عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

[٢٥] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

(كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) ؛ أي : صدّوا. أو : كفروا فيما مضى ويصدّون الآن عن طاعة الله. (جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ). أي مستقرّا ومتعبّدا. أو : خلقناه لكلّ الناس لم نخصّ به بعضا دون بعض. قال الزجّاج : الوقف على (لِلنَّاسِ) وقف تامّ. والعاكف : المقيم. والبادي : الطاري. أي : إنّهما مستويان في سكناه غير أنّه لا يخرج أحد من بيته. فلذا قيل : إنّ كراء دور مكّة وبيعها حرام. والمراد بالمسجد على هذا الحرم. وقيل : المراد عين المسجد. لأنّ المشركين كانوا يمنعون المسلمين من الصلاة والطواف فيه ويقولون نحن أربابه. (بِإِلْحادٍ). قيل : هو الشرك. وقيل : استحلال الحرام. وقيل : كلّ ذنب حتّى شتم الخادم. وقيل : هو دخول مكّة بغير إحرام. وقيل : إنّ الآية نزلت في الذين صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة عام الحديبيّة. (سَواءً). حفص عن عاصم بالنصب. والباقون بالرفع. (١)

(سَواءً) بالرفع خبر مقدّم والجملة مفعول ثان لجعلناه. ونصبه [حفص] على أنّه المفعول والعاكف مرتفع به. (٢)

(بِإِلْحادٍ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : نزلت فيمن ألحد بأمير المؤمنين عليه‌السلام. (٣)

[٢٦] (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

(بَوَّأْنا). فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟ قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، فكأنّه قال : تعبّدنا إبراهيم قلنا له : لا تشرك بي شيئا. (٤)

(وَإِذْ بَوَّأْنا) ؛ أي : اذكر ـ يا محمّد ـ إذ وطّأنا لإبراهيم مكان البيت وعرّفناه ذلك بما

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٢٧ ـ ١٢٨ و ١٢٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٨٧.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٨٣.

(٤) الكشّاف ٣ / ١٥٢.

٣٤١

جعلنا له من العلامة. وذلك أنّ الله لمّا أمره ببناء الكعبة ، لم يدر أين يبني ، فبعث الله ريحا يقال لها الحجوج (١) فكنست ما حول الكعبة عن الأساس الأوّل الذي كان البيت عليه قبل أيّام الطوفان. وقيل : المعنى : جعلنا البيت مثواه ومسكنه. ألا تشرك بي شيئا أي : أوحينا إليه ألّا تعبد غيري. كأنّه قال : وحّدني في هذا البيت. لأنّ معنى لا تشرك بي وحّدني. (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الشرك وعبادة الأوثان. والمراد بالقائمين المقيمين بمكّة. وقيل : القائمين في الصلاة. (٢)

[٢٧] (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧))

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) : وأعلمهم بوجوب الحجّ. وهو خطاب لإبراهيم ، فإنّه قام في المقام فنادى : يا أيّها الناس ، إنّ الله دعاكم إلى الحجّ. فأجابوا : لبّيك اللهمّ لبّيك. فأسمع الله صوت إبراهيم كلّ من سبق في علم الله أنّه يحجّ إلى يوم القيامة. وأوّل ما أجابه أهل اليمن. وقيل : المخاطب به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأذّن في حجّة الوداع ؛ أي : أعلمهم بوجوب الحجّ. (يَأْتُوكَ رِجالاً) ؛ أي : مشاة على أرجلهم. (كُلِّ ضامِرٍ) ؛ أي : ركبانا على الإبل. ولا يدخل بعير ولا غيره الحرم إلّا وقد هزل. (فَجٍّ عَمِيقٍ) ؛ أي : طريق بعيد. عن ابن عبّاس : (رِجالاً) بالتشديد والضمّ. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. (٣)

(ضامِرٍ). [الضامر] : البعير المهزول.

[٢٨] (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

(مَنافِعَ) : تجارات الدنيا وثواب الآخرة. وقيل : منافع الآخرة. وهو المرويّ عن

__________________

(١) المصدر : فبعث الله ريحا خجوجا.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٢٨.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٢٨ ـ ١٢٩ و ١٢٦.

٣٤٢

الباقر عليه‌السلام. والمعنى : ليحضروا ما ندبهم الله إليه وهو ما فيه نفع الآخرة. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ). قيل : هي أيّام العشر من ذي الحجّة. وقيل : أيّام التشريق يوم النحر. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ؛ أي : على ذبح ونحر ما رزقهم من الأنعام الثلاثة. وهذه الأيّام تختصّ بذلك. وقيل : إنّ الذكر هو التكبير بمعنى [عقيب] خمس عشرة صلاة أوّلها صلاة الظهر. والبهيمة أصلها من الإبهام ، لأنّها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق. والأنعام مشتقّ من النعمة وهو اللّين. سمّيت بذلك للين خفافها. (١)

