عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

لا شراب ولا نوم ولا قيام. (باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) : فناء الكهف. وقيل : فناء الفجوة لا بباب الكهف. لأنّ الكفّار خرجوا إلى باب الكهف في طلبهم ثمّ انصرفوا ، ولو رأوا الكلب على باب الغار ، لدخلوه. وكذلك لو كان بالقرب من الباب. ولمّا انصرفوا سدّوا باب الغار بالحجارة. فجاء رجل بماشيته إلى باب الغار وأخرج الحجارة واتّخذ لماشيته كنّا عند باب الغار وهم كانوا في فجوة من الغار. وقيل : الوصيد عتبة البيت. (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) ؛ أي : لو رأيتهم ، لفررت منهم هربا لاستيحاشك الموضع. (وَلَمُلِئْتَ) ؛ أي : ملئ قلبك خوفا وفزعا. لأنّ الله منعهم بالرعب لئلّا يصل إليهم أحد حتّى يبلغ الكتاب أجله فيهم. وقيل : كانوا في مكان موحش من رآه فزع. ولا يمتنع أنّ الكفّار لمّا أتوا باب الكهف ، فزعوا من وحشة المكان فسدّوا باب الكهف ليهلكوا فيه وجعل سبحانه ذلك لطفا لهم لئلّا ينالهم مكروه من سبع وغيره. وعن ابن عبّاس قال : غزوت مع معاوية نحو الروم ، فمرّوا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف. فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم. فقلت له : قد منع من ذلك من هو خير منك. قال الله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ). فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم. فبعث رجالا. فلمّا دخلوا الكهف ، أرسل [الله] عليهم ريحا أخرجتهم. (١)

(رُعْباً). عن أبي جعفر عليه‌السلام : لم يعن به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإنّما عنى به المؤمنين بعضهم لبعض. (٢)

«لملئت». قرأالحجازيّان بالتشديد للمبالغة. ابن عامر : «رعبا» بالتثقيل. (٣)

[١٩] (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩))

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) ؛ أي : كما أنمناهم تلك النومة ، أحييناهم ادّكارا بقدرته على الإنامة و

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٠٣ ـ ٧٠٤.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٢٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ٧.

١٤١

البعث جميعا ، ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويستدلّوا على عظم قدرة الله ويزدادوا يقينا ويشكروا ما أنعم به عليهم وكرّموا [به]. (كَمْ لَبِثْتُمْ) ؛ أي : كم لبثتم يوما؟ قال المفسّرون : إنّهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار. فلذلك قالوا : (يَوْماً). فلمّا رأوا الشمس قالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). لأنّه قد بقي من النهار بقيّة. (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ). ذلك القائل تمليخا رئيسهم. (بِوَرِقِكُمْ). وهو الدراهم. وكان معهم دراهم عليها صورة دقيانوس. (إِلَى الْمَدِينَةِ). واسمها طرسوس. (أَزْكى طَعاماً) ؛ أي : أطهر وأحلّ ذبيحة. لأنّ عامّتهم كانوا مجوسا وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. (بِرِزْقٍ مِنْهُ) ؛ أي : ممّا ترزقون أكله. (وَلْيَتَلَطَّفْ) ؛ أي : يرفق النظر ويتحيّل حتّى لا يطّلع عليه أحد. وقيل : لا يماكس البائع ولا ينازعه. (وَلا يُشْعِرَنَّ) ؛ أي : لا يخبرن أحدا بكم وبمكانكم. (١)

(أَزْكى). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : (أَزْكى طَعاماً) التمر. (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قد رجع إلى الدنيا ممّن مات خلق كثير. منهم أصحاب الكهف ؛ أماتهم الله ثلاثمائة عام ثمّ بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث لتنقطع حجّتهم وليعلموا أنّ البعث حقّ. (٣)

(فَابْعَثُوا) ؛ أي : إذا كان علمه عند الله ، فخذوا في أمر أهمّ منه. (٤)

«بورقكم». قرأأبو عمرو وأبو بكر ساكنة الراء لغة فيه. وعن أبي عمرو بإدغام القاف في الكاف لكنّه على غير حدّه. (٥)

[٢٠] (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠))

(إِنْ يَظْهَرُوا) : يعلموا بمكانكم. (يَرْجُمُوكُمْ) : يقتلونكم بالرجم كما كانت عادتهم. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٧٠٩ ـ ٧١٠ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٠٥ ـ ٧٠٦.

(٢) المحاسن / ٥٣١ ، ح ٧٧٩.

(٣) بحار الأنوار ١٠ / ١٧٥.

(٤) الكشّاف ٢ / ٧١٠.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٧٠٥ ، والكشّاف ٢ / ٧١٠.

(٦) مجمع البيان ٦ / ٧٠٦.

