عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

[٤٥] (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

(قُلْ) يا محمّد. (أُنْذِرُكُمْ) من عذاب الله وأخوّفكم بما أوحي إليّ. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ). شبّههم بالصمّ الذين لا يسمعون النداء إذا نودوا لأنّهم لم ينتفعوا بالسمع. والمعنى : انّهم يستثقلون القرآن وسماعه وذكر الحقّ. فهم في ذلك بمنزلة الأصمّ الذي لا يسمع. (يُنْذَرُونَ) ؛ أي : يخوّفون. (١)

(لا يَسْمَعُ). ابن عامر : «لا تسمع» بضمّ التاء و [«الصم»] بالنصب. (٢)

[٤٦] (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

(نَفْحَةٌ) : أدنى شيء. وفيه مبالغات ؛ ذكر المسّ ، وما في النفحة من معنى القلّة ، فإنّ أصل النفح هبوب رائحة الشيء ، والتاء الدالّ على المرّة. (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) : من الذي ينذرون به. (٣)

(لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا) ؛ أي : يدعون بالويل والثبور. (٤)

[٤٧] (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

وأمّا وزن الأعمال مع أنّها أعراض إمّا باعتبار أنّ الموزون صحائف الأعمال ، وإمّا أنّه مبنيّ على تجسّم الأعمال كما دلّت عليه الأخبار.

سأل الزنديق أبا عبد الله عليه‌السلام : أليس توزن الأعمال؟ قال : لا. لأنّ الأعمال ليست بأجسام وإنّما يحتاج إلى وزن الأشياء من جهل مقدارها. وإنّما معنى الميزان العدل. ومعنى (مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)(٥) : من رجح عمله. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٧٩.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٧٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧١.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٨١.

(٥) القارعة (١٠١) / ٦.

(٦) بحار الأنوار ٧ / ٢٤٨.

٣٠١

أقول : بهذا الخبر أخذ الشيخ المفيد وأنكر الميزان الحقيقيّ ؛ مع أنّ الأخبار الدالّة عليه كثيرة وحينئذ فالواجب علينا الإيمان بأصل الميزان. وأمّا كيفيّته ومعناه ، فهو موكول العلم إلى الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

(مِثْقالَ حَبَّةٍ) ؛ أي : مقدار حبّة. ومن في قوله : (مِنْ خَرْدَلٍ) إمّا للبيان أو للتبعيض فتكون الخردلة بمنزلة الدينار والحبّة تسع الدينار ، فتكون الحبّة بالنسبة إلى الخردلة مثل تلك النسبة. والمبالغة فيه أكثر كما نصّ عليه الفاضل النيشابوريّ. (١)

(وَنَضَعُ) ؛ أي : نحضر الموازين التي لا جور فيها بل كلّها عدل لأهل يوم القيامة أو في يوم القيامة. وقيل : معناه : نضع العدل في المجازاة بالحقّ لكلّ أحد على قدر استحقاقه من غير جور على أحد. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من حقّها أو من الظلم. (وَإِنْ كانَ) العمل أو الظلم (مِثْقالَ حَبَّةٍ). ورفع نافع مثقال على كان التامّة. (أَتَيْنا بِها) : أحضرناها. وعلى قراءة المدّ بمعنى جازينا بها ، من الإيتاء ، فإنّه قريب من أعطينا. (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ). إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا. (٢)

(الْمَوازِينَ الْقِسْطَ). إفراد القسط لأنّه مصدر وصف به للمبالغة. (٣) وإنّما جمع الموازين لكثرة من يوزن أعمالهم. وهذا تفخيم. ويجوز أن يراجع إلى الوزنات.

يروى أنّ داوود عليه‌السلام سأل ربّه أن يريه الميزان. فلمّا رآه ، غشي عليه. فلمّا أفاق قال : يا ربّ من ذا الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ قال : يا داوود ، إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. (٤)

قرأأبو جعفر ونافع : «مثقال» بالرفع. وقرأ : «آتينا» بالمدّ ابن عبّاس وجعفر بن محمّد عليهما‌السلام. (٥)

__________________

(١) تفسير النيسابوريّ ١٧ / ٢٥.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٨١ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧٢.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٢.

(٤) الكشّاف ٣ / ١٢٠.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٨٠.

