عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

لم تلد أنثى قبلك من غير رجل. (١)

[٢٨] (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨))

(يا أُخْتَ هارُونَ). فيه أقوال. أحدها : انّ هارون هذا كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ينسب إليه كلّ من عرف بالصلاح. عن ابن عبّاس وجماعة. وقيل : إنّه لمّا مات شيّع جنازته أربعون ألفا كلّهم يسمّى هارون. فمعناه : يا شبيهة هارون في الصلاح. وثانيها : انّ هارون كان أخاها لأبيها وكان صالحا. وثالثها : انّه أخو موسى. لأنّها من ولده. كما يقال : يا أخا تميم. ورابعها : انّه كان رجلا فاسقا مشهورا. أي : يا شبيهته في قبح الفعل. (ما كانَ أَبُوكِ) ؛ أي : كان أبواك صالحين. فمن أين هذا الولد؟ (٢)

[٢٩] (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩))

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) : فأومأت بأن كلّموا الصبيّ ليشهد على براءة ساحتي. فتعجّبوا كيف نكلّم الرضيع. وقيل : إنّهم غضبوا عند إشارتها وقالوا : لسخريّتها بنا أشدّ من زناها. (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا). كان هنا بمعنى الحدوث والوقوع. أي : كيف نكلّم من وجد في المهد. وصبيّا نصب على الحال من كان. ويجوز أن يكون كان هنا مزيدة والحال عامله نكلّم. وقال الزجّاج : الأجود أن يكون في معنى الشرط والجزاء. فالمعنى : من يكن في المهد صبيّا فكيف نكلّمه. وصبيّا حال. كما تقول : من كان لا يسمع ولا يعقل فكيف أخاطبه؟ (٣)

[٣٠] (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠))

(إِنِّي عَبْدُ اللهِ). [قدّم إقراره] بالعبوديّة ليبطل قول من يدّعي الربوبيّة. فأنطقه الله بذلك لعلمه بما يتقّوله الغالون. (آتانِيَ الْكِتابَ) : حكم لي بإيتاء الإنجيل والنبوّة. وقيل : إنّ الله

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩١.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٩١.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٩١ و ٧٨٨ ـ ٧٨٩.

٢٠١

أكمل عقله في صغره وأرسله إلى عباده وكان مبعوثا إلى الناس ذلك الوقت ، وكانت معجزة له وقد كلّمهم يوم ولد. وقيل : معناه : سيؤتينا الكتاب وسيجعلني نبيّا. وكان ذلك معجزة لمريم. (١)

[٣١ ـ ٣٢] (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢))

(مُبارَكاً) ؛ أي : معلّما للخير ، وجعلني بارّا بوالدتي أؤدّي شكرها فيما قاسته بسببي ولم يجعلني متجبّرا. (٢)

[٣٣] (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

(وَالسَّلامُ). كما هو على يحيى. والتعريف للعهد. والأظهر أنّه للجنس. ولمّا كلّمهم عيسى بهذا ، علموا براءة مريم. فلم يتكلّم عيسى بعد ذلك حتّى بلغ المدّة التي يتكلّم فيها الصبيان. (٣)

[٣٤] (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤))

(ذلِكَ عِيسَى) ؛ أي : الذي قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) عيسى ، لا ما يقوله النصارى أنّه ابن الله وأنّه إله. (قَوْلَ الْحَقِّ). خبر محذوف. أي : هو قول الحقّ الذي لا ريب فيه. والإضافة للبيان. والضمير للكلام السابق أو لتمام القصّة. وقيل : صفة عيسى ، أو بدله ، أو خبر ثان ومعناه كلمة الله. (يَمْتَرُونَ) ؛ أي : يشكّون. أو : يتنازعون ؛ فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن الله. (٤) وقيل : هو أمر النصارى واختلافهم. فبعضهم قال هو الله ، وبعض ابن الله ، وبعضهم ثالث ثلاثة. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩١ ـ ٧٩٢.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٩٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣١ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٩٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣١.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٧٩٣.

٢٠٢

(قَوْلَ الْحَقِّ). قرأعاصم وابن عامر ويعقوب : «قول الحق» بالنصب ، والباقون بالرفع. منصوب على أنّه مصدر للتوكيد. أي : أحقّ قول الحقّ. (١)

(قَوْلَ الْحَقِّ). أمّا انتصاب قول الحقّ فعلى المدح ، إن فسّر بكلمة الله ، وعلى أنّه مصدر مؤكّد لمضمون الجملة ، إن أريد قول الثبات والصدق كقولك : هو عبد الله الحقّ لا الباطل. وإنّما قيل لعيسى قول الحقّ وكلمته ، لأنّه لم يولد إلّا بكلمة الله وحدها وهي قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) من غير واسطة أب. ويحتمل إذا أريد بقول الحقّ عيسى [أن يكون الحقّ اسم الله عزوجل وأن يكون بمعنى الثبات] والصدق ، أي أمره حقّ يقين وهم فيه شاكّون. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ألم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنّه حملت بعيسى من رجل نجّار اسمه يوسف؟ (٣)

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ ، إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم ؛ أحبّته النصارى حتّى أنزلوه منزلة ليس بها وأبغضه اليهود حتّى بهتوا أمّة. (٤)