١٤٢

(أَوْ يُعِيدُوكُمْ) ؛ أي : يدخلوكم في ملّتهم بالإكراه العنيف ويصيّروكم إليها. والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم. يقولون : ما عدت أفعل كذا ، يريدون ابتداء الفعل. وقيل : كانوا أوّلا على دينهم. (وَلَنْ تُفْلِحُوا) إذ دخلتم في دينهم. ومتى قيل : من أكره على الكفر فأظهره فإنّه مفلح ، فالجواب : يجوز أن يكون أراد : يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه. ويجوز أن يكون ذلك الوقت كان لا يجوز التقيّة في إظهار الكفر. (١)

[٢١] (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا) ؛ أي : كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة ، أطلعنا عليهم ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) وهو البعث. لأنّ حالهم في نومتهم وانتباههم بعدها كحال من يموت ثمّ يبعث. (إِذْ يَتَنازَعُونَ). متعلّق بأعثرنا. أي : أعثرناهم حين يتنازعون بينهم أمر البعث فكان بعضهم يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وبعضهم يقول تبعث الأرواح والأجساد ، ليرتفع الخلاف وليظهر أنّ الأجساد تبعث فيها أرواحها. (فَقالُوا). حين توفّى الله أصحاب الكهف ، قال المشركون : استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) : أعلم بهم أهم أحياء نيام أم أموات. فقد قيل : إنّهم ماتوا. وقيل : إنّهم لا يموتون إلى يوم القيامة. (الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم. (لَنَتَّخِذَنَ) على باب الكهف مسجدا يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم. ودلّ ذلك على أنّ الغلبة كانت للمؤمنين. (٢)

[٢٢] (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٧١١ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٠٦ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧.

(٢) الكشّاف ٢ / ٧١١ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٠٩ ـ ٧١٠ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ٧ ـ ٨.

١٤٣

يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢))

(سَيَقُولُونَ). أدخل الآخرين في حكم السين ؛ كما تقول : قد أكرم وأنعم ، تريد معنى التوقّع في الفعلين جميعا. (سَيَقُولُونَ). الضمير لمن خاض في قصّتهم في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل الكتاب والمؤمنين ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم ، فأخّر الجواب انتظارا للوحي ، فنزلت إخبارا بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم وأنّ المصيب منهم من يقول : سبعة وثامنهم كلبهم. قال ابن عبّاس : أنا من ذلك القليل. وروي أن السيّد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبيّ فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيّد ـ وكان يعقوبيّا ـ : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقال العاقب ـ وكان نسطوريّا ـ : كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة و [لم] أدخلت عليها دون الأوّلتين؟ قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في مررت بزيد وبيده سيف ، وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أنّ اتّصافه بها أمر ثابت مستقرّ. وهذه الواو هي التي آذنت بأنّ الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم ، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظنّ كغيرهم. والدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأوّلين قوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) وأتبع القول الثالث قوله : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ). قال ابن عبّاس : حين وقعت الواو ، انقطعت العدّة. أي لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها وثبت أنّهم سبعة على القطع. وقيل : إلّا قليل من أهل الكتاب. والضمير في سيقولون على هذا لأهل الكتاب خاصّة. (١)

يظهر من تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) أنّ القائلين هذه الأقوال هم ملك المدينة وأصحابه لمّا جاؤوا مع رسول أهل الكهف وتقدّم الرسول إلى أصحابه وطلبوا من الله أن يعيدهم إلى الحالة الأولى.

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٧١٢ ـ ٧١٤.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٣.

١٤٤

(فَلا تُمارِ) ؛ أي : لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلّا جدالا ظاهرا غير متعمّق فيه ، وهو أن تقصّ عليهم ما أوحي إليك ولا تزيد ، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم. كما قال : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). (١)(وَلا تَسْتَفْتِ) : ولا تسأل أحدا منهم عن قصّتهم سؤال متعنّت له حتّى يقول شيئا فتردّه عليه ، لأنّ ذلك خلاف ما وصّيت به من المداراة والمجاملة ، ولا سؤال مسترشد ، لأنّ الله قد أرشدك بأن أوحى إليك قصّتهم. (٢)

[٢٣ ـ ٢٤] (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤))

(وَلا تَقُولَنَّ) ؛ أي : لا تقولنّ لأجل شيء تعزم عليه : (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) الشيء (غَداً) ؛ أي : فيما يستقبل من الزمان. ولم يرد الغد خاصّة. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : إلّا بأن يشاء الله ؛ أي : إلّا بمشيّته. وهو في موضع الحال. يعني إلّا متلبّسا بمشيّة الله قائلا : إن شاء الله. وهذا نهي تأديب من الله لنبيّه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن أصحاب الكهف ، فقال : ائتوني غدا أخبركم ، ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحي حتّى شقّ عليه وكذّبته قريش. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) ؛ أي : مشيّة ربّك وقل : إن شاء الله ، إذا فرط منك نسيان لذلك. يعني إذا نسيت كلمة الاستثناء ، ثمّ تنبّهت عليها فتداركها بالذكر. عن ابن عبّاس : ولو بعد سنة ما لم تحنث. وعن عامّة الفقهاء أنّه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قال : الاستثناء في اليمين متى ما ذكر وإن كان بعد أربعين يوما. (٤)

(إِذا نَسِيتَ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ آدم لمّا أسكنه الله الجنّة فقال له : لا تقرب هذه الشجرة ، قال : نعم ، ولم يستثن. فأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً

__________________

(١) النحل (١٦) / ١٢٥.

