عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

(لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) ؛ أي : تعطاه. لأنّ الملك تلقيه من قبل الله سبحانه. وقيل : معناه : لتلقّن. (١)

(حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أيّ حكيم [و] أيّ عليم. والجمع بينهما ، مع أنّ العلم داخل في الحكمة ، للإشعار بأنّ علوم القرآن منها ما هي حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات. (٢)

[٧] (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧))

ثمّ شرع في بيان بعض تلك العلوم بقوله : (إِذْ قالَ مُوسى). (سَآتِيكُمْ مِنْها). وجمع الضمير ، إن صحّ أنّه لم يكن معه غير امرأته ، لما كنى عنها بالأهل. والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإتيان وإن أبطأ. (٣)

(إِذْ قالَ مُوسى) ؛ أي : اذكر قصّة موسى (إذ قال لأهله) أي : امرأته بنت شعيب. (آنَسْتُ) ؛ أي : أبصرت ورأيت نارا. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) ؛ أي : الزموا مكانكم لعلّي آتيكم من هذه النار بخبر عن الطريق. لأنّه كان أضلّ الطريق. (بِشِهابٍ قَبَسٍ) ؛ أي : شعلة نار. وإنّما قال لامرأته : (آتِيكُمْ) على خطاب الجمع ، لأنّه أقامها مقام الجماعة في الأنس بها في الأمكنة الموحشة. (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ؛ أي : لكي تستدفئوا بها. وذلك لأنّه قد أصابهم البرد وكانوا شاتين. قرأأهل الكوفة : «بشهاب قبس» منوّنا غير مضاف. وقرأالباقون : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) مضافا. (٤)

القبس : النار المقبوسة. (٥)

(بِشِهابٍ قَبَسٍ) : شعلة نار مقبوسة. وإضافة الشهاب إليه لأنّه يكون قبسا وغير قبس. ونوّنه الكوفيّون على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنّه (٦) بمعنى

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٢٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧١.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧١.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٣٠ و ٣٢٨.

(٥) الكشّاف ٣ / ٣٤٩.

(٦) في النسخة زيادة : لا يكون قبسأ».

٥٤١

المقبوس. (١)

[٨] (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨))

(جاءَها) ؛ أي : جاء موسى إلى النار. يعني التي ظنّ أنّها نار وهي نور. (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ). لمّا رأى موسى النار ، وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة فلم تكن النار تحرق الشجرة ولا رطوبة الشجرة تطفئ النار. فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها [فهالت إليها] فخافها فتأخّر عنها. ثمّ لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن نودي ، وهو نداء الوحي. (فِي النَّارِ) ؛ أي : بورك فيمن في النار ، وهم الملائكة ، (وَمَنْ حَوْلَها) يعني موسى. وكان فيها ملائكة لهم زجل بالتقديس والتسبيح. ومن حولها هو موسى لأنّه بالقرب منها. ومخرجه الدعاء والمراد به الخبر. وقيل : بورك من في النار سلطانه. فالبركة ترجع إلى اسم الله تعالى. وقيل : معناه : بورك من أتى في طلب النار وهو موسى ومن حولها الملائكة. أي : دامت البركة لموسى والملائكة. وهذا تحيّة من الله لموسى بالبركة. (سُبْحانَ اللهِ) ؛ أي : تنزيها له من أن يكون جسما يحتاج إلى جهة أو يكون ممّن يتكلّم بآلة. (٢)

(أَنْ بُورِكَ) : أي بورك. فإنّ النداء فيه معنى القول. (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ؛ أي : [من] في مكان النار ـ وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ)(٣) ـ ومن حول مكانها. والظاهر أنّه عامّ في كلّ من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا خصوصا تلك البقعة التي كلّم الله فيها موسى. (وَسُبْحانَ اللهِ). من تمام ما نودي به ، لئلّا يتوهّم من السماع تشبيها. (٤)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧١.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٣) القصص (٢٨) / ٣٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧١.

٥٤٢

[٩] (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

(أَنَا اللهُ) ؛ أي : إنّ الذي يكلّمك هو الله الذي لا يغالب. (١)

(إِنَّهُ أَنَا اللهُ). الهاء للشأن ، و (أَنَا اللهُ) جملة مفسّرة له. (٢)

[١٠] (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠))

ثمّ أراه آية يعرف بها صحّة النداء فقال : (وَأَلْقِ عَصاكَ). فألقاها فصارت حيّة. (كَأَنَّها جَانٌّ) ؛ أي : [تتحرّك] كما يتحرّك الجانّ. وهي الحيّة التي ليست بعظيمة. وإنّما شبّهها بالجانّ في خفّة حركتها واهتزازها مع أنّها ثعبان في عظمها ولذلك هاله ذلك حتّى (وَلَّى مُدْبِراً) ؛ أي : رجع إلى ورائه. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ؛ أي : لم يرجع. والمفسّرون يقولون : لم يلتفت ولم يقف. (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ). هذا تسكين من الله لموسى. (٣)

