عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-28-9
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦١

في منامه ، فقد كان يقول حين ورد إلى بدر : هذا مصرع فلان وفلان. فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمر بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويستعجلون به استهزاء. وحين سمعوا بقوله : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ)(١) جعلوها سخريّة وقالوا : إنّ محمّدا يزعم أنّ الجحيم تحرق الحجارة ثمّ يقول ينبت فيها الشجر! والمعنى : انّ الآيات إنّما يرسل بها تخويفا للعباد. وهؤلاء قد خوّفوا بعذاب الدنيا ، وهو القتل يوم بدر. فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلّا فتنة لهم حيث اتّخذوه سخريّا. وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقّوم ، فما أثّر فيهم. ثمّ قال : (وَنُخَوِّفُهُمْ) بمخاوف الدنيا والآخرة. (فَما يَزِيدُهُمْ) التخويف (إِلَّا طُغْياناً). فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟ (٢)

(أَحاطَ بِالنَّاسِ) ؛ أي : أحاط علما بأحوالهم وما يفعلونه من طاعة أو معصية. وقيل : إنّه عالم بجميع الأشياء فيعلم قصدهم إلى إيذائك إذ لم تأتهم بما اقترحوا منك من الآيات. وهذا حثّ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على التبليغ ووعد بالعصمة من أذيّة قومه. وهذا معنى قول الحسن. [وقيل : معناه :] إنّه أحاط بأهل مكّة ويستفتحها لك. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) ـ الآية. فيه أقوال. أحدها : انّ المراد رؤية العين ؛ وهي الإسراء به إلى السماء. ولكن لمّا رأى ذلك ليلا وأخبر به نهارا ، سمّاها رؤيا. وسمّاها فتنة لأنّه أراد بالفتنة الامتحان حين صدّقه قوم فتعرّضوا للثواب وكذّبه آخرون فتعرّضوا للعقاب. وثانيها : ما روي عن ابن عبّاس أنّها رؤيا نوم رآها أنّه سيدخل مكّة وهو بالمدينة ، فقصدها فصدّه المشركون في الحديبيّة عن دخولها حتّى شكّ قوم. فدخلها في العام القابل ، فنزلت : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) ـ الآية. (٣) وثالثها : انّ ذلك رؤيا رآها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ قرودا تصعد منبره وتنزل ، فساءه ذلك ولم ير ضاحكا حتّى مات. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. والشجرة الملعونة في القرآن

__________________

(١) الدخان (٤٤) / ٤٣.

(٢) الكشّاف ٢ / ٦٧٤ ـ ٦٧٥.

(٣) الفتح (٤٨) / ٢٧.

١٠١

على هذا هم بنو أميّة ؛ أخبر الله سبحانه بتغلّبهم على مقامه وقتلهم ذرّيّته. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) ؛ أي : ما جعلنا الشجرة الملعون أهلها في القرآن إلّا فتنة ، وأهلها هم الكفّار الملعونون في القرآن. (١)

(فَما يَزِيدُهُمْ). يظهر من بعض الأخبار أنّ المراد به يزيد بن معاوية عليهما اللّعنة. أي : ليس يزيد الذي هو من هذه الشجرة إلّا نفس الطغيان ، مبالغة في طغيانه. (ع ـ ره)

[٦١] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١))

(أَأَسْجُدُ). استفهام بمعنى الإنكار. أي : كيف أسجد له وأصلي أشرف من أصله؟ (٢)

(لِمَنْ خَلَقْتَ) ؛ أي : لمن خلقته. (طِيناً) ؛ أي : من طين. فنصب بنزع الخافض. (٣)

[٦٢] (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢))

(أَرَأَيْتَكَ). الكاف للخطاب. و (هذَا) مفعول به. والمعنى : أخبرني عن هذا الذي فضّلته عليّ لم كرّمته وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك ثمّ ابتدأ فقال : لئن أخرتني». اللّام موطّئة للقسم المحذوف. (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) : لأستأصلنّهم بالإغواء. من احتنك الجراد الأرض ، إذا أكل ما عليها. فإن قلت : من أين علم أنّ ذلك يتسهّل له وهو من علم الغيب؟ قلت : إمّا أن يكون قد سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به وخرّجه من قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)(٤) أو نظر إليه فتوسّم في مخايله أنّه خلق شهوانيّ. وقيل : قال ذلك لمّا عملت وسوسته في آدم. والظاهر أنّه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٥٤ و ٦٥٢.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٦٥٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٧٥ ـ ٥٧٦.