(٢) الكشّاف ٢ / ٧١٤.

(٣) الكشّاف ٢ / ٧١٤ ـ ٧١٥.

(٤) الكافي ٧ / ٤٤٨ ، ح ٦.

١٤٥

إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ولو بعد سنة. (١)

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ). يعني إذا نسيت الاستثناء ثمّ تذكّرت قل : إن شاء الله ، ولو بعد سنة. عن ابن عبّاس. وقد روي عن أئمّتنا عليهم‌السلام. ويمكن أن يكون الوجه فيه أنّه إذا استثنى بعد النسيان فإنّه يحصل ثواب المستثني من غير أن يؤثّر الاستثناء بعد انفصال الكلام في إبطال الحنث وسقوط الكفّارة. وهو الأشبه بمراد ابن عبّاس في قوله. (وَقُلْ عَسى) ؛ أي : عسى ربّي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوّة ما يكون أقرب من الرشد وأدلّ من قصّة أصحاب الكهف. ثمّ إنّ الله فعل به ذلك حيث آتاه من علم غيوب أخبار المرسلين ما هو أوضح في الدلالة من خبر أصحاب الكهف. (٢)

[٢٥] (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥))

(ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ). أهل الكوفة [غير عاصم] : (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) مضافا ، والباقون بالتنوين. (٣)

(سِنِينَ). عطف بيان لثلاثمائة. ووضع الجمع موضع الواحد على قراءة الإضافة.

[٢٦] (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

(وَلا يُشْرِكُ). ابن عامر : «ولا تشرك» بالتاء [مجزوما] والباقون بالرفع والياء. (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ) ؛ أي : إن حاجّك ـ يا محمّد ـ أهل الكتاب في ذلك ، فقل : الله أعلم بما لبثوا. وذلك أنّ أهل نجران قالوا : أمّا الثلاثمائة فقد عرفناها. وأمّا التسع ، فلا علم لنا بها. أو يكون معنى (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) بعد بيان مدّة لبثهم ، إبطال قول أهل الكتاب واختلافهم في مدّة لبثهم. وتقديره : الله أعلم بمدّة لبثهم ، وقد أخبر بها ، فخذوا بما أخبر الله ودعوا قول أهل الكتاب. (لَهُ

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٢٤ ، ح ١٥.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧١٢ ـ ٧١٣.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧١٣.

١٤٦

غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي : ما غاب فيهما عن إدراك العباد. (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ). لفظ التعجّب. أي : ما أبصره وأسمعه. روي أنّ يهوديّا سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن مدّة لبثهم فأخبره بما في القرآن فقال : إنّا نجد في كتابنا ثلاثمائة. فقال عليه‌السلام : ذلك بسني الشمس وهذا بسني القمر. (ما لَهُمْ) ؛ أي : ليس لأهل السموات والأرض من ناصر ينصرهم. (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) ؛ أي : فلا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم الله. وأما على القراءة الأخرى : ولا تشرك أنت أيّها الإنسان. (١)

[٢٧] (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧))

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) ؛ أي : اقرأعليهم ما أوحي إليك من أخبار أصحاب الكهف وغيرهم. وقيل : معناه : اتّبع القرآن واعمل به. (لا مُبَدِّلَ) ؛ أي : لا مغيّر لما أخبر الله به فيه. ومعناه : لا مبدّل لحكم كلماته. (مُلْتَحَداً) ؛ أي : ملجأ. يقال : لحد إلى كذا ؛ أي : مال إليه. (٢)

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) ولا تسمع لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ)(٣). (٤)

[٢٨] (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨))

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) ؛ أي : احبسها مع الذين يداومون على الصلاة والدعاء عند الصباح والمساء [يريدون] رضوان الله لا الرئاء والسمعة. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ) بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا مريدا مجالسة أهل الشرف والغنى. وكان حريصا على إيمان العظماء من المشركين طمعا في إيمان أتباعهم ولم يمل إلى الدنيا وزينتها قطّ ولا إلى أهلها [وإنّما كان

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧١٣ و ٧١٥.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧١٥ ـ ٧١٦.

(٣) يونس (١٠) / ١٥.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ٩.

١٤٧

يلين في بعض الأحايين للرؤساء طمعا في إيمانهم] فعوتب بهذه الآية وأمر ألّا يرفع بصره عن الفقراء مريدا مجالسة الأغنياء. نزلت في سلمان وأبي ذرّ وعمّار وغيرهم من فقراء أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهم عيينة بن حصين ونحوه ـ فقالوا : يا رسول الله ، إن جلست في صدر المجلس ونحيّت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم ـ وكانت عليهم جباب الصوف ـ جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك. فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء. فلمّا نزلت الآية ، قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبهم. فوجدهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتّى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمّتي. معكم المحيا ومعكم الممات. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا) ؛ أي : من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بتعرّضه للغفلة. ولهذا قال : (وَاتَّبَعَ هَواهُ). أو معناه : نسبنا قلبه إلى الغفلة. كما يقال : كفّره ، إذا نسبه إلى الكفر. أو يكون معناه : انّا جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة. تقول العرب : أغفل فلان ماشيته ، إذا يسمها بسمة تعرف. (فُرُطاً) ؛ أي : إفراطا متجاوزا عن الحدّ. (١)