(وَأَلْقِ عَصاكَ) عطف على بورك. (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ؛ أي : لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون. (٤)

[١١] (إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ؛ أي : لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين. فيكون استثناء منقطعا. وإنّما حسن ذلك لاجتماع الأنبياء وغيرهم في معنى يشملهم وهو التكليف. (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً) ؛ أي : توبة وندما على ما فعله من القبيح. (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ أي : ساتر لذنبه. (٥)

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ؛ أي : ولكن من ظلم منهم ؛ أي : فرطت منهم صغيرة ممّا يجوز على الأنبياء كالذي فرط من آدم ويونس وداوود وسليمان وإخوة يوسف ومن موسى بوكزة القبطيّ.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٣١.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧١.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٣١.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧١.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٣٢.

٥٤٣

ويوشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسمّاه ظلما كما قال موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي)(١). (٢)

[١٢] (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ). أعطاه آية أخرى. (فِي تِسْعِ آياتٍ) ؛ أي : مع تسع آيات أخر أنت مرسل بها إلى فرعون. (فاسِقِينَ) : خارجين عن طاعة الله. (٣)

(فِي جَيْبِكَ). لأنّه كان بمدرعة صوف لاكمّ لها. (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ؛ أي : آفة كبرص. (فِي تِسْعِ آياتٍ) : في جملتها ، أو معها ، على أنّ التسع هي الفلق والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم. (٤)

[١٣] (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣))

قرأعليّ بن الحسين عليهما‌السلام : (مُبْصِرَةً) بفتح الميم والصاد. (مُبْصِرَةً) : واضحة بيّنة على من أبصر أنّها خارجة عن قدرة البشر. (٥)

(مُبْصِرَةً) : بيّنة. اسم فاعل أطلق للمفعول ، إشعارا بأنّها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث يكاد تبصر نفسها لو كانت ممّا تبصر ، أو مبصرة كلّ من نظر إليها وتأمّل فيها. (٦)

[١٤] (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

(وَجَحَدُوا بِها). الباء زائدة. أي : أنكروها ولم يقرّوا أنّها من عند الله (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) : علموها بقلوبهم. وإنّما جحدوها بألسنتهم ظلما على بني إسرائيل ـ أو على

__________________

(١) القصص (٢٨) / ١٦.

(٢) الكشّاف ٣ / ٣٥١.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٣٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٢.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٣١ و ٣٣٣.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٢.

٥٤٤

أنفسهم ـ وطلبا للعلوّ وتكبّرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى. (عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة. (١)

[١٥] (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥))

(عِلْماً) ؛ أي علما بالقضاء بين الخلق وبكلام الطير والدوابّ. عن ابن عبّاس. (فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) بأن جعلنا أنبياء وبالمعجزة والعلم وإلانة الحديد وتسخير الشياطين. (٢)

[١٦] (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ). يدلّ على أنّ الأنبياء يورّثون المال كتوريث غيرهم. وقيل : معناه أنّه ورثه علمه ونبوّته وحكمته وملكه دون سائر أولاده وكانوا تسعة عشر. ومعنى الميراث هنا أنّه قام مقامه في ذلك. فأطلق عليه اسم الإرث كما أطلق على الجنّة اسم الإرث. وهذا خلاف الظاهر والصحيح عند أهل البيت عليهم‌السلام هو الأوّل. وقال سليمان مظهرا لنعمة الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ـ الآية. (٣)

(مَنْطِقَ الطَّيْرِ). إطلاق المنطق على أصوات الطيور إمّا مجازا وإمّا حقيقة لأنّ منها ما له كلام مهجيّ كالطوطي. وقيل : إنّ الطير كانت تكلّم الناس معجزة له كما أخبر عن الهدهد. [ولعلّ سليمان عليه الصلاة والسّلام مهما سمع صوت حيوان ، علم بقوّته القدسيّة التخيّل الذي صوّته والغرض الذي توخّاه به.] ومن ذلك أنّه مرّ ببلبل يصوّت ويرقص فقال : [يقول :] إذا أكلت نصف تمرة ، فعلى الدنيا العفا. وصاحت فاختة فقال : إنّها تقول : ليت الخلق لم يخلقوا. فلعلّه كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٣٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٣٤.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٣٤.