(فَكُلُوا مِنْها) ؛ أي : من بهيمة الأنعام. وهذا إباحة وندب وليس بواجب ، إزاحة لما عليه الجاهليّة من التحرّج فيه. والبائس : الذي ظهر عليه آثار البؤس من الجوع والعرى. وقيل : البائس : الذي يمدّ يده للسؤال. (٢)

[٢٩] (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

(لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ؛ أي : ليزيلوا وسخ الإحرام من تقليم الأظفار وأخذ الشعر. وقيل : هو الخروج من الإحرام إلى الإحلال. (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) نحو ما نذروا من البدن وأعمال البرّ في أيّام الحجّ. وإن كان على الرجل نذور ، فالأفضل أن يفي بها. (وَلْيَطَّوَّفُوا). يعني طواف الزيارة. لأنّه من أركان الحجّ. وروى أصحابنا أنّ المراد به طواف النساء. (الْعَتِيقِ). لأنّه أعتق من أن تصل الجبابرة إلى تخريبه. وأمّا الحجّاج ، فإنّه قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلّط عليه. أو لأنّه أعتق من الطوفان. أو لأنّه قديم بناه آدم ثمّ جدّده إبراهيم. (٣)

[٣٠] (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

(ذلِكَ). قيل : هاهنا وقف. أي : هكذا أمر الحجّ والمناسك. وهو وأمثاله يطلق للفصل

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٣٠.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٣٠ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٨٨.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٣٠ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٨٨.

٣٤٣

بين كلامين. (حُرُماتِ اللهِ). وهو ما يجب القيام به. واختار أكثر المفسّرين في معنى الحرمات هنا أنّها المناسك لدلالة ما يتّصل بها من الآيات على ذلك. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ؛ أي : التعظيم خير له في الآخرة. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ). يعني في سورة المائدة من الميتة والمنخنقة والموقوذة ونحوها (مِنَ الْأَوْثانِ). من هنا للبيان. أي : الرجس الذي هو الأوثان. وروى أصحابنا أنّ اللّعب بالشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار من ذلك. وقيل : إنّهم كانوا يلطخون الأوثان بدماء قرابينهم فسمّي ذلك رجسا. (قَوْلَ الزُّورِ) ؛ يعني : الكذب. وروى أصحابنا أنّه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية. والزور من الزّور ـ بالفتح ـ وهو الانحراف. (١)

[٣١] (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ) ؛ أي : مستقيمي الطريقة على ما أمر الله. وهي نصب على حال. أي : حجّاجا مخلصين لا يشركون في تلبية الحجّ به أحدا. (خَرَّ مِنَ السَّماءِ) ؛ أي : سقط منها. (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) ؛ أي : تأخذه بسرعة. يريد : تخطف لحمه. قال الزجّاج : معناه : بعد من أشرك به من الحقّ كبعد من خرّ من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح. وقال غيره : شبّه حال المشركين بحال الهاوي من السماء في أنّه لا يملك لنفسه حيلة فهو هالك لا محالة. (أَوْ تَهْوِي). يجوز أن يكون أو للتخيير ؛ كما في قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ)(٢) أو للتنويع ، فإنّ من المشركين من لا خلاص له أصلا ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة ولكن على بعد. (٣)

(فَكَأَنَّما خَرَّ). يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركّب والمفرّق. فإن كان تشبيها مركبّا ، فكأنّه قال : من أشرك بالله ، فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده [نهاية] بأن صوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفه الطير فتفرّق مزعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتّى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرّقا ، فقد شبّه الإيمان في علوّه

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٣٠ ـ ١٣١ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٨٨.

(٢) البقرة (٢) / ١٩.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٣٣ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٨٨.

٣٤٤

بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزّع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطوّح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي. (١)

(خَرَّ مِنَ السَّماءِ). لأنّه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر فتخطفه الطير. فإنّ الأهواء المردية توزّع أفكاره. (٢)

(فَتَخْطَفُهُ). قرأأهل المدينة بفتح الخاء والتشديد. والباقون بسكون الخاء والتخفيف. (٣)

[٣٢] (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢))

(ذلِكَ) ؛ أي : الأمر ذلك الذي ذكرنا. (شَعائِرَ اللهِ) ؛ أي : معالم دين الله التي نصبها لطاعته. قيل : هي مناسك الحجّ كلّها. وقيل : هي البدن وتعظيمها استسمانها واستحسانها. وعن ابن عبّاس : الشعائر جمع شعيرة ؛ وهي البدن إذا أشعرت بأن يشقّ سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنّها هدي. فالذي يهدي مندوب إلى طلب الأثمن (٤) والأعظم. (فَإِنَّها) ؛ أي : فإنّ تعظيمها. فحذف المضاف. (تَقْوَى الْقُلُوبِ). أضافه إلى القلوب لأنّ حقيقة التقوى تقوى القلب. (٥)

[٣٣] (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

(لَكُمْ فِيها) ؛ أي : في الشعائر التي هي البدن (مَنافِعُ) وهو ركوب ظهرها وشرب لبنها إذا احتيج إليها. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : إلى أن تنحر. (ثُمَّ مَحِلُّها) ؛ أي : [محلّ] الهدي والبدن الكعبة. وقيل : الحرم كلّه. وقال أصحابنا : إن كان الهدي للحجّ ،

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ١٥٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٨٨.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٣١ ـ ١٣٢.

