عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

يخرجوا إلى الصلاة. (١) والاستئذان شامل لسائر العبارات (٢) وفي بعض الأخبار أنّه بالسلام. وظاهر الأمر الوجوب. وهو بالنسبة إلى البالغين ظاهر وإلى غيرهم للإرشاد. والجبّائيّ على الوجوب [على الأطفال أيضا في هذه الأوقات الثلاثة]. (٣)(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) أيّها المؤمنون. أي بعد هذه الأوقات الثلاث في ترك الاستئذان. [(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ؛] أي : هم طوّافون عليكم للخدمة. والجملة استئناف مبيّنة للعذر الموجب للترخّص في ترك الاستئذان ، لأنّهم يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو حتم الاستئذان في كلّ وقت ، أدّى إلى الحرج. (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) ؛ أي : بعضكم طائف على بعض. وليس في هذه الآية ما ينافي آية الاستئذان (٤) فلا تنسخها. لأنّ هذه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين.

(ثَلاثُ عَوْراتٍ). قرأحمزة والكسائيّ وأبو بكر بالنصب بدلا من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) والباقون بالرفع ، أي : هي ثلاث أوقات يختلّ فيها ستركم. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره ما بعده. (٥)

[٥٩] (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩))

(الْأَطْفالُ مِنْكُمُ). أي الأحرار دون المماليك. (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات. (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : الذين بلغوا من قبلهم ، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) ـ الآية. والمعنى أنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير الإذن إلّا في العورات الثلاث ، فإذا بلغوا وجب عليهم الاستئذان في جميع

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٤٣.

(٢) في مسالك الأفهام ٣ / ٢٩١ ـ والمتن مأخوذ منه ـ : وإطلاق الاستئذان يقتضي عدم تعيّن عبارة فيه .... وفي بعض الأخبار أنّه بالسلام ، وهو على الاستحباب.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٤٢.

(٤) الآية ٢٧ من نفس السورة.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٠.

٤٤١

الأوقات كالكبار. وفي الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام : من بلغ الحلم منكم ، فلا يلج على أمّه ولا على أخته ولا على بنته ولا على من سوى ذلك إلّا بإذن. ولا إذن لأحد حتّى يسلّم. فإنّ السّلام طاعة الرحمن. وفي الكشّاف : هذا عندهم كالشريعة المنسوخة. (١)

[٦٠] (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

(وَالْقَواعِدُ). وهنّ العجائز التي قعدن عن الحيض والحمل. جمع قاعد لا قاعدة. لأنّها من الصفات المختصّة بالمؤنّث ـ كحائض ـ فلم يحتج إلى علامة التأنيث. (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لكبرهنّ. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) : حرج (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ) ؛ أي : الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار. وقرأابن عبّاس : أن يضعن جلابيبهن» والجملة خبر المبتدأ. وصحّ دخول الفاء في الخبر لتضمّن المبتدأ معنى الشرط. (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) ؛ أي : غير قاصدات بوضع ثيابهنّ إظهار زينتهنّ التي أمر الله بإخفائها في قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) بل مجرّد التخفيف عن أنفسهنّ. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) عن وضع الجلباب (خَيْرٌ لَهُنَّ) من الوضع. لأنّه أبعد من التهمة. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : لا بأس أن يضعن ثيابهنّ. قال : الخمار والجلباب. (٢) وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام : وضع الجلباب وحده. (٣)

[٦١] (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ / ٢٩٣ ـ ٢٩٨.

(٢) الكافي ٥ / ٥٢٢ ، ح ١ : عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قرأ : «أن يضعن ثيابهن» قال : الخمار والجلباب.

(٣) الكافي ٥ / ٥٢٢ ، ح ٢.

٤٤٢

جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

(جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

لمّا تقدّم ذكر الاستئذان ، عقّبه سبحانه بذكر رفع الحرج عن المؤمنين في الانبساط في الأكل والشرب فقال ليس على هذه الثلاثة حرج. وقد قيل في تأويله وجوه. الأوّل : ليس عليكم حرج في مؤاكلتهم. لأنّهم كانوا يتحرّجون في ذلك ويقولون : إنّ الأعمى لا يبصر فنأكل جيّد الطعام دونه ، والأعرج لا يتمكّن من الجلوس ، والمريض يضعف عن الأكل. عن ابن عبّاس. الثاني : إنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا من بيوتنا. وكان أولئك يتحرّجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيّب. فنفى الله سبحانه الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو. الثالث : انّه ليس على هؤلاء حرج في التخلّف عن الجهاد. ويكون قوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) كلاما مستأنفا. فأوّل الكلام في الجهاد وآخره في الأكل. الرابع : انّ الزمنى والمرضى رخّص الله لهم في الأكل من بيوت من سمّاهم في الآية. وذلك أنّ قوما من الصحابة كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وقراباتهم ، وكان أهل الزمانة يتحرّجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنّه يطعمهم غير مالكيه. (١)

