عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-29-6
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٠

(آمَنَّا بِهِ) ؛ أي : بقيام القائم. (١)

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) ؛ يعني : بالقائم من آل محمّد. (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ). قال : إنّهم طلبوا الهدى (٢) من حيث لا ينال وقد كان لهم مبذولا حيث ينال. (٣)

(وَقالُوا) ؛ أي : يقولون ذلك الوقت وهو يوم القيامة أو رؤية البأس ، وعند الخسف في حديث السفيانيّ. (آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) ؛ أي : الانتفاع بهذا الإيمان الذي ألجئوا إليه. يعني لا ينالون به نفعا كما لا ينال أحد التناوش من مكان بعيد. وقيل : معناه : انّهم طلبوا المردّ إلى الدنيا ، فقد طلبوا الأمر من حيث لا ينال. ولم يرد بعد المكان وإنّما أراد بعد الانتفاع والبعد عن الصواب. أهل الكوفة غير عاصم : (التَّناوُشُ) بالمدّ والهمز والباقون بغير مدّ ولا همز. (٤)

[٥٣] (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣))

(وَقَدْ كَفَرُوا) ؛ أي : كيف تقبل توبتهم ـ أو يردّون [إلى] الدنيا ـ وقد كفروا بالله من قبل ذلك؟ (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) ؛ أي : يرجمون بالظنّ فيقولون : لا جنّة ولا نار. وهذا أبعد ما يكون من الظنّ. أو معناه : يرمون محمّدا بالظنون من غير يقين. وذلك قولهم هو ساحر وشاعر ومجنون. وقيل : معناه : يبعّدون أمر الآخرة [ويقولون] لأتباعهم : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)(٥). (٦)

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) ؛ يعني : بقيام القائم عليه‌السلام. (٧)

[٥٤] (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

__________________

(١) تأويل الآيات ٢ / ٤٧٨.

(٢) في النسخة : المهديّ.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٦٢٢.

(٥) المؤمنون (٢٣) / ٣٦.

(٦) مجمع البيان ٨ / ٦٢٢.

(٧) تأويل الآيات ٢ / ٤٧٨.

١٤١

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) ؛ أي : فرّق بينهم وبين مشتهياتهم بالموت الذي حلّ بهم كما حلّ بأمثالهم. وقيل : مشتهاهم هو التوبة أو الإيمان أو الردّ إلى الدنيا أو نعيم الجنّة وقد منعوه. (بِأَشْياعِهِمْ) ؛ أي : بأمثالهم من الكفّار قبلهم أو أهل دينهم من الأمم الماضية ، حتّى لم تقبل منهم التوبة عند رؤية العذاب. وقيل : أراد بذلك أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة. (فِي شَكٍّ) من البعث والنشور. أو : في شكّ من وقوع العذاب بهم. (مُرِيبٍ) ؛ أي : مشكّك. كما قالوا عجب عجيب. (١)

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ). يعني [أن] لا يعذّبوا. (٢)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٢٢ ـ ٦٢٣.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٥.

١٤٢

٣٥.

سورة الفاطر

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأها يريد بها ما عند الله ، دعته ثمانية أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء. (١) وحديث قراءة الحمدين مرّ آنفا. (٢)

من كتب منها (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) ـ الآيتين ـ (٣) في أربع خرق قطن جديدة طاهرة وجعلها في تجارته ، نمت وربحت. (٤)

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة الملائكة ، دعته يوم القيامة [ثلاثة من](٥) أبواب الجنّة : ادخل حيث شئت. (٦)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : مبدعهما. من الفطر بمعنى الشقّ. كأنّه شقّ العدم بإخراجهما منه. (رُسُلاً). أي بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلّغون إليهم رسالاته بالوحي

__________________

(١) المصباح / ٥٨٨.

(٢) هذه عبارة الكفعميّ في المصباح. وقد ذكره المصنّف رحمه‌الله عن المجمع في أوّل سورة سبأ.

(٣) فاطر (٣٥) / ٢٩ ـ ٣٠.

(٤) المصباح / ٦٠٩.

(٥) في النسخة : «أي» بدل ما بين المعقوفتين.

(٦) مجمع البيان ٨ / ٦٢٤.

