عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

إبراهيم أو لوط. أي : إنّي خارج من جملة الظالمين على جهة الهجر لهم. هاجر من سواد الكوفة إلى حرّان ، ومنها إلى فلسطين. وكذلك هجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة ومنها إلى المدينة. (١)

المهاجر من هجر السيّئات وتاب إلى الله. (٢)

[٢٧] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

(إِسْحاقَ) ولدا (وَيَعْقُوبَ) نافلة ، حين أيس من الولادة من عجوز عاقر. ولذلك لم يذكر إسماعيل. أو لأنّه دلّ عليه في قوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). [وكفى الدليل لشهرة أمره وعلوّ قدره]. والمراد بالكتاب الجنس حتّى يدخل تحته ما نزل على ذرّيّته من الكتب الأربعة التي هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) : الثناء عليه والصلاة عليه آخر الدهر ، والذرّيّة الطيّبة والنبوّة ، وأنّ أهل الملل كلّهم يتولّونه. (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : لفي عداد الكاملين في الصلاح. (٣)

(النُّبُوَّةَ). وذلك أنّ الله سبحانه لم يبعث بعد إبراهيم نبيّا إلّا من صلبه. (أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا). قيل : إنّه رأى مكانه في الجنّة. وقيل : هو بقاء ضيافته عند قبره. وليس ذلك لغيره من الأنبياء. (٤)

[٢٨] (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨))

(وَلُوطاً). معطوف على إبراهيم أو على ما عطف عليه. (الْفاحِشَةَ) : الفعلة البالغة في القبح. و (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) جملة مستأنفة مقرّرة لفخامة تلك الفعلة. كأنّ

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٠٨ ، والكشّاف ٣ / ٤٥١.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٤٠.

٦٤١

قائلا قال : لم كانت فاحشة؟ فقيل : لأنّ أحدا قبلهم لم يقدم عليها لإفراط قبحها حتّى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم وقذر طباعهم. قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قطّ. (١)

[٢٩] (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩))

(أَإِنَّكُمْ). أهل الكوفة غير حفص : (أَإِنَّكُمْ) بهمزتين في الموضعين. وأبو عمرو بالاستفهام بهمزة ممدودة. والباقون بكسر الهمزة من غير استفهام في الأوّل وبالاستفهام في الثاني. من قرأبلفظ الاستفهام ، أراد به الإنكار. ومن قرأ : «إنكم» على الخبر أراد أنّ لوطا أخبرهم بذلك منكرا لفعلهم. (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ). كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالحذف ، فأيّهم أصابه كان أولى به ، ويأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم. وكان لهم قاض يقضي بذلك. (٢)

(تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ). [قطع السبيل] عمل قطّاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال. وقيل : اعتراضهم السابلة بالفاحشة. وقيل : قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث. (فِي نادِيكُمُ) ؛ أي : مجلسكم. ولا يقال النادي إلّا لما فيه أهله. (الْمُنْكَرَ). عن ابن عبّاس : هو الخذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك والسواك بين الناس ، وحلّ الأزرار ، والسباب والفحش في المزاح. وقيل : كانوا يتحاقبون ويسخرون بمن مرّ بهم ويتجاهرون في ناديهم بذلك العمل. (مِنَ الصَّادِقِينَ) في استقباح ذلك أو في دعوة النبوّة. (٣)

[٣٠] (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

(انْصُرْنِي) بإنزال العذاب. (الْمُفْسِدِينَ). كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعا وكرها ، ولأنّهم ابتدعوا الفاحشة وسنّوها فيمن

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٥١.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

(٣) الكشّاف ٣ / ٤٥٢ ، تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٠٨.

٦٤٢

بعدهم. فأراد لوط أن يشتدّ غضب الله عليهم فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه. (١)

[٣١] (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١))

بيّن سبحانه أنّه استجاب دعاء لوط وبعث جبرئيل ومعه الملائكة لتعذيب قومه بقوله : (وَلَمَّا جاءَتْ). (٢)

(بِالْبُشْرى) : أي : بالبشارة بالولد والنافلة إسحاق ويعقوب. (إِنَّا مُهْلِكُوا). إضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف والمعنى الاستقبال. والقرية سدوم التي قيل فيها : أجور من قاضي سدوم. (كانُوا ظالِمِينَ). يعني أنّ الظلم قد استمرّ منهم إيجاده في الأيّام السالفة وهم عليه مصرّون. وظلمهم كفرهم وألوان معاصيهم. (٣)