(٤) المصدر : الأسمن.

(٥) مجمع البيان ٧ / ١٣٣.

٣٤٥

فمحلّه منى. وإن كان للعمرة المفردة ، فمحلّه مكّة قبالة الكعبة بالجزورة. (١)

[٣٤] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤))

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) ؛ أي : لكلّ أهل دين (مَنْسَكاً) ؛ أي : متعبّدا. أو : قربانا يتقرّبون به إلى الله. (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه. علّل الجعل به تنبيها على أنّ المقصود من المناسك تذكّر المعبود عند ذبح الأنعام. وفيه تنبيه على أنّ القربان يجب أن يكون نعما. (إِلهٌ واحِدٌ). فلا تذكروا على ذبائحكم إلّا الله وحده. (فَلَهُ أَسْلِمُوا) ؛ أي : انقادوا. (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ؛ أي : المتواضعين والمخلصين. (٢)

(مَنْسَكاً). حمزة والكسائيّ : (مَنْسَكاً) بالكسر. أي : موضع نسك. (٣)

[٣٥] (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

ثمّ وصفهم فقال : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ) ؛ أي : إذا خوّفوا بالله ، خافوا هيبة منه لإشراق أشعّة جلاله على قلوبهم. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من البلايا والمصائب في طاعة الله. (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها يؤدّونها. و [على قراءة (الصَّلاةِ) بالنصب] حذفت النون للتخفيف لا لتعاقبها الإضافة. وشبّه ذلك بالّذين واللّذان في قوله : وإن الذي حانت بفلج دماؤهم». (٤)

[٣٦] (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٣٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٨٩ ، ومجمع البيان ٧ / ١٣٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٨٩.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٣٤ و ١٣٢. وتفسير البيضاويّ ٢ / ٨٩.

٣٤٦

لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

(وَالْبُدْنَ) : جمع بدنة ـ كخشبة. سمّيت به الإبل لعظم بدنها. أي : جعلنا البدن من شعائر الله ؛ أي : أعلام دينه التي شرعها الله. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) ؛ أي : منافع دينيّة ودنيويّة. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) ؛ أي : في حال نحرها. قال ابن عبّاس : [هو أن يقول :] الله أكبر. لا إله إلّا الله. والله أكبر. اللهمّ منك ولك. (صَوافَّ). هو أن تنحر وهي صافّة ؛ أي : قائمة ربطت يداها ما بين الرسغ والخفّ إلى الركبة. عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وأمّا البقر ، فإنّه يشدّ يداها ورجلاها. والغنم يشدّ ثلاث قوائم منها ويطلق رجل واحدة. (وَجَبَتْ جُنُوبُها) ؛ أي : سقطت إلى الأرض. وهو عبارة عن خروج الروح منها. (فَكُلُوا مِنْها). إذن وليس بأمر. لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يحرّمونها على نفوسهم. وقيل : إنّ الأكل منها واجب إذا تطوّع بها. (١)

(الْقانِعَ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : القانع الذي يسأل فيرضى. والمعترّ : الذي يعتري رحلك ـ أي يقصده ـ ممّن لا يسأل. وروي عنهم عليهم‌السلام أنّه ينبغي أن يطعم ثلثه ويعطي للقانع والمعترّ ثلثه ويهدي لأصدقائه الثلث الباقي. (٢)

(كَذلِكَ) ؛ ، أي : مثل ما وصفنا من نحرها قياما. (سَخَّرْناها لَكُمْ) مع عظمها وقوّتها حتّى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافّة قوائمها ثمّ تطعنون [في] لبابها. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إنعامنا عليكم بالتقرّب والإخلاص. (٣)

[٣٧] (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

لن تنال الله ولكن تناله بالتاء يعقوب. وقرأالأوّل بالتاء أبو جعفر. وقرأالباقون بالياء فيهما. (٤)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٨٩ ، ومجمع البيان ٧ / ١٣٧.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٠.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٣٥.

٣٤٧

(لَنْ يَنالَ اللهَ) ؛ أي : لن يصيب رضاه ولن يقع موقع القبول منه (لُحُومُها) المتصدّق بها (وَلا دِماؤُها) المهراقة بالنحر من حيث إنّها لحوم ودماء ، ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمر الله والتقرّب إليه والإخلاص له. قيل : كان أهل الجاهليّة إذا ذبحوا القرابين ، لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله. فهمّ به المسلمون ، فنزلت. (كَذلِكَ سَخَّرَها). كرّره تذكيرا للنعمة وتعليلا بقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) : لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحّدوه بالكبرياء. وقيل : هو التكبير عند الإهلال أو الذبح. (عَلى ما هَداكُمْ) : أرشدكم إلى تسخيرها وكيفيّة التقرّب بها. وعلى متعلّقة بتكبّروا لتضمّنه معنى الشكر. (الْمُحْسِنِينَ) ؛ أي : المخلصين فيما يأتونه ويذرونه. (١)