٥٤٥

شدّة. والضمير في (عُلِّمْنا) و (أُوتِينا) له ولأبيه ، أو له وحده على عادة الملوك. (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يؤتى الأنبياء والملوك. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها. فملك سبعمائة سنة وستّة أشهر ملك أهل الدنيا كلّهم وأعطي [علم] كلّ شيء ومنطق كلّ شيء. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ). من سليمان على وجه الاعتراف بنعم الله. ويحتمل أن يكون من قول الله سبحانه على وجه الإخبار. (١)

[١٧] (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧))

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ) ؛ أي : جمع له جنوده. لأنّه كان إذا أراد سفرا ، جمع له طوائف من هؤلاء الجنود على بساط ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض. وكان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للإنس وخمسة وعشرون للجنّ ومثلهما للوحش والطير. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سريّة فيأمر الريح العاصف فترفعه ويأمر الرخاء فتسير به. فأوحى الله [إليه] وهو يسير بين السماء والأرض أنّي زدت في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق بشيء إلّا جاءت الريح فأخبرتك. وقد نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم. وكان يوضع فيه منبر من الذهب فيقعد وحوله ثلاثة آلاف كرسيّ من ذهب وفضّة يقعد الأنبياء على كراسيّ الذهب والعلماء على كراسيّ الفضّة وتظلّه الطير بأجنحتها حتّى لا يقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح. (فَهُمْ يُوزَعُونَ) ؛ أي : يمنعون. لأنّ على كلّ صنف من جنوده وزعة ترد أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرّقوا. (٢)

[١٨] (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

٥٤٦

لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨))

قال الزمخشريّ : روي أنّ قتادة دخل الكوفة والتفت عليه الناس فقال : سلوا عمّا شئتم. وكان أبو حنيفة حاضرا ـ وهو غلام حدث ـ فقال : سلوه عن نملة سليمان ذكرا كانت أم أنثى. فسألوه ، فأفحم. فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ؛ بدليل قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ). وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قوله : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى. (١) انتهى. وقال ابن الحاجب : إنّ مثل الشاة والحمامة والنملة من الحيوانات تأنيث لفظيّ. ولذلك كان قول من زعم أنّ النملة في قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ) أنثى لورود تاء التأنيث في قالت وهما ، لجواز أن يكون مذكّرا في الحقيقة وورود التأنيث كورودها في فعل المؤنّث اللّفظيّ. ولذا قيل : إفحام قتادة خير من جواب أبي حنيفة.

أقول : أمّا قتادة ، فإنّه أراد أن يرتقي إلى غير محلّه ؛ كما ورد أنّه قال : إنّ عليّ بن أبي طالب قال على هذا المنبر : (سلوني قبل أن تفقدوني) وأنا أقول ذلك. فأفحمه أبو حنيفة مع حداثة سنّه. فغلّطه ابن الحاجب. فالقوم ما بين مفحم وغالط. والحمد لله.

(أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) : أشرفوا على واد بالطائف ، وقيل بالشام. (قالَتْ نَمْلَةٌ) ؛ أي : صاحت للنمل. وكانت رئيسة لها. وفهم صوتها سليمان. فلذا عبّر عنه بقوله : (قالَتْ). (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) ؛ أي : لا يكسّرنّكم ولا يطأنّكم. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمكانكم ، وإلّا لم يفعلوا. وكأنّها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيلام. وقيل : استئناف. أي : فهم سليمان والقوم لا يشعرون. وهذا يدلّ على أنّ سليمان وجنوده كانوا ركبانا ومشاة على الأرض ولم تحملهم الريح ، وإلّا لما خافت النملة. ولعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير الريح. قال ابن عبّاس : فوقف سليمان بجنوده حتّى دخل النمل مساكنها. (٢)

(وادِ النَّمْلِ). هو واد ينبت الذهب والفضّة وقد وكّل الله به النمل. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : إنّ لله واديا ينبت الذهب والفضّة وقد حماه بأضعف خلقه ـ وهو النمل ـ

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٣٦ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٣.

٥٤٧

لو رامته البخاتيّ ، ما قدرت عليه. (١)

عن الرضا عليه‌السلام : انّ النملة لمّا قالت : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) قال لها سليمان : أما عملت أنّي نبيّ الله وأنّي لا أظلم أحدا؟ فلم حذّرتهم ظلمي؟ قالت النملة : خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن الله تعالى ذكره. (٢)

تلك النملة كانت اسمها طاخية. (٣) من اللّيلة الطخياء ، وهي المظلمة.

[١٩] (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

(فَتَبَسَّمَ) من حذرها وتحذيرها ، أو بما خصّه الله من إدراك همسها وفهم غرضها. (٤)

(ضاحِكاً). قيل : لظهور عدله حيث [بلغ عدله في الظهور مبلغا عرفه] النمل. وقيل : إنّ الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتّى سمع ذلك [فتبسّم من حذرها]. (أَوْزِعْنِي) ؛ أي : ألهمني. (أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) بأن علّمتني منطق الطير وأكرمتني بالنبوّة والملك ، وعلى والدي بالنبوّة وفصل الخطاب وألنت له الحديد ، وعلى والدتي بأن زوّجتها نبيّك. (وَأَنْ أَعْمَلَ) ؛ أي : وفّقني لأن أعمل صالحا في المستقبل. (فِي عِبادِكَ). قال ابن عبّاس : يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بينهم من النبيّين. أي : أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي مع أسمائهم. (٥)

[٢٠] (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠))

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) ؛ أي : ما للهدهد لا أراه؟ تقول العرب : ما لي أراك كئيبا؟ فهو من باب القلب الذي يوضحه المعنى. وسبب تفقّده الهدهد أنّه احتاج إليه

__________________

(١) تفسير القمّىّ ٢ / ١٢٩ ـ ١٢٧.

