عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

على أنّ للقيامة أحوالا ومواطن. (١)

(وَلا يَتَساءَلُونَ) لكثرة الاشتغال. عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاثة مواطن تذهل [فيها] كلّ نفس : حين يؤمر لكلّ إنسان بكتابه ، (٢) وعند الموازين ، وعلى جسر جهنّم. (٣)

[١٠٢] (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢))

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) ؛ أي : موزونات عقائده وأعماله. أي : ومن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن وقدر. (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ؛ أي : الفائزون بالدرجات. (٤)

[١٠٣] (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣))

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) ؛ أي : لم يكن له وزن. وهم الكفّار ؛ لقوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). (٥)(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : ضيّعوا زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها. (٦)

[١٠٤] (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤))

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ) ؛ أي : يصيبهم لهبها. (كالِحُونَ) ؛ أي : عابسون. وقيل : هو أن تتقلّص شفاههم وتبدو أسنانهم كالرؤوس المشويّة. (٧)

(كالِحُونَ) ؛ يعني : مفتوحي [الفم] متربّدي الوجوه. (٨)

[١٠٥] (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥))

عن أبي جعفر عليه‌السلام : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) في عليّ عليه‌السلام. (٩)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٨٩.

(٢) المصدر : حين يرمى إلى كلّ إنسان كتابه.

(٣) تفسير النيسابوريّ ١٨ / ٣٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٢.

(٥) الكهف (١٨) / ١٠٥.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٢.

(٧) مجمع البيان ٧ / ١٩٠.

(٨) تفسير القمّيّ ٢ / ٩٤.

(٩) تأويل الآيات ١ / ٣٥٦.

٤٠١

[١٠٦] (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦))

(شِقْوَتُنا) ؛ أي : ذنوبنا المؤدّية إلى الشقاء. أهل الكوفة غير عاصم : «شقاوتنا» بالألف وفتح الشين. الشقوة مصدر كالفطنة. (١)

[١٠٧ ـ ١٠٩] (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩))

[١١٠] (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠))

(سِخْرِيًّا) ؛ أي : كنتم ـ يا معاشر الكفّار ـ تستهزؤون [بهم]. وقيل : معناه : تستعبدونهم وتصرفونهم في أعمالكم. وقيل : إنّهم كانوا إذا آذوا المؤمنين قالوا : انظروا إلى هؤلاء! رضوا من الدنيا بالعيش الدنيّ طمعا في ثواب الآخرة! وليس وراءهم آخرة ولا ثواب! (أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) لاشتغالكم بالسخريّة بهم. (٢)

(سِخْرِيًّا). نافع وحمزة والكسائيّ : (سِخْرِيًّا) بضمّ السين ، مصدر سخر زيدت فيها ياء النسبة للمبالغة. وعند الكوفيّين المكسور بمعنى الهزء ، والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد. (٣)

[١١١] (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

(بِما صَبَرُوا) على أذاكم واستهزائكم. (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) بمجامع مراداتهم. وهو ثاني مفعولي جزيتهم. (٤)

(هُمُ الْفائِزُونَ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : هم شيعة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٩٠ و ١٨٨.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٩٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٩٢ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣.

(٥) تأويل الآيات ١ / ٣٥٦ ، ح ١٠.

٤٠٢

وقرأحمزة والكسائيّ : «إنهم هم الفائزون» بالكسر على الاستئناف. (١)

[١١٢ ـ ١١٣] (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣))

(قالَ). أي الله أو الملك المأمور. (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ؛ أي : في القبور أو في الدنيا. (عَدَدَ سِنِينَ). تمييز لكم. (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). استقلّوا حياتهم في الدنيا لطول مكثهم في النار. ولم يكن ذلك كذبا منهم لأنّهم أخبروا بما عندهم. وقيل : المراد يوما أو بعض يوم من أيّام الآخرة. أو لأنّها كانت أيّام سرورهم وأيّام السرور قصار. أو لأنّها منقضية والمنقضي في حكم المعدوم. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ» :) الذين يتمكّنون من عدّ أيّامها إن أردت تحقيقها ـ فإنّا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكّرها وإحصائها ـ أو الملائكة الذين يعدّون أعمار الناس (٢) ويحصون أعمالهم. (٣)

ابن كثير وحمزة والكسائيّ : قل كم لبثتم على أنّه [أمر] للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. (٤)

[١١٤] (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً). تصديق لهم في مقالهم. (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قصر أعماركم في الدنيا وطول مكثكم في الآخرة في العذاب ، لما اشتغلتم بالكفر والمعاصي. (٥)

وفي قراءة الكوفيّين : ، (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ). والباقون : «قل» (٦)

[١١٥] (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥))

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣.