(٤) البقرة (٢) / ٣٠.

(٥) الكشّاف ٢ / ٦٧٧.

١٠٢

(لَأَحْتَنِكَنَّ). من قولهم : حنك الدابّة يحنكها ، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. أي : أقودهم معي إلى المعاصي ، كما تقاد الدابّة بحنكها إذا شدّ فيها حبل تجرّبه ، إلّا القليل الذين يعصمهم الله ، وهم المخلصون. (١)

[٦٣] (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣))

(قالَ اذْهَبْ) ؛ أي : امض لشأنك الذي اخترته ، خذلانا وتخلية. (جَزاءً). منصوب على المصدر ، أي : تجازون ، أو على الحال. (٢)

(مَوْفُوراً) ؛ أي : كاملا. (٣)

[٦٤] (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤))

(بِخَيْلِكَ). الخيل : الخيّالة. ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا خيل الله اركبي. (رَجِلِكَ). اسم جمع للراجل. فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت : هو كلام ورد مورد التمثيل مثّلت حاله في تسلّطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتا يستفزّهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيّالة ورجّالة حتّى استأصلهم. وقيل : يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال. (وَعِدْهُمْ) المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة والخروج من النار بعد أن يصيروا حميما. (٤)

(وَاسْتَفْزِزْ). الاستفزاز : الاستنهاض على خفّة وإسراع. أي : استزلّ من استطعت منهم وأضلّهم بوسوستك. وهذا تهديد في صورة الأمر. وقيل : (بِصَوْتِكَ) ؛ أي : بالغناء والمزامير والملاهي. وقيل : كلّ صوت يدعى به إلى الفساد ، فهو من صوت الشيطان. (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) ما قدرت عليه من مكايدك وأتباعك وذرّيّتك. فيكون الباء مزيدة في (بِخَيْلِكَ وَ

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٥٦ ـ ٦٥٧.

(٢) الكشّاف ٢ / ٦٧٦ ـ ٦٧٧.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٦٥٦ ـ ٦٥٧.

(٤) الكشّاف ٢ / ٦٧٨.

١٠٣

رَجِلِكَ). وكلّ راكب أو ماش في معصية الله ، فهو من خيل إبليس ورجله. وقيل : هو من أجلب القوم ، إذا صاحوا. أي : صح بخيلك ورجلك فاحشرهم عليهم بالإغواء. (فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ). وهو كلّ كال أخذ من حرام ، وكلّ ولد زنى. وقيل : مشاركتهم في الأموال أنّه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك ، وفي الأولاد أنّهم هوّدوهم ونصّروهم ومجّسوهم. وقيل : إنّ المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحارث ونحوهما. وقيل : هو قتل الموؤودة من أولادهم. (وَعِدْهُمْ) ؛ أي : منّهم البقاء بطول الأمل وأنّهم لا يبعثون. وكلّ هذا تهديد في صورة الأمر. (إِلَّا غُرُوراً) ؛ أي : يزيّن لهم الخطاء أنّه صواب. وهو اعتراض. (رَجِلِكَ). حفص بكسر الجيم ، والباقون بسكونها. (١)

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ). اعتراض لبيان مواعيده. (٢)

عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام أنّه جلس مع يزيد بن معاوية يأكلان الرطب ، فقال يزيد : يا حسن ، إنّي مذ كنت أبغضك. قال الحسن عليه‌السلام : يا يزيد ، اعلم أنّ إبليس شارك أباك في جماعه فاختلط الماء ان فأورثك ذلك عداوتي. إنّ الله يقول : (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ). وشارك الشيطان حربا عند جماعه ، فولد له صخر. فلذلك كان يبغض جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. كذا في مناقب ابن شهر آشوب. (٣)

وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقد ذكر في الدعاء عند دخول المرأة : ولا تجعل فيه شركا للشيطان ، ثمّ قال : إنّ الشيطان ليجيء حتّى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها وينكح كما ينكح. وذلك يعرف بحبّنا وبغضنا. (٤)

وفي الفقيه عن الصادق عليه‌السلام : من لم يبال ما قال وما قيل فيه ، فهو شرك شيطان. ومن لم يبال أن تراه الناس مسيئا ، فهو شرك شيطان. ومن اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما ، فهو شرك شيطان. ومن شعف بمحبّة الحرام وشهوة الزنى ، فهو شرك شيطان. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٥٧ ـ ٦٥٨ و ٦٥٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٧٦.

(٣) المناقب ٤ / ٢٢.

(٤) الكافي ٥ / ٥٠٢ ، ح ٢.

(٥) الفقيه ٤ / ٢٩٩ ، ح ٨٥.

١٠٤

وفي تفسير العيّاشيّ عن زرارة قال : كان يوسف أبو الحجّاج صديقا لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام. وإنّه دخل على امرأته فأراد أن يجامعها ، فقالت له : [أليس] إنّما عهدك بهذا الساعة؟ فأتى عليّ بن الحسين عليهما‌السلام فأخبره ، فأمره أن يمسك عنها. فولدت بالحجّاج ؛ وهو ابن شيطان ذي الردهة. (١)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) يدفعه عن المشاركة. (٢)

وقال عليه‌السلام : ما كان من مال حرام ، فهو من شركه. وإذا زنى يكون إمّا كلّه من الشيطان أو بعضه. (٣)

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم : إذا جامع الرجل أهله ولم يسمّ ، شاركه الشيطان. (٤)

[٦٥] (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

(إِنَّ عِبادِي). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : يعني أصحاب عليّ عليه‌السلام. (٥)

(إِنَّ عِبادِي) ؛ أي : الذين يطيعونني. أضافهم إلى نفسه تشريفا لهم. (سُلْطانٌ) ؛ أي : قوّة ونفاذ. لأنّهم يعلمون أنّ مواعيدك باطلة. وقيل : معناه : لا سلطان لك على جميع عبادي إلّا في الوسوسة والدعاء إلى المعصية. فأمّا أن تحملهم على المعصية وتمنعهم عن الطاعة جبرا وكرها ، فلا. (وَكِيلاً) ؛ أي : حافظا لعباده من شرك. (٦)

[٦٦] (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦))

(يُزْجِي) ؛ أي : يجري لكم السفن في البحر بما خلق من الرياح. (لِتَبْتَغُوا) ؛ أي : تطلبوا بركوب السفن ما فيه صلاح دنياكم من التجارة أو دينكم من الغرق. (٧)

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٩٩ ، ح ١٠٣.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٠٠ ، ح ١٠٧.

(٣) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٠٠ ، ح ١٠٨.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٢.

(٥) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٠١ ، ح ١١١.

(٦) مجمع البيان ٦ / ٦٥٨.

(٧) مجمع البيان ٦ / ٦٥٩.

١٠٥

[٦٧] (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧))

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) ؛ أي : الشدّة. (فِي الْبَحْرِ) بسكون الرياح واضطراب الأمواج أو غير ذلك من أهوال البحر. (ضَلَّ مَنْ) ؛ أي : ذهب عنكم ذكر كلّ معبود إلّا الله ، فلا ترجون النجاة إلّا من عنده فتدعونه ولا تدعون غيره. فلمّا أنجاكم وأمنتم الغرق ، (أَعْرَضْتُمْ) عن الإيمان وعن طاعته. (١)

(إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ). عن العسكريّ عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى الصادق عليه‌السلام فقال : دلّني على الله ما هو. فقد كثر عليّ المجادلون وحيّروني. فقال له : هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : نعم. قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم. قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : نعم. قال الصادق عليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث. (٢)

(كانَ الْإِنْسانُ). كالتعليل للإعراض. (٣)

[٦٨] (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨))