(فُرُطاً) : تقدّما على الحقّ ونبذا له وراء ظهره. ومنه الفرط. (٢)

[٢٩] (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))

(وَقُلِ) لهؤلاء الذين أمروك بتنحية الفقراء : هذا الحقّ من ربّكم ، يعني القرآن ، أو الذي آتيتكم به الحقّ من ربّكم. وقيل : معناه : وضح الحق وزالت الشبهة. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). هذا وعيد من الله. ولذلك عقّبه بقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) ؛ أي : الكافرين الذين ظلموا أنفسهم. (سُرادِقُها). السرادق : حائط من نار يحيط بهم. وقيل : هو دخان

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧١٧ ـ ٧١٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٠.

١٤٨

النار ولهبها يصل إليهم. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من شدّة العطش وحرّ النار. (١)

(قُلِ الْحَقُّ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : نزلت جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية هكذا : وقل الحق من ربكم في ولا ية علي عليه‌السلام فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين آل محمد جهنم نارا». (٢)

(كَالْمُهْلِ) ؛ أي : كالحديد المذاب. وقيل : كدرديّ الزيت. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا قدم ليشرب من فرط حرارته. وهو صفة ثانية أو حال من المهل. (بِئْسَ الشَّرابُ) المهل. (وَساءَتْ) النار متّكأ. وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخدّ. وهو لمقابلة قوله : (حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وإلّا فلا ارتفاق لأهل النار. (٣)

[٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا). خبر إنّ الأولى هي الثانية بما في حيّزها والراجع محذوف. أي : من أحسن عملا منهم. (٤)

[٣١] (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

(أُولئِكَ لَهُمْ). استئناف لبيان الأجر. (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ). من الأولى [للابتداء] والثانية للبيان صفة الأساور. وتنكيره لتعظيم حسنها من الإحاطة به. (خُضْراً). لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة. (مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) : نمارق من الديباج وما غلظ منه. جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين. (عَلَى الْأَرائِكِ) : على السرر كما هو هيئة المتنعّمين. (نِعْمَ الثَّوابُ) الجنّة ونعيمها. (وَحَسُنَتْ)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧١٩.

(٢) الكافي ١ / ٤٢٤ ، ح ٦٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٠.

١٤٩

الأرائك [(مُرْتَفَقاً)]. (١)

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ). لأنّهم على غرف الجنّة. (مِنْ أَساوِرَ). قيل : إنّه يحلّى كلّ واحد بثلاثة أساور ؛ سوار من ذهب ، وسوار من فضّة ، وسوار من لؤلؤ وياقوت. (وَإِسْتَبْرَقٍ).

قيل : هو الديباج المنسوج بالذهب. (٢)

[٣٢] (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢))

(مَثَلاً رَجُلَيْنِ). في تفسير عليّ بن إبراهيم : يريد رجلا كان له بستانان كبيران كثير الثمار وكان له جار فقير. فافتخر الغنيّ على الفقير وقال له : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً). وهذا أليق بالظاهر. (٣)

(رَجُلَيْنِ) ؛ أي : [حال] الكافرين والمؤمنين حال رجلين مقدّرين أو موجودين هما أخوان من بني إسرائيل كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا ورثا من أبيهما ثمانية آلاف فتشاطراها فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا وصرفها المؤمن في وجوه الخير وآل أمرهما إلى ما حكاه الله. وقيل : الممثّل بهما أخوان من بني مخزوم ؛ كافر وهو الأسود بن عبد الأسد ، ومؤمن وهو أبو سلمة زوج أمّ سلمه قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (جَنَّتَيْنِ) : بستانين من الكروم. (وَحَفَفْناهُما) : جعلنا النخل محيطا بهما مؤزرا بها كرومهما. وجعلنا وسطهما زرعا ليكون كلّ واحد منهما جامعا للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) ـ الآية ـ : ضرب هذا المثل في عليّ عليه‌السلام وعدوّه. فقوله : (جَنَّتَيْنِ) عبارة عن الدنيا. فجنّة منهما له في حياته والأخرى للتابعين بعد وفاته لأنّه كافر والدنيا [سجن المؤمن وجنّة الكافر]. وإنّما جعل الجنّتين له لأنّه الذي غرس أشجارها وأجرى أنهارها. وذلك على سبيل المجاز إذ جعلنا الجنّة هي

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٠ ـ ١١.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٢٠ ـ ٧٢١.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٢٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١.