(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ؛ أي : ليس عليكم حرج في أنفسكم (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ). أي التي تملكونها. فإنّ ذلك هو الظاهر من الإطلاق. ولعلّ النكتة فيه مع ظهور الإباحة ، الإشارة إلى مساواة ما ذكر فيها والتنبيه على أنّ الأقارب المذكورين والصديق ينبغي جعلهم بمثابة النفس في أن يحبّ لهم ما يحبّ لها كما جعل بيوتهم كبيته. وقيل : هي بيوت الأزواج والعيال. لأنّ بيت المرأة كبيت الرجل. وقيل : هي بيوت الأولاد. لأنّهم لم يذكروا في الأقارب مع أنّهم أولى منهم بالموافقة. لأنّ بيت الولد كبيته ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت ومالك

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٤٤٣

لأبيك. (١)

لم يذكر في الآية بيوت الأولاد ، إمّا لأنّ بيت الولد بيت الإنسان نفسه ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت ومالك لأبيك. ويحتمل إخراج بيوت الأزواج والأولاد من الآية لأنّ الأزواج والأولاد وكما قال الله في سورة التغابن : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). (٢) وقال أيضا : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). (٣) وورد أنّ من الأزواج من يتمنّى موت الزوج وأنّ من الأولاد من يتمنّى موت الوالد ليرث ماله. بيت : من يتمنّى موتك يرضى أن .... (٤)

(ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ). وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرّفكم من ضيعة أو ماشية وكالة وحفظا. فلا بأس أن يأكل من ثمر حائطه ويشرب من لبن ماشيته. وقيل : هي بيوت المماليك. (٥)

والمفاتح جمع مفتح ؛ وهو ما يفتح به. (أَوْ صَدِيقِكُمْ) ؛ أي : بيوت صديقكم. [والصديق] يكون واحدا وجمعا. ومقتضى الآية جواز الأكل من بيوتهم مع غيبتهم وحضورهم. والعلماء خصّوها بما إذا لم يعلم الكراهة ولو بالقرائن الحاليّة. وهو الفرق بين بيوت المذكورين وغيرهم من حيث إنّ بيوت غيرهم يشترط العلم بالرضا فيها. وهذه الرخصة في أكل مال القرابات وهم لا يعلمون ذلك ، كالرخصة لمن دخل حائطا وهو جائع أن يصيب من ثمره. ومقتضى الآية الاقتصار على الأكل. فلا يجوز الحمل إطعام الغير. وفي جواز دخول البيت لغير الأكل خلاف. ولعلّ الجواز أقوى.

(أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ـ الآية. نزلت لمّا هاجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار وآخى بين أبي بكر وعمرو [بين] عثمان وعبد الرحمن وبين طلحة والزبير وبين سلمان وأبي ذرّ وبين المقداد وعمّار وترك أمير المؤمنين عليه‌السلام لنفسه. وكان بعد

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ / ٢٧.

(٢) التغابن (٦٤) / ١٤.

(٣) التغابن (٦٤) / ١٥.

(٤) كلمات آخر الفقرة ممحوّة لا يقرأ. والظاهر أن هذه الحاشية لغير المؤلّف رحمه‌الله.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٢٤٦ ، ومسالك الأفهام ٣ / ٢٨.

٤٤٤

ذلك إذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا في غزوة أو سريّة ، يدفع الرجل مفتاح منزله إلى أخيه في الدين ويقول له : خذ ما شئت. وكل ما شئت. وكان منهم من يمتنع من ذلك حتّى ربما فسد الطعام في ذلك البيت حتّى نزل : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً). يعني إن حضر صاحبه أو لم يحضر إذا ملكتم مفاتحه. (١)

وعن الإمام جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. وعن ابن عبّاس : الصديق أكبر من الوالدين. إنّ أهل النار لمّا استغاثوا ، لم يستغيثوا بالآباء والأمّهات وإنّما قالوا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). (٢)(جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) : مجتمعين أو متفرّقين. نزلت في بني ليث بن عمرو : كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد نهاره منتظرا إلى اللّيل ، فإن لم يجد من يؤاكله أكل مضطرّا. وقيل : تحرّج قوم من الأنصار عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة. (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) : ثابتة بأمر الله مشروعة من لدنه. [و] وصفها بالبركة والطيب لأنّها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق. وفي الحديث أنّ السّلام على الناس يطول العمر ، وعلى أهل المنزل يكثر الخير في البيت. وقيل : إن لم يكن في البيت أحد ، فليقل : السّلام علينا من ربّنا. السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السّلام على أهل البيت ورحمة الله. و (تَحِيَّةً) منصوب بسلّموا لأنّها [في] معنى تسليما. كقولك : قعدت جلوسا. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) قال : إن كان في البيت أحد ، فليسلّم عليهم. وإن لم يكن فيه أحد فليقل : السّلام علينا من ربّنا. يقول الله : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً). وقيل : إذا لم ير الداخل في البيت أحدا ، يقول : السّلام

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ١٠٩.