[٣٢] (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢))

(إِنَّ فِيها لُوطاً). ليس إخبارا لهم بكونه فيها ، وإنّما هو جدال في شأنه. لأنّهم لمّا علّلوا هلاك أهلها بالظلم ، اعترض عليهم بأنّ فيها من هو بريء من الظلم. وأراد بالجدال إظهار الشفقة عليه وما يجب للمؤمن من التحزّن لأخيه والتشمّر في نصرته وحياطته والخوف من أن يلحقه ضرر. ألاترى إلى جوابهم : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها)؟ يعنون : نحن أعلم منك وأخبر بحال لوط وحال قومه وامتيازه منهم وأنّه لا يستأهل ما يستأهلون. فخفّض على نفسك وهوّن عليك الخطب. (٤)

(لَنُنَجِّيَنَّهُ). أهل الكوفة غير عاصم : (لَنُنَجِّيَنَّهُ) خفيفة الجيم ساكنة النون ، والباقون

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢٠٨ ، والكشّاف ٣ / ٤٥٢.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٤٢.

(٣) الكشّاف ٣ / ٤٥٢.

(٤) الكشّاف ٣ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

٦٤٣

بالتشديد. (مِنَ الْغابِرِينَ) ؛ أي : الباقين في العذاب. (١)

[٣٣] (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣))

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ). أن صلة أكّدت وجود الفعلين مترتّبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما كأنّهما وجدا في جزء واحد من الزمان. كأنّه قيل : كما أحسّ بمجيئهم ، فاجأته المساءة من غير ريث خيفة عليهم من قومه. وقيل : معناه : سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) ؛ أي : ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه ؛ أي : طاقته. وقد جعلت العرب ضيق الذرع والذراع عبارة عن فقد الطاقة ؛ كما قالوا : رحب الذراع بكذا ، إذا كان مطيقا له. والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه ، نال ما لا يناله القصير الذراع ، فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة. (لا تَخَفْ). أي علينا وعليك. (وَلا تَحْزَنْ) بما نفعله بقومك. أو : لا تخف ولا تحزن ؛ إنّا رسل الله لا يقدرون [علينا]. (٢)

(مُنَجُّوكَ). ابن كثير وأهل الكوفة غير حفص ويعقوب : (إِنَّا مُنَجُّوكَ) بالتخفيف ، والباقون بالتشديد. (٣)

[٣٤] (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤))

(مُنْزِلُونَ). ابن عامر بالتشديد. والباقون : (مُنْزِلُونَ) بالتخفيف. (٤)

(رِجْزاً). الرجز والرجس : العذاب. من قولهم : ارتجز وارتجس ؛ أي : اضطرب ، لما يلحق المعذّب من القلق والاضطراب. (٥)

[٣٥] (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٤١ ـ ٤٤٢.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٥٣ ، ومجمع البيان ٨ / ٤٤٢.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٤١.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٤١.

(٥) الكشّاف ٣ / ٤٥٣.

٦٤٤

(تَرَكْنا مِنْها) ؛ أي : من القرية. (آيَةً بَيِّنَةً). هي آثار منازلهم الخربة. قيل : بقيّة الحجارة. وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض. وقيل : الخبر عمّا صنع بهم. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). يتعلّق بتركنا أو ببيّنة. (١)

[٣٦] (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦))

(وَإِلى مَدْيَنَ) ؛ أي : أرسلنا إلى مدين. (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) ؛ أي : افعلوا ما ترجون به العاقبة. فأقيم المسبّب مقام السبب. وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ؛ أي : لا تسعوا في الأرض بالفساد. (٢)

[٣٧] (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ). يعني لمّا كذّبوه. والرجفة : الزلزلة الشديدة. وقيل : هي صيحة جبرئيل. لأنّ القلوب رجفت لها. (فِي دارِهِمْ) ؛ أي : بلدهم. أو : في ديارهم. فاكتفى بالواحد لأنّه لا يلبس. (جاثِمِينَ) : باركين على الركب ميّتين. (٣)

[٣٨] (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨))

(وَعاداً وَثَمُودَ). منصوب بإضمار أهلكنا. لأنّ قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) يدلّ عليه. لأنّه [في] معنى الإهلاك. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) ذلك ـ يعني ما وصفه من إهلاكهم ـ (مِنْ) جهة (مَساكِنِهِمْ) إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. وكان أهل مكّة يمرّون عليها في أسفارهم فيبصرونها. (مُسْتَبْصِرِينَ) : عقلاء متمكّنين من النظر والافتكار ، ولكنّهم لم يفعلوا. أو :

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٥٣.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٥٣ ، ومجمع البيان ٨ / ٤٤٤.