١٥٠

الدنيا. ومعنى ذلك أنّ الدنيا أشقّ شقيق له ولأتباعه ليتمتّعوا بها حتّى حين. (وما أظن أن تبيد هذه) ي : جنّته ودنياه. ثمّ كشف عن اعتقاده فقال الكافر صاحب الجنّة لصاحبه ـ وهو عليّ عليه‌السلام ـ : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) ؛ أي : دنيا وسلطانا وأعزّ عشيرة وأعوانا (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) ؛ أي : دخل في دنياه وابتهج بها وركن إليها. (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بقوله وفعله. قال الله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) كما تزعمون أنتم ، لأجدنّ خيرا من هذه الجنّة. فقال له صاحبه ـ وهو عليّ عليه‌السلام ـ : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) لكن أنا لا أكفر به ، بل أقول : هو ربّي وخالقي. ثمّ دلّه على ما كان أولى له لو قاله [فقال له :](وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) كان في جميع أمورى. و (لا قُوَّةَ) لي عليها (إِلَّا بِاللهِ). ثمّ إنّه رجع القول إلى نفسه فقال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً) ؛ أي : فقيرا محتاجا إلى الله. ومع ذلك (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) ودنياك في الدنيا بقيام ولدي القائم دولة وملكا وسلطانا وفي الآخرة حكما وشفاعة وجنانا (ويرسل على جنتك حسبانا من السماء) أي : عذابا ونيرانا فتحرقها أو سيفا من سيوف القائم فيمحقها فتصبح أرضا لا نبات فيها يزلق الماشي عليها. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) ؛ يعني : ذهبت دنياه وسلطانه. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ) من دينه ودنياه وعشيرته. (١)

[٣٣] (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣))

(آتَتْ أُكُلَها) : ثمرها. وإفراد الضمير لإفراد كلتا. (وَلَمْ تَظْلِمْ) ؛ أي : لم تنقص من أكلها شيئا يعهد في سائر البساتين. فإنّ الثمار يتمّ في عام وينقص في عام غالبا. (خِلالَهُما نَهَراً) ليدوم شربهما. فإنّه الأصل ويزيد بهاء هما. (٢)

[٣٤] (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤))

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) : أنواع من المال سوى الجنّتين. من ثمّر ماله ، إذا كثّره. (يُحاوِرُهُ) ؛ أي :

__________________

(١) تأويل الآيات ١ / ٢٩٤ ـ ٢٥٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١.

١٥١

يراجعه في الكلام. (نَفَراً) ؛ أي : حشما وأعوانا. وقيل : أولادا ذكورا ، لأنّهم الذين ينفرون معه. (١)

(وَكانَ لَهُ) ؛ أي : كان للنخل الذي فيهما (ثَمَرٌ). أبو عمرو بضمّ الثاء وسكون الميم ، جمع ثمار ، كما يخفّف كتب. (٢)

(ثَمَرٌ) الباقون غير عاصم بضمّ الثاء والميم. (٣)

[٣٥] (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥))

(وَدَخَلَ) الكافر قطروس (جَنَّتَهُ) بصاحبه المسلم يطوف به فيها ويفاخره بها. [وإفراد الجنّة لأنّ المراد ما هو جنّته وما متّع به من الدنيا تنبيها على أن لا جنّة له] غيرها ولا حظّ له في الجنّة التي وعد المتّقون ، أو لاتّصال كلّ واحدة من جنّتيه بالأخرى ، أو لأنّ الدخول يكون في واحدة. (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) ؛ أي : ضارّ لها بعجبه وكفره. (أَنْ تَبِيدَ) ؛ أي : تفنى. (٤)

[٣٦] (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦))

(وَما أَظُنُّ) ؛ أي : ما أظنّ أنّ القيامة والبعث حقّ كما يقوله الموحّدون. (وَلَئِنْ رُدِدْتُ) على سبيل الفرض والتقدير ، سيعطيني في الآخرة أفضل منها لكرامتي عليه. ظنّ الجاهل أنّه أوتي ما أوتي لكرامته على الله. وفي هذا دلالة على أنّه لم يكن قاطعا على نفي المعاد بل كان شاكّا فيه. (خَيْراً مِنْها). أهل الحجاز وابن عامر : «منهما» بزيادة ميم. (٥)

(مُنْقَلَباً) : مرجعا وعاقبة. وانتصابه على التمييز. أي : منقلب تلك خير من منقلب هذه. لأنّها فانية وتلك باقية. (٦)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٢٣ و ٧٢١.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٢١.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١١.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٧٢٣ و ٧٢١.

(٦) الكشّاف ٢ / ٧٢٢.

١٥٢

[٣٧] (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧))

(يُحاوِرُهُ) ؛ أي : يخاطبه مكفّرا له بما قاله. (مِنْ تُرابٍ). وهو آدم. وقيل : إنّ النطفة من الغذاء وهو ينبت من التراب. (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ؛ أي : نقلك من حال إلى حال ثمّ جعلك بشرا سويّا. وفيه دلالة على أنّ الشكّ في البعث كفر. (١)

(مِنْ تُرابٍ). ومن قدر على الخلق من التراب ، قدر على الإعادة. (ع)

[٣٨] (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨))

(لكِنَّا) ؛ أي : لكن أقول أنا : الله ربّي ورازقي. وإن افتخرت عليّ بدنياك ، فإنّ افتخاري بالتوحيد. (٢)

(لكِنَّا). أصله : لكن أنا. فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فتلاقت النونان فكان الإدغام. (٣)

[٣٩] (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩))