(يَخْسِفَ). ابن كثير : «نخسف» و «نرسل» «أفامنتم أن يخسف» أي : إنّ فعلكم هذا فعل من يتوهّم أنّه إذا صار إلى البرّ أمن المكاره. فهل أمنتم أن يخسف بكم الأرض ويغيبكم فيها؟ أو هل أمنتم أن يرسل عليكم حجارة تحصبون ـ أي : ترمون ـ بها؟ والمعنى أنّه قادر على إهلاككم في البرّ والبحر. (وَكِيلاً) ؛ أي : حافظا يحفظكم عن عذاب الله. (٤)

(جانِبَ الْبَرِّ). يعني أنّ في جانب البرّ غرقا مثل البحر [وهو الخسف] لأنّه [تغييب

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٥٩.

(٢) التوحيد / ٢٣٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٧٧.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

١٠٦

تحت التراب كما أنّ الغرق] تغييب تحت الماء. (حاصِباً). هي الريح التي تحصب ـ أي : ترمي ـ بالحصباء. [يعني : أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف ، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء] يرجمكم بها ، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر. (١)

(أَفَأَمِنْتُمْ). الهمزة للإنكار. والفاء للعطف على محذوف. تقديره : أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض؟ (٢)

[٦٩] (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

ابن كثير وأبو عمرو : «نخسف» و «نرسل» و «نعيدكم» فنرسل عليكم فنغرقكم كلّها بالنون. وأبو جعفر ويعقوب : فتغرقكم بالتاء والباقي بالياء. وقرأالباقون كلّها بالياء. (فِيهِ تارَةً) ؛ أي : في البحر مرّة أخرى بأن يجعل لكم حاجة أو يحدث لكم رغبة أو رهبة. (قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) : ريحا شديدة كاسرة للسفينة. (فَيُغْرِقَكُمْ) بكفركم بنعم الله. (تَبِيعاً) ؛ أي : تابعا يتبع إهلاككم للمطالبة. يعني ثائرا وناصرا. (٣)

(قاصِفاً). هي الريح التي لها قصيف ـ وهو الصوت الشديد ـ كأنّها تتقصّف ؛ أي : تنكسر. وقيل : التي لا تمرّ بشيء إلّا قصفته. (٤)

[٧٠] (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ؛ أي : فضّلناهم. وأجريت الصفة على جميعهم من أجل من كان فيهم على هذه الصفة. وقيل : المعنى : أكرمناهم بالنعم الدنيويّة كالصورة الحسنة وتسخير الأشياء وبعثة الرسل إليهم. و [قيل :] لقد أكرمهم الله بالعقل والنطق والتمييز والأكل باليد

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٦٧٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٧٧.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

(٤) الكشّاف ٢ / ٦٨٠.

١٠٧

واعتدال القامة. (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) على الإبل والدوابّ ، وفي البحر بالسفن. (وَرَزَقْناهُمْ) من الثمار والفواكه والملاذّ. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ). استدلّ به على أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء ، لأنّ قوله : (عَلى كَثِيرٍ) يدلّ على أنّ هاهنا من لم يفضّلهم عليه ، وليس إلّا الملائكة ، لأنّهم أفضل من كلّ حيوان سوى الملائكة بالاتّفاق. وهذا باطل من وجوه. أحدها : انّ التفضّل هنا لم يرد به الثواب. لأنّ الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء. وإنّما المراد ما فضّلهم الله به من فنون النعم التي عدّدنا بعضها. الثاني : انّ المراد بالكثير الجميع. والمعنى : انّا فضّلناهم على من خلقنا وهم كثير الثالث : إذا سلّم أن المراد التفضيل بزيادة الثواب وأنّ لفظة من في قوله : (مِمَّنْ خَلَقْنا) يفيد التبعيض ، فلا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم. لأنّ الفضل في الملائكة عامّ لجميعهم أو أكثرهم والفضل في بني آدم يختصّ بقليل من كثير. وعلى هذا فغير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم. (١)

(بَنِي آدَمَ). عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من غلب عقله شهوته من البشر ، يكون أفضل من الملائكة. (٢)

[٧١] (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١))