(٣) الكشّاف ٣ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٢٠٩.

٦٤٥

كانوا متبيّنين أنّ العذاب نازل بهم لأنّ الله قد بيّن لهم على ألسنة الرسل ولكنّهم لجّوا حتّى هلكوا. (١) وقيل : إنّهم كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة. (٢)

[٣٩] (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩))

(وَما كانُوا سابِقِينَ) ؛ أي : فائتين. أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. (٣)

[٤٠] (فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

(حاصِباً) ؛ أي : حجارة. وقيل : ريحا [فيها] حصباء. وهم قوم لوط. عن ابن عبّاس. وقيل : ملك كان يرميهم. (أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ). لمدين وثمود. والخسف لقارون. والغرق لقوم نوح وفرعون. (٤)

(فَكُلًّا أَخَذْنا). فهذا ردّ على المجبّرة الذين زعموا أنّ الأفعال لله عزوجل ولا صنع لهم [فيها] ولا اكتساب. فردّ الله عليهم [فقال :](فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ). ولم يقل بفعلنا ، لأنّه أعدل من أن يعذّب العبد على فعله الذي يجبرهم عليه. (٥)

(أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون. (لِيَظْلِمَهُمْ) فيعذّبهم على غير ذنب. (٦)

[٤١] (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١))

(كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) ـ الآية. قال : هي الحميراء. ومعنى هذا التأويل إنّما كنى عنها

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٥٤.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٤٤.

(٣) الكشّاف ٣ / ٤٥٤.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٤٤ ، والكشّاف ٣ / ٤٥٤.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥٠.

(٦) مجمع البيان ٨ / ٤٤٤.

٦٤٦

بالعنكبوت لأنّ العنكبوت حيوان ضعيف اتّخذت بيتا ضعيفا أوهن البيوت وأضعفها لا يجدي نفعا ولا ينفي ضرّا. وكذلك الحميراء حيوان ضعيف لقلّة حظّها وعقلها ودينها اتّخذت من رأيها الضعيف وعقلها السخيف في مخالفتها وعداوتها لمولاها بيتا مثل بيت العنكبوت في الوهن والضعف لا يجدي لها نفعا بل يجلب إليها ضرّا في الدنيا والآخرة ، لأنّها بنته على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم. (١)

(كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ). الغرض تشبيه ما اتّخذوه متّكأ ومعتمدا في دينهم وتولّوه من دون الله بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوّة وهو نسج العنكبوت. فإن قلت : ما معنى قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؟ وكلّ أحد يعلم وهن بيت العنكبوت! قلت : معناه : لو كانوا يعلمون أنّ هذا مثلهم وأنّ أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن. ووجه آخر وهو أنّه إذا صحّ تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صحّ أنّ أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبيّن أنّ دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون. أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز. فكأنّه قال : وإنّ أوهن ما يعتمد في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الأوثان بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتّخذ بيتا بالإضافة إلى رجل يبني بيتا بآجر وجصّ أو ينحته من صخر. وكما أنّ أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. (٢)

[٤٢] (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢))

[٤٣] (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

(نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) تقريبا لما بعد من أفهامهم. (وَما يَعْقِلُها) : ولا يعقل حسنها وفائدتها (إِلَّا الْعالِمُونَ) الذين يتدبّرون الأشياء على ما ينبغي. وعنه عليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية فقال : العالم

__________________

(١) تأويل الآيات ١ / ٤٣٠.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٥٤ ـ ٤٥٥.

٦٤٧

من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه. (١)

(نَضْرِبُها). كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون : إنّ ربّ محمّد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك. فلذلك قال : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) لأنّهم يعرفون فائدتها. لأنّ الأمثال والتشبيهات ينكشف عن المعاني المحتجبة وتصوّرها للأفهام ، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحّد. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) قال : نحن هم. (٣)

[٤٤] (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))

(بِالْحَقِّ) ؛ أي : محقّا غير قاصد به باطلا. فإنّ المقصود بالذات من خلقها إفاضة الخير والدلالة على ذاته وصفاته. كما أشار إليه بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ). لأنّهم المنتفعون به. (٤)

[٤٥] (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) تقرّبا إلى الله وتحفّظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه. فإنّ القارئ المتأمّل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أوّل ما قرع سمعه. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) : أدّها بحدودها في أوقاتها. (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). فيه دلالة على أنّ الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبائح. فإن انتهى عن القبيح ، يكون توفيقا ، وإلّا فقد أتي من قبل نفسه. وقيل : إنّ الصلاة بمنزلة الناهي بالقول إذا قال : لا تفعل المنكر. لأنّ فيها التسبيح والتكبير والوقوف بين يدي الله ، وكلّ ذلك يدعو إلى شكله ويصرف عن ضدّه. فيكون مثل الأمر والنهي

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٠.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٥٥.

