عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

آمن من آل فرعون. لأنّ بني إسرائيل كانوا آمنوا به. (١)

(أَنْ كُنَّا) ؛ أي : لأن كنّا. وقرئ : «إن كنا» على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة. (٢)

[٥٢] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢))

(أَنْ أَسْرِ). روي أنّه مات في تلك اللّيلة في كلّ بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتّى خرج موسى بقومه. (٣)

(أَنْ أَسْرِ). نافع وابن كثير : (أَنْ أَسْرِ) بكسر النون ووصل الألف من سرى. (٤)

(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ). علّة الأمر بالإسراء. أي : أسر بهم حتّى إذا اتّبعوكم مصبحين كان لكم تقدّم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم. (٥)

(مُتَّبَعُونَ) : يتّبعكم فرعون وجنوده ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرض مصر. (٦)

[٥٣ ـ ٥٤] (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤))

(حاشِرِينَ) : [وبعث في المدائن حاشرين وحشر الناس] وقدّم مقدّمته في ستّمائة ألف وركب هو في ألف ألف. (٧)

(حاشِرِينَ) يحشرون له الجيش ليقبضوا على موسى وقومه لمّا ساروا بأمر الله. فلمّا حضروا عنده ، قال لهم فرعون : (إِنَّ هؤُلاءِ) ؛ يعني : أصحاب موسى (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ). قال المفسّرون : وكان الشرذمة الذين قلّلهم فرعون ستّمائة ألف. (٨)

(قَلِيلُونَ). وإنّما استقلّهم ـ وكانوا ستّمائة وسبعين ألفا ـ بالإضافة إلى جنوده. إذ روي

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٩٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٥.

(٣) الكشّاف ٣ / ٣١٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٥.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٥.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

(٧) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢١.

(٨) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

٥٠١

أنّه خرج وكانت مقدّمته سبعمائة ألف. (١)

[٥٥] (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥))

(لَغائِظُونَ) ؛ أي : إنّهم غائظون لمخالفتهم إيّانا في الدين ثمّ لخروجهم من أرضنا على كره منّا وذهابهم بالحليّ التي استعاروها وخلوصهم من استعبادنا. (٢)

[٥٦] (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦))

ابن عامر وأهل الكوفة : (حاذِرُونَ) بالألف. والباقون بغير ألف. «حذرون» أي : خائفون شرّهم. و (حاذِرُونَ) ؛ أي : ذوو أداة وقوّة مستعدّون شاكون في السلاح. (٣)

«حذرون» ؛ أي : عادتنا الحذر. وقرأالكوفيّون : (حاذِرُونَ). والأوّل للثبات والثاني للتجدّد. (٤)

[٥٧] (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧))

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة إهلاكهم بقوله : (فَأَخْرَجْناهُمْ) يعني آل فرعون (مِنْ جَنَّاتٍ) ؛ أي : بساتين (وَعُيُونٍ) جارية فيها. (٥)

[٥٨] (وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨))

(وَكُنُوزٍ) : أموال مخبأة وخزائن ودفائن. (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) ؛ أي : منابر يخطب عليها الخطباء. عن ابن عبّاس. وقيل : هو مجالس الأمراء والرؤساء التي كان يحفّ بها الأتباع فيأتمرون بأمرهم. وقيل : المنازل الحسان. (٦)

[٥٩] (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٦.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٦.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

٥٠٢

(كَذلِكَ). يحتمل ثلاثة أوجه : النصب ، على : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا. والجرّ ، على أنّه وصف لمقام. أي : مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. والرفع ، على أنّه خبر لمبتدأ محذوف. أي : الأمر كذلك. (١)

(كَذلِكَ) ؛ أي : كما وصفنا لك أخبارهم. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ). وذلك أنّ الله ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار. (٢)

[٦٠] (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠))

[٦١] (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١))

[٦٢] (قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢))

(كَلَّا) ؛ أي : لن يدركونا ولا يكون ما تظنّون ، فانتهوا عن هذا القول. (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بنصره. (سَيَهْدِينِ) ؛ أي : سيرشدني إلى طريق النجاة. (٣)

(سَيَهْدِينِ) : سينجيني. (٤)

[٦٣] (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣))

فقال يوشع بن نون : يا نبيّ الله ، بم أمرك ربّك؟ قال : بعبور البحر. فأقحم يوشع فرسه في الماء. [وأوحى الله إلى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ). فضربه] فانفلق اثنا عشر طريقا وأخذ كلّ سبط في طريق. فكان الماء لمّا ارتفع على رؤوسهم مثل الجبل ، وقع شعاع الشمس في أرض البحر فيبس كما حكى عزوجل. ولمّا دخل موسى وأصحابه البحر ،

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣١٥.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢١.

