ أي : غلبني (فِي الْخِطابِ) : مخاطبة الكلام. (٣)

[٢٤ ـ ٢٥] (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

في باب مجلس الرضا عليه‌السلام عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات وما قال لعليّ بن الجهم في عصمة الأنبياء قال له الرضا عليه‌السلام : أمّا داوود ، فما يقول من قبلكم فيه؟ فقال ابن الجهم : يقولون : إنّ داوود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور. فقطع داوود صلاته وقام يأخذ الطير ، فخرج الطير إلى الدار. فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح. فصعد في طلبه فسقط في دار أوريا. فاطّلع داوود في أثر الطير ، فإذا بامرأة أوريا تغتسل. فلمّا نظر إليها هواها. وكان قد أخرج أوريا في بعض

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٧٣٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣١٠.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٧٣٤.

٢٥٢

غزاة. فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت. فقدّمه فظفر أوريا بالمشركين. فصعب ذلك على داوود ، فكتب إليه ثانيا أن قدّمه أمام التابوت. فقدّمه فقتل أوريا وتزوّج داوود امرأته. فضرب الرضا عليه‌السلام يده على جبهته وقال : (إِنَّا لِلَّهِ) ـ الآية. لقد نسبتم نبيّا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ، ثمّ بالفاحشة ، ثمّ بالقتل! فقال : يابن رسول الله ، فما كان خطيئته؟ فقال : ويحك! إنّ داوود إنّما ظنّ أن ما خلق الله خلقا هو أعلم منه. فبعث الله إليه ملكين (فتسوروا المحراب فقالوا خصمان) ـ الآية. فعجل داوود [على المدّعى عليه فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك ولم يقبل] على المدّعى عليه فيقول له ما تقول. فكان خطيئته رسم حكم لا ما ذهبتم إليه. ألا تسمع قول الله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)؟ فقال : يابن رسول الله ، فما قصّة أوريا؟ قال الرضا عليه‌السلام : إنّ المرأة في أيّام داوود [كانت] إذا مات بعلها أو قتل ، لا تتزوّج بعده أبدا. فأوّل من أباح الله له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داوود. فتزوّج بامرأة أوريا لمّا قتل. فذلك الذي شقّ على [الناس من قبل] أوريا. (١)

كان أهل زمان داوود عليه‌السلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته إذا أعجبته ليتزوّجها. وقد كانت الأنصار يواسون المهاجرين بهذه العادة. فاتّفق أنّ عين داوود وقعت على امرأة أوريا فسأله النزول عنها ، فاستحيى أن يردّه ففعل ، فتزوّجها وهي أمّ سليمان. فقيل له : إنّك مع عظم منزلتك وكثرة نسائك ، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلّا امرأة واحدة النزول عنها ، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك. فتكون حكاية النعاج تمثيلا لهذه القضيّة وكناية عنها. وأمّا القصّة من حكاية الطير وتقديم أوريا أمام التابوت ، فليس هو بكلام مسلم. ويروى أنّ هذه القصّة لمّا ذكرها بعضهم بحضور عمر بن عبد العزيز ، قال له رجل من أهل الحقّ : إن كانت القصّة على ما في كتاب الله ، فما ينبغي أن نلتمس خلافها. وإن كانت على ما ذكرت وكفّ الله عنها سترا على نبيّه ، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر :

__________________

(١) عيون الأخبار ١ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

٢٥٣

لسماعي هذا الكلام أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس. فإن قلت : لم جاء ذلك على وجه التحاكم إليه؟ قلت : ليحكم بما حكم به من قوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ـ الآية ـ حتّى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه. (١)

(لَقَدْ ظَلَمَكَ) ؛ أي : إن كان الأمر على ما تدّعيه ، لقد ظلمك بهذا السؤال. (الْخُلَطاءِ) ؛ أي : الشركاء. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا). أي من الخلطاء ؛ فإنّهم لا يظلم بعضهم بعضا. (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ما زائدة. (وَظَنَّ داوُدُ) ؛ أي : علم أنّا اختبرناه وابتليناه. (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) : صلّى وراجع. وقيل : مكث أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه إلّا إلى الصلاة المكتوبة. واختلف في استغفار داوود عليه‌السلام من أيّ شيء كان. فقيل : إنّه حصل على سبيل الانقطاع إلى الله والتذلّل بالعبادة والسجود. وأمّا قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) فالمعنى : انّا قبلناه منه وأثبناه عليه. وهذا قول من ينزّه الأنبياء عن جميع الذنوب من الإماميّة والمعتزلة. ومن جوّز على الأنبياء الصغائر [قال :] كان لذنب صغير وقع منه ؛ وهو أنّ أوريا خطب امرأة فأراد أهلها أن يزوّجوها منه ، فبلغ داوود جمالها فخطبها وزوّجوها منه وقدّموه على أوريا ، فعوتب داوود على الحرص على الدنيا. وأمّا من جوّز الكبائر على الأنبياء ، فقال : السبب فيه القصّة المشهورة مع امرأة أوريا كما ورد في حديث عليّ بن الجهم. (٢)