(٢) الشعراء (٢٦) / ١٠٠ ـ ١٠١.

(٣) الكشّاف ٣ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

٤٤٥

عليكم ورحمة الله ، يقصد به الملكين اللّذين يقومان عليه. (١)

[٦٢] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ـ الآية. أراد الله أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهبين عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بغير إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع ، فجعل ترك ذهابهم حتّى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله. وهو تعريض بحال المنافقين وتسلّلهم لواذا. والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس. فوصف الأمر بالجامع على سبيل المجاز. وذلك نحو مقاتلة عدوّ أو تشاور في خطب مهمّ أو تضامّ لإرهاب مخالف. أو الأمر الذي يعمّ بضرره أو بنفعه. وفي قوله : (أَمْرٍ جامِعٍ) دلالة على أنّه خطب جليل لا بدّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه من ذوي رأي وقوّة يظاهرونه عليه بالرأي. فمفارقتهم في تلك الحال ممّا يشقّ عليه ويشعب عليه رأيه. فمن ثمّ ضيّق عليهم الأمر. قيل : إنّها نزلت في حفر الخندق. (٢) وكان ذلك من أهمّ الأيّام حتّى تولّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه وشغل عن أربع صلوات. وكان قوم يتسلّلون من بينهم بغير إذن.

(لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ؛ أي : ما يعرض لهم من المهامّ. وفيه أيضا مبالغه وتضييق للأمر. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ). تفويض للأمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) بعد الإذن. فإنّ الاستئذان ولو لعذر قصور ؛ فإنّه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين. (غَفُورٌ) لفرطات العباد. (رَحِيمٌ) بالتيسير عليهم. (٣)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ١٠٩.

(٢) الكشّاف ٣ / ٢٥٩. والظاهر أنّ ما يأتي بعده مأخوذ من حاشية نسخة الكشّاف الموجودة عند المؤلّف حيث كتب في آخر الفقرة : من ف وحواشيه».

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٢.

٤٤٦

[٦٣] (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ) ؛ أي : لا تقيسوا دعاءه إيّاكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن. فإنّ المبادرة إلى إجابته واجبة والمراجعة بغير إذنه محرّمة. وقيل : لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات ، ولكن بلقبه المعظّم ، مثل يا نبيّ الله ويا رسول الله ، مع التوقير وخفض الصوت. أو : لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه. فإنّ دعاءه موجب. أو : لا تجعلوا دعاءه ربّه كدعاء صغيركم كبيركم وفقيركم غنيّكم يجيبه مرّة ويردّه أخرى. فإنّ دعاءه مستجاب. (يَتَسَلَّلُونَ) ؛ أي : يخرجون خفية قليلا قليلا من الجماعة. (لِواذاً) ؛ أي : ملاوذة بأن يستتر بعضكم ببعض حتّى يخرج ، أو يلوذ بمن يؤذن له لينطلق معه كأنّه تابعه. وانتصابه على الحال. (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ؛ أي : يصدّون عن أمره. (فِتْنَةٌ) ؛ أي : محنة في الدنيا. (عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. (١)

(لِواذاً). قال ابن عبّاس : هو أن يلوذ بغيره فيهرب. وذلك أنّ المنافقين كان يثقل عليهم خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار من غير استئذان. وقيل : كانوا يتسلّلون في الجهاد رجوعا منه. وفي قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ) ـ الآية ـ دلالة على أنّ أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله على الإيجاب. (٢)

(فِتْنَةٌ) ؛ أي : بليّة. (عَذابٌ أَلِيمٌ) ؛ أي : القتل. (٣)

(فِتْنَةٌ). وعن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : سلطان جائر. (٤)

[٦٤] (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٤٩.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ١١٠.

(٤) الكشّاف ٣ / ٢٦٠.

٤٤٧

إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

(قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيّها المؤمنون المكلّفون من الموافقة والمخالفة. وإنّما أكّد علمه بقد لتأكيد الوعيد. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ) : يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. ويجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات. (بِما عَمِلُوا) من سوء الأعمال. (١)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٣.