(٢) في النسخة : «أهل النار» بدل «الناس».

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣ ، ومجمع البيان ٧ / ١٩٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣ ، ومجمع البيان ٧ / ١٩٢.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣. وفيه : وفي قراءة حمزة والكسائي : قل». فلا يصحّ ما في المتن لأنّهما كوفيّان.

٤٠٣

(أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً). توبيخ لهم على تغافلهم. وعبثا بمعنى عابثين أو مفعول له. أي لم تخلقكم تلهّيا بكم وإنّما خلقناكم لنعبّدكم ونجازيكم على أعمالكم. وهو كالدليل على البعث. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا). معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) أو (عَبَثاً). (لا تُرْجَعُونَ). حمزة والكسائيّ ويعقوب : (لا تُرْجَعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم. (١)

[١١٦] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦))

(فَتَعالَى اللهُ) من أن يعمل شيئا عبثا. (الْمَلِكُ الْحَقُّ) : الذي يحقّ له الملك مطلقا. فإنّ من عداه مملوك بالذات مالك بالعرض من وجه دون وجه وفي حال دون حال. (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ؛ أي : الحسن. وقيل : الكريم : الكثير الخير ، لكثرة ما فيه من الخير لمن حوله ولإتيان الخير من جهته. (٢)

[١١٧] (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧))

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً) ؛ أي : يعبده. (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ). صفة أخرى لإلها لازمة له ـ فإنّ الباطل لا برهان به ـ جيء بها للتأكيد. (حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) يجازيه على قدر ما يستحقّه. (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) ؛ أي : لا يسعد الجاحدون لنعم الله. (٣)

[١١٨] (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

ولمّا حكى الله أقوال الكفّار ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتبرّي منهم والانقطاع إلى الله فقال : (قُلْ) يا محمّد (رَبِّ اغْفِرْ). (٤)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٩٣ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١١٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٤ ، ومجمع البيان ٧ / ١٩٣.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٩٣.

٤٠٤

٢٤.

سورة النور

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأالنور ، أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي. (١)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تنزلوا نساءكم الغرف. ولا تعلّموهنّ الكتابة. وعلّموهنّ الغزل وسورة النور. [وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ...] وحصّنوا بها نساءكم. فإنّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم ، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت. فإذا مات شيّعه إلى قبره سبعون ألف ملك ويستغفرون الله له حتّى يدخل إلى قبره. (٢)

النور : من جعلها في فراشه الذي ينام فيه ، لم يحتلم. ومن كتبها في طشت نحاس ومحاها وسقاها الدابّة المريضة ورشّ عليها من الماء ، برئت. (٣)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

ابن كثير وأبو عمرو : (فَرَضْناها) بالتشديد ، لكثرة فرائضها أو المفروض عليهم أو للمبالغة في إيجابها. (٤)

(سُورَةٌ) ؛ أي : هذه سورة أنزلها جبرئيل بأمرنا وأوجبنا عليكم العمل بها. وقيل :

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٩٤.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٩٤.

(٣) المصباح / ٦٠٨.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٥.

٤٠٥

معناه : وقدّرنا فيها الحدود. على قراءة التشديد (١) معناه : فصّلناها وبيّنّا فيها فرائض مختلفة. (آياتٍ بَيِّناتٍ) ؛ أي : دلالات واضحات على وحدانيّتنا وكمال قدرتنا. وقيل : أراد بها الحدود والأحكام التي شرع فيها. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ؛ أي : لكي تتذكّروا فتعملوا بما فيها. (٢)

[٢] (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢))

ثمّ ذكر سبحانه تلك الآيات فقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ؛ أي : من زنى من الرجال ومن زنت من النساء. (مِائَةَ جَلْدَةٍ). يعني إذا كانا حرّين بالغين بكرين غير محصنين. ولو كان أحدهما محصنا ، كان عليه الرجم بلا خلاف. والإحصان هو أن يكون له فرج يغدو إليه ويروح على وجه الدوام ويكون حرّا. وأمّا العبد ، فلا يكون محصنا ، وكذلك الأمة ، وإنّما عليهما نصف الحدّ خمسون جلدة. (فَاجْلِدُوا). خطاب للأئمّة : أو من كان منسوبا من جهتهم. لأنّه ليس لأحد أن يقيم الحدود إلّا الأئمّة عليهم‌السلام وولاتهم بلا خلاف. (رَأْفَةٌ) ؛ أي : رحمة تمنعكم من إقامة الحدود عليهما فتعطّلوا الحدود. وقيل : رأفة تمنع من الجلد الشديد ، بل أوجعوهما ضربا ولا تخفّفوا كما يخفّف في حدّ الشارب. (فِي دِينِ اللهِ) ؛ أي : طاعته وحكمه. (وَلْيَشْهَدْ) ؛ أي : وليحضر حال إقامة الحدّ عليهما زيادة في التنكيل. فإنّ التفضيح قد ينكّل أكثر ممّا ينكّل التعذيب. والطائفة جماعة من المؤمنين ثلاثة فصاعدا. وقيل : أقلّه رجل واحد. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. ويدلّ عليه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا). (٣) وهذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجمع. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٣) الحجرات (٤٩) / ٩.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٩٦ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١١٥ ـ ١١٦.