١٤٣

والإلهام والرؤيا الصادقة. أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه. (١)

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : خالقهما على غير مثال سبق. حمد نفسه ليعلّمنا كيف نحمده وليبيّن أنّ الحمد كلّه له. (رُسُلاً) إلى الأنبياء بالرسالات والوحي. (أُولِي أَجْنِحَةٍ) ليتمكّنوا من العروج إلى السماء ومن النزول إلى الأرض. فمنهم من له جناحان ـ إلى قوله (٢) : ـ ويزيد فيها ما يشاء. وهو قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ). قال ابن عبّاس : رأى رسول الله ليلة المعراج جبرئيل وله ستّمائة جناح. وقيل : يزيد في الخلق حسن الصوت وملاحة العينين. (٣)

فإن قلت : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كلّ شقّ نصفه. فما صورة الثلاثة؟ قلت : لعلّ الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوّة. أو لعلّه لغير الطيران. فقد روي أنّ صنفا من الملائكة لهم ستّة أجنحة ، فجناحان يلفّون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله. (٤)

وقد رأى رسول الله جبرئيل وله ستّمائة جناح على ساقة الدرّ مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء والأرض. وقال : إذا أمر الله ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا ، صارت رجله اليمنى في السماء السابعة والأخرى في الأرضين السابعة. وإنّ لله ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير. وقال : إنّ الملائكة يعيشون بنسيم العرش. (٥)

[٢] (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

وفي قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) قال : المتعة من ذلك. (٦)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) قال : هي ما أجرى الله

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٦٧.

(٢) أي قول قتادة.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٢٥ ـ ٦٢٦.

(٤) الكشّاف ٣ / ٥٩٥.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٦.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٧.

١٤٤

على لسان النبيّ. (١) لأنّه رحمة من الله فتح بها على الناس ، لأنّه لا ينطق عن الهوى وكذا أهل بيته عليهم‌السلام.

(مِنْ رَحْمَةٍ). أي كمطر أو عافية أو أيّ نعمة شاء. وقيل : معناه : ما يرسل الله إلى عباده من رسول في وقت دون وقت ، فلا مانع له. لأنّ إرسال الرسل رحمة. كما قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ). (٢) وما يمسكه في زمان الفترة ، أو عمّن يقترحه من الكفّار ، فلا مرسل له. (٣)

(فَلا مُمْسِكَ لَها). أنّث الضمير الراجع إلى (ما) ثمّ ذكّره ، حملا على المعنى واللّفظ. فأنّث على معنى النعمة وذكّر على أنّ اللّفظ لا تأنيث فيه. (٤)

[٣] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

(اذْكُرُوا) نعمة الله عليكم الظاهرة والباطنة. (هَلْ مِنْ خالِقٍ). استفهام تقرير لهم ومعناه النفي من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات. وفي جواز إطلاق لفظ الخالق على غير [الله] تعالى خلاف ، فقيل بالجواز وعدمه. وعلى الثاني معناه : لا خالق يزرق ويخلق. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ؛ أي : لا معبود يستحقّ العبادة إلّا هو. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ؛ أي : كيف تصرفون عن [طريق] الحقّ إلى الضلال؟ أو : أنّى يعدل بكم عن هذه الأدلّة التي أقمتها لكم على التوحيد مع وضوحها؟ أهل الكوفة غير عاصم : (غَيْرُ اللهِ) بالجرّ ، والباقون بالرفع إمّا على أنّه خبر المبتدأ ، أو على أنّه صفة على الموضع والخبر مضمر ، تقديره : هل خالق في الوجود غير الله أو في العالم؟ (٥)

__________________

(١) تأويل الآيات ٢ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩. وفيه : (لسان الإمام». وما يأتي بعده في المتن مأخوذ من شرح الحديث في المصدر.

(٢) الأنبياء (٢١) / ١٠٧.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٢٦.

(٤) الكشّاف ٣ / ٥٩٦ ـ ٥٩٧.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٦٢٦ و ٦٢٥.

١٤٥

[٤] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))

(تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازي من كذّب رسله. (١)

فإن قلت : ما وجه صحّة جزاء الشرط؟ ومن حقّ الجزاء أن يتعقّب الشرط وهذا سابق له. قلت : معناه : وإن يكذّبوك ، فتأسّ بتكذيب الرسل من قبلك. فوضع السبب موضع المسبّب. (٢)

[٥] (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥))

(وَعْدَ اللهِ) من المعاد والجنّة والنار. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بملاذّها. (الْغَرُورُ). وهو الذي عادته أن يغرّ غيره. والدنيا بزينتها بهذه الصفة. لأنّ الخلق يغترّون بها. وقيل : الغرور الشيطان. (٣)

[٦] (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦))

(فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ؛ أي : فلا تتّبعوه بأن تعملوا على وفق مراده وتذعنون لانقياده. (السَّعِيرِ) ؛ أي : النار المستعرة. (٤)

[٧] (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

[٨] (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٢٦.

(٢) الكشّاف ٣ / ٥٩٨.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٢٦.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩.