[٣٨] (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) غائلة المشركين. وقرأالكوفيّون : (يُدافِعُ) ؛ أي : يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه. (كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). وهم الذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا وكفروا نعمه. و [قيل :] من تقرّب إلى الأصنام بذبيحته ، فهو خوّان كفور. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) قال : نحن الذين يدافع الله عنّا ما أذاعت شيعتنا. يعني أنّ بعض شيعتهم يذيع عنهم بعض أسرارهم إلى أعدائهم ، يقصد بذلك أذاهم أو لا يقصد ، فإنّ الله يدافع عنهم. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) لمودّتهم (كَفُورٍ) بولايتهم. (٣)

[٣٩] (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩))

ثمّ بيّن سبحانه إذنه لهم في قتال الكفّار بعد تقدّم بشارتهم بالنصرة فقال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ؛ أي : بسبب أنّهم ظلموا. وكان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٠ ، ومجمع البيان ٧ / ١٣٨.

(٣) تأويل الآيات ١ / ٣٣٧ ، ح ١٢.

٣٤٨

يجيء مشجوج ومضروب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشكون إليه فيقول : اصبروا. فإنّي لم أومر بالقتال حتّى هاجر وأنزل الله هذه الآية بالمدينة. وهي أوّل آية نزلت في القتال. وتقدير الآية : أذن للمؤمنين بالقتال من أجل أنّهم ظلموا بالإخراج من ديارهم وقصدوا بالإيذاء والإهانة. (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ). وعد لهم بالنصر. معناه أنّه سينصرهم. (١)

(أُذِنَ). قرأأهل المدينة وحفص : «أذن» بضمّ الألف (يُقاتَلُونَ) بفتح التاء. وأبو عمرو وأبو بكر : (أُذِنَ) بضمّ الألف (يُقاتَلُونَ) بكسر التاء. (٢)

[٤٠] (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ). أي من مكّة إلى المدينة إن كانت الآية مدنيّة. أو إلى الحبشة إن كانت مكّيّة. (بِغَيْرِ حَقٍّ) ؛ أي : موجب استحقّوا به. (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ). على طريقة قول النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم». وقيل : منقطع. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) قال : نزلت في عليّ وحمزة وجعفر عليهم‌السلام. ثمّ جرت في الحسين عليه‌السلام. (٤)

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا). قال : نزلت في الحسين عليه‌السلام حين طلبه يزيد بن معاوية عليهما اللّعنة ليحمله إلى دمشق فخرج إلى الكوفة وقتل بالطفّ. (٥)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) : انّ العامّة تزعم أنّ المعنيّ بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أخرجه قريش من مكّة. وإنّما هو القائم عليه‌السلام إذا خرج يطلب بدم

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٣٨.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٣٥.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٣٨ ، وتفسير البيضاويّ ٣ / ٩٠.

(٤) تأويل الآيات ١ / ٣٣٩ ، ح ١٧.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ٨٤.

٣٤٩

الحسين عليه‌السلام وهو يقول : نحن طلّاب الترة وأولياء الدم. (١)

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) بتسليط المؤمنين على الكافرين ، (لَهُدِّمَتْ) : لخرّبت باستيلاء المشركين على أهل الملل (صَوامِعُ) الرهبانيّة (وَبِيَعٌ) النصارى (وَصَلَواتٌ) ؛ أي : كنائس اليهود. وسمّيت بها لأنّها تصلّى فيها. وقيل : أصله صلوتا بالعبرانيّة فعرّبت. و (مَساجِدُ) [المسلمين]. (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ). صفة للأربع ، أو لمساجد خصّت بها تفضيلا. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ؛ أي : ينصر دينه. وقد أنجز وعده بأن سلّط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم. (٢)

وإنّما دفع بالمسلمين عن سائر أهل الأديان ، لأنّ متعبّداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام. وتفسير الآية على قول الأكثرين : ولو لا دفع الله ، لهدم في شرع كلّ نبيّ مكان عبادتهم ؛ فهدم في زمان موسى الكنائس ، وزمن عيسى الصوامع ، وزمن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله المساجد ؛ فيكون الدفع عنهم قبل التحريف. (٣)

أهل المدينة ويعقوب : دفاع الله بالألف. (لَهُدِّمَتْ). أهل المدينة خفيفة الدال. والباقون بالتشديد. وأظهر التاء عاصم ويعقوب وأدغمه الآخرون. (صَلَواتٌ). قرأ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : «صلوات» بضمّ الصاد والدال. (٤)

[٤١] (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ). وصف سبحانه من ذكرهم من المهاجرين. (أَقامُوا الصَّلاةَ) بحقوقها. وقال أبو جعفر عليه‌السلام : نحن هم. (عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ؛ أي : يبطل كلّ ملك سوى ملكه فتصير الأمور إليه بلا مانع ومنازع. (٥)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٨٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٠ ـ ٩١.