٤٤٨

٢٥.

سورة الفرقان

عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : يابن عمّار ، لا تدع قراءة تبارك الذي نزّل الفرقان. فإنّ من قرأها كلّ ليلة ، لم يعذّبه الله أبدا ولم يحاسبه ، وكان منزله في الفردوس الأعلى. (١)

الفرقان ؛ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأها ، بعث وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور ، وأدخل الجنّة بغير حساب. (٢)

الفرقان ؛ من كتبها ودخل على قوم بينهم بيع أو شراء ، تفرّقوا ، ولم يقرب موضعه شيء من الهوامّ. (٣)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١))

(تَبارَكَ الَّذِي). تفاعل من البركة. أي : عظمت بركاته وكثرت. وقيل : معناه : تقدّس وجلّ بما لم يزل عليه من الصفات ولا يزال كذلك فلا يشاركه فيها غيره. وأصله من بروك الطير. فكأنّه قال : ثبت ودام فيما لم يزل ولا يزال. عن جماعة من المفسّرين. (الْفُرْقانَ) ؛ أي : القرآن الذي يفرق بين الحقّ والباطل. (لِيَكُونَ). أي عبده [(نَذِيراً) :] مخوّفا بالعقاب و

__________________

(١) ثواب الأعمال / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، ح ١ ، ومجمع البيان ٧ / ٢٥٠.

(٢) المصباح / ٥٨٦.

(٣) المصباح / ٦٠٨.

٤٤٩

داعيا لهم إلى الرشاد. (١)

سمّي القرآن فرقانا لأنّه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال. ألا ترى إلى قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ). (٢)(لِيَكُونَ) أي العبد أو الفرقان. (٣)

[٢] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢))

(وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما زعمت اليهود والنصارى. (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). التقدير تبيين مقادير الأشياء للعباد. أي : قدّر الأشياء بأن كتبها في الكتاب الذي كتبه الملائكة عطفا (٤) لهم. وقيل : خلق كلّ شيء فقدّر طوله وعرضه ولونه وصفاته. (٥)

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ؛ أي : أحدثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته ، كخلقة الإنسان من موادّ مخصوصة وصور وأشكال معيّنة. (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ؛ أي : قدّره وهيّأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال ، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم ومزاولة الأعمال. أو : فقدّره للبقاء إلى أجل مسمّى. وقد يطلق الخلق لمجرّد الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فيكون المعنى : وأوجد كلّ شيء فقدّره في إيجاده حتّى لا يكون متفاوتا. (٦)

لا احتياج إلى هذه الوجوه. لأنّ الخلق بمعنى التقدير ، فيكون معناه : وقدّر كلّ شيء فقدّره.

[٣] (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

(آلِهَةً). يعني الأصنام. (وَلا نُشُوراً) ؛ أي : إعادة بعد الموت. يعني : كيف يعبدون من

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٥٢.

(٢) الإسراء (١٧) / ١٠٦.

(٣) الكشّاف ٣ / ٢٦٢.

(٤) المصدر : لطفا.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٢٥٢.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٤.

٤٥٠

لا يقدر على شيء من ذلك؟ (١)

(يَخْلُقُونَ). لأنّ عبدتهم ينحتونهم ويصوّرونهم. (لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا) ؛ أي : دفع ضرر. (وَلا نَفْعاً) ؛ أي : جلب نفع. (مَوْتاً) ؛ أي : لا يملكون إماتة أحد ولا إحياءه وبعثته ثانيا. ومن كان كذلك فبمعزل عن الأولوهيّة. (٢)

[٤] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤))

(إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) ؛ أي : ما هذا القرآن إلّا كذب (افْتَراهُ) محمّد واختلقه. (وَأَعانَهُ). قالوا : أعان محمّدا على هذا القرآن عداس ويسار وحبر وكانوا من أهل الكتاب. (ظُلْماً وَزُوراً) ؛ أي : شركا وكذبا ، حين زعموا أنّ القرآن ليس من الله. (٣)

[٥] (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥))

قالوا : إنّ هذا الذي يقرؤه محمّد ويخبر به ، إنّما يتعلّمه من اليهود ثمّ يستكتبه من علماء النصارى عن رجل يقال له : ابن قبيطة ينقله عنه بالغداة والعشيّ. فحكى سبحانه قولهم. (٤)

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ؛ أي : قالوا أيضا : هذه أحاديث المتقدّمين وما سطروه في كتبهم انتسخها (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) طرفي النهار ، يحفظها وينسخها. والأصيل : العشيّ. لأنّه أصل اللّيل وأوّله. وفي هذا بيان مناقضتهم وكذبهم. لأنّهم قالوا : افتراه ، ثمّ قالوا : تملى عليه ، فقد افتراه غيره. وقالوا : إنّه كتب ، وقد علموا أنّه لا يحسن الكتابة فكيف كتب؟ (٥)

(اكْتَتَبَها) ؛ أي : كتبها لنفسه. أو : استكتبها. (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) ليحفظها ؛ فإنّه أمّيّ لا يقدر أن يكرّر من الكتاب أو ليكتب. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٥.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٥٣.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ١١١.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٢٥٣.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٥.