(أَنَّما فَتَنَّاهُ) ؛ أي : ابتليناه بالذنب. أو : امتحنّاه بتلك الحكومة هل يتنبّه بها. (لَزُلْفى) : قربا وكرامة. (وَحُسْنَ مَآبٍ) في الجنّة. (٣)

[٢٦] (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

(إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) تدبّر أمر العباد من قبلنا بأمرنا. أو : خلف من مضى من الأنبياء في

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٨٠ ـ ٨٢.

(٢) انظر : مجمع البيان ٨ / ٧٣٤ ـ ٧٣٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣١٠.

٢٥٤

الدعاء إلى الدين. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) ؛ أي : ما يميل طبعك إليه. (يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ؛ أي : يعدلون عن العمل بما أمرهم الله. (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) بتركهم طاعات الله. (١)

(يَوْمَ الْحِسابِ). متعلّق بنسوا. أي : بنسيانهم يوم الحساب. أو بقوله : (لَهُمْ). أي : لهم العذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله. (٢)

[٢٧] (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧))

(باطِلاً) ؛ أي : خلقا باطلا لا لغرض صحيح وحكمة بالغة. أو : مبطلين عابثين. كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (٣)(ذلِكَ). إشارة إلى خلقها باطلا. والظنّ بمعنى المظنون. أي : خلقها للعبث لا للحكمة [هو مظنون الذين كفروا. فإن قلت : إذا كانوا مقرّين بأنّ الله خالق السموات والأرض وما بينهما بدليل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٤) فبم جعلوا ظانّين أنّه خلقهما للبعث لا للحكمة؟] قلت : لمّا كان إنكارهم للبعث والحساب مؤدّيا إلى أنّ خلقها عبث وباطل ، جعلوا كأنّهم ظنّوا ذلك ويقولونه. لأنّ الجزاء هو الذي سيقت (٥) إليه الحكمة في خلق العالم ومن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها ، ومن جحد الحكمة في خلق العالم ، فقد سفّه الخالق وظهر بذلك أنّه لا يعرفه. (٦)

[٢٨] (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨))

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ). أم منقطعة. والاستفهام للإنكار. والمراد أنّه لو بطل الجزاء كما يقول

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٧٣٧.

(٢) الكشّاف ٤ / ٨٩.

(٣) الأنبياء (٢١) / ١٦.

(٤) لقمان (٣١) / ٢٥.

(٥) المصدر : سبقت.

(٦) الكشّاف ٤ / ٨٩ ـ ٩٠.

٢٥٥

الكافرون ، لا ستوى عند الله المتّقي والفاجر والمصلح والمفسد ، ومن سوّى بينهما كان سفيها. (١)

عن الصادق عليه‌السلام : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أمير المؤمنين وأصحابه. (كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ). قال : حبتر وزريق وأصحابهما. (٢)

[٢٩] (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

(لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) : يتفكّروا فيها بالتأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة. لأنّ من اقتنع بظاهر المتلوّ ، لم يكن له كثير طائل وكان مثله كمثل [من له] لقحة درور لا يحتلبها ومهرة نثور لا يستولدها. (٣)

(لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ). فآياته أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام. وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يفتخر بهذه الآية. (٤)

[٣٠ ـ ٣٣] (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

(أَوَّابٌ) ؛ أي : رجّاع إليه بالتوبة. أو : مسبّح مؤوّب للتسبيح مرجّع له. (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) : جمع صافن ، وهو الذي يقوم على ثلاث. وقيل : الصافن الذي يجمع بين يديه. والصفن إنّما يكون في العراب الخلّص. وقيل : وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين : واقفة وجارية. يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنّة وإذا جرت كانت سراعا خفافا. روي أنّ سليمان عليه‌السلام غزا أهل دمشق فأصاب ألف فرس. وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة. فقعد يوما بعد ما صلّى الأولى على كرسيّه ، فلم تزل تعرض عليه حتّى غربت

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ٩٠.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٣٤.

(٣) الكشّاف ٤ / ٩٠.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٣٤ ، عن الصادق عليه‌السلام.