(٢) علل الشرائع ١ / ١٩٢.

(٣) الكشّاف ٣ / ٣٥٥.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٣.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٣٦.

٥٤٨

في سفره لأنّه كان دليله على الماء ، لأنّه كان يرى الماء في بطن الأرض كما يراه في القارورة. وقال أبو حنيفة لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف تفقّد سليمان الهدهد من بين الطيور؟ قال : لأنّ الهدهد يرى الماء في بطن الأرض. فضحك أبو حنيفة وقال : كيف لا يرى الفخّ في التراب؟ فقال : أما عملت أنّه إذا نزل القدر غشي البصر؟ وقيل : كانت الطيور تظلّه من الشمس. فلمّا أخلّ الهدهد بمكانه ، بان بطلوع الشمس عليه. (١)

(أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ). أم منقطعة. كأنّه لمّا لم يره ، ظنّ أنّه حاضر ولا يراه لساتر ستره أو غير ذلك فقال : (ما لِيَ لا أَرَى)؟ ثمّ احتاط فلاح له أنّه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنّه يسأل عن صحّة ما لاح له. (٢)

[٢١] (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))

(عَذاباً شَدِيداً) كنتف ريشه وإلقائه في الشمس أو حيث النمل تأكله ، أو جعله مع ضدّه. (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) ليعتبر به أبناء جنسه. (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : بحجّة تبين عذره. (٣)

(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي). ابن كثير : أو ليأتينني بنونين أولاهما مشدّدة. من قرأ : (لَيَأْتِيَنِّي) حذف النون الثالثة التي هي قبل ياء المتكلّم لاجتماع النونات. ومن قرأ : ليأتينني فهو على الأصل. (٤)

وسأل سليمان عريف الطير ـ وهو النسر ـ عن الهدهد ، فلم يجد عنده علمه. ثم قال لسيّد الطير ـ وهو العقاب ـ : عليّ به. فارتفعت فنظرت ، فإذا هو مقبل. فقال الهدهد : بحقّ الله إلّا تركتني. فقالت : ثكلتك أمّك! إنّ نبيّ الله حلف ليعذّبنّك. فقال : وما استثنى؟ قالت : بلى. [قال :] أو ليأتينّي بعذر مبين. فلمّا قرب من سليمان ، أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها على الأرض تواضعا له. فلمّا دنا منه ، أخذ برأسه فمدّه إليه. فقال : يا نبيّ الله ، اذكر وقوفك بين يدي

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٤.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٥٤٩

الله. فارتعد سليمان وعفا عنه. (١)

[٢٢] (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢))

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ؛ أي : فلم يلبث سليمان إلّا زمانا يسيرا حتّى جاء الهدهد فأتاه الهدهد بحجّة فقال : (أَحَطْتُ) ؛ أي : اطّلعت على ما لم يطّلع عليه ولم يخبرك به الجنّ ولم يطّلع عليه الإنس. وفي مخاطبته إيّاه بذلك ، تنبيه له على أنّ في أدنى خلق الله من أحاط بما لم تحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه. (٢)

(فَمَكَثَ). قرأعاصم ويعقوب : «فمكث» بفتح الكاف ، والباقون بضمّها. وقرأأبو عمرو وابن كثير في رواية البزّيّ : (مِنْ سَبَإٍ) بفتح الهمزة غير منصرف. وابن كثير في رواية القوّاس : (سَبَإٍ) بغير همز. ومكث ومكث لغتان. وسبأ إن جعلته اسم الحيّ أو أبا القبيلة ، كان منصرفا ؛ وإن جعلته اسم القبيلة ، كان غير منصرف. (٣)

(مِنْ سَبَإٍ). وهي اسم مدينة بأرض اليمن بعث الله إلى أهلها اثني عشر نبيّا. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ سبأ رجل ولد له عشرة أولاد من العرب تيامن منهم ستّة وتشاءم أربعة. (٤)

(فَقالَ أَحَطْتُ) بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق. قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. (٥)

لا يخفى ما في كلامه على الرافضة من التهافت والبطلان. لأنّ للرافضة أصولا وقواعد مأخوذة من كلام الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام. فلمّا لم يطّلع عليها ، أتى بما قال.

[٢٣] (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣))

(تَمْلِكُهُمْ) ؛ أي : تتصرّف فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد. (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). إخبار عن

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٥٨.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٤٠ ، والكشّاف ٣ / ٣٥٩.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٣٧ و ٣٣٨.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٤٠.