٤٠٦

(رَأْفَةٌ). ابن كثير بفتح الهمزة. لغة في سكونها. (١)

[٣] (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

(الزَّانِي) ؛ أي : الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى ، لا يرغب في نكاح الصوالح ، بل يميل إلى شكله. وكذلك الزانية والمشركة تقرب منه في خبث الفعل. والآية نزلت في رجل من المسلمين استأذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يتزوّج أمّ مهزول زانية كان لها علم ، ونزلت في فقراء المهاجرين حيث رغبوا في نكاح موسرات كانت في المدينة من بغايا المشركين. فنزلت الآية وقرن الزنى بالشرك في الموضعين تغليظا لأمر الزنى. والآية ، وإن كان ظاهرها الخبر ، فهو في معنى النهي لقوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). واحتمل في الكشّاف أن تكون الآية خبرا محضا على معنى أنّ عادتهم جارية على ذلك وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة. (٢) وظاهر النكاح في الآية العقد لا الوطي. وقيل : هي بمعناه. وفيه فساد المعنى ؛ وهو أن يكون معناه : الزاني لا يزني إلّا بزانية والزانية لا تزني إلّا بزان. ويؤيّد كونه بمعنى العقد روايات عديدة بأنّ الآية المذكورة وردت في رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشهورين بالزنى فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء ، والناس اليوم على تلك المنزلة ، من شهر بشيء من ذلك أو أقيم عليه حدّ ، فلا تزوّجوه حتّى تعرفوا توبته. (٣) ومقتضى ذلك عدم جواز نكاح المشهورة بالزنى أو المحدودة قبل التوبة دواما ومتعة. وقد صرّح الصدوق بأنّ من تمتّع بالزانية فهو زان. وإليه ذهب ابن البرّاج. ولكنّ المشهور بين الأصحاب الجواز على كراهية استنادا إلى الأصل وإلى ما ورد في خبري زرارة وعليّ بن يقطين ، وأجابوا عن الآية تارة بأنّ المراد بها الوطي وأخرى بأنّه كان محرّما في أوّل الإسلام

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٩٥ و ١٩٦.

(٢) الكشّاف ٣ / ٢١٣.

(٣) انظر : المجمع ٧ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، الكافي ٥ / ٣٥٤ ، ح ١ و ٢ و ٣.

٤٠٧

ثمّ نسخ بقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) ـ الآية (١) ـ فإنّها تتناول المسافحات. ولعلّ المنع هو الأقوى. وقد حرّرنا الكلام فيه في كتابنا شرحي التهذيب والاستبصار بما لا مزيد عليه.

[٤ ـ ٥] (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) ؛ أي : يقذفون العفائف من النساء بالزنى والفجور. (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون أنّهم رأوهنّ يفعلن ذلك. (فَاجْلِدُوهُمْ). وهو بإطلاقه يتناول الحرّ والعبد. والشيخ في المبسوط على أنّ العبد على النصف أعني أربعين جلدة. وهو مع كونه خلاف المشهور يخالف الروايات أيضا. وشروط الإحصان الموجبة للحدّ بالقذف أن يكون بالغا عاقلا مسلما عفيفا عن الزنى. ومتى اختلّت ، أو واحدة منها ، فلا حدّ على قاذفه. نعم ، يجب التعزير ، وإن كان القذف للمتظاهر بالزنى ، على المشهور. وتردّد الشهيد في التعزير بقذف المتظاهر به. بل الظاهر من الدليل هو العدم بل الاستحباب ؛ لقوله في حديث ابن بزيع : من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب. ولا فرق في ثبوت الحكم بين الذكر والأنثى. وتخصيص المحصنات بالذكر إمّا بخصوص الواقعة ـ فإنّها نزلت في عائشة ـ وإمّا لأنّ قذف النساء أغلب وأشنع. (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) أيّ شهادة كانت ، لأنّه مفتر. (أَبَداً) ؛ أي : في جميع الأحوال إلّا حال التوبة. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن القذف. قال الشيخ في النهاية : توبته أن يكذّب نفسه فيما كان قذف به. وفي المبسوط : أن يقول : القذف باطل حرام. ولا أعود إلى ما قلت. (وَأَصْلَحُوا). أي بالاستمرار على التوبة. واعتبر الشيخ إظهار العمل الصالح في قبول شهادته وجماعة على الاجتزاء بالتوبة في قبول الشهادة.