٥٠٣

جزعت الفرقة التي كانت في طريق موسى فقالوا : يا موسى ، أين إخواننا؟ فقال : معكم في البحر. فلم يصدّقوه. فأمر الله البحر فصارت طاقات حتّى نظر بعضهم إلى بعض وتحدّثوا. (١)

(كُلُّ فِرْقٍ). الفرق : الجزء المتفرّق منه. (٢)

(الْبَحْرَ). هو النيل. وقيل : بحر قلزم ما بين اليمن ومكّة إلى مصر. (فَانْفَلَقَ) ؛ أي : فضرب فانشقّ البحر وظهر فيه اثنا عشر طريقا وقام الماء [عن يمين الطريق ويساره كالجبل العظيم. والفرق الاسم] لما انفرق ، والفرق المصدر. (٣)

[٦٤] (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤))

(وَأَزْلَفْنا) ؛ أي : قرّبنا إلى البحر فرعون وقومه حتّى أغرقناهم. وقيل : قرّبناهم إلى المنيّة لمجيء وقت هلاكهم. (٤)

[٦٥ ـ ٦٦] (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦))

[٦٧] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧))

(إِنَّ فِي ذلِكَ) ؛ أي : في فرق البحر وإنجاء بني إسرائيل وإغراق فرعون وقومه لدلالة واضحة على توحيد الله وصفاته التي لا يشاركه فيها غيره. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ). معناه : انّهم مع هذا البرهان الباهر ما آمن أكثرهم. فلا تستوحش ـ يا محمّد ـ من قعود قومك عن الحقّ الذي تدلّهم عليه. فقد جروا على عادة أسلافهم. (٥)

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) ؛ أي : ما تنبّه عليها أكثرهم ، إذ لم يؤمنوا من بقي في مصر من القبط وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتّخذوا العجل وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)(٦). (٧)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) الكشّاف ٣ / ٣١٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠١.

(٦) البقرة (٢) / ٥٥.

(٧) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٧.

٥٠٤

[٦٨] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))

(الْعَزِيزُ) في سلطانه (الرَّحِيمُ) بعباده. وقيل : (الْعَزِيزُ) في انتقامه من أعدائه (الرَّحِيمُ) في إنجائه من الهلاك لأوليائه. قيل : إنّه لم يؤمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون ومريم التي دلّت على عظام يوسف. (١)

[٦٩] (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩))

(نَبَأَ إِبْراهِيمَ). فإنّه شجرة الأنبياء وبه افتخار العرب. (٢)

[٧٠ ـ ٧١] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١))

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) على وجه الإنكار عليهم : (ما تَعْبُدُونَ)؟ (٣)

فإن قلت : (ما تَعْبُدُونَ) سؤال عن المعبود فحسب. وكان القياس أن يقولوا : أصناما. كقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ). (٤)(ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ)(٥)(ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً). (٦) قلت : هؤلاء قد جاؤوا بقصّة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين ، فاشتملت على جواب إبراهيم وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. ألا ترى كيف عطفوا على قولهم (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) ولم يقتصروا على زيادة (نَعْبُدُ) وحده؟ (٧)

(فَنَظَلُّ لَها) ؛ أي : ندوم. وقيل : كانوا يعبدونها بالنهار دون اللّيل. (٨)

(فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) ؛ أي : نقيم على عبادتها [مداومين]. (٩)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٠١.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٤) البقرة (٢) / ٢١٩.

(٥) سبأ (٣٤) / ٢٣.

(٦) النحل (١٦) / ٣٠.