١٤٦

(أَفَمَنْ زُيِّنَ). قال : نزلت في زريق وحبتر. (١)

(زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتّى انتكس رأيه فرأى الباطل حقّا والقبيح حسنا كمن لم يزيّن له؟ فحذف الجواب لدلالة قوله : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ). وقيل : تقديره : ذهبت نفسك عليهم حسرة؟ فحذف الجواب لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ). وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوئ أفعالهم. (٢)

(سُوءُ عَمَلِهِ). يعني الكفّار زيّنت لهم نفوسهم أعمالهم السيّئة فتصوّروها حسنة أو زيّنها الشيطان لهم. وخبر قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ) محذوف. أي : كمن علم الحسن والقبيح وعمل بما علم ولم يزيّن [له] سوء عمله؟ وقيل : تقديره : كمن هداه الله؟ وقيل : كمن زيّن له صالح عمله؟ (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) ؛ أي : لا تهلك ـ يا محمّد ـ نفسك [عليهم] حسرة ولا يغمّك حالهم إذ كفروا واستحقّوا العقاب. والحسرة : شدّة الحزن [على ما فات من الأمر]. أبو جعفر : (فَلا تَذْهَبْ) بضمّ التاء (نَفْسُكَ) بالنصب. (٣)

[٩] (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

ثمّ احتجّ الله على الزنادقة والدهريّة فقال : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ) ـ الآية. (٤)

(فَتُثِيرُ سَحاباً) ؛ أي : تهيجه من حيث هو. (فَسُقْناهُ) : السحاب. (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) قحط وجدب لم يمطر ، فأحيينا بذلك المطر والماء الأرض. (كَذلِكَ النُّشُورُ) ؛ أي : كما فعل بهذه الأرض الجدبة من إحيائها بالزرع والنبات ، ينشر الخلائق بعد موتهم ويحشرهم للجزاء. (٥)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٦٨.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٢٨ و ٦٢٧.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٧.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٦٢٨.

١٤٧

ابن كثير وحمزة والكسائيّ : أرسل الريح» (كَذلِكَ النُّشُورُ). أي في صحّة المقدوريّة. وقيل : في كيفيّة الإحياء. فإنّه تعالى يرسل ماء من تحت العرش ينبت منه أجساد الخلق. (١)

[١٠] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ). [قيل : المعنى : من كان يريد علم العزّة] ـ وهي القدرة على القهر والغلبة ـ لمن هي ، فإنّها لله جميعا. أو : من أراد العزّة ، فليتعزّز بطاعة الله. [فإنّ الله تعالى] يعزّه. يعني أنّ قوله : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) معناه الدعاء إلى طاعة من له العزّة. كما يقال : من أراد المال ، فالمال لفلان ؛ أي : فليطلبه من عنده. كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ ربّكم يقول كلّ يوم : أنا العزيز. فمن أراد عزّ الدارين ، فليطع العزيز. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ). المراد من الصعود هنا القبول من صاحبه والإثابة عليه. وكلّ ما يتقبّل الله من الطاعات ، يوصف بالرفع والصعود. لأنّ الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ويرفعونها إلى حيث شاء الله. وهذا كقوله : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ). (٢) وقيل : معنى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ) : إلى سمائه وإلى حيث لا يملك الحكم سواه. والكلم الطيّب الكلمات الحسنة ، وأحسنها : لا إله إلّا الله. (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ؛ أي : العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب إلى الله. فالهاء من يرفعه يعود إلى الكلم. أو يكون على القلب من المعنى الأوّل. أي : العمل الصالح يرفعه الكلم الطيّب. فيكون ابتداء إخبار لا يتعلّق بما قبله. (يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) ؛ أي : يعملون السيّئات. وقيل : (يَمْكُرُونَ) ؛ أي : يشركون بالله. وقيل : الذين مكروا برسول الله في دار الندوة. (يَبُورُ) ؛ أي : يفسد ويهلك. (٣)

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ). قال : كلمة الإخلاص والإقرار بما جاء من عند الله من الفرائض والولاية يرفع العمل الصالح إلى الله. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ لكلّ قول مصداقا من عمل يصدّقه ويكذّبه. فإذا قال ابن آدم وصدّق قوله بعمله ، رفع قوله بعمله. وإذا قال وخالف

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٢) المطفّفين (٨٣) / ١٨.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩.