٣٠٢

[٤٨] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨))

(الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً) ؛ أي : الكتاب الجامع لكونه فارقا بين الحقّ والباطل وضياء يستضاء به في هداية الدين وذكرا يتّعظ به المتّقون أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع. وقيل : الفرقان النصر. وقيل : فرق البحر. (١)

[٤٩] (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩))

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ). صفة للمتّقين. (بِالْغَيْبِ) ؛ أي : في حال الخلوة عن الناس. أو : في سرائرهم من غير رياء. (مُشْفِقُونَ) خائفون. (٢)

[٥٠] (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

أراد بالذكر القرآن لأنّه ذكر ثابت نافع عظيم الفائدة. (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). استفهام على معنى التوبيخ. أي : فلماذا تنكرونه؟ (٣)

[٥١] (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١))

(رُشْدَهُ) ؛ أي : الحجج التي توصله إلى الرشد من معرفة الله. أو : هديناه صغيرا. (مِنْ قَبْلُ) موسى ، أو من قبل محمّد والقرآن. أو : من قبل بلوغه. (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أنّه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوّة. (٤)

[٥٢] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢))

(إِذْ قالَ). متعلّق بآتيناه ، أو برشده ، أو بمحذوف ، أي : اذكر من أوقات رشده وقت قوله : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ). تحقير لشأنها وتوبيخ على إجلالها ، لأنّ التمثال صورة لا روح فيها. قيل : إنّهم جعلوها أمثلة لعلمائهم الذين انقرضوا. وقيل : إنّهم جعلوها أمثلة للأجسام العلويّة. و

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٢ ، ومجمع البيان ٧ / ٨١.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٨١.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٨٣.

٣٠٣

المعنى : ما هذه التمثال التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وعن عليّ عليه‌السلام أنّه مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ). (١)

(ما هذِهِ التَّماثِيلُ). تجاهل بهم وتغاب ليحقّر آلهتهم ويصغّر شأنها مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها. (٢)

[٥٣] (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣))

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا). اعترفوا بالتقليد إذ لم يجدوا حجّة لعبادتهم إيّاها. (٣)

[٥٤] (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤))

[٥٥] (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥))

(أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ) ؛ أي : أنت فيما تقول محقّ عند نفسك أم لاعب؟ وإنّما قالوا ذلك لاستبعادهم إنكار عبادة الأصنام إذ ألفوا ذلك واعتادوه. (٤)

[٥٦] (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦))

(بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ). إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادّعاه. (فَطَرَهُنَّ) ؛ أي : السموات والأرض. أو : التماثيل ، وهو أدخل في تضليلهم وإلزام الحجّة عليهم. (الشَّاهِدِينَ) شهادة تحقيق. (٥)

[٥٧] (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧))

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) ؛ أي : لأدبّرنّ في شأنهم تدبيرا خفيّا يسوؤكم ذلك. وقيل :

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٢ ، ومجمع البيان ٧ / ٨٣.

(٢) الكشّاف ٣ / ١٢١.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٨٣.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٨٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٣ ، ومجمع البيان ٧ / ٨٣.

٣٠٤

قاله في سرّ من قومه ولم يسمع ذلك إلّا رجل منهم فأفشاه. (مُدْبِرِينَ). أي بعد أن تنطلقوا ذاهبين. قالوا : كان لهم في كلّ سنة مجمع وعيد إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام وسجدوا لها. فقالوا لإبراهيم : ألا تخرج معنا؟ فخرج. فلمّا كان ببعض الطريق قال : أشتكي رجلي. وانصرف. (١)

[٥٨] (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) ؛ أي : جعل أصنامهم قطعا قطعا. من الجذّ وهو القطع. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) تركه على حاله. يجوز أن يكون كبيرهم في الخلقة أو التعظيم. قالوا : جعل يكسرهنّ بفأس في يده وجعل الفأس في عنق الكبير. (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ) ؛ أي : إلى إبراهيم يرجعون فينبّئهم على حاله. أو : يرجعون إلى الكبير فيسألونه وهو لا ينطق فيعلمون جهل من اتّخذه إلها. أو : يرجعون إلى الله وتوحيده عند تحقّق عجز آلهتهم. قرأالكسائيّ : «جذاذا» بالكسر. وهو لغة فيه. (٢)

[٥٩] (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩))

(لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسه ، لأنّه يقتل إذا علم به أو أنّه ظلم بكسرها. (٣)

[٦٠] (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠))

(قالُوا سَمِعْنا). أي قال الرجل الذي سمع من إبراهيم قوله : (لَأَكِيدَنَّ) للقوم ما سمعه منه.

فقالوا : سمعنا [أي :] بلغ إلينا. كما تقول : سمعت الله يقول ، أو سمعت الرسول يقول [إذا بلغك عنه رسالة]. (٤)

[٦١] (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١))

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٨٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٨٣ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٨٤.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٨٤.