(٧) الكشّاف ٣ / ٣١٧.

(٨) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٧.

(٩) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

٥٠٥

[٧٢] (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢))

(هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) ؛ أي : يسمعون دعاءكم (إِذْ تَدْعُونَ)؟ ومعناه : هل يستجيبون دعاءكم إذا دعوتموهم؟ (١)

[٧٣] (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣))

(أَوْ يَضُرُّونَ) ؛ أي : يضرّونكم إذا تركتم عبادتها. (٢)

[٧٤] (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤))

(بَلْ وَجَدْنا آباءَنا). هذا إخبار عن تقليدهم آباءهم في عبادة الأصنام. (٣)

[٧٥ ـ ٧٦] (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧))

(ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) ؛ أي : الذي كنتم تعبدونه من الأصنام (أَنْتُمْ) الآن (وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) ؛ أي : والذي كان آباؤكم يعبدونهم. (٤)

[٧٧] (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧))

(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي). أي الأصنام وعباد الأصنام عدوّ لي ، إلّا أنّه غلب ما يعقل. وقيل فيه : إنّما عنى الأصنام. وإنّما قال : (فَإِنَّهُمْ) فجمعهم جمع العقلاء لمّا وصفها بالعداوة التي لا تكون إلّا من العقلاء. وجعل الأصنام كالعدوّ في الضرر من جهة عبادتها. (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ). استثناء من جميع المعبودين. (٥)

(عَدُوٌّ لِي). يريد أنّهم أعداء لعابديهم من حيث إنّهم يتضرّرون من جهتهم فوق ما يتضرّر الرجل من جهة عدوّه ، لكنّه صوّر الأمر في نفسه تعريضا لهم ؛ فإنّه أنفع في النصح

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

٥٠٦

من التصريح ، إشعارا بأنّها نصيحة بدأ بها بنفسه ليكون أدعى إلى القبول. وإفراد العدوّ لأنّه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب. (١)

(إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ). استثناء منقطع. ويجوز أن يكون غير منقطع على تقدير : وإنّ جميع من عبدتم عدوّ لي إلّا ربّ العالمين. وقد عبدوا مع الله الأصنام. (٢)

[٧٨] (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨))

(فَهُوَ يَهْدِينِ) ؛ أي : يرشدني إلى ما فيه نجاتي. (٣)

(فَهُوَ يَهْدِينِ). ومبدأ الهداية بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الحيض من الرحم ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنّة والتنعّم بلذائذها. (٤)

[٧٩] (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩))

[٨٠] (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠))

(وَإِذا مَرِضْتُ). وإنّما قال : (مَرِضْتُ) دون أمرضني ، لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثمّ قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم؟ قالوا : التخم. (٥)

[٨١] (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١))

(يُحْيِينِ). يعني في القيامة. (٦)

[٨٢] (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

(أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي). إنّما قال ذلك على سبيل الانقطاع إلى الله لا أنّ له خطيئة. لأنّه

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٧.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٧.

(٥) الكشّاف ٣ / ٣١٩.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣.

٥٠٧

معصوم. وقيل : معناه : أطمع أن يغفر لمن يشفّعني فيه ؛ فأضافه إلى نفسه. وهذا الكلام إنّما صدر على وجه الاحتجاج على قومه والإخبار بأنّه لا يصلح للإلهيّة إلّا من فعل هذه الأفعال. (١)

(يَوْمَ الدِّينِ). فإن قلت : لم علّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنّما تغفر في الدنيا؟ قلت : لأنّ أثرها يتبيّن يومئذ وهو الآن خفيّ لا يعلم. (٢)

[٨٣] (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣))

(هَبْ لِي حُكْماً). يعني النبوّة. وقيل : المراد علما إلى علم وفقها إلى فقه. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). أي من قبلي من النبيّين في الدرجة والمنزلة. أو : افعل بي من اللّطف ما يؤدّيني إلى الصلاح والاجتماع مع النبيّين في الثواب. والصلاح هو الاستقامة على ما أمر الله به ودعا إليه. (٣)

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) : وفّقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح. (٤)

[٨٤] (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤))

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ؛ أي : ثناء حسنا في آخر الأمم وذكرا جميلا وقبولا عامّا في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. فأجاب الله دعاءه فكلّ الأديان يثنون عليه ويقرّون بنبوّته. وقيل : معناه : واجعل لي ولد صدق في آخر الأمم يدعو إلى الله ؛ وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٥)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّه عرضت على إبراهيم ولاية أمير المؤمنين عليهما‌السلام فقال : اللهمّ

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٢) الكشّاف ٣ / ٣٢٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٨.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠٤.