(٣) تأويل الآيات ١ / ٤٣١. وفي النسخة بعده زيادة : (وعنه عليه‌السلام».

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٠.

٦٤٨

بالقول. وقيل : معناه أنّها تنهاه عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد من الله إلّا بعدا. وروي أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي الصلوات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويرتكب الفواحش ، فوصف ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ صلاته تنهاه يوما. فما لبث أن تاب. (١)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : من أراد أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل ، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر. فبقدر ما منعته ، قبلت منه. (٢)

(تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ). إن قلت : كم من مصلّ يرتكب ولا ينهاه. قلت : الصلاة التي هي صلاة عند الله المستحقّ بها الثواب أن يدخل فيها مقدّما للتوبة النصوح متّقيا ؛ لقوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). (٣) فهذه هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. (٤)

(وَلَذِكْرُ اللهِ) إيّاكم برحمته (أَكْبَرُ) من ذكركم إيّاه بطاعته. وقيل : معناه : ذكر العبد لربّه أكبر ممّا سواه وأفضل من جميع أعمالكم. فيكون تأويله أنّ أكبر شيء في النهي عن الفواحش ذكر العبد لربّه ؛ فإنّه أقوى لطف يدعو إلى الطاعة وترك المعصية. وقيل : إنّ ذكر الله هو التسبيح والتهليل ، وهو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر. وقيل : إنّ ذكر الله الصلاة. لأنّها أكبر من سائر الطاعات. وإنّما عبّر عنها به للتعليل بأنّ اشتمالها على ذكره هي العمدة في كونها مفضّلة على الحسنات ناهية عن السيّئات. (ما تَصْنَعُونَ) منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة. (٥)

[٤٦] (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٠ ، ومجمع البيان ٨ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٤٧.

(٣) المائدة (٥) / ٢٧.

(٤) الكشّاف ٣ / ٤٥٦.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٤٤٧ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٠ ـ ٢١١.

٦٤٩

(أَهْلَ الْكِتابِ) ؛ أي : نصارى نجران. أو : اليهود والنصارى. (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أن تكون المناظرة برفق ولين لإرادة الخير والنفع بها. وقيل : منسوخة بآية السيف ، إذ لا مجادلة أشدّ منه. وجوابه أنّه آخر الدواء. وقيل : المراد به ذوو العهود منهم. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالإفراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)(١) أو بنبذ العهد ومنع الجزية فيجوز أن تسلكوا معهم طريقة الغلظة. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ). وهو من المجادلة التي هي أحسن. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا : آمنّا بالله وكتبه ورسله. فإن قالوا باطلا لم تصدّقوهم وإن قالوا حقّا لم تكذّبوهم. (لَهُ مُسْلِمُونَ) ؛ أي : مطيعون له خاصّة. وفيه تعريض باتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. (٢)

[٤٧] (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧))

(وَكَذلِكَ) ؛ أي : مثل ما أنزلنا الكتاب على موسى وعيسى ، أنزلنا إليك القرآن. (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ؛ أي : علم الكتاب. يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ونظائره. (وَمِنْ هؤُلاءِ). يعني كفّار مكّة. (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ). يعني من أسلم منهم. والهاء في به راجعة النبيّ أو القرآن. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجّة عليها إلّا المتوغّلون في الكفر. فإنّ جزمهم به يمنعهم عن التأمّل فيما يفيد لهم صدقها. فإنّها معجزة بالإضافة إلى الرسول كما أشار إليه بقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا). (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله عزوجل : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) قال : هم

__________________

(١) المائدة (٥) / ٦٤.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٤٩ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٢١١.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٥٠ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٢١١.