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ) ؛ أي : هلّا حين دخلت بستانك فرأيت الثمار شكرت الله وقلت : ما شاء الله كان. وإنّي وإن تعبت في جمعى وعمارتي ، فليس ذلك إلّا بقدرة الله وتيسيره. (٤)

وقوله : (ما شاءَ اللهُ) ما موصولة مرفوعة المحلّ ، على أنّها خبر مبتدأ محذوف. تقديره : الأمر ما شاء الله. ويجوز أن يكون شرطيّة منصوبة المحلّ والجزاء محذوف ، بمعنى : أيّ شيء شاء الله كان. (أَقَلَّ). من قرأ : «أقل» بالنصب ، جعل أنا فصلا ؛ ومن رفع ، جعله مبتدأ وأقلّ

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٢٧.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٢٧.

(٣) الكشّاف ٢ / ٧٢٢.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٧٢٧ ـ ٧٢٨.

١٥٣

خبره والجملة مفعولا ثانيا لترن. (١)

(ما شاءَ اللهُ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : للحرق والغرق : ما شاء الله. لا قوّة إلّا بالله. وذلك أنّه يقول : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) ـ الآية. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : (لا حول ولا قوة إلا بالله) معناه : لا حول لنا عن معصية الله إلّا بعون الله. ولا قوّة لنا على طاعة الله إلّا بتوفيق الله. (٣)

عن الصادق عليه‌السلام : عجبت لمن أراد الدنيا وزينتها ، كيف لا يفزع إلى قوله : (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ). فإنّي سمعت الله يقول بعقبها : (أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً) ـ الآية. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ما من رجل دعا فختم بقول : (ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله) إلّا أجيب صاحبه. (٥)

[٤٠] (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠))

(أَنْ يُؤْتِيَنِ) في الآخرة أو في الدنيا والآخرة. (حُسْباناً) ؛ أي : نارا (مِنَ السَّماءِ) فتحرقها. (صَعِيداً زَلَقاً) ؛ أي : أرضا مستوية لا نبات عليها يزلق عنها القدم. (٦)

[٤١ ـ ٤٢] (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢))

(غَوْراً). عن أبي بكر بضمّ الغين. (غَوْراً) ؛ أي : غائرا ذاهبا فلن تقدر على طلبه ولا تستطيع أن تطلب ماء غيره. إلى هنا انتهى مناظرة صاحبه. ثمّ قال : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) ؛ أي :

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٧٢٣.

(٢) التهذيب ٦ / ١٧٠ ، ح ٣٢٩.

(٣) التوحيد / ٢٤٢ ، ح ٣.

(٤) الخصال ١ / ٢١٨ ، ح ٤٣.

(٥) ثواب الأعمال / ٢٤ ، ح ١.

(٦) مجمع البيان ٦ / ٧٢٨.

١٥٤

أحاط العذاب بأشجاره ونخيله فهلكت عن آخرها. وفي الخبر أنّ الله عزوجل أرسل عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها. (فَأَصْبَحَ) الكافر (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) تأسّفا (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) من المال. وتقليب الكفّين كما يفعله النادم. (١)

(وَهِيَ خاوِيَةٌ) ؛ أي : كرومها المعرّشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم. (يا لَيْتَنِي). تذكّر موعظة أخيه فعلم أنّه أتي من جهة شركه وطغيانه فتمنّى لو لم يكن مشركا حتّى لا يهلك الله بستانه. ويجوز أن يكون توبة من الشرك وندما على ما كان منه ودخولا في الإيمان. (٢)

[٤٣] (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣))

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) ؛ أي : ما كان لهذا الكافر جماعة يدفعون عذاب الله عنه. (تَكُنْ). كوفيّ غير عاصم بالياء. (٣)

(مُنْتَصِراً) ؛ أي : ممتنعا بقوّته عن انتقام الله. (٤)

[٤٤] (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ). بالفتح : النصرة والتولّي. وبالكسر : السلطان والملك. أي : في ذلك الوقت الذي تنازع فيه الكافر والمؤمن ، الولاية بالنصرة والإعزاز لله سبحانه يملك النصرة لمن أراد. أو : في مثل تلك الحال الشديدة يتولّى الله ويؤمن به كلّ مضطرّ. يعني أنّ قوله : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي) كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا ممّا دهاه من شؤم كفره ، ولو لا ذلك لم يقلها. وقيل : هنالك إشارة إلى يوم القيامة. يعني أنّ الكفّار يتولّونه يوم القيامة ويتبرّؤون ممّا كانوا يعبدون. [قيل : معناه] أنّه ذلك اليوم ينصر المؤمنين ويخذل الكافرين. فالولاية خالصة له

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٢٤ و ٧٢٨.

(٢) الكشّاف ٢ / ٧٢٤ ، وتفسير البيضاويّ ٢ / ١٣ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٢٨.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٢٨ و ٧٢٤.

(٤) الكشّاف ٢ / ٧٢٤.