٥٠٨

اجعله من ذرّيّتي. ففعل الله ذلك. (١)

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ). قال : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٢)

[٨٥] (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥))

[٨٦] (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦))

(وَاغْفِرْ لِأَبِي) بالهداية والتوفيق للإيمان. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) عن طريق الحقّ. وإن كان هذا الدعاء بعد موته ، فلعلّه كان لظنّه أنّه كان يخفي الإيمان تقيّة من نمرود. ولذلك وعده. أو لأنّه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفّار. (٣)

(مِنَ الضَّالِّينَ) ؛ أي : من الذاهبين عن الصواب في اعتقاده. ووصفه بأنّه ضالّ يدلّ على أنّه كان كافرا كفر جهالة لا كفر عناد. وقد تقدّم الكلام فيه في سورة التوبة. (٤)

[٨٧] (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧))

(وَلا تُخْزِنِي) بتعذيب والدي. (يُبْعَثُونَ). أي العباد. (٥)

(يَوْمَ يُبْعَثُونَ) ؛ أي : لا تعيّرني بذنب يوم يحشر الخلائق. وهذا كان منه على وجه الانقطاع إلى الله ؛ وإلّا فالقبيح منفيّ عن الأنبياء عليهم‌السلام. (٦)

[٨٨ ـ ٨٩] (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

(إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ) ؛ أي : إلّا حال من أتى الله (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وهو من قوله : (تحية بينهم ضرب وجيع». أي أن يكون القلب السليم بدلا عن المال والبنين. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ؛ كأنّه قال : لا ينفع غنى إلّا غنى من أتى الله

__________________

(١) تأويل الآيات ١ / ٣٨٨ ، ح ٨.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٨.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٤.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٥٨.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣٠٤.

٥٠٩

بقلب سليم. لأنّ غنى الرجل في دينه سلامة قلبه ؛ كما أنّ غناه في دنياه بماله وبنيه. ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا بتقدير المضاف وهو الحال والمراد بها سلامة القلب وليست هي من جنس المال والبنين. وقيل : من مفعول لا ينفع. أي : لا ينفع مال ولا بنون إلّا رجلا سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله ومع بنيه حيث أرشدهم. ومن بدع التفاسير تفسير بعضهم السليم باللّديغ من خشية الله. (١)

(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : الذي يلقى الله وليس فيه أحد سواه. (٢)

(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشكّ والشرك أو الفساد والمعاصي. وخصّ القلب بالسلامة لأنّه إذا سلم سلمت الجوارح من الفساد. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه القلب الذي سلم من حبّ الدنيا. ويؤيّده قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. (٣)

[٩٠] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠))

(وَأُزْلِفَتِ) ؛ أي : قربت لهم ليدخلوها. (٤)

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ). يعني تكون قريبة من موضع السعداء حتّى يوقعون في القيامة (٥) ويغتبطون بأنّهم المحشورون إليها. (٦)

[٩١ ـ ٩٢] (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢))

(وَبُرِّزَتِ) ؛ أي : أبرزت وكشفت الغطاء عنها للضالّين عن طريق الحقّ والصواب. (وَقِيلَ لَهُمْ) في ذلك اليوم على وجه التوبيخ : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والأوثان وغيرهما؟ (٧)

(بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ). والنار تكون بارزة للأشقياء بمرأى منهم يتحسّرون على أنّهم

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

(٥) كذا في النسخة. وفي المصدر : (ينظرون اليها) بدل (حتى يوقعون في القيامة».

(٦) الكشّاف ٣ / ٣٢١.