٦٥٠

آل محمّد عليهم‌السلام. والذين يؤمنون به ، أهل الإيمان من أهل القبلة. (١)

[٤٨] (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨))

(وَما كُنْتَ) يا محمّد تقرأقبل القرآن كتابا. أي : إنّك لم تحسن القراءة قبل أن يوحى إليك القرآن ، ولا كنت أيضا تكتب بيدك. ولو كنت تقرأو تكتب ، لوجد المبطلون من الكفّار طريقا إلى اكتساب الشكّ في أمرك وإلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك ولقالوا : إنّما يقرأ علينا ما جمعه من كتب الأوّلين. فلمّا ساويتهم في المولد والمنشأ ، ثمّ أتيت بما عجزوا عنه ، وجب أن يعلموا أنّه من عند الله. قال الشريف المرتضى رحمه‌الله : هذه الآية تدلّ على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة. فأمّا بعد النبوّة ، فالّذي نعتقده في ذلك التجويز لكونه عالما بالقراءة والكتابة والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع على أحد الأمرين. وظاهر الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة. لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته عليه‌السلام لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة. فأمّا بعد النبوّة فلا تعلّق له بالريبة والتهمة ، فيجوز أن يكون قد تعلّمها من جبرئيل بعد النبوّة. (٢)

وقوله : (بِيَمِينِكَ) زيادة تصوير للمنفيّ ونفي للتجوّز في الإسناد. (٣)

(لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) من أهل الكتاب وقالوا : الذي نجده في كتابنا أمّيّ لا يكتب ولا يقرأ. أو : لارتاب مشركو مكّة وقالوا : لعلّه تعلّمه أو كتبه بيده. فإن قلت : لم سمّاهم مبطلين؟ ولو لم يكن أمّيّا وقالوا : ليس بالذي نجده في كتبنا ، لكانوا صادقين محقّين ، ولكان أهل مكّة أيضا على حقّ من قولهم : لعلّه تعلّمه أو كتبه ، فإنّه رجل قارئ كاتب. قلت : سمّاهم مبطلين لأنّهم كفروا به وهو أمّيّ بعيد من الريب. وكأنّه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به ، لو لم يكن أمّيّا ، لارتابوا أشدّ الريب. فحين ليس بقارئ كاتب فلا وجه لارتيابهم. وشيء

__________________

(١) تأويل الآيات ١ / ٤٣١.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٥٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١١.

٦٥١

آخر وهو : انّ سائر الأنبياء لم يكونوا أمّيّين ووجب الإيمان بهم وبما جاؤوا به ، لكونهم مصدّقين من جهة الحكيم بالمعجزات. فهب أنّه قارئ كاتب ، فما بالهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى؟ على أنّ التوراة والإنجيل ليسا بمعجزين وهذا المنزل معجز. فإذن هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمّيّ ، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمّيّ. (١)

[٤٩] (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

(بَلْ هُوَ) ؛ أي : القرآن دلالات واضحات في صدور العلماء وهم المؤمنون به. وقيل : هم الأئمّة من آل محمّد. عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وقيل : إنّ هو كناية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. أي : في كونه أمّيّا لا يقرأو لا يكتب آيات بيّنات في صدور العلماء من أهل الكتاب لأنّه منعوت في كتبهم بهذه الصفة. (إِلَّا الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بترك النظر فيها. وقيل : المراد بالظالمين كفّار اليهود. (٢)

(بِآياتِنا). يعني أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام. (٣)

[٥٠] (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠))

نافع وابن عامر وحفص : (آياتٌ مِنْ رَبِّهِ). والباقون : «آية» (٤)

(وَقالُوا). يعني كفّار مكّة. (آياتٌ مِنْ رَبِّهِ). وهي التي اقترحوها في قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٥) وأن يجعل الصفا ذهبا. وقيل : إنّهم سألوا آية كآية موسى من فلق البحر وقلب العصاحيّة وجعلوا ما أتى من المعجزات غير حجّة إلقاء

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٥٨.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٥٠ ـ ٤٥١.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥١.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١١ ـ ٢١٢.

(٥) الإسراء (١٧) / ٩٠.