٣٠٥

(عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ). في موضع الحال. أي : مرئيّا مشهودا بحيث يراه الناس. (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بما قاله فيكون ذلك حجّة عليه بما فعل. قالوا : كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة. وقيل : معناه : لعلّهم يشهدون عقابه. (١)

[٦٢] (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢))

[٦٣] (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣))

(قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا). قيل : إنّه مقيّد بقوله : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فعلّق الكلام بشرط لا يوجد فلا يكون كذبا. أو إنّه خرج مخرج الخبر وليس بخبر وإنّما هو إلزام يدلّ عليه الحال. ووجه الإلزام أنّ هذه الأصنام إن كانت آلهة كما تزعمون ، فإنّما فعل ذلك بهم كبيرهم ، لأنّ غير الإله لا يقدر أن يكسر الآلهة. (٢)

وفي الكشّاف : انّ هذا من معاريض ولطائف هذا النوع لا تتغلغل إلّا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه : انّ قصد إبراهيم لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم. وإنّما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريض يبلغ فيه غرضه من إلزامهم للحجّة وتبكيتهم. وهذا كما قال لك صاحبك ـ وقد كتبت كتابا بخطّ رشيق وأنت شهير بحسن الخطّ ـ : أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمّيّ لا يحسن الخطّ فقلت له : بل كتبته أنت! كان [قصدك بهذا الجواب] تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمّيّ. لأنّ إثباته ـ والأمر دائر بينكما ـ للعاجز استهزاء به وإثبات للقادر. ولقائل أن يقول : غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفّة مرتّبة. وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لما رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنّه هو الذي تسبّب لإهانته بها. والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. (٣)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٨٥.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٨٥.

(٣) الكشّاف ٣ / ١٢٤.

٣٠٦

[٦٤] (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤))

(فَرَجَعُوا) بعد إلزامهم الحجّة ، فقال بعضهم لبعض : (أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) حيث تعبدون ما لا يقدر على الدفع من نفسه ولا الأمر إلّا كما قال. وقيل : معناه : انّهم بعد أن رجعوا إلى عقولهم ، أنطقهم الله بالحقّ فقالوا : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) لهذا الرجل في سؤاله. وهذه آلهتكم حاضرة فسلوها. (١)

[٦٥] (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

(نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) : انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة. شبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه. (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ). كيف نسألهم؟ (٢)

[٦٦] (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦))

(أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي : أتوجّهون عبادتكم إلى من لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه ولا عن غيره. (٣)

[٦٧] (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧))

(أُفٍّ لَكُمْ). تضجّر منه على إصرارهم بالباطل البيّن. وأفّ صوت المتضجّر ومعناه :

قبحا وتبّا لكم! (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم؟ (٤)

[٦٨] (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨))

(قالُوا) [أخذا] في المضارّة لمّا عجزوا عن المحاجّة. (حَرِّقُوهُ). فإنّ النار أهول ما يعاقب به. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ؛ أي : ناصريها. والمعنى : فلا تنصرونها إلّا بتحريقه بالنار. قيل : الذي أشار عليهم بتحريق النار رجل من أكراد اسمه هينون من أهل فارس خسف الله به الأرض

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٨٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٤ ، ومجمع البيان ٧ / ٨٦.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٨٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٤.

٣٠٧

فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل : القائل نمرود. فجمعوا الحطب ؛ حتّى أنّ الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله فيشترى به حطب ، وحتّى أنّ المرأة لتغزل فتشتري به حطبا. فلمّا بلغوا من ذلك وأرادوا أن يلقوه في النار ، لم يدروا كيف يلقونه. فجاء إبليس فدلّهم على المنجنيق. وهو أوّل منجنيق صنعت. فوضعوه فيها ثمّ رموه. (١)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ موسى أوجس في نفسه خيفة لمّا رأى الحبال والعصيّ ولم يوجسها إبراهيم حين وضع في المنجنيق وقذف به في النار. فقال : إنّ إبراهيم حين وضع في المنجنيق ، كان مستندا إلى ما في صلبه من أنوار حجج الله ولم يكن لموسى كذلك. (٢)

[٦٩] (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩))

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا أضرمت النار على إبراهيم ، شكت هو امّ الأرض إلى الله واستأذنته أن تصبّ عليها الماء. فلم يأذن الله لشيء إلّا للضفدع. فاحترق منه الثلثان وبقي الثلث. (٣)

قيل : وكان الوزغ ينفخ في نار إبراهيم. وكانت الضفادع تجيء بالماء في أفواهها لتطفيء النار. (٤)

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً). لمّا جمعوا الحطب وألقوه في النار. وهذا مثل. فإنّ النار جماد لا يصحّ خطابه. والمراد : انّا جعلنا النار بردا عليه وسلاما. كما قال سبحانه : (كُونُوا قِرَدَةً). (٥) وقيل : يجوز أن يتكلّم الله سبحانه بذلك صلاحا للملائكة ولطفا لهم. وذكر في كون النار بردا أنّ الله أحدث فيها بردا بدلا من شدّة الحرارة ، أو أنّ الله سبحانه حال بينها وبينه فلم تصل إليه. قيل : لو لم يقل : (وَسَلاماً) لكانت تؤذيه من شدّة بردها. ولو لم يقل : (عَلى إِبْراهِيمَ) لكان بردها باقيا إلى الأبد. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لمّا أجلس إبراهيم في

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٤ ، ومجمع البيان ٧ / ٨٧.