__________________

(١) النور (٢٤) / ٣٢.

٤٠٨

[٦ ـ ٩] (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩))

عن ابن عبّاس : لمّا نزلت : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) قال عاصم بن عديّ : يا رسول الله ، إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى ، جلد ثمانين ، وإن التمس أربعة شهداء ، كان الرجل قضى حاجته ثمّ مضى! قال : كذلك يا عاصم. فخرج سامعا مطيعا. فلم يصل إلى منزله حتّى استقبله هلال بن أميّة يسترجع فقال : وجدت شريك بن إسحاق على بطن امرأتي. فرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره هلال بالذي كان. فبعث إليها فقال : ما يقول زوجك؟ فأنكرت. فأنزل الله آية اللّعان : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) ـ اه. (١)

غير أبي بكر من أهل الكوفة : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) بالرفع. والباقون : (أَرْبَعُ شَهاداتٍ) بالنصب. قرأنافع : «أن لعنة الله» ساكنة النون من «أن» ، «لعنة الله» بالرفع. و «أن غضب الله» بكسر الضاد ورفع «الله». وقرأيعقوب : «أن لعنة الله» و «أن غضب الله» برفع «لعنة» و «غضب» جميعا. والباقون «أن لعنة الله» و «أن غضب الله» بالتشديد والنصب في الموضعين. قرأحفص : (وَالْخامِسَةَ) الثانية بالنصب ، والباقون بالرفع. (٢)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ). أي بالزنى ؛ إمّا بقذفهنّ ـ مثل : أنت زانية ـ أو بنفي الولد. وهذا الحكم مخصوص بالعفيفة ، فلا يثبت اللّعان بقذف المشهورة بالزنى. (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ). يحتمل أن يكون إلّا بمعنى غير صفة لما تقدّمه. ويحتمل أن يكون ذكرها للمبالغة في نفي الشاهد. فإنّ النفوس مدّعية لا شاهدة. وقد يستدلّ بظاهر الآية على أنّ الزوج إذا كان أحد الشهود الأربعة ، فإنّها تحدّ ولا لعان ؛ كما ذهب إليه بعض أصحابنا. وذهب بعض أصحابنا إلى عدم جواز ذلك وأوجبوا في هذه الصورة حدّ الثلاثة ولعان الزوج. وعليه بعض الأخبار.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٠١.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٠٠.

٤٠٩

(فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ). إن قرئ بنصب أربع ، كان «شهادة أحدهم» [مبتدأ حذف أو خبر] مبتدأ محذوف. أي : فالواجب أن يشهد أحدهم أربع شهادات. ونصب الأربع على المصدريّة. وإن قرئ بالرفع ، كان خبرا للشهادة. (بِاللهِ). متعلّق بالشهادات. (لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به من الزنى أو نفي الولد. أي يقول أربع مرّات : أشهد بالله أنّي لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى. (والخامسة أن لعنة الله عليه) جاعلا للمجرور بعلى ياء المتكلّم. (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزنى ونفي الولد. وهذه الشهادات [الأربع تقوم مقام الشهود] الأربعة في إسقاط حدّ القذف عنه. ولو لم يفعلها ، حدّ للقذف. (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي : يسقط عنها الحدّ (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به ، متلفّطة بذلك. (وَالْخامِسَةَ). بالنصب على قراءة حفص ، لعطفها على أربع ، وبالرفع مبتدأ خبره (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيه. وخصّت الملاعنة [بأن تخمس بغضب الله] للتغليظ عليها لأنّها هي أصل الفجور ومنبعه. ودلالة الآية على ثبوت اللّعان بقذف الزوجة ظاهر. وقال ابن بابويه في المقنع : (لا يكون اللعان إلا بنفي الولد) نظرا إلى ظاهر رواية أبي بصير ، وهي ضعيفة السند لا تقاوم ظاهر الآية. (١)

[١٠] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ). جواب لو لا محذوف. أي : لو لا فضل الله عليكم بالنهي عن الزنى وإقامة الحدود ، لتهالك الناس وانقطع الأنساب. وقيل : معناه : لولا فضل الله عليكم وأنّه عوّاد على من تاب بالرحمة حكيم فيما فرضه من الحدود ، لنال الكاذب منهما عذاب عظيم. أي لبيّن الكاذب منهما فيقام عليه الحدّ ، أو لعاجلكم بالعقوبة ، ولفضحكم فيما ترتكبون من الفاحشة. (٢)

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ١١٢ و ١١٦ و ١١٨ و ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٠٣.