(٥) الكشّاف ٣ / ٣٥٩.

٥٥٠

سعة ملكها. أي : من كلّ شيء يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا. وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ وولدها أربعون ملكا آخرهم أبوها. (عَرْشٌ عَظِيمٌ) ؛ أي : سرير أعظم من سريرك. وكان مرصّعا بالجواهر. وكان ثلاثين ذراعا وارتفاعه في الهواء كذلك. وقيل : المراد بالعرش الملك. روي أنّه عليه‌السلام لمّا أتمّ بناء بيت المقدس ، تجهّز للحجّ فوافى الحرم فأقام به ما شاء. ثمّ توجّه إلى اليمن فخرج من مكّة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها ، فنزل بها ، ثمّ لم يجد الماء. وكان الهدهد رائده لأنّه يحسن طلب الماء. فتفقّده لذلك فلم يجده ؛ إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحطّ إليه فتواصفا فطار معه لينظر ما وصف له ، ثمّ رجع بعد العصر وحكى ما حكى من عجائب قدرة الله وما خصّ به خاصّة عباده. (١)

(عَرْشٌ عَظِيمٌ). إن قلت : كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان عليه‌السلام فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كلّ شيء. وأمّا خفاء مكانها على سليمان وبينهما مسافة ثلاثة أيّام ، فلعلّه لمصلحة كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. (٢)

[٢٤] (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤))

(زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ). يعني عبادة الشمس وغيرها. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الحقّ (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إليه. (٣)

(يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ). لأنّهم كانوا مجوسا يعبدون الشمس. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٤١ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٤.

(٢) الكشّاف ٣ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٤.

(٤) الكشّاف ٣ / ٣٦٠.

٥٥١

[٢٥] (أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥))

(أَلَّا يَسْجُدُوا) ؛ أي : فصدّهم لئلّا يسجدوا. أو : زيّن لهم ألّا يسجدوا ، على أنّه بدل من أعمالهم. وعلى قراءة : (أَلَّا) بالتخفيف ، يكون للتنبيه ويا للنداء والمنادى محذوف. أي : ألا يا قوم اسجدوا. فيكون استئنافا من الله أو من سليمان والوقف على (لا يَهْتَدُونَ). (١)

(يُخْرِجُ الْخَبْءَ). هو المخبوء وهو ما أحاط به غيره حتّى منع من إدراكه. وهو مصدر وصف به. وما يخرجه الله من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة. وقيل : الخبء : الغيب. يعني : يعلم غيب السموات والأرض. وقيل : خبء السماء المطر. وخبء الأرض النبات والأشجار. (أَلَّا يَسْجُدُوا). قرأأبو جعفر والكسائيّ : «ألا يسجدوا» خفيفة اللّام. وقرأ الكسائيّ وحفص عن عاصم : «ما تخفون وما تعلنون» بالتاء ، والباقون بالياء. (٢)

[٢٦] (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

[٢٧] (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧))

(قالَ سَنَنْظُرُ) ؛ أي : سنعرف. من النظر بمعنى التأمّل. (٣)

[٢٨ ـ ٢٩] (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩))

(اذْهَبْ بِكِتابِي). وذلك أنّ سليمان عليه‌السلام كتب كتابا وختمه بخاتمه ثمّ دفعه إليه. (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) ؛ يعني : إلى أهل سبأ. (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) ؛ أي : استتر منهم قريبا منهم بعد إلقاء الكتاب. فمضى بالكتاب وألقاه إليهم. فلمّا رأته بلقيس (قالَتْ) لقومها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ؛ أي : الأشراف.

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٤.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٤١ ـ ٣٤٢ ، و ٣٣٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٥.

٥٥٢

قال قتادة : أتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية إلى قفاها. فألقى الكتاب على نحرها فقرأته. وقيل : كانت لها كوّة مستقبلة للشمس يقع الشمس عند ما تطلع فيها فإذا نظرت إليها سجدت. فجاء الهدهد إلى الكوّة فصدّها بجناحه ، فارتفعت الشمس ولم تعلم. فقامت تنظر. فرمى الهدهد الكتاب إليها. فلمّا أخذت الكتاب ، جمعت الأشراف ـ وهم ثلاثمائة واثنا عشر قبيلا ـ ثمّ قالت لهم : إنه ألقي إلي كتاب كريم» وصفته بالكرم لأنّه كان مختوما ـ كما جاء في الحديث : إكرام الكتاب ختمه ـ أو لأنّه صدّره ببسم الله الرحمن الرحيم ، أو لحسن خطّه وجودة لفظه وبيانه ، أو لأنّه من ملك كريم يملك الإنس والجنّ والطيور ، لأنّها سمعت به. (١)