(٢) أمالي الصدوق / ٦٥٥.

(٣) بحار الأنوار ٦١ / ٢٦٥ ، والخصال / ٣٢٧ ، ح ١٨.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٧٣.

(٥) البقرة (٢) / ٦٥.

٣٠٨

المنجنيق ورمي به في النار ، أتاه جبرئيل وسلّم عليه وقال : ألك حاجة؟ قال : أمّا إليك فلا. فلمّا [طرحوه ، دعا الله فقال : يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد] فحسرت النار عنه وإنّه لمحتب ومعه جبرئيل يتحدّثان في روضة خضراء. و [روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه] لمّا ألقي في النار ، نزل عليه جبرئيل بقميص من الجنّة [وطنفسة من الجنّة] فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة. وما أحرقت النار من إبراهيم عليه‌السلام غير وثاقه. (١)

عن الرضا عليه‌السلام قال : لمّا رمي إبراهيم في النار ، دعا الله بحقّنا فجعل الله النار عليه بردا وسلاما. (٢)

[٧٠] (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

(كَيْداً) ؛ أي شرّا. (الْأَخْسَرِينَ). وهو أن سلّط على نمرود [و] خيله البعوض حتّى أخذت لحومهم وشربت دماءهم ، ووقعت واحدة في دماغه حتّى أهلكته. أي إنّهم كادوه بسوء فانقلب عليهم ذلك. (٣)

[٧١] (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١))

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) من العراق إلى الشام. وبركتها لأنّها بلاد خصيب. وقيل : إلى أرض بيت المقدس. لأنّ بها مقام الأنبياء. (٤)

[٧٢] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢))

(نافِلَةً). حال من (يَعْقُوبَ). لأنّه زيادة من غير دعاء. لأنّ إبراهيم طلب الولد. (وَكُلًّا جَعَلْنا) ؛ أي : وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب (صالِحِينَ) للنبوّة والرسالة. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٨٧.

(٢) قصص الأنبياء / ١٠٥.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٤ ، ومجمع البيان ٧ / ٨٩.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٨٩.

٣٠٩

[٧٣] (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) : يعني الأئمّة عليهم‌السلام من ولد فاطمة عليها‌السلام ؛ يوحي إليهم بالروح في صدورهم. (١)

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) : يقتدى بهم في أفعالهم. (فِعْلَ الْخَيْراتِ). قال ابن عبّاس : شرائع النبوّة. (وَإِقامَ الصَّلاةِ) ؛ أي : إقامة. فحذف التاء لقيام المضاف إليه مقامها. ولا تحذف إلّا في الإضافة. (عابِدِينَ) ؛ أي : مخلصين في العبادة. (٢)

[٧٤] (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤))

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) ؛ أي : حكمة. وقيل : الحكم النبوّة. وقيل : هو الفصل بين الخصوم بالحقّ. أي : جعلناه حاكما وعلّمناه ما يحتاج إلى العلم به. (مِنَ الْقَرْيَةِ). هي قرية سدوم. (الْخَبائِثَ). هو ما حكاه الله عنهم بقوله : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)(٣) وغير ذلك من القبائح. (٤)

[٧٥] (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

(فِي رَحْمَتِنا) ؛ أي : أهل رحمتنا. أو : في جنّتنا. (مِنَ الصَّالِحِينَ) : الذين صلحت أفعالهم. وقيل : أراد أنّه من الأنبياء. (٥)

[٧٦] (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦))

(وَنُوحاً). عطف على قوله : (وَلُوطاً). (إِذْ نادى) ربّه بقوله : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ

__________________

(١) تأويل الآيات ١ / ٣٢٨ ، ح ١٢.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٨٩ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧٥.

(٣) العنكبوت (٢٩) / ٢٩.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٨٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٥ ، ومجمع البيان ٧ / ٨٩.

٣١٠

الْكافِرِينَ دَيَّاراً)(١) وقوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(٢) إلى غير ذلك. (مِنْ قَبْلُ) ؛ أي : من قبل إبراهيم ولوط. (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : من الطوفان أو أذى قومه. والكرب : الغمّ الشديد. (٣)

[٧٧] (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) ؛ أي : منعناه منهم بالنصرة حتّى لم يصلوا إليه بسوء. وقيل : إنّ من بمعنى على. عن أبي عبيدة. وقيل : إنّ نصر هنا مطاوع انتصر. أي : جعلناه منتصرا. (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لاجتماع الأمرين : تكذيب الحقّ ، والانهماك في الشرّ. (٤)

(نُوحاً). اسم نوح عبد الجبّار. وقيل : عبد الغفّار. وسمّي نوحا لكثرة نياحته على قومه لمّا هلكوا. (٥)

[٧٨] (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨))