٤١٠

[١١] (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ). وهو أبلغ ما يكون [من الكذب]. من الإفك ، وهو الصرف ، لأنّه قول مأفوك عن وجهه. والمراد ما أفك به على عائشة. وذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله استصحبها في غزوة بني المصطلق. فأذن ليلة في القفول بالرحيل ، فمشت لقضاء حاجتها ، ثمّ عادت إلى الرحل ، فلمست صدرها ، فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع. فرجعت لتطلبه ، فظنّ الذي كان يرحلها أنّها دخلت الهودج فرحله على مطيّتها وسار. فلمّا عادت إلى منزلها ، لم تجد ثمّ أحدا. فجلست حتّى يرجع إليها منشد. وكان صفوان بن المعطل السلميّ قد عرس وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلها ، فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتّى أتيا الجيش فاتّهمت به. (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) : جماعة ، وهي من العشرة إلى الأربعين ، منهم عبد الله بن أبيّ وحسّان بن ثابت. وهي خبر إنّ. وقوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) مستأنف. والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعائشة وصفوان ومن اغتمّ بسببه. والهاء للإفك. (خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب وإنزال الآيات في التبرئة وتهويل الوعيد لمن تكلّم فيكم والثناء على من ظنّ بكم خيرا. (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) ؛ أي : لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصّا به. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) ؛ أي : تحمّل معظمه (مِنْهُمْ) وهو ابن أبيّ ، فإنّه بدأ به أو أذاعه عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكان يقول : والله ما نجا صفوان منها ولا نجت منه. (عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا والآخرة. وذلك أنّه جلد ابن أبيّ وطرده وشهّره بالنفاق. (١)

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ) ـ الآية. روت العامّة أنّها نزلت في عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق. وأمّا الخاصّة ، فإنّهم رووا أنّها نزلت في مارية القبطيّة وما رمتها به عائشة. عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لمّا مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حزن عليه حزنا شديدا. فقال عائشة : ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلّا ابن جريح! فبعث رسول الله عليّا عليه‌السلام وأمره بقتله.

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٧ ـ ١١٨ ، ومجمع البيان ٧ / ٢٠٦.

٤١١

فذهب ومعه السيف. وكان جريح القبطيّ في حائط له. فلمّا رأى عليّا عليه‌السلام مغضبا ، هرب من بين يديه وصعد نخلة ، وصعد خلفه ، فرمى بنفسه فبدت عورته ، فإذا ليس ما للرجال ولا ما للنساء. فانصرف عليّ عليه‌السلام فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحمد لله الذي يصرف السوء عنّا أهل البيت. (١)

(كِبْرَهُ). يعقوب : (كِبْرَهُ) بضمّ الكاف ، لغة فيه. (٢)

[١٢] (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢))

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ؛ أي : هلّا حين سمعتم هذا الإفك (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) بالّذين هم كأنفسهم (خَيْراً). لأنّ المؤمنين كلّهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور. وهو كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ). (٣) فيكون خطابا لمن سمعه فسكت ولم يصدّق ولم يكذّب. وقيل : هو خطاب لمن أشاعه ومعناه : [هلّا] إذا سمعتم هذا الحديث ظننتم بها ما تظنّونه بأنفسكم لو خلوتم بها؟ وذلك لأنّها كانت أمّ المؤمنين ومن خلا بأمّه فإنّه لا يطمع فيها وهي لا تطمع فيه. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) : ظاهر. (٤)

[١٣] (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣))

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ). [من جملة المقول] تقريرا لكونه كذبا. فإنّ ما لا حجّة عليه كذب. (عِنْدَ اللهِ) ؛ أي : في حكمه. (٥)

[١٤] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٧.

(٣) النور (٢٤) / ٦١.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢٠٧.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٨.