(نَدْعُوا) عن يعقوب بالياء. (يَوْمَ نَدْعُوا) ـ الآية. فيه أقوال. أحدها : انّه نبيّهم. أي : يقال : هاتوا متّبعي إبراهيم. هاتوا متّبعي موسى. هاتوا متّبعي محمّد صلوات الله عليهم. فيقوم أهل الحقّ الذين اتّبعوا الأنبياء فيأخذوا كتبهم بأيمانهم. ثمّ يقال : هاتوا متّبعي الشيطان. هاتوا متّبعي رؤساء الضلالة. وثانيها : معناه : بكتابهم الذي أنزل عليهم فيقال : يا أهل القرآن ، يا أهل التوراة. وثالثها : بمن كانوا يأتمرون به من علمائهم ورؤسائهم وأئمّتهم. و

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٦١ ـ ٦٦٢.

(٢) علل الشرائع / ٥.

١٠٨

بجميع هذه الأقوال يدلّ ما روي عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال فيه يدعى كلّ أناس بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم. ورابعها : انّ معناه : بكتاب أعمالهم. (فَمَنْ أُوتِيَ) ؛ أي : أعطي كتاب عمله الذي فيه طاعاته بيمينه ، فأولئك يقرؤون الكتاب فرحين مسرورين ولا ينقصون من ثواب أعمالهم مقدار فتيل ؛ وهو المفتول الذي في شقّ النواة. جعل الله إعطاء الكتاب [باليمين] علامة الرضا وباليسار علامة السخط. (١)

(بِإِمامِهِمْ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أصحاب الشمس بالشمس وهكذا. (٢)

(بِإِمامِهِمْ). ومن بدع التفاسير أنّ الإمام جمع أمّ وأنّ الناس يدعون بأمّهاتهم وأنّ الحكمة في الدعاء بالأمّهات دون الآباء رعاية حقّ عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين عليهم‌السلام وأن لا يفتضح أولاد الزنى. وليت شعري أيّهما أبدع ؛ أصحّة لفظه أم بهاء حكمته! (يَقْرَؤُنَ) ويقولون لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)(٣)! وأمّا أهل الشمال فهم ، وان قرؤوا كتابهم ، إلّا أنّه يأخذهم الحياء والخجل وحبسة اللّسان والعجز عن إقامة الحروف فكأنّ قراءتهم كلا قراءة. (٤)

(يَوْمَ نَدْعُوا) ولمّا اصطاد عمرو بن حريث مع سبعة كانوا معه ضبّا فبا يعوه أنّه إمامهم ، فلمّا وردوا الكوفة قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ هؤلاء الثمانية يدعون يوم القيامة باسم إمامهم الضبّ. (٥)

[٧٢] (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

(وَمَنْ كانَ) ـ الآية. عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أنّها نزلت في ابن عبّاس وأبيه. كذا في تفسير عليّ بن إبراهيم. (٦) أقول : من تتبّع الأخبار ، يظهر له اختلافها. فمنها ما يدلّ على مدحه. والأولى الكفّ عنه وعن أحواله وأن لا يتعرّض له بسوء.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٦١ و ٦٦٣.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٠٣ ، ح ١١٨.

(٣) الحاقّة (٦٩) / ١٩.

(٤) الكشّاف ٢ / ٦٨٢ ـ ٦٨٣.

(٥) الخصال ٢ / ٦٤٤ ، ح ٢٦.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٣.

١٠٩

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : نزلت فيمن يسوّف الحجّ حتّى مات ولم يحجّ فعمي عن فريضة من فرائض الله. (١)

(أَعْمى) عن آيات الله ، ضالّا عن الحقّ ، ذاهبا عن الدين ، فهو في الآخرة أشدّ تحيّرا وذهابا عن طريق الجنّة وعن الحجّة إذا سئل. فإنّ من ضلّ عن معرفة الله في الدنيا ، يكون يوم القيامة منقطع الحجّة. فالأوّل اسم ، والثاني أفعل من العمى. أو معناه : من كان في هذه الدنيا أعمى القلب ، فإنّه في الآخرة أعمى العين ؛ يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا. أهل البصرة (أَعْمى) الأولى بالإمالة و (أَعْمى) الثانية بالتفخيم. وقرأحمزة والكسائيّ بالإمالة فيهما ، والباقون بالتفخيم فيهما. (٢)