١٤٨

عمله قوله ، ردّ قوله على عمله الخبيث. (١)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ). كان الكافرون يتعزّزون بالأصنام. كما قال عزوجل : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). (٢) والذين آمنوا بألسنتهم [من] غير مواطاة قلوبهم ، كانوا يتعزّزون بالمشركين ؛ كما قال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). (٣) فبيّن أن لا عزّة إلّا الله ولأوليائه وقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). (٤) والمعنى : فليطلبها من عند الله. ومعنى (جَمِيعاً) أنّ عزّة الدنيا والآخرة لله تعالى. (٥)

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ). بيان لما يطلب به العزّة وهو التوحيد والعمل الصالح. والمستكنّ في (يَرْفَعُهُ) للكلم. [وقيل : الكلم] الطيّب يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن. (يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) : المكرات السيّئات. يعني مكرات قريش للنبيّ في دار الندوة وتداورهم الرأي فى إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه. (٦)

(وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ). مكر قريش برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مكرات. كما قال سبحانه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ). (٧) وقد أوقع الله مكرهم بهم حين أخرجهم من مكّة وقتلهم ببدر وأثبتهم في القليب. (٨) فمكر الله بهم لم يبر وإنّما أبار الله مكرهم.

[١١] (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٨.

(٢) مريم (١٩) / ٨١.

(٣) النساء (٤) / ١٣٩.

(٤) المنافقون (٦٣) / ٨.

(٥) الكشّاف ٣ / ٦٠٢.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٦٩.

(٧) الأنفال (٨) / ٣٠.

(٨) الكشّاف ٣ / ٦٠٣.

١٤٩

(خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ). دليل آخر على التوحيد. أي : خلق آباءكم منه. وقيل : أراد به آدم نفسه. (أَزْواجاً) ؛ أي : ذكورا وإناثا. وقيل : ضروبا وأصنافا. (إِلَّا بِعِلْمِهِ) ؛ أي : هو عالم به. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) ؛ أي : لا يطول عمر أحد ، ولا ينقص من عمر ذلك المعمّر بانقضاء الأوقات عليه ؛ يعني : ولا يذهب بعض عمره بانقضاء اللّيل والنهار. وقيل : معناه : ولا ينقص من عمر غير ذلك المعمّر. وقيل : هو ما يعلمه الله أنّ فلانا لو أطاع لبقي إلى وقت كذا وإذا عصى نقص عمره فلا يبقى. فالنقصان على ثلاثة أوجه ؛ إمّا أن يكون من عمر المعمّر ، أو من عمر معمّر آخر ، أو يكون بشرط. عن يعقوب : (وَلا يُنْقَصُ) بفتح الياء. (إِلَّا فِي كِتابٍ) ؛ أي : يثبت في كتاب ؛ وهو اللّوح المحفوظ أثبته الله قبل كونه. قال ابن جبير : مكتوب في أمّ الكتاب عمر فلان كذا سنة ، ثمّ يكتب أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، ذهب ثلاثة أيّام ؛ حتّى يأتي على آخر عمره. (إِنَّ ذلِكَ) ؛ أي : تعمير من يعمّره ونقصان من ينقصه وإثبات ذلك سهل على الله. (١)

(وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) ؛ أي : من عمر المعمّر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره. (٢)

(إِلَّا فِي كِتابٍ). يعني يكتب في كتاب. وهو ردّ على من ينكر البداء. (٣)

[١٢] (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ). ضرب مثل للمؤمن والكافر. (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً). استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم ، أو تمام التمثيل ، وهو أن يشبّه الجنسين بالبحرين ثمّ يفضّل البحر الأجاج على الكافر بأنّه قد شارك العذب في منافع من السمك و

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣٠ ـ ٦٣١.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٦٩.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٨.

١٥٠

اللّؤلؤ وجري الفلك فيه والكافر خلو من المنافع. فهو في طريقة قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) ـ الآية. (١)(لَحْماً طَرِيًّا). هو السمك. (حِلْيَةً) : اللّؤلؤ والمرجان. (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ) ؛ أي : في كلّ. (مَواخِرَ) : شواقّ للماء بجريها. يقال : مخرت السفينة الماء. والسفن ـ وهو القشر ـ الذي اشتقّت منه السفينة ، قريب من المخر لأنّها تسفن الماء كأنّها تقشره كما تمخره. (٢)

(الْبَحْرانِ). يعني العذب والمالح. (فُراتٌ) ؛ أي : بارد. (سائِغٌ) في الحلق (شَرابُهُ). (أُجاجٌ) : شديد الملوحة. (٣)

[١٣] (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣))

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) ؛ أي : يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقصان. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ؛ أي : يجريهما كما يريد. (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ؛ أي : لوقت معلوم. (ذلِكُمُ اللهُ) ؛ أي : مدبّر هذه الأمور هو الله. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) ؛ أي : تدعونهم آلهة من الأصنام والأوثان وتعبدونهم. (قِطْمِيرٍ) ؛ أي : قشر نواة. يعني : لا يقدرون على كثير ولا قليل. (٤)

(قِطْمِيرٍ). وذلك أنّ المشركين كانوا معترفين بأنّ الأصنام ليسوا خالقين وإنّما كانوا يقولون إنّه تعالى فوّض أمور الأرضيّات إلى الكواكب. فأخبر الله أنّهم لا يملكون من قطمير. (٥)

__________________

(١) البقرة (٢) / ٧٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، والكشّاف ٣ / ٦٠٥.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٣١.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٦٣١.