٤١٢

عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤))

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بأن أمهلكم لتتوبوا ولم يعاجلكم بالعقوبة ، (لَمَسَّكُمْ) ؛ أي : أصابكم (فِيما أَفَضْتُمْ) ؛ أي : فيما خضتم فيه من الإفك (عَذابٌ) لا انقطاع له. (١)

[١٥] (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥))

ثمّ ذكر الوقت الذي كان يصيبهم العذاب فيه لو لا فضله فقال : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) ؛ أي : يرونه بعضكم عن بعض. وقيل : معناه : تقبلونه من غير دليل. ولذلك أضافه إلى اللّسان. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) ؛ أي : تظنّون أنّ ذلك هيّن ؛ أي : سهل لا إثم فيه. (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الوزر. (٢)

هذه ثلاثة آثام مترتّبة علّق بها مسّ العذاب : تلقّي الإفك بألسنتهم ، والتحدّث به من غير تحقّق ، واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم. (٣)

[١٦] (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦))

ثمّ زاد سبحانه في الإنكار عليهم فقال : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) ؛ أي : هلّا قلتم حين سمعتم ذلك الحديث : لا يحلّ لنا أن نخوض في هذا الحديث. (سُبْحانَكَ) يا ربّنا. (هذا) الذي قالوه (بُهْتانٌ عَظِيمٌ). وقيل : إنّ سبحانك هنا معناه التعجّب. وقيل : معناه : ننزّهك ربّنا من أن نعصيك بهذه المعصية. (٤)

(نَتَكَلَّمَ بِهذا). يجوز أن يكون الإشارة إلى القول المخصوص وأن يكون إلى نوعه. فإنّ قذف آحاد الناس محرّم شرعا. و [(سُبْحانَكَ)] معناه تنزيه الله من أن يكون حرم نبيّه

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٠٧.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٠٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٨.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢٠٨.

٤١٣

فاجرة. فإنّ فجورها ينفّر عنه ويخلّ بمقصود الزواج بخلاف كفرها (١) كما في امرأتي نوح ولوط.

[١٧] (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧))

(يَعِظُكُمُ اللهُ) ؛ أي : ينهاكم. وقيل : معناه : كراهة أن تعودوا. (٢)

[١٨] (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨))

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) في الأمر والنهي. (٣)

[١٩] (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩))

ثمّ هدّد القاذفين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) كالزنى والقبائح (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بإقامة الحدود (وَالْآخِرَةِ) بعذاب النار. (٤)

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ). لقد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن أبيّ وحسّانا وقعد صفوان لحسّان فضربه ضربة بالسيف وكفّ بصره. [وقوله :](وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) في نهاية حسن الموقع. لأنّ الأعمال القلبيّة محبّة الخير أو الشرّ لا يطّلع عليه كما هي إلّا الله وإنّما نعرف نحن شيئا منها بالقرائن والأمارات. (٥)

[٢٠] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠))

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ). الجواب محذوف. أي : لعاجلكم بالعقوبة ولكنّه برحمته أمهلكم

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٨.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢٠٨.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٠٨.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢٠٨.

(٥) تفسير النيسابوريّ ١٨ / ٣٢.

٤١٤

لتتوبوا وتندموا. (١)

[٢١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١))

نافع : (خُطُواتِ) بالسكون. (٢)

عن يعقوب : (ما زَكى) بالتشديد. (٣)

(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ؛ أي : طرقه وآثاره التي تؤدّي إلى مرضاته كإشاعة الفاحشة. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بأن أمركم بما تصيرون به أزكياء ، (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : ما صار منكم أحد زكيّا. ومن في قوله : (مِنْ أَحَدٍ) مزيدة. وقيل : معناه : ما طهر منكم أحد من وسوسة الشيطان. (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) : يطهّر بلطفه من يشاء. (٤) وقيل : معناه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفّرة لها ، (ما زَكى) ؛ أي : ما طهر من دنسها. (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ). أي بحمله على التوبة وقبولها. (٥)

[٢٢] (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

(وَلا يَأْتَلِ). أبو جعفر : ولا يتأل من تألّى إذا حلف. وفي الحديث : ومن يتألّ على الله يكذّبه. وهو الذي يحلف فيقول : والله لا يدخل الجنّة فلان والنار فلان. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) : ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء كما يروى بالياء أيضا. (٧)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢٠٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٩.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢٠٩.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٢١٠.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٩.

(٦) المصدر : روي عن عليّ عليه‌السلام.

(٧) مجمع البيان ٧ / ٢٠٩.

٤١٥

(وَلا يَأْتَلِ) ؛ أي : لا يحلف. افتعال من الأليّة. أو : لا يقصّر من الألو. ونزلت الآية في مسطح وكان ابن خالة أبي بكر من المهاجرين من جملة أهل بدر. وكان أبو بكر يجري عليه [ويقوم بنفقته] لفقره. فلمّا خاض في الإفك ، قطعها وحلف [أن] لا ينفعه بنفع. فلمّا نزلت الآية ، عاد إلى ما كان. وقيل : نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا أن لا يتصدّقوا على رجل تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم. عن ابن عبّاس وغيره. (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) في الدين (وَالسَّعَةِ) في المال (أَنْ يُؤْتُوا) ؛ أي : على أن لا يؤتوا. (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ). صفات لموصوف واحد ـ أي ناسا جامعين لها ، لأنّ الكلام فيمن كان كذلك وفي مسطح ـ أو لموصوفات أقيمت مقامها فيكون في تعليل المقصود. قال الجبّائيّ : وفي قصّة مسطح دلالة على أنّه قد يجوز أن تقع المعاصي ممّن شهد بدرا بخلاف قول النواصب. (وَلْيَصْفَحُوا) عمّن أساء إليهم. (غَفُورٌ رَحِيمٌ) مع كمال قدرته ، فتخلّقوا بأخلاقه. (١)