٤٥١

[٦] (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

(قُلْ) يا محمّد تكذيبا لقولهم : أنزل القرآن الذي يعلم الخفيّات في السموات والأرض. (١)

(أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ). لأنّه أعجزكم عن آخركم لفصاحته وتضمّن إخبارا عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلّا عالم الأسرار ، فكيف يجعلونه أساطير الأوّلين؟ (غَفُوراً رَحِيماً). فلذلك لا يعجّل عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصبّ عليكم [العذاب] صبّا. (٢)

[٧] (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧))

(يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل (وَيَمْشِي) كما نمشي (فِي الْأَسْواقِ). (لَوْ لا) ؛ أي : هلّا أنزل إليه ملك فيكون معينا له على الإنذار والتخويف. (٣)

(ما لِهذَا الرَّسُولِ). أي الذي يزعم الرسالة. وفيه تهكّم واستهانة. (يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي) مثلنا. أي : إن صحّ دعواه ، فما له لا يخالف حاله حالنا؟ وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات. فإنّ تميّز الرسل عمّن عداهم ليس بأمور جسمانيّة وإنّما هو بأحوال نفسانيّة ؛ كما أشار إليه بقوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). (٤)(لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) ليعلم صدقه بتصديق الملك. (٥)

[٨] (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨))

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٥٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٥.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٥٣.

(٤) الكهف (١٧) / ١١٠.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٥.

٤٥٢

(كَنْزٌ) لأجل [أن] يستغني به عن طلب المعاش. (جَنَّةٌ) ؛ أي : بستان (يَأْكُلُ) هو من ثمارها. ومن قرأبالنون ، فيكون المعنى : نأكل نحن معه ونتّبعه. (وَقالَ الظَّالِمُونَ) ؛ أي : المشركون للمؤمنين : ما تتّبعون إلّا رجلا مخدوعا مغلوبا على عقله. (١)

(أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ). هذا على سبيل التنزّل. أي : إن لم يلق إليه كنز ، فلا أقلّ أن يكون له بستان كالدهاقين فيتعيّش بريعه. (وَقالَ الظَّالِمُونَ). [وضع الظالمون موضع ضميرهم](٢) تسجيلا عليهم بالظلم. (٣)

(يَأْكُلُ). أهل الكوفة غير عاصم : (نَأْكُلَ) بالنون. (٤)

عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قرأ : وقال الظالمون لآل محمّد حقّهم إن تتّبعون إلّا رجلا مسحورا. يعنون محمّدا صلوات الله عليه وآله. (٥)

[٩] (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))

(الْأَمْثالَ) ؛ أي : الأشباه. لأنّهم تارة قالوا مسحور ، وتارة محتاج تمنّوا له الكنز ، وتارة انّه ناقص عن الأمور يحتاج إلى الملك. (فَضَلُّوا) بهذا عن وجه الصواب. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) لإلزامك الحجّة من الوجوه المذكورة ، أو إلى إبطال أمرك. أو : لا يستطيعون سبيلا إلى الحقّ مع ردّهم الدلائل واتّباعهم التقليد. (٦)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : فلا يستطيعون إلى ولاية عليّ عليه‌السلام سبيلا. وعليّ هو السبيل. (٧)

[١٠] (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

(تَبارَكَ) ؛ أي : تقدّس (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الذي اقترحه من الكنز

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٥٣.

(٢) في النسخة : «أي هم» بدل ما بين المعقوفتين.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٥.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢٥١.

(٥) تأويل الآيات ١ / ٣٧١ ، ح ١.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٢٥٤.

(٧) تأويل الآيات ١ / ٣٧١ ، ح ١.