(٣) تفسير النيسابوريّ ١٧ / ٩٣.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٣٥.

(٥) مجمع البيان ٧ / ١٤٠.

٣٥٠

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) إلى قوله : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) قال : هذه آية لآل محمّد المهدي عليهم‌السلام وأصحابه يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها ويظهر الدين ويميت به البدع والباطل حتّى لا يرى أثر من الظلم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. (١)

[٤٢ ـ ٤٣] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣))

ثمّ عزّى نبيّه عن تكذيبهم إيّاه [و] خوّف مكذّبيه بذكر من كذّبوا نبيّهم فأهلكوا فقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمّد (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) : كلّ أمّة من هذه الأمم كذّبت نبيّها. (٢)

[٤٤] (وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤))

(وَكُذِّبَ مُوسى). لم يقل : وقوم موسى ، لأنّ قومه بنو إسرائيل وكانوا آمنوا به وإنّما كذّبه فرعون وقومه. وهم القبط. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) ؛ أي : أخّرت عقوبتهم وأمهلتهم حتّى انصرمت آجالهم المقدّرة. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ؛ أي : نكيري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكا والعمارة خرابا. (٣)

(نَكِيرِ) ؛ يعني : نكيري. [«نكيري»] بإثبات الياء في الحالين أينما وقع [يعقوب]. (٤)

[٤٥] (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) ؛ أي : وكم من قرى أهلكناها بإهلاك أهلها. (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى

__________________

(١) تأويل الآيات ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ، ح ٢٥.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٤٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٤٠ ، تفسير البيضاويّ ٢ / ٩١.

(٤) تفسير النيسابوريّ ١٧ / ٩٧.

٣٥١

عُرُوشِها). خاوية ؛ أي : ساقطة. والعروش : السقوف. أي : ساقط حيطانها على سقوفها بأن تعطّلت بنيانها فخرّت سقوفها ثمّ تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ). عطف على قرية. أي : وكم بئر عاطلة في الوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ؛ أي : مرفوع أو مجصّص خلّيناه عن ساكنيه. وقيل : المراد ببئر بئر على سفح جبل بحضر موت ، وبقصر قصر مشرف على قلّته. كانا لقوم حنظلة بن صفوان النبيّ من بقايا قوم صالح. فلمّا قتلوه ، أهلكهم الله وعطّلهما. وفي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أنّ المعنى : وكم من عالم لا ينتفع بعلمه. (١)

(أَهْلَكْناها) قرأأهل البصرة : أهلكتها» (٢)

(بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). هو مثل ضرب لآل محمّد عليهم‌السلام. فالبئر المعطّلة : التي لا يستقى منها. وهو الإمام الغائب عليه‌السلام. فهو لا يقتبس منه العلم إلى حين ظهوره. والقصر المشيد : المرتفع. هو مثل لأمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة صلوات الله عليهم وفضائلهم المنتشرة في العالمين المشرفة على الدنيا. وقيل في ذلك شعر :

مثل لآل محمّد مستطرف

بئر معطّلة وقصر مشرف

فعليّ القصر الذي لا يرتقى

والبئر علمهم الذي لا ينزف (٣)

عن الكاظم عليه‌السلام قال : البئر المعطّلة الإمام الصامت. والقصر المشيد الإمام الناطق. (٤)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : القصر المشيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والبئر المعطّلة عليّ عليه‌السلام. (٥)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : أمير المؤمنين عليه‌السلام القصر المشيد. والبئر المعطّلة فاطمة عليها‌السلام. وولدها معطّلون من الملك. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤١ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٩١.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٣٩.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٨٥.

(٤) تأويل الآيات ١ / ٣٤٤ ، ح ٢٧.

(٥) تأويل الآيات ١ / ٣٤٤ ، ح ٢٨.

(٦) تأويل الآيات ١ / ٣٤٤ ، ح ٢٦.

٣٥٢

[٤٦] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ؛ أي : أفلم يسر قومك ـ يا محمّد ـ في أرض اليمن والشام. حثّ لهم إلى أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا. وهم ، وإن كانوا قد سافروا ، لكن لم يسافروا لذلك. (يَعْقِلُونَ بِها) ما نزل بمن كذّب قبلهم. أو : يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال. (يَسْمَعُونَ بِها) أخبار الأمم المكذّبة ، أو ما يجب أن يسمع من الوحي. (فَإِنَّها). الضمير للقصّة. والجملة بعدها تفسيرها. (تَعْمَى الْقُلُوبُ) عن الاعتبار ؛ أي : ليس الخلل في مشاعرهم وإنّما إيفت قلوبهم باتّباع الهوى والانهماك في التقليد. وذكر الصدور للتأكيد. وقيل : لمّا نزل : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى). (١) قال ابن أمّ مكتوم : يا رسول الله ، أنا في الدنيا أعمى. أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت. (٢)