(٧) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

٥١٠

المسوقون إليها فيهلكون غمّا في كلّ لحظة ويوبّخون على إشراكهم. (١)

[٩٣] (مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣))

(هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم في ذلك اليوم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لكم إذا عوقبتم؟ وقيل : (يَنْتَصِرُونَ) ؛ أي : يمتنعون من العذاب. (٢)

[٩٤ ـ ٩٥] (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥))

(فَكُبْكِبُوا فِيها). قال عليه‌السلام : نزلت في قوم وصفوا عدلا وخالفوه إلى غيره. ومن خبر آخر فإنّهم بنو أميّة. (وَالْغاوُونَ). هم بنو فلان. قالوا وهم فيها يختلفون. (٣)

(فَكُبْكِبُوا) ؛ أي : جمعوا وطرحوا بعضهم على بعض. وقيل : نكسوا فيها على رؤوسهم.

(هُمْ). يعني الآلهة التي يعبدونها. (وَالْغاوُونَ) ؛ أي : العابدون. والمعنى اجتمع المعبودون من دون الله والعابدون لها في النار. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) ؛ أي : كبكب معهم جنود إبليس. يريد من اتّبعه من ولده وولد آدم. (٤)

[٩٦] (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦))

(قالُوا) ؛ أي : قال هؤلاء وهم في النار يخاصم بعضهم بعضا. (٥)

(وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ). يجوز أن ينطق الله الأصنام حتّى يصحّ التقاول والتخاصم. ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين. (٦)

[٩٧ ـ ٩٨] (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨))

(إِنْ كُنَّا). إن هي المخفّفة من المثقّلة. أي : إنّا كنّا لفي ضلال مبين. (إِذْ نُسَوِّيكُمْ) ؛ أي : إذ

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢٣.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

(٦) الكشّاف ٣ / ٣٢٢.

٥١١

سوّيناكم بالله وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم. (١)

[٩٩] (وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩))

(إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) ؛ أي : أوّلونا الذين اقتدينا بهم. وقيل : الكافرون الذين دعونا إلى الضلال. (٢)

والمراد بالمجرمين الذين أضلّوهم رؤساؤهم وكبراؤهم. كقوله : (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(٣). (٤)

[١٠٠ ـ ١٠٢] (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢))

ثمّ أظهروا الحسرة فقالوا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) يشفعون لنا ويسألون في أمرنا. (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ؛ أي : ذي قرابة يهمّه أمرنا. والمعنى : ما لنا شفيع من الأباعد ولا صديق من الأقارب. وذلك حين يشفع الملائكة والنبيّون. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : لنشفعنّ لشيعتنا ـ ثلاث مرّات ـ حتّى يقول الناس : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). وعنه عليه‌السلام : انّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفّع فيهم حتّى يبقى خادمه فيقول ويرفع سبّابته : يا ربّ خويدمي! كان يقيني الحرّ والبرد. فيشفّع فيه. وإنّ المؤمن ليشفع لجاره وما له حسنة فيقول : يا ربّ جاري! كان يكفّ عنّي الأذى. فيشفّع فيه. وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في ثلاثين إنسانا. (٥)

وإنّما جمع الشافعين ووحّد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلّة الصديق. (٦)

وعن بعض الحكماء أنّه سئل عن الصديق قال : اسم لا معنى له. (٧)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥.

(٣) الأحزاب (٣٣) / ٦٧.

(٤) الكشّاف ٣ / ٣٢٢.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٦) الكشّاف ٣ / ٣٢٢.

(٧) الكشّاف ٣ / ٣٢٣.