٤٥٣

والبستان وهو جنّات تجرى من تحتها الأنهار ويجعل لك في كلّ بستان قصرا. وأراد في الآخرة. أي : سيعطيك في الآخرة أكثر ممّا قالوا. وقيل : في الدنيا. لأنّ جبرئيل عرض عليه ذلك كلّه فاختار الزهد في الدنيا. (١)

(وَيَجْعَلْ). عطف على محلّ الجزاء. وقرأابن كثير وابن عامر بالرفع. لأنّ الشرط إذا كان ماضيا ، جاز في جزائه الجزم والرفع. ويجوز أن يكون استئنافا بوعد يكون له في الآخرة. (٢)

[١١] (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١))

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) ؛ أي : ما كذّبوك لأنّك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ، بل لأنّهم لم يقرّوا بالبعث. (سَعِيراً) ؛ أي : نارا تتلظّى. (٣)

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيويّة وظنّوا أنّ الكرامة إنّما هي بالمال فطعنوا فيك بالفقر. أو فلذلك كذّبوك لا لما تمحّلوا من المطاعن الفاسدة. (سَعِيراً) : نارا شديدة الاستعار. وقيل : هو اسم لجهنّم. فيكون صرفه باعتبار المكان. (٤)

(بِالسَّاعَةِ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ اللّيل والنهار اثنتا عشرة ساعة. وانّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أشرف ساعة منهما. وهو قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً). (٥)

[١٢] (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢))

ثمّ وصف ذلك السعير فقال : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ؛ أي : من مسيرة مائة عام. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : من مسيرة سنة. ونسب الرؤية إلى النار مجازا وإنّما يرونها هم ، لأنّ ذلك أبلغ. كأنّها تراهم رؤية الغضبان الذي يزفر غيظا. وذلك قوله : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً). و

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٥٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ٣ / ١٣٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٦.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ١١٢.

٤٥٤

تغيّظها تقطّعها عنده شدّة اضطرابها. وزفيرها صوتها عند شدّة التهابها كالتهاب الرجل المغتاظ. وقيل : التغيّظ للنار ، والزفير لأهلها. (١)(إِذا رَأَتْهُمْ) : إذا كانت بمرأى منهم. (تَغَيُّظاً وَزَفِيراً). [شبّه صوت] غليانها بصوت المغتاظ وزفيره. هذا ، وإنّ الحياة لمّا لم تكن مشروطة عندنا بالبنية ، أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيّظ وتزفر. وقيل : إنّ ذلك لزبانيتها على حذف المضاف. (٢)

[١٣] (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣))

(وَإِذا أُلْقُوا) من النار في مكان ضيّق عليهم كما يضيّق الزجّ في الرمح. (مُقَرَّنِينَ) ؛ أي : مصفّدين قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل : قرنوا مع الشياطين في السلاسل. (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) ؛ أي : دعوا بالويل والهلاك على أنفسهم كما يقول [القائل] : وا ثبوراه ؛ أي : وا هلاكاه. (٣)

(ضَيِّقاً) لزيادة العذاب. فإنّ الكرب مع الضيق والروح مع السعة. ولذلك وصف الله الجنّة بأنّ عرضها السموات والأرض. (٤)

(دَعَوْا هُنالِكَ) ؛ أي : في ذلك المكان. (٥)

[١٤] (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))

(لا تَدْعُوا) ويلا واحدا. أي : لا ينفعكم هذا وإن كثر منكم. قال الزجّاج : معناه : هلاككم أكثر من أن تدعوا مرّة واحدة. (٦)

(لا تَدْعُوا). أي يقال لهم ذلك. (ثُبُوراً كَثِيراً). لأنّ عذابهم أنواع كثيرة كلّ نوع منها ثبور لشدّته أو لأنّه يتجدّد ؛ [لقوله تعالى :](كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ)(٧). (٨)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٥٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٥٧.

(٤) آل عمران (٣) / ١٣٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٦.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٢٥٧.

(٧) النساء (٤) / ٥٦.

(٨) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٦.

٤٥٥

(ثُبُوراً واحِداً). عن زيد بن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام قال : إذا كان يوم القيامة ، أمر الله الناس بإتباع كلّ إمام جائر إلى النار ، فيدعون بالويل والثبور ويقولون لإمامهم : يا من أهلكنا ، هلمّ الآن فخلّصنا ممّا نحن فيه! فعندها يقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً). (١)

[١٥] (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥))

(أَذلِكَ خَيْرٌ). [الإشارة إلى العذاب] والاستفهام والتفضيل للتقريع مع التهكّم. أو إلى الكنز والجنّة. (كانَتْ لَهُمْ) في علم الله أو اللّوح. أو لأنّ ما وعده الله في تحقّقه كالواقع. (٢)

(أَذلِكَ) ، يعني ما ذكره من السعير (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ)؟ (مَصِيراً) : مستقرّا. (٣)