إن قلت : أيّ فائدة في ذكر الصدور؟ قلت : الذي تعورف أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر واستعماله في القلب استعارة ومثل. فلمّا أريد إثبات ما هو خلاف الحقيقة ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف. (٣)

[٤٧] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا محمّد. أي : يستبطئون العذاب الذي وعدتهم نزوله. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) في إنزال العذاب بهم. قال ابن عبّاس : يعني يوم بدر. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ). فيه وجوه. أحدها : انّ يوما من أيّام الآخرة يكون كألف سنة من أيّام الدنيا. ومعناه أنّهم يستعجلون العذاب وإنّ يوما من أيّام عذابهم في الآخرة كألف سنة منه في الدنيا. و

__________________

(١) الإسراء (١٧) / ٧٢.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٤٢ ، تفسير البيضاويّ ٢ / ٩١ ـ ٩٢.

(٣) الكشّاف ٣ / ١٦٢.

٣٥٣

ثانيها : انّ المعنى : [وإنّ] يوما عند ربّك وألف سنة في قدرته واحد. فلا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وبين تأخيره في القدرة إلّا أنّه سبحانه تفضّل بالإمهال ولا يفوته شيء. وثالثها : انّ يوما واحدا كألف سنة في مقدار العذاب وشدّته ؛ أي : لشدّته وعظمته كمقدار ألف سنة من أيّام الدنيا على الحقيقة. وكذلك نعيم الجنّة ، يكون نعيم يوم في الجنّة مثل نعيم ألف سنة في الدنيا لو بقي منعما فيها. ثمّ الكافر يستعجل ذلك العذاب لجهله. وهذا كما يقال في المثل : إنّ أيّام السرور قصار وأيّام الهموم طوال. (تَعُدُّونَ). قرأأهل الكوفة بالياء. (١)

[٤٨] (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨))

ثمّ أعلم سبحانه أنّه أخذ قوما بعد الإمهال فقال : (وكأين من قرية وهي ظالمة) مستحقّة لتعجيل العذاب ، ثمّ أهلكتها. (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) : يصير كلّ أحد. (٢)

[٤٩] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩))

(نَذِيرٌ مُبِينٌ) ؛ أي : مبيّن لكم ما يجب عليكم فعله وما يجب عليكم تركه. (٣)

[٥٠] (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠))

عن الكاظم عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا) ـ الآية ـ قال : أولئك آل محمّد صلوات الله عليهم. (٤)

(رِزْقٌ كَرِيمٌ). يعني نعيم الجنّة. (٥)

[٥١] (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٤٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٤٣.

(٤) تأويل الآيات ١ / ٣٤٥ ، ح ٢٩.

(٥) مجمع البيان ٧ / ١٤٣.

٣٥٤

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) ؛ أي : بذلوا الجهد في إبطال آياتنا. (مُعاجِزِينَ) ؛ أي : مغالبين. وقيل : مقدّرين أنّهم يسبقوننا. وقيل : ظانّين أن يعجزوا الله أي يفوتونه. ومن قرأ : «معجزين» فمعناه : مثبّطين لمن أراد اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. (١)

(مُعاجِزِينَ). قرأابن كثير وأبو عمرو : «معجزين» بالتشديد. (٢)

[٥٢] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢))

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) ـ الآية. قال عامّة المفسّرين في سبب نزول الآية : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا شقّ عليه إعراض قومه عنه ، تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم. وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم ونزل عليه سورة والنجم إذا هوى ، فقرأها عليهم حتّى بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وكان ذلك التمنّى في نفسه. فجرى على لسانه : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى. فلمّا سمعت قريش ذلك ، فرحوا. ومضى رسول الله في قراءته حتّى ختم السورة. فلمّا سجد في آخرها ، سجد معه المسلمون والمشركون. فتفرّقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر. فأتاه جبرئيل وقال : ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله! فحزن رسول الله وخاف خوفا شديدا ، فأنزل الله هذه الآية. واعترض على هذه الرواية المحقّقون بالقرآن والسنّة والمعقول. لقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى). (٣) وسئل محمّد بن إسحاق [بن خزيمة] عن هذه القصّة فقال : وضعها الزنادقة. وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما بعث لنفي الأوثان ، فكيف يثبتها؟ (٤) كذا قال الفاضل النيشابوريّ مع كلام طويل بعده.

وقال المرتضى : لا يخلو التمنّي في الآية من أن يكون معناه التلاوة ـ قال حسّان بن ثابت :

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٤٣.

(٣) النجم (٥٣) / ٣.