[٧٣] (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣))

(وَإِنْ كادُوا) في سبب النزول أقوال. أحدها : انّ قريشا قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفّ عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان حتّى نجالسك ونسمع منك. فطمع في إسلامهم ، فنزلت الآية. وثانيها : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخرج الأصنام من المسجد ، فطلبت إليه قريش أن يترك صنما كان على المروة. فهمّ بتركه ، ثمّ أمر بكسره. فنزلت الآية. رواه العيّاشيّ. وثالثها : انّ وفد ثقيف قالوا : أجّلنا سنة حتّى نقبض ما يهدى لآلهتنا. فإذا قبضنا ذلك ، كسرناها وأسلمنا. فهمّ بتأجيلهم. فنزلت. (وَإِنْ كادُوا). إن مخفّفة من المثقّلة. والمعنى : انّ المشركين قاربوا أن يصرفوك عن القرآن ـ أي : عن حكمه ـ لتخترع علينا غير ما أوحيناه إليك. لأنّك لا تنطق إلّا عن وحي ، فإذا اتّبعت أهواءهم ، كنت كالمفتري. (لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) ؛ أي : صديقا. (٣)

(غَيْرَهُ) ؛ أي : غير [أمير] المؤمنين. (خَلِيلاً) ؛ أي : صديقا ، لو أقمت غيره. (٤)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٤.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٦٦٣ ـ ٦٦٤ و ٦٦٠ ـ ٦٦١.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٦٦٥.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٤.

١١٠

[٧٤] (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤))

(وَلَوْ لا أَنْ) ثبّتنا قلبك بالنبوّة والعصمة ، لقد قاربت أن تميل إليهم ميلا قليلا فتعطيهم بعض ما سألوك. وقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن أمّتي ما حدّثت به نفسها. قال ابن عبّاس : حيث سكت عن جوابهم. (١)

[٧٥] (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥))

(إِذاً لَأَذَقْناكَ) ؛ أي : لو فعلت ذلك ، لعذّبناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات. أي : مثلي ما نعذّب به المشرك في الآخرة. لأنّ ذنبك يكون أعظم. (نَصِيراً) : ناصرا ينصرك. (٢)

[٧٦] (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦))

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ـ الآية. نزلت في أهل مكّة لمّا همّوا بإخراج الرسول من مكّة. وقيل : نزلت في يهود المدينة قالوا : إنّ هذه الأرض ليست أرض الأنبياء. وإنّما أرض الأنبياء الشام. فأت الشام. (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ؛ أي : يزعجوك من أرض مكّة. وقيل : يقتلوك. ولو أخرجوك ، لكانوا لا يلبثون بعد خروجك إلّا زمانا قليلا ؛ وهي المدّة بين خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة وقتلهم يوم بدر. وقيل : إنّهم أخرجوه وأهلكوا. والمراد بقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) : [إلّا ناسا قليلا ؛] وهم من انفلت منهم يوم بدر وآمنوا بعد ذلك. (خِلافَكَ). أهل الحجاز وأبو عمرو وأبو بكر : (خَلْفَكَ) بغير ألف. (٣)

[٧٧] (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٦٥ ـ ٦٦٦.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٦٦٦.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٦٦٧ و ٦٦٦.

١١١

(سُنَّةَ). نصبت نصب المصدر المؤكّد. أي : سنّ الله ذلك سنّة. (١)

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) ؛ أي : لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك كسنّتنا فيمن قبلك. [وقيل : يقول](٢) لم نرسل قبلك رسولا فأخرجه قومه إلّا هلكوا. فقد سننّا هذه السنّة فيمن أرسلنا قبلك إليهم. (٣)

[٧٨] (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨))