(وَداوُدَ) ؛ أي : واذكر داوود وسليمان وقت حكمهما (فِي الْحَرْثِ) ؛ أي : الزرع أو الكرم الذي تدلّت عناقيده. (إِذْ نَفَشَتْ) ؛ أي : تفرّقت في رعيه. قيل : كان كرما بدت عناقيده. فحكم داوود بالغنم لصاحب الكرم. قال سليمان : غير هذا يا نبيّ الله. قال : وما ذاك؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه [حتّى يعود كما كان. ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتّى إذا عاد الكرم] كما كان ، دفع كلّ واحد منهما إلى صاحبه ماله. روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقال الجبّائيّ : أوحى الله إلى سليمان ما نسخ به حكم داوود الذي كان يحكم به قبل. ولم يكن ذلك عن اجتهاد. لأنّه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا

__________________

(١) نوح (٧١) / ٢٦.

(٢) القمر (٥٤) / ١٠.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٩٠ ـ ٩١ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧٥.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٩١ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧٥.

(٥) تفسير القمّيّ ١ / ٣٢٨.

٣١١

باجتهاد. وهذا هو الصحيح المعوّل عليه. وقال عليّ بن عيسى والبلخيّ : يجوز أن يكون باجتهاد. وهو مردود لقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى)(١). (٢)

(نَفَشَتْ) ؛ أي : رعت [بالليل] بلا راع. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ الإمامة عهد من الله معهود لرجال مسمّين ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده. إنّ الله أوحى إلى داوود أن اتّخذ وصيّا من أهلك. وكان لداوود ولد يحبّه لحبّ أمّه ، فقالت أمّه لداوود : اجعل ابني وصيّا. فقال : ذاك أريد. وكان السابق في علم الله سليمان. فلم يلبث داوود أن ورد عليه رجلان يختصمان في الكرم والغنم. فأوحى الله إلى داوود أن اجمع ولدك ، فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك. فجمع داوود ولده وقضى سليمان بأولاد الغنم وأصوافها ذلك العام. فأوحى الله إلى داوود أنّ القضى في هذه القضيّة ما قضى به سليمان. يا داوود ، أردت أمرا وأردنا أمرا غيره. فدخل داوود على امرأته فقال : أردنا أمرا وأراد الله غيره. ولم يكن إلّا ما أراد الله. (٤)

[٧٩] (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : كان في بني إسرائيل رجل له كرم ونفشت فيه غنم لرجل باللّيل فأفسدته. فجاء صاحب الكرم إلى داوود يستعدي على صاحب الغنم فقال داوود : اذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما. فحكم سليمان بينهما بأن يدفع ولد الغنم إلى صاحب الكرم. وكان هذا حكم داوود ، وإنّما أراد أن يعرّف بني إسرائيل أنّ سليمان وصيّه بعده. ولو اختلفا في الحكم لقال : لحكمهما شاهدين». (٥) كذا في تفسير عليّ بن إبراهيم.

وفي محاسن البرقيّ عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) قال : لم يحكما. إنّما

__________________

(١) النجم (٥٣) / ٣.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٩١ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧٥.

(٣) بحار الأنوار ١٤ / ١٣١. (ذكره العلّامة المجلسي في بيانه.)

(٤) الكافي ١ / ٢٧٨.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ٧٣ ـ ٧٤.

٣١٢

كانا يتناظران. (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ). (١) أقول : يتناظران انتظارا للوحي.

وفي الفقيه عن أبي الحسن عليه‌السلام في قوله : يحكمان في الحرث ، قال : كان حكم داوود رقاب الغنم. والذي فهّم الله سليمان أن يحكم لصاحب الحرث باللّبن والصوف ذلك العام. (٢) أقول : هذا الخبر يمكن حمله على التقيّة.

وفي التهذيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ ما حكم به داوود في رقاب الغنم ، كان حكم الأنبياء قبله. وأوحى الله إلى سليمان : أيّ غنم نفشت في الزرع ، فليس لصاحب الزرع إلّا ما خرج من بطونها. وكذلك جرت السنّة بعد سليمان. وهو قول الله : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً). فحكم كلّ واحد منهما بحكم الله عزوجل. (٣)

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ؛ أي : علّمناه الحكومة في ذلك ، فقضى بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا. (٤)(وَكُلًّا آتَيْنا) ؛ أي : كلّ واحد من داوود وسليمان أعطيناه حكمة ونبوّة. (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ). قيل : معناه : سيّرنا مع داوود الجبال حيث سار ، فعبّر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعو إلى تسبيح الله وتنزيهه. وكذلك تسخير الطير له تسبيح يدلّ على أنّ مسخّرها قادر على ما لا يقدر عليه العباد. وقيل : إنّ الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير تسبّح معه بالغداة والعشيّ معجزة له. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) ؛ أي : قادرين على هذه الأشياء. (٥)

[٨٠] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

(لَبُوسٍ لَكُمْ). اللّبوس اسم السلاح كلّه عند العرب درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. وقيل : هو الدرع. أي : علّمناه كيف يصنع الدرع. قال قتادة : أوّل من صنع الدرع

__________________

(١) المحاسن ١ / ٢٧٧.