[٢٣] (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣))

(يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) ؛ أي : يقذفون العفائف (الْغافِلاتِ) عمّا قذفن به. (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا) بالحدّ وردّ الشهادة. وفي الآخرة» بعذاب النار. وهذا الوعيد لجميع المكلّفين. عن ابن عبّاس. (٢)

[٢٤] (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤))

(يَوْمَ تَشْهَدُ). بيّن سبحانه أنّ ذلك العذاب يكون في يوم تشهد ألسنتهم عليهم بالقذف وسائر أعضائهم بمعاصيهم. وشهادة الجوارح إمّا بأنّ الله يبنيها بنية يمكنها الكلام والنطق من جهتها فتكون ناطقة ؛ أو أنّ الله يفعل فيها كلاما يتضمّن الشهادة فيكون المتكلّم هو الله

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، ومجمع البيان ٧ / ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٢٠ ، ومجمع البيان ٧ / ٢١١.

٤١٦

دون الجوارح ؛ أو أنّه يجعل فيها علامات تقوم مقام النطق بالشهادة. وأمّا شهادة الألسن ، فإذا رأوا أنّه لا ينفعهم الجحود. وأمّا الختم على الأفواه ، فيجوز أن يكون في حال شهادة الأيدي والأرجل. (١)

[٢٥] (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥))

(يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) ؛ أي : يتمّم لهم جزاءهم الحقّ. فالدين هنا بمعنى الجزاء. ويجوز أن يكون المراد : جزاء دينهم الحقّ ، فحذف المضاف. (٢)

(وَيَعْلَمُونَ) لمعاينتهم الأمر (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) : الثابت بذاته ، الظاهر في ألوهيّته ، لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه. أو : ذو الحقّ البيّن ؛ أي : العادل الظاهر عدله. ومن كان هذا شأنه ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة. (٣)

[٢٦] (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))

أي : الخبيثات من الكلم ، للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الرجال ، للخبيثات من الكلم. وكذلك القول في الطيّبات. ألا ترى أنّك تسمع الخبيث من الرجل الصالح فتقول : غفر الله لفلان. ما هذا من خلقه. أو معناه : الخبيثات من السيّئات ، للخبيثين من الرجال. فيكون المراد من الطيّبات الحسنات. أو يكون المراد : الخبيثات من النساء ، للخبيثين من الرجال. وكذلك حكم الطيّبات من النساء. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. قال : هي مثل قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً). (٤) وذلك أنّ أناسا همّوا أن يتزوّجوا منهنّ فنهاهم الله عن ذلك وكره ذلك لهم. (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) ؛ أي : الطيّبون منزّهون عن الكلام الخبيث.

(لَهُمْ) ؛ أي : لهؤلاء الطيّبين من الرجال والنساء (مَغْفِرَةٌ) من الله لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢١١.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢١١.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٢٠.

(٤) النور (٢٤) / ٣.

٤١٧

في الجنّة. (١)

[٢٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧))

(تَسْتَأْنِسُوا) ؛ أي : تستأذنوا. قال ابن عبّاس : أخطأ الكاتب فيه. وكان يقرأ :

تستأذنوا» وقيل : تستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الاستئذان. وقد بيّن الله ذلك في قوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا). (٢) عن أبي أيّوب الأنصاريّ قال : قلنا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما الاستئناس؟ قال : يتكلّم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح على أهل البيت. وروي أنّ رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أستأذن على أمّي؟ فقال : نعم. قال : إنّها ليس لها خادم غيرى. فأستأذن عليه كلّما دخلت؟ قال : أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال الرجل : لا. قال : فاستأذن عليها. (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها). قيل : إنّ فيها تقديما وتأخيرا. أي : حتّى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا. وقيل : معنى تستأنسوا تسلّموا. فقد روي أنّ رجلا استأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتنحنح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لامرأة يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعلّميه وقولي له : قل : السّلام عليكم. أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها. فقال : ادخل. (ذلِكُمْ) ؛ أي : الدخول بالاستئذان. (تَذَكَّرُونَ) أوامر الله ونواهيه فتتّبعونها. (٣)

(تَسْتَأْنِسُوا). إمّا من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش. لأنّ الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له ، استأنس. فالمعنى : حتّى يؤذن لكم. أو يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا. أي : حتّى تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا. ويجوز أن يكون من الإنس ، وهو أن يتعرّف هل ثمّ إنسان. (ذلِكُمْ) ؛ أي : الاستئذان والتسليم (خَيْرٌ لَكُمْ) من تحيّة الجاهليّة ومن الدخول بغير إذن. وكان أهل الجاهليّة إذا

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) النور (٢٤) / ٥٩.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢١٣.