[٣٥] (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥))

(ما كانَ لِلَّهِ) ؛ أي : ما يصلح له ولا يستقيم. لأنّ الولد مجانس للوالد وليس كمثله شيء. (٥)

(إِذا قَضى أَمْراً). تبكيت للنصارى بأنّ من إذا أراد شيئا أوجده بكن ، كان منزّها عن شبه الخلق والحاجة في اتّخاذ الولد. (فَيَكُونُ). ابن عامر : (فَيَكُونُ) بالنصب على الجواب. (٦)

[٣٦] (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦))

(وَإِنَّ اللهَ). أهل الكوفة وابن عامر بكسر الهمزة ، والباقون بالفتح. يحتمل الفتح أربعة

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩٢.

(٢) الكشّاف ٣ / ١٦.

(٣) أمالي الصدوق / ٩٢.

(٤) بحار الأنوار ١٤ / ٢١٩.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٧٩٣.

(٦) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣١.

٢٠٣

أوجه. أحدها : انّ المعنى : وقضى أنّ الله ربّي وربّكم. الثاني : العطف على كلام عيسى. أي : وأوصاني بأنّ الله ربّي وربّكم. الثالث : ذلك عيسى بن مريم ، وذلك أنّ الله ربّي وربّكم. والرابع : انّ العامل فيه (فَاعْبُدُوهُ). أي : ولأنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه. فحذف الجارّ. ومن كسر الهمزة ، جاز أن يكون معطوفا على قوله : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ). [أي :] وقال : إنّ الله ربّي وربّكم. وجاز أن يكون [ابتداء] كلام من الله وأمر منه لرسوله أن يقول ذلك. (هذا صِراطٌ) ؛ أي : طريق واضح فالزموه. (١)

[٣٧] (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧))

(الْأَحْزابُ) ؛ أي : اختلف أهل الكتاب في عيسى. فقال اليعقوبيّة من النصارى : هو الله.

وقال النسطوريّة منهم : هو ابن الله. والإسرائيليّة منهم : ثالث ثلاثة. والمسلمون : هو عبد الله. وإنّما قال : (مِنْ بَيْنِهِمْ) لأنّ منهم من ثبت على الحقّ وهم الملكانيّة. وقيل : من زائدة. (فَوَيْلٌ) ؛ أي : شدّة عذاب. وهي كلمة وعيد. (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالله بقولهم في المسيح. (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ). يعني الشهود والحضور. أي : من حضورهم ذلك اليوم. وهو يوم القيامة. (٢)

[٣٨] (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨))

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ؛ أي : ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ، لقوّة علومهم بالله في ذلك اليوم. كما قال : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). (٣) لكنّهم في الدنيا صمّ وبكم عن الحقّ. فهم في الدنيا جاهلون وفي الآخرة عارفون. فيكون الجارّ والمجرور في موضع رفع فاعل أسمع وأبصر. وقيل : أمر أن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم ، فيكون الجارّ والمجرور في محلّ النصب. (لكِنِ الظَّالِمُونَ). أوقع الظالمين موقع الضمير إشعارا بأنّهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم وسجّل على إغفالهم بأنّه

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩٤.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٩٤ ـ ٧٩٥.

(٣) ق (٥٠) / ٢٢.

٢٠٤

ضلال بيّن. (١)

[٣٩] (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))

(وَأَنْذِرْهُمْ). أي : خوّف ـ يا محمّد ـ كفّار مكّة يوم يتحسّر المسيء هلّا أحسن والمحسن هلّا ازداد من العمل. [وهو يوم القيامة. وقيل : إنّما يتحسّر المستحقّ للعقاب. فأمّا] المؤمن فلا يتحسّر. وروى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا دخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنّة. فيشرفون وينظرون. [وقيل : يا أهل النار ، فيشرفون وينظرون] فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح فيقال لهم : تعرفون [الموت]؟ فيقولون : هذا هذا. وكلّ قد عرفه. قال : فيقدّم ويذبح. ثمّ يقال : يا أهل الجنّة ، خلود فلا موت. ويا أهل النار ، خلود فلا موت. قال : وذلك قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ـ الآية. وقد رواه أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. ثمّ جاء في آخره : فيفرح أهل الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا ، لما توا. ويشهق أهل النار شهقة لو كان يومئذ أحد يموت ، لماتوا. (قُضِيَ الْأَمْرُ) ؛ أي : فرغ من الأمر وانقطع الآمال. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) في الدنيا عن ذلك. يعني أنّهم في الدنيا غافلون عن أحوال الآخرة ولا يصّدقون بذلك. (٢)

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ). حال متعلّق بقوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وما بينهما اعتراض ، أو بأنذرهم. [أي : أنذرهم] غافلين غير مؤمنين فيكون حالا متضمنّة للتعليل. (٣)

[٤٠] (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

ثمّ أخبر سبحانه عن نفسه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) ؛ أي : نميت سكّانها فنرثها ومن عليها من العقلاء فلا يبقى فيها مالك. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩٥ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٣١ ـ ٣٢.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٩٥ ـ ٧٩٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٢.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٧٩٦.