(٥) تفسير النيسابوريّ ٢٢ / ٨١.

١٥١

[١٤] (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

(إِنْ تَدْعُوهُمْ) لكشف ضرّ (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ). لأنّها جماد لا تضرّ ولا تنفع. (وَلَوْ سَمِعُوا) بأن يخلق الله لهم سمعا. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ؛ أي : يتبرّؤون عن عبادتكم. ينطقهم الله يوم القيامة لتوبيخ عابديها فيقولون : لم عبدتمونا وما دعوناكم إلى ذلك؟ ويجوز أن يكون المراد به الملائكة وعيسى ويكون معنى قوله : (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) أنّهم مشتغلون عنهم لا يلتفتون إليهم. (وَلا يُنَبِّئُكَ) ؛ أي : لا يخبرك بما فيه الصلاح والفساد مثل الله سبحانه العليم بالأشياء كلّها. (١)

(لَوْ سَمِعُوا). أي على سبيل الفرض والتقدير. (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ). لأنّهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهيّة ويتبرّؤون منها. وقيل : ما نفعوكم. (٢)

(بِشِرْكِكُمْ) ؛ أي : بإشراككم لهم وعبادتكم إيّاهم يقولون : ما كنتم إيّانا تعبدون. (٣)

[١٥] (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥))

إنّما عرّف (الْفُقَراءُ) ليريهم أنّهم لشدّة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء وإن كانت الخلائق من الناس وغيرهم مفتقرين إليه. لأنّ الفقر ممّا يتبع الضعف وكلّما كان الفقير أضعف يكون أفقر. وقد شهد سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً). (٤) ولو نكّر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء. فإن قلت : قويل الفقراء بالغنيّ. فما معنى الحميد؟ قلت : لمّا أثبت غناه عنهم ، وليس كلّ غنيّ نافعا بغناه إلّا إذا كان الغنيّ جوادا منعما وإذا جاد وأنعم استحقّ [الحمد] ، ذكر الحميد ليدلّ على أنّه الغنيّ النافع بغناه المنعم المستحقّ للحمد. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣١.

(٢) الكشّاف ٣ / ٦٠٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٧٠.

(٤) النساء (٤) / ٢٨.

(٥) الكشّاف ٣ / ٦٠٦.

١٥٢

(هُوَ الْغَنِيُّ). أي [عن] عبادتكم. (١)

[١٦ ـ ١٧] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧))

ثمّ أخبر عن كمال قدرته فقال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) إلى قوله : (بِعَزِيزٍ) ؛ أي : ممتنع. (٢)

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ). غضب عليهم لاتّخاذهم الأنداد. كما قال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ). (٣) يعني [يخلق بعدكم] من لا يشرك به شيئا. (٤)

[١٨] (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ). وأمّا التوفيق بينها وبين قوله سبحانه : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)(٥) فتلك الآية في الضالّين المضلّين وأنّهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم وذلك كلّه أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم الله في قولهم : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ). (٦) فإن قلت : ما الفرق بين قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) ومعنى (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ)؟ قلت : الأوّل في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنّه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها ، والثاني في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث وإن استغاث بأقاربه من أب وأخ. (وَلَوْ كانَ). الضمير فيه راجع إلى المدعوّ المفهوم من قوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ). وترك ذكر المدعوّ ليعمّ ويشمل كلّ مدعوّ. (بِالْغَيْبِ). حال من الفاعل أو المفعول. أي : يخشون ربّهم غائبين من عذابه. أو : يخشون عذابه غائبا عنهم. وهذه صفة أصحاب الرسول. (وَمَنْ تَزَكَّى) ؛ أي : تطهّر بفعل الطاعات وترك

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣١ ـ ٦٣٢.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٦٣٢.

(٣) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٧) / ٣٨.

(٤) الكشّاف ٣ / ٦٠٦.

(٥) العنكبوت (٢٩) / ١٣.

(٦) العنكبوت (٢٩) / ١٢.