(٤) تفسير النيسابوريّ ١٧ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٥٥

(تمنى كتاب الله أول ليلة) ـ أو يكون من تمنّي القلب. فعلى الأوّل معناه : انّ من أرسل قبلك من الرسل كان إذا أدّى إلى قومه ، حرّفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا ؛ كما فعلت اليهود. وأضاف ذلك إلى الشيطان ، لأنّه يقع بغروره. (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) ؛ أي : يزيله. وخرج هذا على وجه التسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا كذب المشركون عليه وأضافوا إلى تلاوته في مدح آلهتهم ما لم يكن فيها. فيكون قوله : تلك الغرانيق العلى ، من كلام بعض الحاضرين من الكفّار أوهم أنّ ذلك من القرآن. وإن كان المراد تمنّي القلب ، فمعناه : انّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله متى تمنّى بقلبه شيئا ، وسوس إليه الشيطان بالباطل يدعوه إليه ، وينسخ الله ذلك ويبطله بما يرشده إليه من ترك استماع غروره. وما قالوه في تلك الرواية ، إن وقع منه عمدا ، فمناف للآيات والأخبار ؛ وإن وقع سهوا ، فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ونظمها. وقيل : إنّ المراد بالغرانيق الملائكة وقد جاء في ذلك الحديث فتوهّم المشركون أنّه يريد آلهتهم. وقيل : إنّ ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فلمّا ظنّ المشركون المراد به آلهتهم ، نسخت تلاوته. ويجوز أن يكون لمّا انتهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذكر اللّات والعزّى ، قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا صوته فألقاهما في تلاوته في غمار الناس فظنّ الجهّال أنّ ذلك من قول النبيّ فسجدوا عند ذلك. والغرانيق : جمع غرنوق ؛ وهو الحسن الجميل. (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ؛ أي : يبقي آياته وأوامره محكمة لا سهو فيها ولا غلط. (١)

(مِنْ رَسُولٍ). من هنا زائدة. وإنّما ذكر لفظي النبيّ والرسول لاختلاف فائدتهما. فالرسول من أرسله الله ولا يحمل عند الإطلاق على غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنبيّ الذي له الرفعة العظيمة بالإرسال. فهما واحد إلّا أنّ الرسول يعمّ الملائكة والبشر. فلذلك جمع بينهما. (وَما أَرْسَلْنا). متّصل بما تقدّم من أحوال الكفّار وتمتّعهم بالدنيا. ولمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما بأصحابه من الإقتار ، تمنّى لهم الدنيا ، فبيّن سبحانه أنّ ذلك من وساوس الشيطان وأنّ ما

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤٤ ـ ١٤٦.

٣٥٦

وعدهم الله من نعيم الآخرة خير. (١)

(وَما أَرْسَلْنا). عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : انّ علم عليّ عليه‌السلام في [آية] واحدة وهي قوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث» وكان عليّ عليه‌السلام وكذلك الأئمّة. (٢) وقال [أبو جعفر عليه‌السلام] : المحدّث الذي يسمع كلام الملائكة وحديثهم ولا يرى شيئا بل ينقر في آذانه وينكت في قلبه. (٣)

وقوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) ـ الآية ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أصابه جوع شديد ، فأتى رجلا من الأنصار فذبح له عناقا وهيّأ له بسرا ورطبا فتمنّى رسول الله عليّا عليهما‌السلام وقال : يدخل عليكم رجل من أهل الجنّة. فجاء أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ عليّ عليه‌السلام. فنزلت هذه الآية وفيها هكذا : فينسخ الله ما يلقي الشيطان بعليّ حين جاء بعدهم ثمّ يحكم الله آياته. وبيانه أنّ قوله : (فِي أُمْنِيَّتِهِ) ؛ أي : فيما يتمنّاه ويلقي الشيطان شيئا لا يحبّه رسول الله ولا يهواه. وبيان ما ألقي هي أمنيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ألقى إلى أوليائه وساوسه و [أوحى إليهم] أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أضافه فلان فاذهبوا إليه لتتناولوا من الطعام وتحوزوا فضل ذلك المقام ، فأتوا قبل عليّ عليه‌السلام ليكون ذلك فتنة للّذين في قلوبهم مرض. (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وهو ما أضمره أولياؤه في أنفسهم من أنّ ما فعلوه يكون لهم فضيلة فينسخه الله بأن جعله لهم رذيلة حيث إنّهم جاؤوا بغير ما تمنّاه النبيّ. (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ؛ أي : أمر آياته. [وآياته] النبيّ وعليّ صلوات الله عليهما. (٤)

[٥٣] (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) ؛ أي : ليجعل ذلك تشديدا في التعبّد وامتحانا. يعني أنّه شدّد المحنة والتكليف على الذين في قلوبهم شكّ وعلى القاسية قلوبهم من الكفّار فيلزمه الدلالة

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤٤ ـ ١٤٦.

(٢) انظر : تأويل الآيات ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ، ح ٣٠ و ٣١.

(٣) تأويل الآيات ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ، ح ٣٢.

(٤) انظر : تأويل الآيات ١ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، ح ٣٣ و ٣٤.