٥١٢

(كَرَّةً) ؛ أي : رجعة إلى الدنيا فنكون من المصدّقين فتحلّ لنا الشفاعة. (١)

[١٠٣] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣))

(إِنَّ فِي ذلِكَ) ؛ أي : فيما قصصناه (لَآيَةً) ؛ أي : دلالة لمن نظر فيها واعتبر بها. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ). فيه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعلام له بأنّ الشرّ قديم. (٢)

[١٠٤] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

[١٠٥] (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥))

(الْمُرْسَلِينَ). لأنّ من كذّب رسولا واحدا من رسل الله ، فقد كذّب الجماعة. وقال أبو جعفر عليه‌السلام : يعني نوحا والأنبياء الذين كانوا بينه وبين آدم. (٣)

[١٠٦] (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦))

(أَخُوهُمْ نُوحٌ). أي في النسب لا في الدين. (أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله في تكذيبي؟ (٤)

[١٠٧ ـ ١٠٨] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨))

(أَمِينٌ). أي على الرسالة. (وَأَطِيعُونِ) فيما أمركم به من الإيمان والتوحيد. (٥)

[١٠٩] (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩))

(عَلَيْهِ) ؛ أي : على الدعاء إلى التوحيد. (مِنْ أَجْرٍ). من زائدة. (٦)

[١١٠] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠))

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ). كرّره لاختلاف المعنى. لأنّ التقدير : فاتّقوا الله وأطيعون لأنّي

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٠٦.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٧.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٧.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠٧.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣٠٧.

٥١٣

رسول أمين. واتّقوا الله وأطيعون لأنّي لا أسألكم عليه أجرا فتخافوا تلف أموالكم به. وكلّ واحد من هذين المعنيين يقوّي الداعي على قبول قول الغير ويبعّد عن التهمة. (١)

[١١١] (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١))

قرأيعقوب : وأتباعك الأرذلون» (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) ؛ أي سفلة الناس وأراذلهم. وقيل : يعنون الحاكة والأساكفة. يعني : لو اتّبعناك ، لصرنا مثلهم ومعدودين من جملتهم. وهذا جهل منهم. لأنّه ليس في إيمان الأرذلين ما يوجب تكذيبه. فإنّ الرذل إذا أطاع سلطانه استحقّ القرب عنده دون الشريف العاصي. (٢)

(الْأَرْذَلُونَ). وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وما زالت أتباع الأنبياء كذلك حتّى صارت من سماتهم. ألا ترى إلى هر قل ملك الروم حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله فلمّا قال : ضعفاء الناس وأراذلهم ، قال : ما زالت أتباع الأنبياء كذلك. (٣)

[١١٢] (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢))

(وَما عِلْمِي) ؛ أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ولم أكلّف وإنّما كلّفت أن أدعوهم إلى الله وقد أجابوني إليه. (٤)

(وَما عِلْمِي) : أيّ شيء علمي؟ والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله واطّلاعه على سرّ أمرهم وباطنه. وإنّما قال هذا لأنّهم قد طعنوا ـ مع استرذالهم ـ في إيمانهم وأنّهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنّما آمنوا هوى وبديهة. كما حكى الله عنهم في قوله : (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ). (٥) ويجوز أن يتغابى لهم نوح عليه‌السلام فيفسّر قولهم الأرذلين بما هو الرذالة عنده ثمّ يبني جوابه على ذلك فيقول : ما عليّ إلّا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن أسرارهم

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٣) الكشّاف ٣ / ٣٢٤.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

(٥) هود (١١) / ٢٧.

٥١٤

والشقّ عن قلوبهم وإن [كان] لهم عمل سيّئ ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه. (١)

[١١٣] (إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣))

(إِنْ حِسابُهُمْ). أي الذين تزعمون أنّهم الأرذلون. (٢)

(لَوْ تَشْعُرُونَ). قصد بذلك ردّ اعتقادهم وإنكار أن يسمّى المؤمن رذلا وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا. فإنّ الغنى غنى الدين والنسب نسب الدين. (٣)

[١١٤] (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤))

[١١٥] (إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥))

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ؛ أي : ليس عليّ إلّا إنذاركم إنذارا بيّنا بالبرهان الصحيح ثمّ أنتم أعلم بشأنكم. (٤)

(إِنْ أَنَا). كالعلّة لما قبله. أي : ما أنا إلّا رجل مبعوث لإنذار المكلّفين عن الكفر والمعاصي ، سواء كانوا أغنياء أو أذلّاء. فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟ (٥)

[١١٦] (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦))

(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) ؛ أي : لم ترجع عمّا تقوله وتدعو إليه. (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) بالحجارة. (٦)

[١١٧] (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧))

(إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ). ليس هذا بإخبار بالتكذيب ، لأنّ الله يعلمه ، ولكنّه أراد : انّي

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٢٤.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨. قد ورد في المصدر هذه العبارة في شرح الآية الآتية.