[٣٠ ـ ٣١] (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) ؛ أي : الكتاب منه وإنّ المكتوب فيه : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). فإنّ هذا القدر جملة ما في الكتاب. و (أَلَّا تَعْلُوا) في محلّ الرفع على أنّه بدل من الكتاب. وقيل : إنّ «أن» بمعنى أي ، مثلها في : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) : (٢) أي امشوا. أي : لا تتكبّروا عليّ وأتوني منقادين فيما أدعوكم ، أو مؤمنين بالله ورسوله. وكذا كانت الأنبياء تكتب كتبها موجزة مقصورة على الدعاء إلى الطاعة. (٣)

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ). إنّ الله خصّ سورة الفاتحة محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرّفه بها ولم يشرك معه فيها أحدا من الأنبياء ما خلا سليمان فإنّه أعطاه منها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ألاتراه يحكي عن بلقيس حين قالت : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). (٤)

[٣٢] (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢))

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٢) ص (٣٨) / ٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٤٣.

(٤) تفسير العسكريّ عليه‌السلام / ٢٩.

٥٥٣

(أَفْتُونِي) ؛ أي : أشيروا عليّ الصواب. (قاطِعَةً) ؛ أي : ماضية. (حَتَّى تَشْهَدُونِ) ؛ أي : تحضرون وتشيرون. وهذا ملاطفة منها لقومها في الاستشارة منهم. (١)

[٣٣] (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣))

(أُولُوا قُوَّةٍ) وقدرة. (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) ؛ أي : مفوّض إليك في القتال وتركه. (ما ذا تَأْمُرِينَ). أي لنمتثله. (٢)

[٣٤] (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤))

(قالَتْ) مجيبة لهم عن التعريض بالقتال : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة عن قتال (أَفْسَدُوها) ؛ أي : خرّبوها وأهانوا أشرافها كي يستقيم لهم الأمر. وصدّقها الله فيما قالت فقال : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ). أي وكما قالت هي. وقيل : إنّه من قولها. (٣)

[٣٥] (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) ؛ أي : إلى سليمان وقومه (بِهَدِيَّةٍ) أصانعه بذلك عن ملكي. (فَناظِرَةٌ) ؛ أي : منتظرة (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) بقبول أم ردّ. لأنّها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم. وكان غرضها أن يتبيّن لها بذلك أنّه ملك أو نبيّ. فإن قبل الهديّة ، تبيّن أنّه ملك وعندها ما ترضيه. وإن ردّها ، تبيّن أنّه نبيّ. قيل : أهدت إليه مائتي غلام ومائتي جارية ألبست الغلمان لباس الجواري وألبست الجواري لباس الغلمان حتّى لا يعرفوا. وقيل : أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج. فلمّا بلغ ذلك سليمان ، أمر

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٤٤.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٤٤.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

٥٥٤

الجنّ فموّهوا الآجر بالذهب وألقوه في الطريق. فلمّا جاؤوا ، رأوه ملقى في الطريق في كلّ مكان. فلمّا رأوا ذلك ، صغر في أعينهم ما جاؤوا به. وقيل : إنّها أرسلت مع ذلك حقّة فيها درّة يتيمة غير مثقوبة ودعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر وضمّ إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت إليه أن ميّز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما في الحقّة قبل فتحها واثقب الدرّة ثقبا مستويا من غير علاج جنّ ولا إنس. وقالت للرسول : انظر إليه عند الدخول. فإن نظر إليك نظر غضب ، فاعلم أنّه ملك فلا يهو لنّك أمره فإنّا أعزّ منه. وإن نظر إليك نظر لطف ، فاعلم أنّه نبيّ مرسل. فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره. فأمر سليمان الجنّ أن يبسطوا في موضع فيه هو إلى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضّة وأن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضّة. ثمّ قال للجنّ : اجمعوا أولادكم. فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره. ثمّ قعد سليمان على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسيّ عن يمينه ومثلها عن يساره واصطفّت الشياطين فراسخ وكذلك الإنس والطير والوحوش. فلمّا دنا القوم ونظروا إلى سليمان ، تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا. فلمّا وقفوا بين يديه ، نظر إليهم نظرا حسنا. فأعطوه كتاب الملكة ، فنظر فيه فقال : أين الحقّة؟ فأخبره جبرئيل بما فيها. فقال للرسول : إنّ فيها درّة غير مثقوبة. فقال : صدقت. فاثقب الدرّة وأدخل الخيط. فأرسل سليمان إلى الأرضة ، فجاءت ، فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتّى خرجت من الجانب الآخر. ثمّ ميّز بين الغلمان والجواري بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثمّ تجعله على اليد الأخرى ثمّ تضرب به الوجه والغلام كان يأخذ من الآنية يضرب به وجهه. وقيل : إنّها أرسلت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير وقالت : أريد أن تعرّفني رأسها من أسفلها. فأرسل سليمان العصا إلى الهواء وقال : أيّ الرأسين سبق إلى الأرض ، فهو أصلها. (١)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