١٥٥

لا يملكها ذلك اليوم أحد من العباد. (الْحَقِّ). بالجرّ صفة لله ، وصفه بالمصدر كما وصفه بالعدل والسّلام. والحقّ ذو الحقّ. ومن رفعه جعله صفة للولاية. وقوله : (عُقْباً) بمعنى العاقبة. (١)

(الْوَلايَةُ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : يعني ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٢)

(الْوَلايَةُ). أبو عمرو [بفتح الواو و (الْحَقِّ) بالرفع. وحمزة وخلف] بكسر الواو و (الْحَقِّ) بالجرّ. (عُقْباً). عاصم وحمزة [وخلف] ساكنة القاف ، والباقون بالضم. (٣)

[٤٥] (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥))

(كَماءٍ). المشبّه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفيّة المنتزعة من الجملة. (٤)

(فَاخْتَلَطَ بِهِ) ؛ أي : التفّ بسببه وتكاثف حتّى خالط بعضه بعضا. والهشيم : ما يهشم ويحطم. شبّه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقّبها من الهلاك والفناء بحال النبات يكون أخضر ناضرا ثمّ ييبس فيطيره الرياح. وهذا المثل إنّما هو للمتكبّرين الذين اغترّوا بأموالهم واستنكفوا عن مجالسة فقراء المؤمنين. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الإنشاء والإفناء. (٥)

[٤٦] (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام قال : المال والبنون زينة الحياة الدنيا. وثمان ركعات آخر اللّيل والوتر زينة الآخرة. وقد يجمعها الله لأقوام. كذا رواه الصدوق في معاني الأخبار. (٦)

وفيه أيضا عنه عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه ذات يوم : أتدرون لو جمعتم ما

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٧٢٤ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٢٩ و ٧٢٦.

(٢) الكافي ١ / ٤١٨ ، ح ٣٤.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٢٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٣.

(٥) الكشّاف ٢ / ٧٢٥ ، ومجمع البيان ٦ / ٧٣١.

(٦) معاني الأخبار / ٣٢٤ ، ح ١.

١٥٦

كان عندكم من الآنية والأمتعة أكنتم ترونه يبلغ السماء؟ قالوا : لا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : ألا أدلّكم على شيء أصله في الأرض وفرعه في السماء؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : يقول أحدكم إذا فرغ من صلاته الفريضة : (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر) ثلاثين مرّة. فإنّ أصلهنّ في الأرض وفرعهنّ في السماء ، ويدفعن ميتة السوء. وهنّ الباقيات الصالحات. (١)

وفي الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله برجل يغرس غرسا في حائط له فقال : ألا أدلّك على غرس أثبت أصلا وأسرع إيناعا وأطيب ثمرا وأبقى؟ فقال : بلى ، فدلّني يا رسول الله ، فقال : إذا أصبحت وأمسيت فقل : (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر» فإنّ لك إن قلته بكلّ تسبيحة عشر شجرات في الجنّة من أنواع الفواكه. وهنّ الباقيات الصالحات. (٢)

(زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ؛ أي : يتفاخر بهما ويتزيّن بهما في الدنيا ولا ينتفع بهما في الآخرة. سمّا هما زينة لأنّ المال جمال وفي البنين قوّة ودفاعا. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ). هي الطاعات لله تعالى. لأنّ ثوابها يبقى. فهي خير ما يؤمّل. وقيل : الباقيات ما كان يأتي به فقراء المؤمنين من قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر». وهنّ الجنّة من النار. ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام. (٣)

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : لا تستصغروا موّدتنا. فإنّها من الباقيات الصالحات. (٤)

[٤٧] (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧))

__________________

(١) معاني الأخبار / ٣٢٤ ، ح ١.

(٢) الكافي ٢ / ٥٠٦ ، ح ٤.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٧٣١. وفيه ـ بعد ذكر ما روي في المتن عن ابن عبّاس ـ : «وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لجلسائه : ... قال : خذوا جنّتكم من النار. قولوا : «سبحان الله ...» ... وهنّ الباقيات الصالحات. ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام

(٤) تأويل الآيات ١ / ٢٩٧ ، ح ٨.

١٥٧

(نُسَيِّرُ). ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : (تَسِيرُ) بضمّ التاء وفتح الياء و (الْجِبالَ) مرفوع. (يَوْمَ نُسَيِّرُ) ؛ أي : واذكر يوم نسيّر ؛ أي : نقلعها من أماكنها ونجعلها هباء منثورا. أو : نسيّرها على وجه الأرض كما نسيّر السحاب في السماء ثمّ نصيّرها كالعهن المنفوش. (بارِزَةً) ؛ أي : ظاهرة لا يسترها شيء من جبل أو بناء. وقيل : معناه : وترى باطن الأرض ظاهرا قد برز من كان في بطنها فصار على ظهرها. (وَحَشَرْناهُمْ) ؛ أي : جمعناهم في الموقف. (١).