(٣) الكشّاف ٣ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٤) الكشّاف ٣ / ٣٢٥.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

٥١٥

لا أدعوك عليهم لما غاظوني وآذوني ، وإنّما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنّهم كذّبوني في وحيك ورسالاتك. (١)

[١١٨] (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨))

(فَافْتَحْ) ؛ أي : احكم. (٢)

(فَافْتَحْ) ؛ أي : فاقض بيننا قضاء بالعذاب. لأنّه قال : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (٣)

[١١٩] (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩))

(فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) ؛ أي : السفينة المملوّة من الناس وغيرهم من الحيوانات. (٤)

[١٢٠] (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠))

(بَعْدُ) ؛ أي : بعد نجاة نوح ومن معه. (الْباقِينَ) : الخارجين من السفينة. (٥)

[١٢١] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١))

(لَآيَةً) ؛ أي : دلالة واضحة على توحيد الله. (٦)

[١٢٢] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))

(الْعَزِيزُ) في إهلاك قوم نوح بالغرق (الرَّحِيمُ) في إنجائه نوحا ومن معه في الفلك. (٧)

[١٢٣] (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣))

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٢٥.

(٢) الكشّاف ٣ / ٣٢٥.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

(٧) مجمع البيان ٧ / ٣٠٨.

٥١٦

(كَذَّبَتْ عادٌ). التأنيث لمعنى القبيلة. لأنّه أراد بعاد القبيلة. (١)

[١٢٤] (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤))

(أَخُوهُمْ). أي في النسب. (أَلا تَتَّقُونَ) الله باجتناب معاصيه؟ (٢)

[١٢٥ ـ ١٢٧] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧))

[١٢٨] (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨))

(بِكُلِّ رِيعٍ) ؛ أي : بكلّ مكان مرتفع. أو : بكلّ طريق. (آيَةً تَعْبَثُونَ) ؛ أي : بناء لا تحتاجون إليه لسكناكم وإنّما تريدون به اللهو واللّعب. وقيل : إنّهم كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارّة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم. وقيل : إنّهم كانوا يبنون بيوتا للحمّام بروجا لها. (٣)

(آيَةً تَعْبَثُونَ). الآية العلم. وكانوا ممّن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتّخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك ، لأنّهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم. (٤)

[١٢٩] (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩))

(مَصانِعَ) ؛ أي : حصونا وقصورا مشيّدة. وقيل : مأخذا للماء تحت الأرض. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ؛ أي : كأنّكم تخلدون فيها فلا تموتون. فإنّ هذه الأبنية بناء من يطمع في الخلود ولا يتفكّر في الموت. (٥)

[١٣٠] (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠))

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣١٠.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣١٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣١٠.

(٤) الكشّاف ٣ / ٣٢٦.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣١٠.

٥١٧

(بَطَشْتُمْ). قال : بالجور من غير استحقاق. (١)

(وَإِذا بَطَشْتُمْ). البطش : الأخذ باليد. أي : إذا بطشتم بأحد تريدون إنزال عقوبة به ، عاقبتموه عقوبة من يريد التجبّر بارتكاب العظائم. وقيل : معناه : وإذا عاقبتم ، قتلتم. فمعنى الجبّار القتّال على الغضب بغير حقّ. (٢)

[١٣١] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١))

[١٣٢] (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢))

(أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) ؛ أي : أعطاكم ما تعلمون من الخير. والإمداد إتباع الثاني ما قبله شيئا بعد شيء على انتظام. وهؤلاء أمدّوا بأنواع من النعم. (٣)

[١٣٣ ـ ١٣٤] (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤))

فإن قلت : كيف قرن البنين بالأنعام؟ قلت : هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها. (٤)

[١٣٥] (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥))

(أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عصيتموني. (يَوْمٍ عَظِيمٍ) : يوم القيامة. (٥)

[١٣٦] (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦))

(أَوَعَظْتَ) ؛ أي : أنهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا. أي : لا نقبل ما تدعونا إليه على كلّ حال. (٦)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢٣ : (قال : تقتلون بالغضب من غير استحقاق.)