[١٦] (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

(وَعْداً مَسْؤُلاً). عن ابن عبّاس : معناه : انّ الله وعدهم الجزاء فسألوه الوفاء فوفى. أو : انّ الملائكة سألوا الله [تعالى ذلك لهم فأجيبوا إلى مسألتهم. وقيل. إنّهم سألوا الله تعالى] في الدنيا الجنّة ، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا. (٤)

[١٧] (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧))

(يَحْشُرُهُمْ). ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء. والباقون بالنون. (فَيَقُولُ). قرأ ابن عامر : فنقول» بالنون. (٥)

(وَما يَعْبُدُونَ). يعني عيسى وعزيرا والملائكة. وقيل : يعني الأصنام. (ضَلُّوا السَّبِيلَ) ؛ أي : طريق الجنّة والنجاة. (٦)

(أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ). إن قلت : الله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه. فما فائدة هذا

__________________

(١) تأويل الآيات ١ / ٣٧١.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٥٧.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢٥٧.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٧.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٢٥٧.

٤٥٦

السؤال؟ قلت : فائدته أن يجيبوا بما أجابوا حتّى يبكّت عبدتهم بتكذيبهم إيّاهم فيبهتوا وتزيد حسرتهم ، وذلك يكون نوعا من عذابهم ، ويفرح المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلّفين. وفيه كسر بيّن لقول من يزعم أنّ الله يضلّ عباده حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتموهم أم هم ضلوا فيتبرّؤون من إضلالهم ويقولون : بل أنت تفضّلت على هؤلاء وآبائهم فجعلوا النعمة التي حقّها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر ، وذلك سبب الهلاك. فإذا برّأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم ، فهم لربّهم الغنيّ العدل أشدّ تنزيها. ولقد نزّهوه حين أضافوا إليه التفضّل بالنعمة وأسندوا نسيان الذكر إلى الكفرة فشرحوا الإضلال في قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ). ولو كان هو المضلّ على الحقيقة ، لكان الجواب أن يقول : أنت أضللتهم. (١)

[١٨] (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨))

(قالُوا). يعني المعبودين من الملائكة والإنس أم الأصنام إذا أحياهم الله وأنطقهم. (قالُوا سُبْحانَكَ) : تنزيها لك عن الشريك وعن أن يكون معبود سواك. (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ) ؛ أي : ليس لنا أن نوالي أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم. وقيل : معناه : وما كان لنا وللعابدين أن نأمر أحدا يعبدنا ولا يعبدك. فإنّا لو أمرناهم بذلك ، لكنّا واليناهم ونحن لا نوالي من يكفر بك. وعلى قراءة : (نَتَّخِذَ) بالمجهول ، معناه : ما كان يحقّ لنا أن نعبد. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ) ؛ أي : طوّلت أعمارهم وأعمار آبائهم ومتّعتهم بالأموال (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) المنزل على الأنبياء. (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) : هالكين. (٢)

(قالُوا سُبْحانَكَ). تعجّب منهم ممّا قيل لهم. لأنّهم أنبياء وملائكة معصومون فما أبعدهم

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٢٦٨ ـ ٢٧٠.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

٤٥٧

عن الإضلال. أو نطقوا بسبحانك ليدلّوا على أنّهم المسبّحون الموسومون بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلّوا عباده. (نَسُوا الذِّكْرَ) ؛ أي : ذكر الله والإيمان به أو القرآن والشرائع. (بُوراً). البور : الهلاك. يوصف به الواحد والجمع. ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ. (١)

عن يعقوب : (أَنْ نَتَّخِذَ) بضمّ النون وفتح الخاء. وهو المرويّ عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام. (٢)

[١٩] (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))

عن ابن كثير : «بما يقولون» بالياء. وحفص : (فَما تَسْتَطِيعُونَ) بالتاء. والباقون بالياء. (٣)

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) ؛ أي : يقول الله عند ذلك : فقد كذّبكم المعبودون أيّها المشركون (بِما تَقُولُونَ) ؛ أي : بقولكم أنّهم آلهة شركاء لله. ومن قرأبالياء ، فمعناه : فقد كذّبوكم بقولهم : (سُبْحانَكَ ما كانَ) ـ الآية. فما يستطيعون صرفا أي : فما يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم (وَلا نَصْراً) لكم بدفع العذاب عنكم. وعلى قراءة التاء معناه : فما تستطيعون أيّها المتّخذون الشركاء صرف العذاب عن أنفسكم ولا أن تنصروا أنفسكم بمنع العذاب. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) نفسه بالشرك (نُذِقْهُ) في الآخرة (عَذاباً كَبِيراً). (٤)

(صَرْفاً). قيل : الصرف التوبة. وقيل : الحيلة. من قولهم : إنّه ليتصرّف ؛ أي : يحتال. (٥)

[٢٠] (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ). احتجاج

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٢٧٠.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٥٥.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٥٥.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢٥٨.