(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : دلوكها زوالها. ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق اللّيل أربع صلوات سمّاهنّ الله وبيّنهنّ ووقّتهنّ. وغسق اللّيل انتصافه. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ). فهذه الخامسة. يعني صلاة الفجر تشهده ملائكة اللّيل وملائكة النهار. فإذا صلّى العبد الصبح مع طلوع الفجر ، أثبت له مرّتين ؛ أثبتها ملائكة اللّيل وملائكة النهار. (٤)

(لِدُلُوكِ). الدلوك من الدلك وهو الزوال. لأنّ الناظر إلى الشمس يدلك عينيه ليتبيّنها. (٥)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لمّا عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين. فلمّا ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام زاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبع ركعات شكرا لله ، فأجاز الله له ذلك. وترك الفجر لم يزد فيها شيئا لأنّه يحضرها ملائكة اللّيل وملائكة النهار. (٦)

[٧٩] (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩))

(فَتَهَجَّدْ) ؛ أي : اترك الهجود وهو النوم. مثل تأثّم ؛ أي : جانب الإثم. (نافِلَةً لَكَ) ؛ أي : زيادة لك على الفرائض. لأنّها كانت واجبة عليه. (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ). عسى من الله موجبة. والمقام بمعنى البعث ، فهو مصدر من غير جنسه. أي : يبعثك يوم القيامة بعثا أنت محمود فيه.

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٦٨٦.

(٢) في النسخة «لأنه» بدل ما بين المعقوفتين.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٦٦٧.

(٤) التهذيب ٢ / ٢٤١ ، ح ٩٥٤.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٦٦٨.

(٦) الكافي ٣ / ٤٨٧ ، ح ٢.

١١٢

وقد اجتمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة. (١)

(فَتَهَجَّدْ). عنى صلاة اللّيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فإنّها فريضة [عليه]. كذا روي عن الصادق عليه‌السلام. (٢)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وقد ذكر المحشر ـ : ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو المقام المحمود. فيحمده أهل السموات وأهل الأرض. وذلك قول الله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). (٣)

وفي الأخبار المستفيضة عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة. (٤) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ، إنّ ربّي عزوجل ملّكني الشفاعة في أهل التوحيد من أمّتي. وحظر ذلك عمّن ناصبك أو ناصب ولدك من بعدك. (٥)

[٨٠] (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠))

(وَقُلْ رَبِّ). فإنّها نزلت يوم فتح مكّة. لمّا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخولها ، أنزل الله : قل يا محمّد : أدخلني. (٦)

(مُدْخَلَ صِدْقٍ). المدخل والمخرج هنا مصدر الإدخال والإخراج. أي : إدخال صدق وإخراج صدق. أي : أدخلني في جميع ما أرسلتني به إدخال صدق ، وأخرجني منها سالما إخراج صدق. [أي :] أعني على الوحي والرسالة. و [قيل : معناه :] أدخلني المدينة وأخرجني منها للفتح إلى مكّة. أو إنّه عليه‌السلام أمر بهذا الدعاء إذا دخل في أمر أو خرج من أمر.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٦٨ ـ ٦٧١.

(٢) التهذيب ٢ / ٢٤٢ ، ح ٩٥٩.

(٣) التوحيد / ٢٦١.

(٤) انظر : تفسير القمّيّ ٢ / ٢٥ ، وج ١ / ١٨٨ ، وأمالي الطوسيّ ١ / ٣٠٤ ، وروضة الواعظين / ٢٧٣ و ٥٠٠ ، وتفسير العيّاشيّ ٢ / ٣١٤ ، ح ١٤٨ وص ٣١٥ ، ح ١٥١.

(٥) أمالي الطوسيّ ٢ / ٧٠.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٦.