٢٠٥

[٤١] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ). المراد بذكر الرسول إيّاه وقصّته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلّغه إيّاهم. كقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ). (١) وإلّا فالله هو ذاكره ومورده في التنزيل. (٢)

(فِي الْكِتابِ) ؛ أي : القرآن. (صِدِّيقاً). لكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته. (٣)

[٤٢] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢))

اختلف أهل الخلاف في أب إبراهيم عليه‌السلام. قال الرازيّ عند قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)(٤) : ظاهر هذه الآية تدلّ على أنّ والد إبراهيم هو آزر. ومنهم من قال اسمه تارخ. وقال الزجّاج : لا خلاف بين النسّابين أنّ اسمه تارخ. ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن. ثمّ ذكر لتوجيه ذلك وجوها إلى أن قال : الرابع أنّ والد إبراهيم كان تارخ وآزر كان عمّا له. والعمّ قد يطلق عليه لفظ الأب. كما حكى الله عن أولاد يعقوب أنّهم قالوا : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). (٥) ومعلوم أنّ إسماعيل كان عمّا ليعقوب وقد أطلق عليه لفظ الأدب. فكذا هاهنا. ثمّ قال : قالت الشيعة : إنّ أحدا من آباء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجداده ما كان كافرا. وذكروا أنّ آزر كان عمّ إبراهيم واحتجّوا بقوله : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ). (٦) يعني أنّه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد. ثمّ قال : وممّا يدلّ أيضا عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات. وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)(٧). (٨)

__________________

(١) الشعراء (٢٦) / ٦٩.

(٢) الكشّاف ٣ / ١٨.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٩٧ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٣٢.

(٤) الأنعام (٦) / ٧٤.

(٥) البقرة (٢) / ١٣٣.

(٦) الشعراء (٢٦) / ٢١٩.

(٧) التوبة (٩) / ٢٨.

(٨) بحار الأنوار ١٢ / ٤٨.

٢٠٦

وقال شيخنا الطبرسيّ : قال أصحابنا : إنّ آزر إمّا جدّ إبراهيم لأمّه أو عمّه. وقد صحّ عندهم أنّ آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آدم كلّهم كانوا موحّدين. واجتمعت الطائفة على ذلك. (١) انتهى.

وقال شيخنا المعاصر أبقاه الله : الأخبار الدالّة على إسلام آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مستفيضة بل متواترة. وقد عرفت إجماع الفرقة المحقّة على إسلام والد إبراهيم بنقل المخالف والمؤالف. وحينئذ فالأخبار الدالّة على أنّ آزر كان أباه حقيقة محمولة على التقيّة.

(إِذْ قالَ). بدل من إبراهيم ، وما بينهما اعتراض ، أو متعلّق بكان. (لِأَبِيهِ) آزر. (يا أَبَتِ). التاء عوض عن ياء الإضافة. ولذلك لا يقال : يا أبتي. وإنّما يذكر للاستعطاف. ولذلك كرّرها. (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) دعاء من يدعوه. (وَلا يُبْصِرُ) من يتقرّب إليه. (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) في جلب نفع ودفع ضرر. (٢)

[٤٣] (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣))

(قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) بالله والمعرفة (ما لَمْ يَأْتِكَ). فاقتد بي أهدك طريقا واضحا. لم يسمّ أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق. (٣)

[٤٤] (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤))

(لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ؛ أي : لا تطعه فيما يدعوك إليه فتكون بمنزلة من عبده. ولا شبهة أنّ الكافر لا يعبد الشيطان ، ولكن من أطاع شيئا فقد عبده. (عَصِيًّا) ؛ أي : عاصيا. (٤)

[٤٥] (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥))

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٢ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٩٧.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٩٧ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٣٢.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٧٩٧.

٢٠٧

(يَمَسَّكَ) ؛ أي : يصيبك عذاب من الله لإصرارك على الكفر. (وَلِيًّا) ؛ أي : قرينا في اللّعن. أو العذاب يليه ويليك. أو : ثابتا في موالاته. فإنّه أكبر من العذاب ؛ كما أنّ رضوان الله أكبر من الثواب. (١)

[٤٦] (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦))

قال آزر : أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام؟ لئن لم تمتنع عن هذا ، لأرجمنّك بالحجارة أو لأقتلنّك. (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ؛ أي : فارقني دهرا طويلا. وقيل : مليّا : سويّا سليما عن عقوبتي. (٢)

(أَراغِبٌ). قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظة العناد فناداه باسمه ولم [يقابل] يا أبت [بيا بنيّ] وأخّره وقدّم الخبر وصدّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجّب ، كأنّها لا يرغب عنها عاقل. ثمّ هدّده. (وَاهْجُرْنِي). عطف على ما دلّ عليه لأرجمنّك. أي : فاحذرني واهجرني. (٣)

[٤٧] (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧))

(قال إبراهيم سلام عليك». سلام توديع وهجر على ألطف الوجوه. وهو سلام متاركة ومباعدة منه. وقيل : هو سلام إكرام وبرّ ؛ فقابل جفوة أبيه بالبرّ تأدية لحقّ الأبوّة. أي : هجرتك على وجه جميل من غير عقوق. (٤)

(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ). فإن قلت : كيف جاز أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قلت : قالوا : أراد اشتراط التوبة عن الكفر ، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعيّة على الكفّار والمراد اشتراط الإيمان ، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة يراد اشتراط الوضوء و

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩٨ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٩٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٣.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٧٩٨.