٤١٨

دخل الرجل منهم بيتا غير بيته قال : حيّيتم صباحا ، وحيّيتم مساء ، ثمّ يدخل. فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد. فصدّ الله عن ذلك وعلّم الأحسن. (١)

[٢٨] (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨))

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) يأذن لكم في الدخول ، (فَلا تَدْخُلُوها). لأنّه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطّلعوا عليه. حتى يؤذون لكم» : [حتّى يأذن لكم] أرباب البيوت. بيّن سبحانه بهذا أنّه لا يجوز دخول دار بغير إذن صاحبها وإن لم يكن فيها ولا يجوز أن يتطلّع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقا ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما جعل الاستئذان لأجل النظر إلّا أن يكون الباب مفتوحا ، لأنّ صاحبه أباح النظر بالفتح. (فَارْجِعُوا). وذلك بأن يأمروا بالانصراف صريحا أو يوجد منهم ما يدلّ عليه. (أَزْكى لَكُمْ) ؛ أي : أنفع لكم وأطهر لقلوبكم. (٢)

[٢٩] (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))

(جُناحٌ) ؛ أي : حرج وإثم. (أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً). أي بغير استئذان. (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ).

قيل : المراد بها الخانات والحمّامات والأرحية. عن الصادق عليه‌السلام. وتكون معنى (مَتاعٌ لَكُمْ) استمتاع. وقيل : إنّها الخرابات المعطّلة يدخلها الإنسان لقضاء الحاجة. وقيل : الحوانيت وبيوت التجّار التي فيها أمتعة الناس. فإنّهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس هلمّوا. والأولى حمله على الجميع. (٣)

(مَتاعٌ لَكُمْ). المتاع : المنفعة ، [كالاستكنان] من الحرّ والبرد وإيواء الرحل والسلع. (٤)

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٢٢٥ ـ ٢٢٧.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٢١٤.

(٤) الكشّاف ٣ / ٢٢٨.

٤١٩

[٣٠] (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠))

(يَغُضُّوا). الغضّ : النقصان. أي : يغضّوا عمّا لا يحلّ لهم. (مِنْ أَبْصارِهِمْ). من مزيدة أو للتبعيض. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : كلّ موضع في القرآن ذكر فيه حفظ الفروج ، فهو عن الزنى إلّا في هذا الموضع ، فإنّ المراد به الستر حتّى لا ينظر إليه أحد. (أَزْكى) ؛ أي : أطهر وأنفى للتهمة. (١)

فإن قلت : كيف دخلت (مِنْ) في غضّ البصر دون حفظ الفروج؟ قلت : دلالة على أنّ أمر النظر أوسع. ألا ترى أنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ وصدورهنّ وكذلك الجواري المستعرضات ينظر إلى وجهها وكفّيها وقدميها. وأمّا أمر الفرج ، فمضيق. وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلّا ما استثني منه وحظر الجماع إلّا ما استثني منه. وأمّا تقدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج ، فلأنّ النظر بريد الزنى ورائد الفجور والبلوى فيه أشدّ وأكثر ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. (٢)

في حديث ابن أمّ مكتوم الأعمى لمّا دخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر نساءه بدخول البيت لئلّا يرينه (٣) دلالة على المنع من رؤية الرجال الأجانب لهنّ مطلقا. ونقل العلّامة في التذكرة عن بعض علمائنا جواز النظر إلى وجه الرجل وكفّيه كنظر الرجل إلى وجه المرأة وكفّيها. وقال بعضهم : إنّها تنظر إلى ما يبدو عند الحاجة (٤) دون غيره إذ لا حاجة إليه. وقال بعضهم : إنّها تنظر إلى جميع بدنه إلّا ما بين السرّة والركبة بخلاف بدن المرأة ، فإنّه كلّه عورة. وفيه ما لا يخفى.

[٣١] (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٢) الكشّاف ٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٣) الكافي ٥ / ٥٣٤ ، والكشّاف ٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٤) في مسالك الأفهام ٣ / ٢٦٩ : عند المهنة.

٤٢٠