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣١٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣١٠ ـ ٣١١.

(٤) الكشّاف ٣ / ٣٢٦.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٣١١.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٣١١.

٥١٨

فإن قلت : لو قيل : أو عظت أم لم تعظ ، لكان أخصر والمعنى واحد. قلت : بينهما فرق. لأنّ المراد : سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو وعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه. فهو أبلغ في قلّة اعتدادهم بوعظه من قولك : أم لم تعظ. (١)

[١٣٧] (إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧))

ابن كثير وأهل البصرة : (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بفتح الخاء. (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ؛ أي : ما هذا الذي جئتنا به إلّا كذب الأوّلين الذين ادّعوا النبوّة ولم يكونوا أنبياء وأنت مثلهم. ومن قرأبضمّ الخاء ، فالمعنى : ما هذا الذي نحن عليه من تشييد الأبنية واتّخاذ المصانع والبطش الشديد إلّا عادة الأوّلين من قبلنا. وقيل : معناه : ما هذا الذي نحن فيه إلّا عادة الأوّلين في أنّهم كانوا يحيون ويموتون ولا بعث ولا حساب. (٢)

[١٣٨] (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨))

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على ما تدّعيه ، لا في الدنيا ولا بعد الموت. (٣)

[١٣٩] (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩))

(فَأَهْلَكْناهُمْ) بعذاب الاستئصال. (٤)

[١٤٠ ـ ١٤٥] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥))

[١٤٦ ـ ١٤٧] (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧))

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٣٢٧.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٣٠٩ و ٣١١.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٣١١.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣١١.

٥١٩

(أَتُتْرَكُونَ) ؛ أي : أتظنّون أنّكم تتركون فيما أعطاكم من الخير في هذه الدنيا. (آمِنِينَ) من الموت والعذاب. وهذا إخبار بأنّ ما هم فيه من النعم لا تبقى عليهم. ثمّ عدّد نعمهم التي كانوا فيها فقال : (فِي جَنَّاتٍ) ؛ أي : بساتين يسترها الشجر (وَعُيُونٍ) جارية. (١)

(فِي ما هاهُنا) ؛ أي : في الذي استقرّ في هذا المكان من النعيم. ثمّ فسّره بقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). (٢)

[١٤٨] (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨))

وقوله : (وَنَخْلٍ) بعد قوله : (وَجَنَّاتٌ) وهي تتناول النخل أوّل شيء ، إمّا للتنبيه على انفراده عنها بالفضل عليها ، وإمّا أن يريد بالجنّات غيرها من الشجر ـ لأنّ اللّفظ يصلح لذلك ـ ثمّ يعطف عليها النخل. والهضيم : اللّطيف الضامر. وطلع إناث النخل فيه لطف. وفي طلح الفحاحيل غلظ. وكذلك طلع النخل البرنيّ ألطف من طلع ما عداه. فذكّرهم نعمة الله في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه. لأنّ الإناث ولّادة التمر والبرنيّ أجود التمر وأطيبه. ويجوز أن يريد أنّ نخيلهم أصابت جودة المنابت وسعة الماء وسلمت من العاهات فحملت الحمل الكثير. وإذا كثر الحمل ، هضم ـ أي : صفر ـ وإذا قلّ ، جاء فاخرا. وقيل : الهضيم : اللّيّن النضيج. كأنّه قال : ونخل قد أرطب ثمره. (٣)

(هَضِيمٌ) ؛ أي : يانع. وقيل : هو الرطب اللّيّن. وقيل : هو الذي ليس فيه نوى. (٤)

(هَضِيمٌ) ؛ أي : ممتلئ. (٥)

[١٤٩] (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩))

(فارِهِينَ). قرأأهل الكوفة والشام : «فارهين» بالألف. والباقون : «فرهين» بغير ألف.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٣١٣.

(٢) الكشّاف ٣ / ٣٢٧.

(٣) الكشّاف ٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٣١٣.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ١٢٣.

٥٢٠