٢٠٨

النصاب. [و] قالوا : إنّما استغفر له بقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ). (١) لأنّه وعده أن يؤمن. واستشهدوا بقوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ). (٢) ولقائل أن يقول : الذي منع من الاستغفار للكافر ، إنّما هو السمع. فأمّا القضيّة العقليّة فلا تأباه. فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضيّة العقل. والذي يدلّ على صحّته قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ). (٣) فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عمّا وجبت فيه الأسوة. وأمّا (عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) فالمواعد هو إبراهيم لآذر. أي : ما قال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) إلّا عن قوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ). ويشهد له قراءة حمّاد الراوية : (وعدها أباه». (حَفِيًّا). الحفيّ : البليغ في البرّ والإلطاف. (٤) وقيل : إنّ الله عوّدني إحسانه وكان لي مكرما. (٥)

[٤٨] (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨))

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ). أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام. والمراد بالدعاء عبادة الأصنام. (٦)

(وَأَدْعُوا رَبِّي) ؛ أي : أعبد. (شَقِيًّا) كما شقيتم بدعاء الأصنام. وإنّما ذكر (عَسى) على وجه الخضوع. أو [معناه :] لعلّه يقبل طاعتي وعبادتي. فإنّ المؤمن بين الرجاء والخوف. (٧)

[٤٩] (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩))

(وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ؛ أي : لمّا فارقهم إلى الأرض المقدّسة ، وهبنا له إسحاق ولدا (وَ

__________________

(١) الشعراء (٢٦) / ٨٩.

(٢) التوبة (٩) / ١١٤.

(٣) الممتحنة (٦٠) / ٤.

(٤) الكشّاف ٣ / ٢١.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٧٩٨.

(٦) الكشّاف ٣ / ٢١.

(٧) مجمع البيان ٦ / ٧٩٨ ـ ٧٩٩.

٢٠٩

يَعْقُوبَ) ولد ولد. (جَعَلْنا نَبِيًّا) ؛ أي : آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله أنبياء. (١) ولعلّ تخصيصهما بالذكر لأنّه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد. (٢)

[٥٠] (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

(وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) سوى الأولاد والنبوّة من نعم الدنيا والدين وجعلنا لهم لسان صدق» : ثناء حسنا في الناس (عَلِيًّا) : مرتفعا سائرا في الدنيا. وكلّ الأديان يتولّون إبراهيم وذرّيّته ويثنون عليهم ويدّعون أنّهم على دينهم. (٣) استجاب الله دعوته : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(٤) فصيّره قدوة. كما قال : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ). (٥)(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)(٦). (٧)

(وَجَعَلْنا لَهُمْ). عن يونس بن عبد الرحمن قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : إنّ قوما طالبوني باسم أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتاب الله ، فقلت لهم : من قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا). فقال : صدقت. هو كذا. ومعنى قوله : (لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ؛ أي : وجعلنا لهم ولدا ذا لسان. ـ أي : قول ـ صدق. وكلّ ذي قول صدق فهو صادق. والصادق معصوم ؛ وهو عليّ عليه‌السلام. (٨)

[٥١] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١))

(مُخْلَصاً). قرأالكوفيّون : «مخلصا» بالفتح ، على أنّ الله أخلصه. (٩)

(مُخْلَصاً) ؛ أي : موحّدا أخلص عبادته عن الشرك. (رَسُولاً نَبِيًّا). الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء. والنبيّ : الذي ينبئ عن الله وإن لم يكن معه كتاب كيوشع. (١٠)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٩٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٣.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٩٩.

(٤) الشعراء (٢٦) / ٨٤.

(٥) الحجّ (٢٢) / ٧٨.

(٦) النحل (١٦) / ١٢٣.

(٧) الكشّاف ٣ / ٢٢.

(٨) تأويل الآيات ١ / ٣٠٤ ، ح ١٠.

(٩) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٣.

(١٠) الكشّاف ٣ / ٢٢.

٢١٠

[٥٢] (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢))

(الطُّورِ الْأَيْمَنِ). الطور جبل بالشام ناداه الله من جانبه اليمين وهو يمين موسى. أو من اليمن صفة للطور أو للجانب. شبّهه بمن قرّبه بعض العظماء للمناجاة حيث كلّمه بلا واسطة. وعن أبي العالية : قرّبه حتّى سمع صرير القلم الذي كتب به التوراة. (نَجِيًّا) : مناجيا. حال من أحد الضميرين. قيل : مرتفعا. من النجو وهو الارتفاع. (١)

[٥٣] (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

(مِنْ رَحْمَتِنا) ؛ أي : من أجل رحمتنا. أو : بعض رحمتنا. و (أَخاهُ) على هذا الوجه بدل. و (هارُونَ) عطف بيان. وكان هارون أكبر من موسى فوقعت الهبة على معاضدته وموازرته. (٢)