(٢) الفقيه ٣ / ٥٧ ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٧ / ٢٢٥.

(٤) الكافي ٥ / ٣٠١ عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٩٢.

٣١٣

داوود. وإنّما كانت صفائح جعل الله سبحانه الحديد في يده كالعجين. فهو أوّل من سردها وحلّقها فجمعت الخفّة والتحصين. فهو قوله : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) ؛ أي : لتحرزكم وتمنعكم من وقوع السلاح فيكم. وقيل : (مِنْ بَأْسِكُمْ) ؛ أي : من حربكم. فإنّ البأس في اللّغة هو شدّة القتال. (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) لنعم الله عليكم وعلى أنبيائه قبلكم؟ وهذا تقرير للخلق على شكره. فإنّ إنعامه على الأنبياء إنعام على الخلق. وقيل : إنّ سبب إلانة الحديد لداوود أنّه كان نبيّا ملكا وكان يطوف في ولايته متنكّرا يتعرّف أحوال عمّاله. فاستقبله جبرئيل ذات يوم على صورة آدميّ وسلّم عليه. فردّ السّلام وقال : ما سيرة داوود؟ فقال : نعمت السيرة لو لا خصلة فيه. فقال : وما هي؟ قال : إنّه يأكل من بيت مال المسلمين. فشكره وأثنى عليه وقال : لقد أقسم داوود أنّه لا يأكل من بيت مال المسلمين. فعلم الله صدقه فألان له الحديد. (١)

(لِتُحْصِنَكُمْ). في قراءة ابن عامر وحفص بالتاء. وفي قراءة أبي بكر بالنون. والباقون :

ليحصنكم بالياء. (٢)

[٨١] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) ؛ أي : وسخّرنا لسليمان الريح. و (عاصِفَةً) حال. أي : شديدة الهبوب. قال ابن عبّاس : إذا أراد أن يعصف الريح عصفت وإذا أراد أن ترخي أرخت. وذلك قوله : (رُخاءً حَيْثُ أَصابَ). (٣)(بِأَمْرِهِ) ؛ أي : بأمر سليمان. (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا). هي أرض الشام. لأنّها كانت مأواه. وقيل : كانت الريح تجري به في الغداة مسيرة شهر وفي الرواح كذلك. وكان يسكن بعلبكّ ويبني له بيت المقدس ويحتاج إلى الخروج إليها وإلى غيرها. وكان يخرج إلى مجلسه فتعكف عليه الطير ويقوم له الإنس والجنّ حتّى يجلس على سريره و

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٩٢.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٩٠.

(٣) ص (٣٨) / ٣٦.

٣١٤

يجتمع مع جنوده ثمّ تحمله الريح إلى حيث أراد. (بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ). فما أعطيناه إلّا ما كان فيه الحكمة والصلاح. (١)

[٨٢] (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

(مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في البحر فيخرجون الجواهر واللّآلي. (دُونَ ذلِكَ) ؛ أي : سوى ذلك ، كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة ؛ لقوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ). (٢)(حافِظِينَ) أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلّتهم. (٣)

(لَهُمْ) ؛ أي : للأنبياء.

[٨٣] (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣))

(وَأَيُّوبَ) ؛ أي : اذكر أيّوب حين دعا ربّه لمّا امتدّت المحنة به أنّي نالني الضرّ. (٤)

[٨٤] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

(فَكَشَفْنا) ؛ أي : أزلنا ما به من الأوجاع. (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ). قال ابن عبّاس : ردّ الله أهله الذين أهلكوا بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم وكذلك أمواله ومواشيه. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وقيل : إنّه خيّر أيّوب فاختار إحياء أهله في الآخرة ومثلهم في الدنيا ، فأوتي على ما اختار. وكان له سبع بنات وثلاثة بنين. (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) ؛ أي : نعمة منّا عليه. (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ؛ أي : موعظة لهم في الصبر. لأنّه لم يكن في عصر أيّوب أكرم على الله منه فابتلاه الله بالمحن العظيمة فأحسن الصبر عليها فينبغي الاقتداء به. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) سبأ (٣٤) / ١٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٩٤ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧٦.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٩٤.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٩٤.