وفي كتاب جعفر بن محمّد الدوريستيّ بإسناده إلى ابن عبّاس قال : لمّا نزلت : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) غشي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحمل إلى حجرة أمّ سلمة. فلم يخرج وقت الصلاة وقالت أمّ سلمة : نبيّ الله عنكم مشغول. ثمّ خرج بعد ذلك فرقى المنبر فقال : أيّها الناس ، إنّكم تحشرون حفاة عراة. ثمّ قرأ : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً). ثمّ قرأ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)(٢). (٣)

وفي كتاب الاحتجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ الناس يحشرون في أكفانهم. قيل له : أنّى لهم بالأكفان وقد بليت؟ قال : إنّ الذي أحيا أبدانهم ، جدّد أكفانهم. ومن مات بلا كفن ، يستر الله عورته بما يشاء. وقال : يعرضون صفوفا عشرون ومائة ألف صفّ في عرض الأرض. (٤)

أقول : الأخبار متخالفة ظاهرا في كيفيّة الحشر عراة وغير عراة. ووجه الجمع بالحمل على المؤمنين وغيرهم أو باختلاف المواقف أو بنحو آخر.

[٤٨] (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨))

(صَفًّا) ؛ أي : مصفوفين كلّ زمرة وأمّة صفّ. (لَقَدْ جِئْتُمُونا) ؛ أي : قلنا لهم : لقد جئتمونا.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٧٣٠ و ٧٣٢.

(٢) الأنبياء (٢١) / ١٠٤.

(٣) نور الثقلين ٣ / ٢٦٥ ، ح ١٠٦.

(٤) الاحتجاج ٢ / ٣٥٠.

١٥٨

وهذا المضمر هو عامل النصب في (يَوْمَ نُسَيِّرُ). ويجوز أن ينتصب بإضمار اذكر. والمعنى : لقد بعثناكم كما أنشأناكم أوّل مرّة ضعفاء فقراء عاجزين لا مال ولا ولد معكم. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحشر الناس يوم القيامة من قبورهم حفاة عراة غرلا. فقالت عائشة : يا رسول الله ، أما يستحيي بعضهم من بعض؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). (١)(أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) ؛ أي : يقال لهم أيضا : بل زعمتم في دار الدنيا أنّ الله لم يجعل لكم موعدا للبعث والحساب يوم القيامة. (٢)

(بَلْ زَعَمْتُمْ). بل هنا للخروج من قصّة إلى أخرى. (٣)

[٤٩] (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) ؛ يعني : [وضعت] صحائف بني آدم في أيديهم. (مُشْفِقِينَ) ؛ أي : خائفين. (يا وَيْلَتَنا). هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدّة فيدعو على نفسه بالويل والثبور. [(ما لِهذَا الْكِتابِ) :] أيّ شيء لهذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الذنوب إلّا أثبتها وحواها؟ (٤)

(يا وَيْلَتَنا). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة ، دفع إلى الإنسان كتابه. فقرأه فيذكره كأنّه فعله تلك الساعة فعند ذلك يقول : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ) ـ الآية. (٥)

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) : مكتوبا. أو : وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا. (وَلا يَظْلِمُ) ؛ أي : لا ينقص ثواب محسن ولا يزيد في عذاب مسيء. وفيه دلالة على أنّه سبحانه لا يعاقب أطفال الكفّار بذنوب آبائهم. (٦)

__________________

(١) عبس (٨٠) / ٣٧.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٣٢ ، والكشّاف ٢ / ٧٢٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٤.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٧٣٢ ـ ٧٣٣.

(٥) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٢٨ ، ح ٣٤.

(٦) مجمع البيان ٦ / ٧٣٣.

١٥٩

[٥٠] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠))

(وَإِذْ قُلْنا). كرّره في مواضع لكونه مقدّمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحلّ. وهاهنا لمّا شنّع على المفتخرين واستقبح صنعهم ، قرّر ذلك بأنّه من سنن إبليس. (١)

أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذكّر هؤلاء المتكبّرين عن مجالسة الفقراء قصّة إبليس وما أورثه الكبر. (٢)

(كانَ مِنَ الْجِنِّ). كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين. كأنّ قائلا قال له : لم لم يسجد؟ فقيل : كان من الجنّ. (فَفَسَقَ). الفاء للسببيّة أيضا. جعل كونه من الجنّ سببا في فسقه. يعني أنّه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله ، لأنّ الملائكة معصومون لا يجوز عليهم ما يجوز على الجنّ والإنس. ومعنى فسق عن أمر ربّه : خرج عمّا أمره به ربّه من السجود. (أَفَتَتَّخِذُونَهُ). الهمزة للإنكار والتعجّب. كأنّه قال : أعقيب ما وجد منه تتّخذونه وذرّيّته أولياء من دوني وتستبدلونهم بي؟ بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته! (٣)

[٥١] (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١))

يعني أنّكم اتّخذ تموهم شركائي في العبادة ، وإنّما كانوا شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهيّة. فنفى مشاركتهم في الإلهيّة بقوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأعتضد بهم في خلقها. (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ؛ أي : لا أشهدت بعضهم خلق بعض. (عَضُداً) : أعوانا. فإذا لم يكونوا عضدا في الخلق ، فما لكم تتّخذونهم شركاء لي في العبادة. (٤)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٢ / ١٤.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٧٣٤.

(٣) الكشّاف ٢ / ٧٢٧.

(٤) الكشّاف ٢ / ٧٢٧ ـ ٧٢٨.

١٦٠