٣٥٧

على الفرق بين ما يحكمه الله وبين ما يلقي الشيطان. (لَفِي شِقاقٍ) ؛ أي : في معاداة ومخالفة بعيدة عن الحقّ. (١)

[٥٤] (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

(أَنَّهُ) ؛ أي : القرآن (الْحَقُّ) لا يجوز عليه التبديل والتغيير. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) ؛ أي : يثبتوا على إيمانهم ويزدادوا إيمانا إلى إيماهم. (فَتُخْبِتَ) ؛ أي : تخشع وتتواضع. (٢)

[٥٥] (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

(فِي مِرْيَةٍ) ؛ أي : في شكّ. (مِنْهُ) ؛ أي : من القرآن. (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). قيل : إنّه عذاب يوم بدر. وسمّاه عقيما لأنّه لا مثل له لعظم أمره ، لقتال الملائكة فيه. وقيل : سمّي ذلك اليوم عقيما ، لأنّه لم يكن للكفّار فيه خير فهو كالريح العقيم الذي لا تأتي بخير. وقيل : المراد به يوم القيامة. والمعنى : تأتيهم علامات الساعة أو عذاب يوم القيامة. سمّاه عقيما لأنّه لا ليلة بعده. (٣)

[٥٦ ـ ٥٧] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

إدخال الفاء في خبر الذين الثاني ـ (فَأُولئِكَ) ـ دون الأوّل تنبيه على أنّ إثابة المؤمنين بالحسنات تفضّل من الله وأنّ عقاب الكافرين مسبّب عن أعمالهم. ولذلك قال : (لَهُمْ عَذابٌ) ولم يقل : هم في عذاب. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤٦.

(٢) مجمع البيان ٧ / ١٤٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ١٤٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٤.

٣٥٨

[٥٨] (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨))

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) ؛ أي : فارقوا أوطانهم وخرجوا من مكّة إلى المدينة ثمّ قتلوا في الجهاد أو ماتوا في الغربة. (رِزْقاً حَسَناً). هو رزق الجنّة. (١)

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام خاصّة. (٢)

(ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا). إنّما سوّى بين من قتل في الجهاد وبين من مات حتف [أنفه] في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل. روي أنّ بعض الصحابة قالوا : يا نبيّ الله ، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير. ونحن نجاهد معك كما جاهدوا. فما لنا إن متنا معك؟ فنزلت. (٣)

(قُتِلُوا). ابن عامر بالتشديد. (٤)

[٥٩] (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩))

(مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ). لأنّ لهم في الجنّة ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين. والمدخل يجوز أن يكون بمعنى المكان أو بمعنى المصدر. (لَعَلِيمٌ) بأحوالهم (حَلِيمٌ) في عدم معاجلة الكفّار بالعقوبة. (٥)

[٦٠] (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

(ذلِكَ) ؛ أي : الأمر الذي قصصنا عليك. (وَمَنْ عاقَبَ) ؛ أي : من جازى الظالم بمثل ما ظلمه. قال الحسن. معناه : قاتل المشركين كما قاتلوه. والأوّل لم يكن عقوبة ، ولكنّه كقولهم

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤٧.

(٢) تأويل الآيات ١ / ٣٤٨ ـ ٣٤٩ ، ح ٣٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٤.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٤٧.

(٥) مجمع البيان ٧ / ١٤٧.

٣٥٩

الجزاء بالجزاء لازدواج الكلام. (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) ؛ أي : ظلم بإخراجه من منزله. يعني ما فعله المشركون من البغي على المسلمين حتّى أخرجوهم إلى مفارقة ديارهم. (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ). يعني المظلوم الذي بغي عليه. روي أنّ الآية نزلت في قوم من مشركي مكّة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم فقالوا : إنّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتلون في هذا الشهر الحرام ، فحملوا عليهم. فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام ، فأبوا. فأظفر [الله] بهم المسلمين. (١)

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ) ـ الآية. هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أخرجته قريش وهرب منهم إلى الغار وطلبوه ليقتلوه ، فعاقبهم الله يوم بدر وقتل من أعيانهم سبعين وأسر مثلهم. فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب بدمائهم واجترؤوا على آل الرسول عليهم‌السلام واستشهد الحسين عليه‌السلام ثمّ بغي عليه. (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ). يعني بالقائم من ولده عليهم‌السلام. (٢)

(لَعَفُوٌّ غَفُورٌ). أي للمنتصر حيث اتّبع هواه في الانتقام وأعرض عمّا ندب الله إليه بقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (٣) وفيه تعريض للحثّ على العفو والمغفرة. فإنّه تعالى مع كمال قدرته لمّا كان يعفو ويغفر ، فغيره بذلك أولى. (٤)

[٦١] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١))

(ذلِكَ) ؛ أي : ذلك النصر. (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ) ؛ أي : يدخل ما ينتقص من ساعات اللّيل في النهار وما انتقص من ساعات النهار في اللّيل. (سَمِيعٌ) لدعاء المؤمنين. (٥)

(يُولِجُ اللَّيْلَ). أي بتحصيل ظلمة اللّيل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس وعكس ذلك بإطلاعها. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٨٦ ـ ٨٧.

(٣) الشورى (٤٢) / ٤٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٤.

(٥) مجمع البيان ٧ / ١٤٩.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩٤ ـ ٩٥.

٣٦٠