١٥٣

المعاصي. فإن قلت : كيف اتّصل قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ) بما قبله؟ قلت : لمّا غضب عليهم في قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها. (١)

ثمّ أخبر عن عدله فقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) ؛ أي : لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى بأن يؤاخذ أحد بذنب غيره. (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) ؛ أي : إن تدع مثقلة بالآثام غيرها إلى أن تحمل عنها شيئا من إثمها ، لا تحمل منه شيء. ولو كان المدعوّ إلى التحمّل ذا قرابة ، ما حمل عنها شيئا. (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (٢) قال ابن عبّاس : يقول الأب والأمّ : يا بنيّ احمل عنّي. فيقول : حسبي ما عليّ. (بِالْغَيْبِ) ؛ أي : [و] هم غائبون عن الآخرة. وهذا كقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها). (٣) والمعنى : انّ إنذارك لا ينفع إلّا الذين يخشون ربّهم. فكأنّك تنذرهم دون غيرهم ممّن لا ينفعهم الإنذار. وقيل : الذين يخشون ربّهم في خلواتهم عن الخلق. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ؛ أي : أداموها وقاموا بشرائطها. وإنّما عطف الماضي بالمستقبل إشعارا باختلاف المعنى. لأنّ الخشية لازمة في كلّ [وقت] والصلاة لها أوقات مخصوصة. (وَمَنْ تَزَكَّى) ؛ أي : قام بما يجب عليه من الزكاة وغيرها من الواجبات ـ وقيل : ـ تطهّر من الآثام ـ فلا يصل جزاؤه إلّا إليه. (٤)

(مُثْقَلَةٌ) ؛ أي : نفس أثقلها الأوزار. (إِلى حِمْلِها) : تحمّل بعض أوزارها. (لا يُحْمَلْ) ؛ أي : لم يجب لحمل شيء منه. نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل [ذنب] غيرها. (٥)

[١٩] (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩))

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ). عن ابن عبّاس قال : الأعمى أبو جهل. والبصير أمير المؤمنين. (٦)

(الْأَعْمى). أي عن طريق الحقّ. (وَالْبَصِيرُ) : الذي اهتدى إليه. وقيل : المشرك و

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٦٠٦ ـ ٦٠٧.

(٢) المدّثّر (٧٤) / ٣٨.

(٣) النازعات (٧٩) / ٤٥.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٦٣٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٧١.

(٦) تأويل الآيات ٢ / ٤٨٠.

١٥٤

المؤمن. (١)

[٢٠] (وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠))

(وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) ؛ أي : ظلمات الشرك ونور الإيمان. وفي قوله : (وَلَا النُّورُ) وما بعده من زيادة (لَا) قولان : أحدهما زيادة مؤكّدة للنفي ، والثاني أنّها نافية لاستواء كلّ واحد منها لصاحبه على التفصيل. (٢)

(وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ). فالظلمات أبو جهل. والنور أمير المؤمنين. (٣)

[٢١] (وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١))

(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ). [الظلّ] ظلّ أمير المؤمنين في الجنّة. (وَلَا الْحَرُورُ). يعني جهنّم لأبي جهل. (٤)

(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ). يعني الجنّة والنار. أو : ظلّ اللّيل والسموم بالنهار. (٥)

[٢٢] (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢))

[ثمّ] جمعهم جميعا فقال : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ). فالأحياء عليّ وحمزة وجعفر وفاطمة والحسن والحسين وخديجة ، والأموات [كفّار] مكّة. (٦)

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ). يعني المؤمنين والكافرين ، أو العلماء والجهّال. وقيل : أراد نفس الأعمى والبصير والظلّ والحرور والظلمات والنور على طريق المثل. أي كما لا يستوي هذه الأشياء ولا تتشابه ، فكذلك عبادة الله لا تشبه عبادة غيره ولا يستوي المؤمن والكافر والحقّ والباطل والعالم والجاهل. (يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) ؛ أي : ينفع بالإسماع

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣٣.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٦٣٣.

(٣) تأويل الآيات ٢ / ٤٨٠ ، عن ابن عبّاس.

(٤) تأويل الآيات ٢ / ٤٨٠ ، عن ابن عبّاس.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٦٣٣.

(٦) تأويل الآيات ٢ / ٤٨٠ ، عن ابن عبّاس.