٣١٥

[٨٥] (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥))

(وَإِسْماعِيلَ) ؛ أي : واذكر هؤلاء الأنبياء وما أنعمت عليهم. (مِنَ الصَّابِرِينَ). صبروا على البلاء. فأمّا إسماعيل ، فإنّه صبر ببلد غير ذي زرع وقام ببناء الكعبة. وأمّا إدريس ، فإنّه صبر على الدعاء إلى الله. وكان أوّل من بعث إلى قومه فأبوا فأهلكهم الله ورفعه إلى السماء. وأمّا ذو الكفل ، فقيل : هو إلياس. وقيل : كان نبيّا سمّي ذا الكفل بمعنى أنّه ذو الضعف فله ضعف ثواب غيره ممّن هو في زمانه لشرف عمله. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : انّه نبيّ مرسل وكان بعد سليمان. وكان يقضي بين الناس كما يقضي داوود. وكان اسمه عدويا بن ادارين. (١)

(ذَا الْكِفْلِ). هو بشر بن أيّوب.

[٨٦] (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

[٨٧] (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧))

(وَذَا النُّونِ) ؛ أي : اذكر ذا النون. والنون : الحوت. وصاحبها يونس بن متّى حين (ذَهَبَ مُغاضِباً) لقومه من حيث إنّه دعاهم إلى الإيمان فلم يؤمنوا حتّى أوعدهم الله بالعذاب. فخرج من بينهم مغاضبا لهم ، قبل أن يؤذن له. (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) : أن لن نضيّق عليه. وقد ضيّق الله عليه الطريق حتّى ألجأه إلى ركوب البحر ثمّ قذف فيه فابتلعه الحوت. (فِي الظُّلُماتِ) : ظلمة اللّيل ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر. [(إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).] قاله على سبيل الخشوع. لأنّ جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم. قيل : لم يكن يونس في بطن الحوت على جهة العقوبة ، بل على وجه التأديب. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) قال : من أعمال قومه. (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٩٦.

٣١٦

عَلَيْهِ). قال : ظنّ أن لن يعاقب على ما صنع. (١)

سئل الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) : ما كان سببه حتّى ظنّ ذلك؟ قال : وكله إلى نفسه طرفة عين. (٢)

وقال عليه‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت أمّ سلمة ففقدته من الفراش. فقامت تطلبه. فوجدته في جانب من البيت قائما رافعا يديه يبكي ويقول : اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا. فانصرفت إلى موضعها تبكي. وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبكائها وقال : ما يبكيك يا أمّ سلمة؟ قالت : كيف لا أبكي وقد رأيتك وأنت بالمكان الذي أنت به من الله وتسأل أن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبدا؟ فقال : يا أمّ سلمة ، وما يؤمنني؟ وإنّما وكل الله يونس إلى نفسه طرفة عين ، فكان منه ما كان. (٣)

(نَقْدِرَ). يعقوب : «يقدر» بضمّ الياء. (٤)

[٨٨] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

(مِنَ الْغَمِّ) ؛ أي : بطن الحوت. (٥)

[قرئ :] «نجي المؤمنين» بنون واحدة وتشديد الجيم. (٦) أصله : ننجي ، فحذفت النون الثانية. (٧)

[٨٩] (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩))

(وَزَكَرِيَّا) ؛ أي : واذكر زكريّا إذ دعا ربّه. (فَرْداً) ؛ أي : بغير وارث. (خَيْرُ الْوارِثِينَ). هذا ثناء على الله بأنّه الباقي بعد فناء خلقه. عن الحارث قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ليس لي ولد. فقال : ادع وأنت ساجد : ربّ هب لي من لدنك ذرّيّة طيّبة ؛ إنّك سميع الدعاء. (٨) ربّ

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٧٥.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٧٤.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٧٥.

(٤) مجمع البيان ٧ / ٩٥.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٩٧.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٩٦.

(٧) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٧.

(٨) آل عمران (٣) / ٣٨.

٣١٧

لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين. قال : فقلت ، فولد لي عليّ والحسين. (١)

روي أنّه لمّا بارز عليّ عمرا ، رفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يديه فقال : اللهمّ أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر. وأخذت منّي الحمزة يوم أحد. وهذا عليّ. (لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ). (٢)

[٩٠] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

(وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) بأن كانت عقيمة فجعلناها ولودا ، أو هرمة فصارت شابّة ، أو سيّئة الخلق فصارت حسنة الخلق. (إِنَّهُمْ) ؛ يعني : زكريّا وزوجته ويحيى. وقيل : الأنبياء الذين تقدّم ذكرهم. (يُسارِعُونَ) ؛ أي : يبادرون (فِي الْخَيْراتِ) ؛ أي : إلى الطاعات. (رَغَباً وَرَهَباً) ؛ أي : للرغبة في الثواب والرهبة من العقاب. وقيل : رغبا ببطون الأكفّ ورهبا بظهورها. (لَنا خاشِعِينَ) ؛ أي : متواضعين. وقيل : الخشوع : المخافة الثابتة في القلب. (٣) والمعنى : انّهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصلة. (٤)

[٩١] (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

(وَالَّتِي) ؛ أي : اذكر مريم التي (أَحْصَنَتْ) ؛ أي : حفظت (فَرْجَها) من الحلال والحرام. (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) ؛ أي : أجرينا فيها روح المسيح كما يجري الهوى بالنفخ. وأضاف الروح إلى نفسه على وجه الملك تشريفا له في الاختصاص بالذكر. وقيل : معناه : أمرنا جبرئيل فنفخ في جيب درعها فخلقنا المسيح في رحمها. (آيَةً لِلْعالَمِينَ). لأنّها جاءت من غير فحل وتكلّم في المهد بما يوجب براءة ساحتها من العيب. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٩٧.