٦٥٢

للشبهة بين العوامّ. (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها ويظهرها بحسب ما يعلم من مصالح عباده وينزل على كل نبيّ منها ما هو أصلح له ولأمّته. ولذلك لم تتّفق آيات الأنبياء كلّها وإنّما جاء كلّ نبيّ بفنّ منها. (١)

[٥١] (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١))

(الْكِتابَ). يعني أنّ في إنزال القرآن حجّة بالغة لا يحتاج في صحّة نبوّته إلى غيرها ؛ مع أنّه سبحانه لو أظهر لهم ما اقترحوا من الآيات ثمّ لم يؤمنوا ، لا قتضت الحكمة إهلاكهم بعذاب الاستئصال كما في حال الأمم السابقة. (فِي ذلِكَ) ؛ أي : القرآن. (وَذِكْرى) ؛ أي : تذكيرا وموعظة لقوم يصدّقون به. وقيل : إنّ قوما من المسلمين كتبوا شيئا من كتب أهل الكتاب فهدّدهم الله في هذه الآية ونهاهم عنه. (٢)

[٥٢] (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

(شَهِيداً) ؛ أي : شهيدا لي بالصدق والإبلاغ وعليكم بالتكذيب والفساد. وشهادة الله له قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) في كلام معجز ثبت أنّه من الله. وقيل : هي إثبات المعجزات له بإنزال الكتب عليه. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) فيعلم أنّي على الهدى وأنّكم على الضلالة. (آمَنُوا بِالْباطِلِ) وهو ما يعبدون من دون الله وكفروا بوحدانيّة الله. (هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان. (٣)

[٥٣] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٥١.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٥٢.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٥٣.

٦٥٣

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) ؛ أي : يسألونك نزول العذاب عاجلا لإنكارهم صحّة ما توعّدهم به. كما قال النضر بن الحارث : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ). (١)(أَجَلٌ مُسَمًّى) ؛ أي : وقت قدّره الله أن يعاقبهم به وهو يوم القيامة. (٢)

(بَغْتَةً) : فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم. (٣)

[٥٤ ـ ٥٥] (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ). يعني أنّ العذاب وإن لم يأتهم في الدنيا ، فإنّ جهنّم جامعة لهم وهم معذّبون فيها. (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ). يعني أنّ العذاب يحيط بهم لا أنّه يصل إلى موضع منهم دون موضع فلا يبقى جزء منهم إلّا وهو معذّب في النار. (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ؛ أي : جزاء أعمالكم. (يَقُولُ). نافع وأهل الكوفة بالياء والآخرون : «نقول» بالنون. (٤)

(بِالْكافِرِينَ). اللّام للعهد مع وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على موجب الإحاطة. (وَيَقُولُ ذُوقُوا). أي يقول الله أو بعض ملائكته بأمره. (٥)

(لَمُحِيطَةٌ) ؛ أي : ستحيط بهم (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ). أو : هي محيطة بهم في الدنيا. لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا ، أو لأنّها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنّها الساعة محيطة بهم. و (يَوْمَ يَغْشاهُمُ) على هذا منصوب بمضمر. أي : يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت. (٦)

[٥٦] (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦))

(يا عِبادِيَ). قيل : هي في المستضعفين بمكّة الذين نزل فيهم : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً

__________________

(١) الأنفال (٨) / ٣٢.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٥٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٢.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٥٣ و ٤٥٢.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٢.

(٦) الكشّاف ٣ / ٤٦٠.

٦٥٤

فَتُهاجِرُوا فِيها). (١) لأنّ أمر دينهم ما كان يستقيم لهم بين ظهراني الكفرة. (٢)

(إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ). أي فاهربوا من أرض يمنعكم أهلها من الإيمان والإخلاص في عبادتي. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : معناه إذا عصي الله في أرض أنت فيها فاخرج إلى غيرها. (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ؛ أي : لا تعبدوا غيري. وإيّاي منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده. وقيل : إنّ دخول الفاء للجزاء. والتقدير : إن ضاق بكم موضع فاعبدوني ولا تعبدوا غيري ؛ إنّ ارضي واسعة. أمر سبحانه المؤمنين إذا كانوا في بلد لا يلتئم لهم فيه أمر دينهم أن ينتقلوا منه إلى غيره. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ). يقول : لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك. فاجتنبوهم (٤) أن يفتنوكم عن دينكم. فإنّ أرضي واسعة. وهو يقول : فيم كنتم؟ قالوا : كنّا مستضعفين في الأرض. فقال : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ (٥)

واعلم أنّ صاحب الكشّاف والفاضل النيشابوريّ لمّا بلغا إلى تفسير هذه الآية : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) ـ اهـ ـ ذكرا سيمّا النيشابوريّ أنّه هجر دياره وهي بلاد الشيعة وسافر إلى بلدان أهل الخلاف عليهم امتثالا لهذه الآية. وأمّا أنا فعلى العكس منهما. لأنّي هاجرت من بلادي ـ بلاد الجزائر ـ لمّا استولى عليها سلطان آل عثمان إلى بلاد الشيعة ـ وهي تستر ونواحيها ـ للتمكّن من إظهار شعائر الشيعة. فينكشف الحال لي ولهما وأنا إن شاء الله على الحقّ.