١٥٥

من يشاء أن يلطف له ويوفّقه. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ). لم يرد به نفي حقيقة الإسماع ، لأنّهم كانوا يسمعون آيات الله. (مَنْ فِي الْقُبُورِ) ؛ أي : إنّك لا تقدر أن تنفع الكفّار بإسماعك إيّاهم إذ لم يقبلوا كما لا تسمع من في القبور من الأموات. (١)

(يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ). يعني أنّه قد علم من يدخل في الإسلام ممّن لا يدخل فيه فيهدي الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه ويخذل من علم أنّها لا تنفع فيه. وأمّا أنت ، فخفّي عليك أمرهم ، فلذلك تحرص على إسلام قوم من المخذولين. مثلك في ذلك مثل من يريد أن يسمع المقبورين وذلك ما لا سبيل إليه. ويحتمل أن يكون معناه انّ الله يسمع من يشاء وانّه قادر على أن يهدي المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق. وأمّا أنت ، فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى. (٢)

[٢٣] (إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣))

[٢٤] (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤))

(أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) ؛ أي : بالدين الصحيح ، مبشّرا للمؤمنين مخوّفا للكافرين. (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) ؛ أي : ليس من أمّة من الأمم الماضية إلّا مضى فيها (نَذِيرٌ) ؛ أي : مخوّف. فأنت مثلهم. (٣)

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ). قال : لكلّ زمان إمام. (٤)

[٢٥] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥))

قال سبحانه تسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكفّار أنبياء أرسلهم الله إليهم. (بِالْبَيِّناتِ) ؛ أي : بالمعجزات الظاهرات. (وَبِالزُّبُرِ) ؛ أي : بالكتب (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) : الواضح البيّن. وإنّما كرّر ذكر الكتاب وعطفه على الزبر لاختلاف الصفتين.

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣٣.

(٢) الكشّاف ٣ / ٦٠٨.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٣٣ ـ ٦٣٤.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٠٩.

١٥٦

فإنّ الزبور أثبت في الكتابة من الكتاب. لأنّه يكون منقّرا منقّشا فيه كالنقش في الحجر. (١)

(وَبِالزُّبُرِ) : الصحف. (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) نحو التوراة والإنجيل والزبور. (٢)

[٢٦] (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

(نَكِيرِ) ؛ أي : إنكاري عليهم وإنزالي العقاب بهم. (٣)

[٢٧] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ). عاد إلى ذكر دلائل التوحيد. (ماءً) ؛ أي : غيثا ومطرا. (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) وطعومها وروائحها. اقتصر على ذكر الألوان لأنّها أظهر. (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) ؛ أي : وممّا خلقنا من الجبال طرق بيض وطرق حمر. ومن الجبال (غَرابِيبُ سُودٌ) على لون واحد لا خطط فيها. وهذا على التقديم والتأخير. تقديره : سود غرابيب. لأنّه يقال : أسود غربيب ، وأسود حالك. وينبغي أن يكون سود عطف بيان يبيّن غرابيب به. والأجود أن يكون تأكيدا ؛ إذ الغرابيب لا يكون [إلّا] سودا ، وهذا أولى من أن يحمل على التقديم والتأخير. الغربيب : الشديد السواد الذي يشبه لون الغراب. (٤)

(مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) : أجناسها من الرمّان والتفّاح والتين والعنب وغيرهما ممّا لا يحصر. أو : هيآتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. والجدد : الخطط والطرائق. (٥)

[٢٨] (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

(مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ؛ أي : خلق مختلف ألوانه. (كَذلِكَ) ؛ أي : كاختلاف هذه الثمرات والجبال.

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣٤.

(٢) الكشّاف ٣ / ٦٠٩.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٦٣٤.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٦٣٥.

(٥) الكشّاف ٣ / ٦٠٩.

١٥٧

(الْعُلَماءُ) الذين يعرفونه حقّ معرفته. وعن الصادق عليه‌السلام يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله. ومن لم يصدّق فعله قوله ، فليس بعالم. وعن ابن عبّاس قال : يريد : إنّما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وسلطاني. وفي الحديث : أعلمكم بالله أخوفكم لله. وإنّما خصّ سبحانه العلماء بالخشية ، لأنّ العالم أحذر لعقاب الله من الجاهل حيث يختصّ بمعرفة التوحيد والعدل ويصدّق بالجنّة والنار. ومتى قيل : فقد نرى من العلماء من لا يخاف الله ويرتكب المعاصي ، فالجواب أنّه لا بدّ أن يخافه مع العلم به وإن كان يؤثر المعصية عند غلبة الشهوة لعاجل اللّذّة. (عَزِيزٌ) في انتقامه من أعدائه. (غَفُورٌ) لزلّات أوليائه. (١)

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ). المراد به العلماء الذين علموا بصفاته وعدله وتوحيده وما يجوز عليه وما لا يجوز فعظّموه وقدروه حقّ قدره. فإن قلت : ما وجه اتّصال هذا الكلام بما قبله. قلت : لمّا قال : (ا لم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء) وعدّد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعه وما خلق من الأجناس وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك بقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ). كأنّه قال : إنّما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممّن عرفه حقّ معرفته. (٢)

عن ابن عبّاس في قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال : يعني به عليّا عليه‌السلام. كان عالما بالله ويخشى الله ويعمل بفرائضه ويجاهد في سبيله ويتّبع مرضاته ومرضاة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٣)

[٢٩] (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩))

ثمّ وصف سبحانه العلماء فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ). أثنى عليهم بقراءة القرآن. (سِرًّا وَعَلانِيَةً). منصوبان على الحال. أي : أنفقوا مسرّين ومعلنين. (يَرْجُونَ) ؛ أي :

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣٥ ـ ٦٣٦.