٢٥٦

الشمس وغفل عن العصر. فاغتمّ لما فاته فاستردّها وعقرها متقرّبا إلى الله. وبقي مائة. فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها. وقيل : لمّا عقرها ، أبدل الله الريح تجري بأمره. فإن قلت : ما معنى (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)؟ قلت : أحببت مضمّن معنى فعل يتعدّى بعن. أي : جعلت حبّ الخير مغنيا عن ذكر ربّي. والخير : المال. كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً). (١) وسمّى الخيل خيرا مبالغة. والتواري في الحجاب مجاز عن غروب الشمس. (فَطَفِقَ مَسْحاً) ؛ أي : جعل يمسح السيف بسوقها وأعناقها. يعني يقطعها. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام : انّ سليمان بن داوود عرض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل ، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب. فقال للملائكة : ردّوا الشمس حتّى أصلّي صلاتي في وقتها. فردّوها فقام فمسح ساقيه وعنقه وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك. وكان ذلك وضوؤهم للصلاة. فقام فصلّى. فلمّا فرغ ، غابت الشمس وطلعت النجوم. وذلك قول الله : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) ـ الآيات. (٣)

[٣٤] (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) بعد ما ملك عشرين سنة ، و [ملك] بعد الفتنة عشرين سنة. وكان من فتنته أنّه ولد له ابن فقال الشياطين : إن عاش لم ننفكّ من السخرة ، فسبيلنا أن نقتله أو نخبّله. فعلم ذلك وكان يغذوه في السحابة. فما راعه إلّا أن ألقي على كرسيّه ميّتا. فتنبّه على خطائه في أن لم يتوكّل على ربّه فاستغفر ربّه وتاب إليه. (٤)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : فإنّه خرج سليمان بن داوود من بيت المقدس ومعه ثلاثمائة ألف كرسيّ عن يمينه عليها الإنس وثلاثمائة ألف كرسيّ عن يساره عليها الجنّ والطير تظلّهم والريح تحملهم. فقال بعضهم لبعض : هل رأيتم أو سمعتم ملكا قطّ أعظم من هذا؟ فناداهم ملك

__________________

(١) البقرة (٢) / ١٨٠.

(٢) الكشّاف ٤ / ٩١ ـ ٩٣.

(٣) الفقيه ١ / ١٢٩ ، ح ٦٠٧.

(٤) الكشّاف ٤ / ٩٣.

٢٥٧

من السماء : [ثواب] تسبيحة واحدة في الله أعظم ممّا رأيتم. (١)

(فَتَنَّا سُلَيْمانَ). وذلك أنّه قال يوما في مجلسه : لأطوفنّ اللّيلة على سبعين امرأة تلد كلّ امرأة منهنّ غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله. ولم يقل : إن شاء الله. فطاف عليهنّ ، فلم تحمل منهنّ إلّا امرأة جاءت بشقّ ولد. روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٢)

[٣٥] (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))

عن أبي جعفر عليه‌السلام : إنّ الله لم يبعث أنبياء ملوكا في الأرض إلّا أربعة بعد نوح : ذا القرنين ـ واسمه عيّاش ـ وداوود وسليمان ويوسف عليهم‌السلام. فأمّا عيّاش ، فملك ما بين المشرق والمغرب. وأمّا داوود ، فملك ما بين الشامات إلى بلاد اصطخر. وكذلك كان ملك سليمان. وأمّا يوسف ، فملك مصر وبراريها لم يتجاوز إلى غيرها. (٣)

وفي خبر آخر : ملك الأرض كلّها أربعة مؤمنان وكافران. فأمّا المؤمنان ، فسليمان وذو القرنين. وأمّا الكافران ، فنمرود وبخت النصر. (٤)

عن عليّ بن يقطين قال : قلت للكاظم عليه‌السلام : أيجوز أن يكون نبيّ الله بخيلا؟ فقال : لا. فقلت : فقول سليمان : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي) فما وجهه؟ فقال : الملك ملكان : ملك مأخوذ بالجور والغلبة ، وملك مأخوذ من قبل الله كملك إبراهيم وذي القرنين. فقال سليمان : ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة وإجبار الناس. فسخّر الله له الريح والشياطين وعلّم منطق الطير ، فعلم الناس في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك الجبّارين. قلت : فما معنى قول جدّك : (رحم الله أخي سليمان ما كان أبخله) فقال : له وجهان. أحدهما : أبخله بعرضه. والوجه الآخر : ما كان أبخله إن كان أراد ما يذهب إليه الجهّال. ثمّ

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٣٨.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٧٤١. ويوجد في النسخة في أوّل هذه الفقرة زيادة : «روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام».

(٣) الخصال / ٢٤٨ ، ح ١١٠.

(٤) الخصال / ٢٥٥ ، ح ١٣٠.