[(وَوَهَبْنا لَهُ) ـ الآية ـ أي : أنعمنا عليه بأخيه هارون] كما قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ)(٣) وجعلنا هارون نبيّا أشركناه في أمره. (٤)

[٥٤ ـ ٥٥] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) الذي هو القرآن (إِسْماعِيلَ) بن إبراهيم. (صادِقَ الْوَعْدِ) : إذا وعد بشيء وفى به. (وَكانَ رَسُولاً) إلى جرهم. قال ابن عبّاس : إنّه واعد رجلا أن ينتظره في مكان ونسي الرجل ، فانتظره سنة حتّى أتاه الرجل. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وقيل : إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه إبراهيم. وإنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل. بعثه الله إلى قوم فسلخوا جلده وفروة رأسه. فخيّره فيما شاء من عذابهم ، فاستعفاه ورضي بثوابه و

__________________

(١) الكشّاف ٣ / ٢٢ ، ومجمع البيان ٦ / ٨٠٠ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٣٤.

(٢) الكشّاف ٣ / ٢٣.

(٣) طه (٢٠) / ٢٩.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٨٠٠.

٢١١

فوّض أمرهم إلى الله وعفوه وعقابه. ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام. ثمّ قال في آخره : أتاه ملك من ربّه يقرئه السّلام ويقول : قد رأيت ما صنع بك. وقد أمرني بطاعتك. فمرني بما شئت. فقال : يكون لي بالحسين أسوة. (يَأْمُرُ أَهْلَهُ) ؛ أي : قومه وعترته. وقيل : أمّته. (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ). وقيل : إنّه كان يأمر أهله بصلاة اللّيل وصدقة النهار. (١)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في آخر الحديث الأوّل أنّه لمّا جاءه الذي واعده بعد سنة قال له : لو لم تجئني لكان منه المحشر. (٢)

وعنه عليه‌السلام في آخر الحديث الثاني : لمّا سلخوا فروة رأسه ، بعث إليه سطاطائيل ملك العذاب ، فقال : يا ربّ إنّك وعدت الحسين عليه‌السلام أن تكرّه إلى الدنيا ينتقم بنفسه من فعل ذلك به. فحاجتي إليك يا ربّ أن تكرّني إلى الدنيا حتّى أنتقم ممّن فعل ذلك بي. فوعده الله سبحانه أن يكرّ مع الحسين عليه‌السلام. (٣)

[٥٦] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦))

(إِدْرِيسَ). قيل : إنّما سمّي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله ، وكان اسمه أخنوخ جدّ أبي نوح. وهو غير صحيح. فإنّه لو كان إفعيلا من الدرس ، لم يكن فيه إلّا سبب واحد وهو العلميّة وكان منصرفا. فامتناعه من الصرف دليل العجمة. وكذلك إبليس أعجميّ وليس من الإبلاس كما زعموا. ومن لم يحقّق ولم يتدرّب بالصناعة ، كثرت منه أمثال هذه الهنات. ويجوز أن يكون معنى إدريس في تلك اللّغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي مشتقّا من الدرس. (٤)

[٥٧] (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧))

(وَرَفَعْناهُ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٨٠٠.

(٢) بحار الأنوار ١٣ / ٣٩١.

(٣) بحار الأنوار ١٣ / ٣٩٠.

(٤) الكشّاف ٣ / ٢٣ ـ ٢٤.

٢١٢

ألقاه في جزيرة من جزائر البحر. فبقي ما شاء الله في ذلك البحر. فجاء إلى إدريس فقال : يا نبيّ الله ، ادع الله أن يرضى عنّي ويردّ إليّ جناحي. فدعا فردّ الله عليه جناحه. فقال الملك لإدريس : ألك حاجة؟ قال : نعم ؛ أحبّ أن ترفعني إلى السماء حتّى أنظر إلى ملك الموت. فإنّه لا عيش لي مع ذكره. فأخذه الملك إلى جناحه حتّى انتهى إلى السماء الرابعة. فإذا ملك الموت جالس يحرّك رأسه تعجبّا. فسلّم إدريس على ملك الموت وقال له : ما لك تحرّك رأسك؟ قال : إنّ ربّ العزّة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعه والخامسة ، فتعجّبت. ثمّ قبض روحه هنا. وهو قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا). قال : وسمّي إدريس لكثرة دراسته الكتب وأنزل عليه ثلاثين صحيفة. كذا في تفسير عليّ بن إبراهيم. (١) وفي قصص الأنبياء للراونديّ عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله. (٢)

وروى في القصص عن ابن عبّاس قال : كان يصعد لإدريس من العمل الصالح مثل ما يصعد لأهل الأرض كلّهم. فسأل ملك الموت ربّه في زيارة إدريس فأتاه فعبد الله معه طويلا. ثمّ لمّا عرفه قال له : لي إليك حاجة ؛ وهي أن تصعد بي إلى السماء. فاستأذن وحمله على جناحه إلى السماء. قال : لي اليك حاجة أخرى ؛ وهي أنّه بلغني من شدّة الموت فأحبّ أن تذيقنى منه طرفا. فأخذ بنفسه ساعة ثمّ خلّى عنقه. قال : ولي إليك حاجة أخرى ، أن تريني النار. ففتح له. فلمّا رآها إدريس سقط مغشيّا عليه. ثمّ قال : لي إليك حاجة أخرى تريني الجنّة. فأدخله إليها. فقال : يا ملك الموت ، ما كنت لأخرج منها. إنّ الله يقول : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). (٣) وقد ذقته. ويقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). (٤) وقد وردتها. ويقول في الجنّة : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها)(٥). (٦)

أقول : هذان الخبران وإن كانا متعارضين في شرح القصّة إلّا أنّ الأوّل أوضح سندا وطريقا وهذا أوفق برواية العامّة.