(٢) الكشّاف ٣ / ٦١٠ ـ ٦١١.

(٣) تأويل الآيات ٢ / ٤٨٠.

١٥٨

راجين بذلك تجارة لن تكسد ولن تفسد. (١)

(تِجارَةً). التجارة : طلب الثواب بالطاعة. (٢)

[٣٠] (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

و (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلّق بلن تبور. أي : تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفّيهم بنفاقها عنده (أُجُورَهُمْ) وهي ما استحقّوه من الثواب (وَيَزِيدَهُمْ) من التفضّل [على] المستحقّ. (٣)

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) ؛ أي : قصدوا بأعمالهم الصالحة وفعلوها لأن يوفّيهم الله أجورهم (وَيَزِيدَهُمْ) على قدر استحقاقهم (مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ) لذنوبهم (شَكُورٌ) لحسناتهم. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا. [و] عن الضحّاك قال : يفسح لهم في قبورهم. [و] قيل : معنى شكور أنّه يقبل اليسير ويثيب عليه الكثير. تقول العرب : أشكر من بروقة ، وتزعم أنّها شجرة عالية في الورق تغيم السماء فوقها فتخضرّ وتورق من غير مطر. (٤)

[٣١] (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

(بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب. لأنّه جاء موافقا لما بشّرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به. (٥)

[٣٢] (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٦٣٦.

(٢) الكشّاف ٣ / ٦١١.

(٣) الكشّاف ٣ / ٦١١ ـ ٦١٢.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٦٣٦.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٦٣٧.

١٥٩

أي : أوحينا إليك القرآن ثمّ أورثناه من بعدك ؛ أي : حكمنا بتوريثه. أو قال : (أَوْرَثْنَا) وهو يريد نورثه ، لما عليه أخبار الله. (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا). وهم أمّته من الصحابة والتابعين إلى يوم القيامة. لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمّة وسطا ليكونوا شهداء على الناس واختصّهم بحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله. ثمّ قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر الله ومقتصد وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيّئا وسابق من السابقين. (١)

(أَوْرَثْنَا الْكِتابَ). يعني القرآن ، أو التوراة ، أو جنس الكتاب. والصحيح الأوّل. لأنّ ظاهر لفظ الكتاب لا يطلق إلّا على القرآن. ومعنى الإرث انتهاء الحكم ومصيره لهم. كما قال : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها). (٢) وقيل : معناه : أورثناهم الإيمان بالكتب السالفة ؛ إذ الميراث انتقال الشيء من قوم إلى قوم. والأوّل أصحّ. والذين اصطفى الله ، قيل : هم الأنبياء اختارهم الله برسالته وكتبه. وقيل : هم المصطفون الداخلون في قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) إلى قوله : (وَآلَ عِمْرانَ)(٣) يريد بني إسرائيل. لأنّ الأنبياء لا يرثون الكتب بل يورث علمهم. وقيل : هم أمّة محمّد أورثهم الله كلّ كتاب. والمرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّهما قالا : [هي] لنا خاصّة. وإيّانا عنى. وهذا أقرب الأقوال. لأنّهم أحقّ الناس بوصف الاصطفاء وإيراث علم الأنبياء ، إذ هم المتعبّدون بحفظ القرآن وبيان حقائقه. (فَمِنْهُمْ). الضمير في منهم يعود إلى العباد. لأنّه لمّا خصّ اصطفاء الكتاب ببعض العباد ، بيّن أنّ العباد على أقوام ثلاثة. وقيل : الضمير يعود إلى المصطفين من العباد. عن أكثر المفسّرين. وأمّا أحوال الفرق الثلاث ، فقيل : جميعهم ناج ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا السابق ، فيدخل الجنّة بغير حساب. وأمّا المقتصد ، فيحاسب حسابا يسيرا. وأمّا الظالم لنفسه ، فيحبس في المقام ثمّ يدخل الجنّة. فهم الذين قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). وعن عائشة :

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٦١٢.

(٢) الزخرف (٤٣) / ٧٢.

(٣) آل عمران (٣) / ٣٣.

١٦٠