٥٥٥

[٣٦] (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦))

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) ؛ أي : جاء الرسول سليمان. (أَتُمِدُّونَنِ). وهذا استفهام إنكار. (فَما آتانِيَ اللهُ) من الملك والنبوّة خير ممّا أعطاكم من أموال الدنيا. (بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ). أي إذا أهدى بعضكم إلى بعض. (أَتُمِدُّونَنِ). حمزة ويعقوب : «أتمدوني» بنون واحدة مشدّدة. (١)

[٣٧] (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧))

ثمّ قال للرسول : ارجع بهداياك. (لا قِبَلَ) ؛ أي : لا طاقة ولا قدرة لهم على دفعها. (مِنْها) ؛ أي : من القرية. (صاغِرُونَ) ؛ أي : ذليلون إن لم يأتوني مسلمين. (٢)

[٣٨] (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨))

ولمّا رجع إليها الرسول وعرفت أنّه نبيّ وأنّها لا تقاومه ، فتجهزّت للمسير إليه وأخبره جبرئيل عليه‌السلام أنّها خرجت من اليمن مقبلة إليه ، قال سليمان لأشراف عسكره : يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها وذلك أنّه أعجبته صفته فأراد أن يراه. وظهر له آثار إسلامها فأحبّ أن يملك عرشها قبل أن تسلم فيحرم عليه أخذ مالها. وقيل : أراد أن يختبر عقلها وفطنتها بذلك هل تعرفه أم لا. وقيل : أراد أن يجعل ذلك دليلا ومعجزة على صدق نبوّته ، لأنّها خلّفته في دارها ووكلت به ثقات قومها يحرسونه. (مُسْلِمِينَ) ؛ أي : موحّدين. أو : منقادين. (٣)

[٣٩ ـ ٤٠] (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٤٦ و ٣٤٤.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٤٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٤٨.

٥٥٦

لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)).

(عِفْرِيتٌ) ؛ أي : قويّ مارد. (مَقامِكَ) ؛ أي : مجلسك الذي تقضي فيه. (عَلَيْهِ) : على حمله. (أَمِينٌ). أي على ما فيه من الذهب والجواهر. وكان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار. فقال سليمان : أريد أسرع من ذلك. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ). هو آصف بن برخيا وزير سليمان وابن أخته وكان صدّيقا يعرف الاسم الأعظم. وأمّا (الْكِتابِ) فقيل : المراد به اللّوح المحفوظ. وقيل : كتاب سليمان إلى بلقيس. (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). وذلك أنّه قال لسليمان : انظر إلى السماء. فما طرف حتّى جاء به فوضعه بين يديه. والمعنى : حتّى يرتدّ إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء. واختلف في كيفيّة مجيئة على وجوه. والمرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ الأرض طويت له. (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) : موضوعا بين يديه. (لِيَبْلُوَنِي) ؛ أي : ليختبرني هل أقوم بشكر هذه النعمة أم أكفر بها. (لِنَفْسِهِ). لأنّ فائدة شكره عائدة إليه. ه(غَنِيٌّ). أي عن شكر العباد. (كَرِيمٌ) ؛ أي : متفضّل على عباده شاكرهم وكافرهم لا يمنعه كفرهم عن الإفضال عليهم. (١)

عن الجواد عليه‌السلام أنّه سأله أخوه موسى قال : أخبرني عن سليمان أكان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟ فقال عليه‌السلام : اكتب يا أخي : بسم الله الرحمن الرحيم. سألته عن قول الله في كتابه : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة [ما عرفه] آصف ، لكنّه عليه‌السلام أحبّ أن يعرّف أمّته من الإنس والجنّ أنّه الحجّة من بعده. وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله. ففهّمه الله ذلك لئلّا يختلف في إمامته ودلالته ، كما فهّم سليمان في حياة داوود ليتعرّف إمامته ونبوّته من بعده لتأكيد الحجّة على الخلق. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا. وإنّما كان عند آصف

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٤٨ ـ ٣٥٠.

(٢) بحار الأنوار ١٤ / ١٢٧.