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٥١ ـ ٥٢.

(٢) قصص الأنبياء / ٧٧.

(٣) آل عمران (٣) / ٨٥.

(٤) مريم (١٩) / ٧١.

(٥) المائدة (٥) / ٣٧.

(٦) قصص الأنبياء / ٧٧.

٢١٣

وروى الراونديّ في القصص أيضا أنّ إدريس أوّل من خطّ بالقلم وأوّل من خطّ الثوب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود. (١)

(مَكاناً عَلِيًّا) ؛ أي : عاليا رفيعا. قيل : السماء الرابعة. وقيل : السادسة. وهو حيّ لم يمت. وقيل : قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقيل : معناه : رفعنا محلّه ومرتبته بالرسالة ولم يرد رفعة المكان. (٢)

[٥٨] (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

(أُولئِكَ) : الذين تقدّم ذكرهم. (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالنبوّة والثواب. (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا). إنّما فرّق سبحانه ذكر نسبهم مع أنّهم كلّهم كانوا من ذرّيّة آدم لبيان مراتبهم في شرف النسب. فكان لإدريس شرف القرب من آدم لأنّه جدّ نوح. وكان إبراهيم من ذرّيّة من حملنا ، لأنّه من ولد سام. وكان إسماعيل وإسحاق ويعقوب من ذرّيّة إبراهيم ، لمّا تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم. وكان موسى وهارون وزكريّا ويحيى وعيسى من ذرّيّة إسرائيل. (وَمِمَّنْ هَدَيْنا). قيل : إنّه تمّ الكلام عند قوله : (إِسْرائِيلَ). ثمّ ابتدأ فقال : وممّن هدينا قوم إذا تتلى عليهم ، فحذف لدلالة الكلام عليه. وروي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : نحن عنينا. وقيل : المراد به الأنبياء الذين تقدّم [ذكرهم]. يعني : إذا قرئت عليهم آيات القرآن ، خرّوا ساجدين. (وَبُكِيًّا) : جمع باك. أي : حال كونهم باكين. (٣)

عن الكاظم عليه‌السلام في (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ) ـ الآية ـ قال : نحن ذرّيّة إبراهيم. ونحن المحمولون مع نوح. ونحن صفوة الله. (٤)

__________________

(١) قصص الأنبياء / ٧٨.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٨٠٢.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٨٠٢.

(٤) تأويل الآيات ١ / ٣٠٥ ، ح ١٢.

٢١٤

[٥٩] (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩))

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ؛ أي : بعد النبيّين المذكورين قوم سوء. قيل : هم اليهود ؛ لأنّهم من قوم إسرائيل. وقيل : هم من هذه الأمّة. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) ؛ أي : تركوها. أو : أخّروها عن مواقيتها. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. (١)

(وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) فيما حرّم عليهم. قال وهب : «خلف من بعدهم خلف» شرّابون للقهوات ، لعّابون بالكعبات ، ركّابون للشهوات ، متّبعون للّذّات ، تاركون للجماعات ، مضيّعون للصلوات. (غَيًّا) ؛ أي : مجازاة الغيّ. وقيل : غيّا بمعنى شرّا. وقيل : الغيّ واد في جهنّم. (٢)

وقوله : (غَيًّا) هو جبل من صفر يدور في جهنّم. (٣)

[٦٠] (إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠))

(إِلَّا مَنْ تابَ). أي من [غشّ] آل محمّد عليهم‌السلام. (٤)

(يَدْخُلُونَ). ابن كثير وأبو عمرو على البناء للمفعول من أدخل. (٥)

(وَلا يُظْلَمُونَ) : ولا يبخسون ؛ أي : لا تنقص من ثوابهم. (٦)

[٦١] (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١))

(جَنَّاتِ عَدْنٍ). بدل من قوله : (الْجَنَّةَ). و (بِالْغَيْبِ) في موضع الحال من جنّات عدن.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٨٠٢.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٨٠٢ ـ ٨٠٣ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٣٥.

(٣) تأويل الآيات ١ / ٣٠٥ ، ح ١٢ ، عن الكاظم عليه‌السلام.

(٤) تأويل الآيات ١ / ٣٠٦ ، عن الكاظم عليه‌السلام.

(٥) تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٥.

(٦) مجمع البيان ٦ / ٨٠٣ ، تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٥.