٢٥٨

قال عليه‌السلام : قد أوتينا ـ والله ـ ما أوتي سليمان وما لم يؤت سليمان. قال الله في قصّة محمّد : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(١). (٢)

[٣٦] (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦))

(رُخاءً) ؛ أي : ليّنة سهلة. أو : مطيعة تجري إلى حيث شاء. وأمّا وصفها في قوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً)(٣) فيجوز أن يكون جعلها عاصفة تارة ورخاء أخرى. (حَيْثُ أَصابَ) ؛ أي : حيث أراد وقصد. (٤)

[٣٧ ـ ٣٨] (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨))

(وَالشَّياطِينَ) : وسخّرنا الشياطين أيضا. (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ). بدل منه. أي : منهم من يبني له الأبنية الرفيعة في البرّ. ومنهم من يغوص له في البحر على الجواهر. وسخّرنا له آخرين منهم مشدودين في سلاسل الحديد عند تمرّدهم ، أو ليكفّوا عن الشرّ ، أو كان يفعل ذلك بكفّارهم فإذا آمنوا أطلقهم. (٥)

[٣٩] (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩))

(هذا عَطاؤُنا) ؛ أي : الملك الذي لا ينبغي لأحد. فأعط من الناس من شئت وامنع من شئت. (بِغَيْرِ حِسابٍ) ؛ أي : لا تحاسب يوم القيامة على ما تعطي وتمنع. أو : أعطيناكه تفضّلا لا مجازاة. أو : أنعم على من شئت من الشياطين بإطلاقه وأمسك من شئت منهم في وثاقه ، لا حرج عليك. (٦)

(هذا عَطاؤُنا). عن ابن أشيم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله فأخبره بها. ثمّ دخل عليه داخل فسأل منها بعينها فأخبره بخلاف ذلك. فدخلني

__________________

(١) الحشر (٥٩) / ٧.

(٢) علل الشرائع ١ / ٧١.

(٣) الأنبياء (٢١) / ٨١.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٧٤٣ ـ ٧٤٤.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٧٤٤.

(٦) مجمع البيان ٨ / ٧٤٤.

٢٥٩

من ذلك أمر عظيم وقلت في نفسي : تركت بالشام أبا قتادة لا يخطىء في الواو وشبهه وجئت إلى هذا يخطىء هذا الخطاء كلّه! فبينما أنا كذلك ، إذ دخل عليه ثالث فسأله عنها فأخبره بخلاف الأوّلين. فسكنت نفسي وعلمت أنّ ذلك تقيّة منه. ثمّ التفت إليّ فقال : يابن أشيم ، إنّ الله عزوجل فوّض إلى سليمان فقال : (هذا عَطاؤُنا) ـ الآية. وفوّض إلى نبيّه فقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). وما فوّض إلى رسوله فقد فوّضه إلينا. (١)

[٤٠ ـ ٤٢] (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢))

(اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) ؛ أي : اذكره واقتد به في الصبر. وكان في زمن يعقوب وتزوّج ليا بنت يعقوب. (إِذْ نادى رَبَّهُ) ؛ أي : دعاه رافعا صوته. (بِنُصْبٍ) ؛ أي : تعب. (وَعَذابٍ) ؛ أي : مكروه ومشقّة. وقيل : إنّه كان يذكّره ما كان فيه من النعم وكيف زال ، طمعا في أن يستزلّه حتّى يجزع ، فوجده صابرا. وقيل : اشتدّ مرضه حتّى تجنّبه الناس. فوسوس الشيطان إلى الناس أن يخرجوه من بينهم ولا يتركوا امرأته تدخل عليهم. وكان أيّوب يتأذّى بذلك ودام في الألم سبع سنين. قال أهل التحقيق : لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها. لأنّ في ذلك تنفيرا. وأمّا المرض والفقر وذهاب الأهل والمال ، فيجوز أن يمتحنه الله بذلك. فأجاب الله دعاءه فقال : (ارْكُضْ) ؛ أي : اضرب الأرض برجلك. (هذا مُغْتَسَلٌ) ؛ أي : فركض برجله فنبعت بركضته عين ماء. وقيل : عينان اغتسل من أحدهما فبرئ وشرب من الأخرى. والمغتسل : موضع الاغتسال أو ماؤه. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام فى سبب بليّة أيّوب قال : لنعمة أنعم الله عليه بها فأدّى شكرها ، وكان الشيطان لا يحجب من دون العرش فرأى شكر نعمة أيّوب ، قال : يا ربّ ما شكرك إلّا لما أعطيته من الدنيا. ولو حرمته دنياه ، ما أدّى إليك شكر نعمة أبدا. فسلّطني على دنياه حتّى

__________________

(١) الكافي ١ / ٢٦٥ ، ح ٢.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٧٤٥.

٢٦٠