[٥٧] (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧))

ثمّ خوّفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). أي بأيّ أرض كان. فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت. (تُرْجَعُونَ). أي بعد الموت فيجازيكم

__________________

(١) النساء (٤) / ٩٧.

(٢) الكشّاف ٣ / ٤٦١.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٥٥.

(٤) المصدر : (فإن خفتموهم) بدل (فاجتنبوهم».)

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥١.

٦٥٥

بأعمالكم. عن أبي بكر : «يرجعون» بالياء. (١)

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). أي : فاصبروا على طاعة الله ، فإنّكم إليه ترجعون. (٢)

[٥٨] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨))

(وَالَّذِينَ آمَنُوا). يعني المهاجرين. (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ؛ أي : لننزلنّهم (غُرَفاً) ؛ أي : علالي عاليات. (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) تلك الغرف. قرأأهل الكوفة غير عاصم : لنثوينهم من الجنة [بالثاء] والباقون بالباء. (٣)

«لنثوينهم». من الثواء وهو النزول للإقامة. يقال : ثوى في المنزل. وثوى غير متعدّ. فإذا تعدّي بزيادة همزة النقل ، لم يتجاوز مفعولا واحدا ؛ نحو ذهب وأذهبته. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف إمّا إجراؤه مجرى لننزلنّهم ونبوّئنّهم ، أو حذف الجارّ وإيصال الفعل ، أو تشبيه الظرف الموقّت بالمبهم. (٤)

[٥٩] (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩))

(صَبَرُوا). أي على دينهم فلم يتركوه لشدّة نالتهم وصبروا على مشاقّ الطاعات. (يَتَوَكَّلُونَ) في مهمّات أمورهم ومهاجرة دورهم. (٥)

(الَّذِينَ صَبَرُوا) على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). لمّا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أسلم بمكّة بالهجرة ، خافوا الفقر والضيعة ، وكان يقول الرجل منهم : كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة؟ فنزلت. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٥٥ و ٤٥٣.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥١.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٤٥٣ ـ ٤٥٥.

(٤) الكشّاف ٣ / ٤٦١ ـ ٤٦٢.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٤٥٥.

(٦) الكشّاف ٣ / ٤٦٢.

٦٥٦

[٦٠] (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

(لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لضعفها وتأكل بأفواهها. وقيل : إنّه لا تدّخر القوت من الحيوان إلّا ابن آدم والنملة والفأرة. (اللهُ يَرْزُقُها) ؛ أي : يرزق تلك الدابّة الضعيفة التي لا تقدر على حمل رزقها ويرزقكم أيضا. فلا تتركوا الهجرة لهذا السبب. (١)

(لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : لا تدّخره. وإنّما تصبح ولا معيشة عندها ، ثمّ إنّها مع ضعفها وتوكّلها وإيّاكم مع قوّتكم واجتهادكم سواء في أنّه لا يرزقها وإيّاكم إلّا الله. لأنّ رزق الكلّ بأسباب هو المسبّب لها وحده. فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة. (٢)

(يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ). عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كانت العرب يقتلون أولادهم مخافة الجوع فقال : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ). (٣)

[٦١] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١))

ثمّ عجّب سبحانه رسوله والمؤمنين من إيمان المشركين بالباطل مع اعترافهم بأنّ الله هو الخالق الفاعل فقال : ولئن سألت هؤلاء المشركين : من خلق السموات والأرض وذلّل الشمس والقمر في دورانها على طريقة واحدة؟ (لَيَقُولُنَّ) في جواب ذلك لا يختلفون : (اللهُ) الفاعل لذلك. لأنّهم قالوا بحدوث العالم والنشأة الأولى. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ؛ أي : فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة حجر لا ينفع ولا يضرّ؟ (٤)

[٦٢] (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢))

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ). إنّما خصّ الهجرة بذكر الرزق لئلّا يخلّفهم عنها خوف العيلة. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ / ٤٥٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٣.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ١٥١.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٤٥٧.

(٥) مجمع البيان ٨ / ٤٥٧.