٢١٥

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) ؛ أي : إقامة. وإنّما جمع الجنّات هنا ووحّد هناك لأنّ لكلّ واحد من المؤمنين جنّة تجمعها الجنّة العظمى. وقوله : (بِالْغَيْبِ) لأنّ المؤمنين أو الأعمّ غابوا عمّا في الجنّة ممّا لا عين رأت. أي إنّه وعدهم أمرا لم يكونوا يشاهدونه فصدّقوه وهو غائب عنهم. (وَعْدُهُ) ؛ أي : موعوده. (مَأْتِيًّا) ؛ أي : آتيا لا محالة. فالمفعول بمعنى الفاعل. وإنّ الموعود هو الجنّة وهي مأتيّة يأتيها المؤمنون. (١)

[٦٢] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢))

(لَغْواً). وهو الهذر من الكلام والأباطيل. (سَلاماً) ؛ أي : سلام الملائكة عليهم وسلام بعضهم على بعض. (٢) وسلاما استثناء منقطع. أي : لا يسمعون كلاما يؤلمهم لكن يسمعون سلاما. (بُكْرَةً وَعَشِيًّا). قال المفسّرون : ليس في الجنّة شمس ولا قمر حتّى يكون لهم بكرة وعشيّا. بل المراد أنّهم يؤتون رزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء والعشاء. وليس ثمّ ليل ونهار وإنّما هو ضوء. وقيل : إنّهم يعرفون مقدار اللّيل بإرخاء الستر والحجب وإغلاق الأبواب ومقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب. (٣)

[٦٣] (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

(تِلْكَ الْجَنَّةُ) المذكورة سابقا ، نورثها من كان يتّقي المعاصي في الدنيا. ومعنى نورث أنّه تعالى [أورثهم] من الجنّة المنازل والمساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا الله. قيل : انّ العاص بن وائل لم يعط أجرة أجير استعمله وقال : لو كان ما يقول محمّد حقّا ، فنحن أولى بالجنّة ونعيمها فحينئذ أوفّره أجره. فنزلت الآية. (نُورِثُ). يعقوب بالتشديد. (٤)

[٦٤] (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٨٠٤.

(٢) في النسخة هاهنا زيادة : (أو يكون من باب : ولا عيب فيهم». ولم نجد لها وجها صحيحا. انظر : تفسير البيضاويّ ٢ / ٣٥.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٨٠٥ و ٨٠٤.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٨٠٥ و ٨٠٤ و ٨٠٣.

٢١٦

رَبُّكَ نَسِيًّا).

(ما بَيْنَ أَيْدِينا) ؛ أي : يعلم قدّامنا وما خلفنا من الجهات والأماكن وما نحن فيها ، فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلّا بأمر المليك. وقيل : ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة. (وَما بَيْنَ ذلِكَ) : ما بين النفختين ؛ وهو أربعون سنة. وقيل : ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها. (١)

(وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا). إمّا أن يكون من كلام الملائكة ـ أي : لا يجوز عليه الغفلة والنسيان ، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته إلّا إذا أطلق الإذن فيه ـ أو من كلام الله وقد تمّ حكاية كلام الملائكة. يعني أنّه ما نسيك ـ يا محمّد ـ وإن أخّر الوحي عنك. لأنّه لمّا احتبس الوحي قال المشركون فيه : ودّعه ربّه وقلاه ، فنزلت هذه الآية وسورة والضحى.

[٦٥] (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : خالقهما ومدبّرهما. (فَاعْبُدْهُ) ؛ أي : حين عرفته على هذه الصفة ، فاعبده حتّى يثيبك ـ يا محمّد ـ كما أثاب المتّقين غيرك. (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) ؛ أي : اثبت وتحمّل المشاقّ لعبادته. من قوله في المحارب (٢) : اصطبر لقرنك. وإلّا فصلة الاصطبار على ؛ كقوله : (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها). (٣)

(سَمِيًّا) ؛ أي : لم يسمّ شيء بالله قطّ. وكانوا يقولون لأصنامهم آلهة. وعن ابن عبّاس : لا يسمّى أحد الرحمن غيره. أو : هل تعلم له مثلا وشبيها. أي : إذا صحّ أن لا معبود يوجّه إليه العبادة إلّا هو ، فلا بدّ من عبادته وتحمّل المشّاق عليها. (٤)

[٦٦] (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦))

__________________

(١) انظر : الكشّاف ٣ / ٢٩.

(٢) كذا. والصحيح : كقولك للمحارب».

(٣) طه (٢٠) / ١٣٢.

(٤) الكشّاف ٣ / ٣٠ ـ ٣١.

٢١٧

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ). يجوز أن يراد به الجنس كلّه لأنّ فيهم من يقول به ـ كما يقولون : بنو فلان قتلوا زيدا [وإنّما القاتل رجل منهم] ـ وأن يراد به بعض الجنس وهم الكفرة. (أَإِذا ما مِتُّ). الاستفهام للإنكار. وما للتأكيد. والعامل في إذا محذوف. أي : بعثت. ولا يجوز أن يعمل فيه (أُخْرَجُ). لأنّ ما بعد اللّام لا يعمل فيما قبله. واللّام في (لَسَوْفَ) لمحض التأكيد لا لمعنى الحاليّة ، ولذا جامعت حرف الاستقبال.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ). نزلت الآية في أبيّ بن خلف. وذلك أنّه أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول : يزعم محمّد أنّ الله يبعثنا بعد أن نموت ونكون عظاما مثل هذا! إنّ هذا شيء لا يكون! فنزلت. (١)

[٦٧] (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧))

(أَوَلا يَذْكُرُ). معطوف على يقول. يعنى : يقول ذلك ولا يتذكّر حال النشأة الأولى وهي أعجب وأغرب من الإعادة. لأنّ للإعادة مثالا ومادّة من الأولى والأولى خلقة من غير شيء وهاهنا جمع بعد تفكيك.