(٥) الكشّاف ٣ / ٢٧١.

٤٥٨

عليهم في قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ) ـ الآية. أي : فقل لهم كذلك كان من تقدّم من الرسل. (لِبَعْضٍ فِتْنَةً). كالفقراء ، فإنّهم فتنة الأغنياء. فإنّ المستهزئين من قريش كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين اتّبعوا محمّدا من موالينا وأراذلنا. قال الله لهؤلاء الفقراء : (أَتَصْبِرُونَ) أيّها الفقراء على فقركم ولا تفعلون ما يؤدّي إلى مخالفتنا. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) ؛ أي : عليما. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : جمع رسول الله أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وأغلق عليه وعليهم الباب وقال : يا أهلي وأهل الله ، إنّ الله يقرأعليكم السّلام. وهذا جبرئيل معكم في البيت ويقول : إنّ الله يقول : قد جعلت عدوّكم لكم فتنة. فما تقولون؟ قالوا : نصبر يا رسول الله لأمر الله حتّى نقدم على الله ونستكمل ثوابه. فقد سمعناه يعد الصابرين. فبكى رسول الله. فنزلت هذه الآية : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) ـ الآية. (٢)

(فِتْنَةً) ؛ أي : محنة وابتلاء. وهذا تصبّر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما قالوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتجّ عليهم بسائر الرسل. يقول : وجرت عادتي على ابتلاء بعضكم ـ أيّها الناس ـ ببعض. يعني أنّه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم لهم العداوة وطلب منهم الصبر الجميل. وموقع (أَتَصْبِرُونَ) بعد ذكر الفتنة موقع (أَيُّكُمْ) بعد الابتلاء في قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). (٣) وقيل : معناه : جعلناك فتنة لهم. لأنّك لو كنت غنيّا صاحب كنوز ، لكان ميلهم إليك للدنيا. فإنّما بعثناك فقيرا ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيويّ. وقيل : كان أبو جهل وجماعة يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمّار ونحوه ، ترفّعوا علينا بالسابقة. فهو افتتان بعضهم ببعض. (٤)

[٢١] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١))

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٥٨.

(٢) تأويل الآيات ١ / ٣٧٢ ، ح ٣.

(٣) هود (١١) / ٧.

(٤) الكشّاف ٣ / ٢٧٢.

٤٥٩

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ؛ أي : جزاء لقائنا. وهذا عبارة عن إنكارهم البعث. (لَوْ لا أُنْزِلَ) ؛ أي : هلّا أنزل الملائكة ليخبرونا بأنّ محمّدا نبيّ أو نرى الله فيخبرنا بذلك ويأمرنا باتّباعه؟ وهذا يدلّ على أنّهم كانوا مجسّمة. ثمّ أقسم الله فقال : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) بهذا القول ؛ أي : طلبوا الكبر والتجبّر بغير حقّ. (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) : طغوا طغيانا عظيما. (١)

[٢٢] (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢))

ثمّ أعلم الله أنّ الوقت الذي يرون [فيه الملائكة] هو يوم القيامة وأنّ الله قد حرمهم البشرى في ذلك اليوم. (لا بُشْرى) ؛ أي : لا بشارة للمجرمين بالجنّة والثواب يوم القيامة. (٢)

(حِجْراً مَحْجُوراً). ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرّفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله. وهذه الكلمة كانوا يتكلّمون بها عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة أو نحو ذلك ، يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا وكذا؟ فيقول : حجرا محجورا. وهي من حجره ، إذا منعه. لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه ، فكان المعنى : أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. (٣)

(حِجْراً مَحْجُوراً). [أصل] الحجر : الضيق. ومنه حجر إبراهيم. (وَيَقُولُونَ) ؛ أي : يقول الملائكة لهم : حراما محرّما عليكم سماع البشرى. وقيل : معناه : ويقول المجرمون للملائكة كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل : حجرا محجورا دماؤنا. قال الخليل : كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهليّة في الأشهر الحرم ، فيقول : حجرا محجورا ؛ أي : حرام عليك حرمتي في هذا الشهر ، فلا يبدؤه بشرّ. فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة فقالوا ذلك ظنّا منهم أنّه ينفعهم. وقيل : معناه : حراما محرّما أن يدخل الجنّة إلّا من قال : لا إله إلّا الله. ووصفه بمحجورا للتأكيد. كقولهم : موت مائت. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٦١.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٦١.

(٣) الكشّاف ٣ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢٥٩ ـ ٢٦٢ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١٣٩.

٤٦٠