(٢) تأويل الآيات ١ / ٣٢٩ ، ح ١٣.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٩٧.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٨.

(٥) مجمع البيان ٧ / ٩٨ ـ ٩٩.

٣١٨

[٩٢] (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ؛ أي : هذا دينكم. وهو دين الإسلام والتوحيد. وأصل الأمّة الجماعة التي لها مقصد واحد. فجعلت الشريعة أمّة لاجتماعهم [بها] على مقصد واحد. وقيل : معناه : هؤلاء الذين تقدّم ذكرهم من الأنبياء فريقكم الذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحقّ. كما يقال : هؤلاء أمّتنا ؛ أي : فريقنا وموافقونا على مذهبنا. (١)

[٩٣] (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣))

(وَتَقَطَّعُوا). ذكر اليهود والنصارى بالاختلاف فقال : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) ؛ أي : فرّقوا دينهم فيما بينهم يلعن بعضهم بعضا. والتقطّع هنا بمنزلة التقطيع. (كُلٌّ) ؛ أي : كلّ ما اجتمع وافترق (إِلَيْنا) ؛ أي : إلى حكمنا (راجِعُونَ) يوم القيامة. (٢)

[٩٤] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤))

(فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) ؛ أي : فلا جحود لإحسانه في عمله ، بل يشكر ويثاب عليه. (كاتِبُونَ) ؛ أي : نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك. أو : ضامنون جزاءه. (٣)

[٩٥] (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) ـ الآية. فيه وجوه : أحدها أنّ لا مزيدة. أي : حرام على قرية مهلكة بالعقوبة أن يرجعوا إلى دار الدنيا. وقيل : يريد : حتم منّي والمراد أنّ الله كتب [على] من هلك أن لا يرجع إلى الدنيا. وفي ذلك تخويف لكفّار مكّة بأنّهم إذا عذّبوا وأهلكوا ، لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة. وثانيها أنّ معناه : حرام على قرية وجدناها

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٩٩.

(٢) مجمع البيان ٧ / ٩٩.

(٣) مجمع البيان ٧ / ٩٩.

٣١٩

هالكة بالذنوب أن يتقبّل منهم عمل ، لأنّهم لا يرجعون إلى التوبة. وثالثها أنّ معناه : حرام ألّا يرجعوا بعد المماة بل يرجعوا أحياء للمجازاة. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : كلّ قرية أهلكها الله بعذاب فإنّهم لا يرجعون. حمزة والكسائيّ وأبو بكر : «وحرم» بالكسر بغير ألف. وهو لغة في الحرام. (١)

(حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ). عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام : كلّ قرية أهلكها الله بالعذاب ، لا يرجع أهلها في الرجعة. وهذه الآية من أقوى الدلائل على الرجعة. فإنّه لا ينكر أحد من أهل الإسلام أنّ الناس كلّهم يرجعون في القيامة من هلك ومن لم يهلك. فقوله : (لا يَرْجِعُونَ) يعني في الرجعة. فأمّا في القيامة فيرجعون حتّى يدخلوا النار. (٢)

[٩٦] (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦))

(حَتَّى). متعلّق بحرام أو بلا يرجعون. أي : يستمرّ الامتناع أو عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سدّ يأجوج ومأجوج. وهي حتّى التي يحكى الكلام بعدها والمحكيّ هو الجملة الشرطيّة. (٣)

لمّا تقدّم أنّهم لا يرجعون إلى الدنيا ، وعدهم بالرجوع إلى الآخرة وبيّن علامة ذلك فقال : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ) ؛ أي : إذا فتحت جهتهم. والمعنى : انفرج سدّهم. وذلك من أشراط الساعة. (حَدَبٍ). وهو ما ارتفع من الأرض. يعني أنّهم يتفرّقون في الأرض فلا يرى أكمة [إلّا] وقوم [منهم] يهبطون منها مسرعين. وقيل : إنّ قوله : (هُمْ) كناية عن الخلق يخرجون من قبورهم إلى الحشر. وفي قراءة مجاهد : من كل جدث وهو القبر. (٤)

[٩٧] (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

__________________

(١) مجمع البيان ٧ / ٩٩ و ٩٨.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٧٥ ـ ٧٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧٩.

(٤) مجمع البيان ٧ / ١٠١ ـ ١٠٢.

٣٢٠