(أَوَلا يَذْكُرُ). نافع وعاصم خفيفا. والباقون بالتشديد. (٢)

[٦٨] (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨))

(وَالشَّياطِينَ). مفعول به. أو مفعول معه ، أي : إنّهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كلّ شيطان مع كافر في سلسلة. (جِثِيًّا). نصب على الحال. أي : جاثين على الركب حول جهنّم متخاصمين يتبرّأ بعضهم من بعض. لأنّ المحاسبة تكون بقرب جهنّم. وقيل : إنّ جثوّهم على الركب لضيق المكان. (٣)

[٦٩] (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩))

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٨٠٨.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٨٠٦.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٨٠٧ ، والكشّاف ٣ / ٣٣.

٢١٨

(لَنَنْزِعَنَّ) ؛ أي : لنستخرجنّ ونمتاز. (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) ؛ أي : فرقة شاعت ؛ أي : تابعت غاويا من الغواة أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم [فأعتاهم]. فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب. (١)

[٧٠] (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))

أراد بالّذين هم أولى [به صليّا المنتزعين كما هم. كأنّه قال : ثمّ لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وهم أولى] بالصلي من بين سائر الصالين وعذابهم أشدّ. ويجوز أن يراد بأشدّهم عتيّا رؤساء الشيع وأئمّتهم لتضاعف جرمهم بكونهم ضلّالا ومضلّين. وأمّا إعراب (أَيُّهُمْ) فعن الخليل أنّه مرتفع على الحكاية. تقديره : لننزعنّ الذين يقال فيهم أيّهم أشدّ. وسيبويه بناه على الضمّ ، لسقوط صدر الجملة التي هي صلة أي هو أشدّ. (٢) ويجوز أن يكون النزع واقعا على (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) وكأنّ قائلا قال : من هم؟ فقيل : أيّهم أشدّ عتيّا. والعتيّ هاهنا مصدر كالعتوّ. وهو التمرّد والعصيان. (٣)

الصليّ : مصدر صلي يصلى صليّا. (٤)

[٧١] (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١))

(وَإِنْ مِنْكُمْ) ـ الآية. روي في حديث أنّها منسوخة بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ) ـ الآية. (٥) وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : (وارِدُها) ؛ أي : مشرف عليها. (٦)

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). الهاء راجعة إلى جهنّم. واختلف العلماء في معنى الورود على قولين. أحدهما : انّه الإشراف عليها لا الدخول فيها ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ) إلى

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٨٠٩ ، والكشّاف ٣ / ٣٤.

(٢) المصدر : .. الجملة التي هي صلته حتّى لو جيء به لأعرب وقيل : أيّهم هو أشدّ.

(٣) الكشّاف ٣ / ٣٤.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٨٠٦.

(٥) الأنبياء (٢١) / ١٠١.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٥٢.

٢١٩

قوله : (حَسِيسَها). (١) فيكون المعنى أنّهم يردون حول جهنّم للمحاسبة. كما قال : (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا). والآخر : انّ الورود بمعنى الدخول. وهو قول أكثر المفسّرين ؛ لقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا). ثمّ اختلف هؤلاء فقال بعضهم : إنّه للمشركين خاصّة فيكون المراد : وإن منهم ؛ كما قرئ في الشواذّ. وقال الأكثرون : إنّه خطاب عامّ. فلا يبقى برّ ولا فاجر إلّا يدخلها. فيكون بردا وسلاما على المؤمنين ، وعذابا على الكافرين. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سئل عن هذه الآية قال : إنّ الله يجعل النار كالسمن الجامد ويجمع عليها الخلق. ثمّ ينادي المنادي أن خذي أصحابك وذري أصحابي. فهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها. وقيل : إنّ الفائدة في ذلك ما روي في بعض الأخبار أنّ الله لا يدخل أحدا الجنّة حتى يطلعه على النار ليعلم تمام فضل الله عليه فيزداد فرحا وسرورا ، ولا يدخل أحدا النار حتّى يطلعه على الجنّة ونعيمها ليزداد حسرة على ما فاته. (٢)

وفي الأنوار النعمانيّة من مؤلّفات المحشّي رحمه‌الله : لمّا نزلت هذه الآية ، صاح أهل المدينة وحزن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ نزلت : إلّا عليّ وشيعته. ففرح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وروى بهذا المضمون رواية. فمن أراد التحقيق فليراجع إليه. (حسن عفي عنه)

[٧٢] (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

(نُنَجِّي). قرأالكسائيّ بالتخفيف. (٣)

(جِثِيًّا) الذي لا يقدر على القيام.

[٧٣] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) المنزلة في القرآن ظاهرات الدلالة. (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) ؛ أي : قال

__________________

(١) الأنبياء (٢١) / ١٠١.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٨١١ ـ ٨١٢.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٨٠٩.

٢٢٠