٦٥٧

(وَيَقْدِرُ لَهُ) ؛ أي : يضيّق عليه. والضمير في قوله : (لَهُ) يحتمل وجهين : أن يريد : ويقدر لمن يشاء ، فوضع الضمير موضع من يشاء لأنّ من يشاء مبهم غير معيّن فكان الضمير مبهما مثله. وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد بحسب المصلحة. (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم. (١)

[٦٣] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣))

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على كمال قدرته وتمام نعمته وعلى الاعتراف بتوحيده والإخلاص في عبادته. (٢)

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ). استحمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّه ممّن أقرّ بنحو ما أقرّوا به ثمّ نفعه ذلك في توحيد الله ولم يكن إقرارا عاطلا كإقرار المشركين وعلى أنّهم أقرّوا بما هو حجّة عليهم حيث نسبوا النعم إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم. (لا يَعْقِلُونَ) ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحّة التوحيد. أو : لا يعقلون ما تريد بقولك ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم. (٣)

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ). هو كلام مستقلّ على سبيل الاعتراض. أو هو متّصل بما قبله. كأنّه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والسفاهة خلاف أهل الشرك المعترفين بأنّ النعمة من الله وهم يعبدون الأصنام. (٤)

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على [ما] عصمك من هذه الضلالة ، أو على تصديقك وإظهار حجّتك. (٥)

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٤٥٧. وفي النسخة في آخر العبارة زيادة : (من عبادته».

(٣) الكشّاف ٣ / ٤٦٣.

(٤) تفسير النيسابوريّ ٢١ / ١٥.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٣.

٦٥٨

[٦٤] (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

(وَما هذِهِ). في هذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها. يريد : ما هي ، لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلّا كما يلعب الصبيان ساعة ثمّ يتفرّقون. (لَهِيَ الْحَيَوانُ) ؛ أي : ليس فيها إلّا حياة مستمرّة لا موت فيها فكأنّها في ذاتها حياة. والحيوان مصدر حيي ، وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واوا. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها. (١)

(لَهِيَ الْحَيَوانُ) ؛ أي : لهي دار الحياة الحقيقيّة. (٢)

[٦٥] (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥))

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين حيث لا يذكرون إلّا الله ولا يدعون معه إلها آخر. وفي تسميتهم مخلصين ضرب من التهكّم. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) وأمنوا ، عادوا إلى حال الشرك. (٣)

[٦٦] (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦))

(لِيَكْفُرُوا). يحتمل أن يكون اللّام لام كي. وكذلك في (وَلِيَتَمَتَّعُوا) فيمن قرأها بالكسر. والمعنى أنّهم يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة قاصدين التمتّع بها والتلذّذ لا غير ، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة لا إلى التمتّع والتلذّذ. وأن يكون لام الأمر. وقراءة سكون اللّام تشهد له. ونحوه قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ). (٤) والأمر بالكفر هنا مجاز عن الخذلان والتخلية وأنّ ذلك الأمر متسخّط إلى غاية.

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٦٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٤.

(٣) الكشّاف ٣ / ٤٦٤.

(٤) فصّلت (٤١) / ٤٠.

٦٥٩

ومثاله أن ترى رجلا عازما على أمر يضرّه وتبالغ في نهيه فإذا لم ينجع قلت له : أنت وشأنك. (١)

ابن كثير والكسائيّ : (لِيَتَمَتَّعُوا) بسكون اللّام. (٢)

[٦٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧))

(وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ) ؛ أي : يختلسون قتلا وسبيا. (٣)

(وَيُتَخَطَّفُ). كانت العرب حول مكّة يغزو بعضهم بعضا ويتناهبون وأهل مكّة قارّون آمنون لا يغار عليهم مع قلّتهم وكثرة العرب. فذكّرهم الله هذه النعمة الخاصّة وو بخّهم بأنّهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه ومثل هذه النعمة الظاهرة وغيرها من النعم مكفورة عندهم. (٤)

[٦٨] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨))

(مِمَّنِ افْتَرى). افتراؤهم على الله زعمهم أنّ لله شريكا وتكذيبهم بما جاءهم من الحقّ وكفرهم بالرسول والكتاب. وفي قوله : (لَمَّا جاءَهُ) تسفيه لهم. يعني لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه ولم يتفكّروا حتّى يظهر لهم صدقه أو كذبه. (٥)

تلعثم الرجل في الأمر ، إذا تمكّث فيه وتأنّى. (صحاح)

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ). استفهام تقرير. أي : أما لهؤلاء الكفّار والمكذّبين مثوى في جهنّم؟ وهذا مبالغة في إنجاز الوعيد لهم. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٤٦٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٢١٤.

(٤) الكشّاف ٣ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٥) الكشّاف ٣ / ٤٦٥.

(٦) مجمع البيان ٨ / ٤٥٨.

٦٦٠