٥٥٧

منها حرف واحد. فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتّى تناول السرير بيده ، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة العين. ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا. وحرف عند الله تبارك وتعالى استأثر به. (١)

[٤١] (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١))

(نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) ؛ أي : غيّروا لها سريرها إلى حال تنكره إذا رأته. وأراد بذلك اعتبار عقلها. (أَتَهْتَدِي). أي إلى معرفة عرشها بفطنتها بعد التغيير. وقيل : (أَتَهْتَدِي) ؛ أي : أتستدلّ بعرشها على قدرة الله وصحّة نبوّتي وتهتدي بذلك إلى طريق الإيمان أم لا. قال ابن عبّاس : فنزع ما كان على العرش من الفصوص والجواهر. أو ما كان أحمر جعل أخضر وبالعكس. (٢)

[٤٢] (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢))

(كَأَنَّهُ هُوَ). فلم تثبته ولم تنكره. ودلّ ذلك على كمال عقلها حيث لم يقل لا ، إذ كان يشبه سريرها ، ولم يقل نعم ، لأنّها وجدت فيه ما غيّر وبدّل ولأنّها خلّفته في بيتها وحمله في تلك المدّة إلى ذلك الموضع غير داخل في قدرة البشر. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ). أي بصحّة نبوّة سليمان. (مِنْ قَبْلِها) ؛ أي : من قبل الآية في العرش. (وكنا طائعين) لأمر سليمان. وقيل : إنّه من كلام سليمان ومعناه : وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها. (٣)

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ). من تتمّة كلامها كأنّها ظنّت أنّه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت : أوتينا العلم بكمال قدرة الله وصحّة نبوّتك قبل هذه الحالة أو المعجزة بما تقدّم من الآيات. (٤)

__________________

(١) الكافي ١ / ٢٣٠ ، ح ١.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٥٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٥٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٧.

٥٥٨

[٤٣] (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣))

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ) ؛ أي : منعها عبادة الشمس عن الإيمان بالله بعد رؤية تلك المعجزات. فتكون ما موصولة فاعل صدّ. وقيل : معناه : وصدّها سليمان عمّا كانت تعبده من دون الله وحال بينها وبينه ومنعها منه ، فيكون ما في موضع النصب. (١)

[٤٤] (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

الصرح : القصر. وقيل : صحن الدار. والممرّد : المملّس. روي أنّ سليمان أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى تحته الماء وألقى عليه دوابّ البحر السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الطير والجنّ والإنس. وإنّما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحقّقا لنبوّته وثباتا على الدين. وزعموا أنّ الجنّ كرهوا أن يتزوّجها فتفضي إليه بأسرارهم ، لأنّها كانت بنت جنيّة. وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد يجتمع له فطنة الإنس والجنّ فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك أشدّ وأفظع ، فقالوا له : إنّ في عقلها شيئا. وهي شعراء الساقين. ورجلها كحافر الحمار. فاختبر عقلها بتنكير العرش ، واتّخذ الصرح ليتعرّف ساقها ورجلها فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلّا أنّها شعراء ، ثمّ صرف بصره وناداها : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ). وقيل : هي السبب في اتّخاذ النورة أمر بها الشياطين فاتّخذوها. ونكحها سليمان وأحبّها وأقرّها على ملكها. فأمر الجنّ فبنوا لها بلدا وقصرا. وكان يزورها في الشهر مرّة فيقيم عندها ثلاثة أيّام ، وولدت له. وقيل : بل زوّجها ذا تبع ملك همدان وسلّطه على اليمن. وأمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع. ولم يزل أميرا حتّى مات سليمان. (ظَلَمْتُ نَفْسِي).

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٥٠.

٥٥٩

تريد بكفرها فيما تقدّم. وقيل : حسبت أنّ سليمان يغرقها في اللّجّة فقالت : ظلمت نفسي بسوء ظنّي بسليمان. (١)

(وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها). روي أنّه أمر قبل قدومها فبني قصر صحنه من زجاج أبيض وجرى من تحته الماء ووضع سريره في صدره فجلس عليه. فلمّا أبصرته ، ظنّته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها. (٢)

[٤٥] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥))

(أَخاهُمْ). أي في النسب. (أَنِ اعْبُدُوا) ؛ أي : بأن اعبدوا الله. (٣)

(فَرِيقانِ) : فريق مؤمن وفريق كافر. وقيل : أريد بالفريقين صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. (يَخْتَصِمُونَ) يقول كلّ فريق : الحقّ معي. (٤)

[٤٦] (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦))

السيّئة العقوبة. والحسنة التوبة. فإن قلت : ما معنى استعجالهم بالسيّئة قبل الحسنة؟ وإنّما يكون ذلك إذا كانتا متوقّعتين إحداهما قبل الأخرى. قلت : كانوا يقولون لجهلهم : إنّ العقوبة التي يعدها صالح ، إن وقعت بزعمه ، تبنا حينئذ واستغفرنا ـ مقدّرين أنّ التوبة مقبولة في ذلك الوقت ـ وإن لم يقع ، فنحن على ما نحن عليه. فخاطبهم صالح على حسب قولهم واعتقادهم ثمّ قال لهم : هلّا تستغفرون الله قبل نزول العذاب ولعلّكم ترحمون؟ تنبيها لهم على الخطأ فيما قالوه وتجهيلا فيما اعتقدوه. (٥)

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٧٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٧٨.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٥٤.

(٤) الكشّاف ٣ / ٣٧١.

(٥) الكشّاف ٣ / ٣٧١.

٥٦٠