١١٣

(سُلْطاناً نَصِيراً) ؛ أي : اجعل لي عزّا أمتنع به ممّن يحاول صدّي عن إقامة فرائضك وقوّة تنصرني بها على من عاداني فيك. (١)

[٨١] (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

عن حكيمة : مكتوب على ذراع القائم الأيمن : (جاءَ الْحَقُّ) ـ الآية. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : إذا قام قائمنا عليه‌السلام ذهبت دولة الباطل. (٣)

(جاءَ الْحَقُّ) ؛ أي : ظهر الإسلام والدين. (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ؛ أي : بطل الشرك. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكّة والأصنام حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما. فجعل يطعنها بمخصرة في يده ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ). (٥) فجعلت تنكبّ لوجهها. (٦)

[٨٢] (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

(وَنُنَزِّلُ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاية قطّ وقال بإخلاص نيّة ومسح موضع العلّة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) إلى قوله : (إِلَّا خَساراً) إلّا عوفي من تلك العلّة أيّة علّة كانت. ومصداق ذلك في الآية حيث يقول : (شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). (٧)

(ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) ؛ لما فيه من البيان الذي يزيل عمى الجهل وحيرة الشكّ ولأنّه يتبرّك به وبقرآنه ويستعان على دفع العلل والأسقام به. (إِلَّا خَساراً). لأنّهم يخسرون الثواب ويستحقّون العقاب لكفرهم به ولأنّ القرآن يظهر خبث سرائرهم وما يأتمرون به من الكيد والمكر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيفتضحون بذلك. (٨)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٧١.

(٢) نور الثقلين ٣ / ٢١٣.

(٣) الكافي ٨ / ٢٨٧ ، ح ٤٣٢.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٦٧١.

(٥) سبأ (٣٤) / ٤٩.

(٦) أمالي الطوسيّ ١ / ٣٤٦.

(٧) طبّ الأئمّة / ٢٨.

(٨) مجمع البيان ٦ / ٦٧٣.

١١٤

[٨٣] (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣))

(أَعْرَضَ). أي عن ذكرنا كأنّه لم يقبل علينا بالدعاء والابتهال. (وَنَأى بِجانِبِهِ) ؛ أي : بعد بنفسه عن القيام بحقوق إنعامنا فلا يشكره. وقيل : معناه : تجبّر وتكبّر وأعجب بنفسه. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) ؛ أي : إذا أصابه المحنة والشدّة ، لم يصبر وكان قنوطا من رجاء الفرج من الله ، بخلاف المؤمن الذي يرجو الفرج والروح. وسمّي الأمراض والبلايا شرّا لكونها عند الكافرين شرّا حيث لا يرجون ثوابا ولا عوضا ولأنّ الطبائع تنفر عنها ، وإلّا فهي في الحقيقة صلاح وصواب. (نَأى). حمزة بفتح النون وكسر الهمزة ، وفي رواية أخرى بكسر هما. وأبو جعفر وابن عامر : ناء بجانبه ممدودة مهموزة. وقرأالباقون من القرّاء : (نَأى) على وزن نعى. (١)

[٨٤] (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

(عَلى شاكِلَتِهِ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا. وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا. فبالنيّات [خلّد] هؤلاء وهؤلاء. ثمّ تلا : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ). (٢)

أقول : هذا الحديث هو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نيّة المؤمن خير من عمله. مع ما روي عن الرضا عليه‌السلام قال : إنّ الله سبحانه إذا أوقف المؤمن بين يديه ، للحساب ، يقول : هلمّوا بالصحائف التي فيها الأعمال [التي] لم يعملوها. فيقرؤها المؤمن فيقول : وعزّتك إنّا لم نعمل منها شيئا! فيقول : صدقتم. نويتموها فكتبناها لكم. ثمّ يثابون عليها. رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره. (٣)

(عَلى شاكِلَتِهِ) ؛ أي : كلّ من المؤمن والكافر يعمل على طريقته وسنّته التي اعتادها.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٧٣ و ٦٧٢.

(٢) الكافي ٢ / ٨٥ ، ح ٥.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٦.

١١٥

(فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ) ؛ أي : إنّه يعلم أيّ الفريقين على الهدى وأيّهما على الضلالة. (١)

(شاكِلَتِهِ) : طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة. (٢)

[٨٥] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

عن أحدهما عليهما‌السلام في قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : التي في الدوابّ والناس. قلت : وما هي؟ قال : من الملكوت. كذا في تفسير العيّاشيّ. (٣)

وفي كتاب الاحتجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : الروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا. (٤) أقول : وفيه دلالة على عدم تجرّد الروح. وقد رجّحناه في شرحنا على التهذيب والاستبصار وأكثرنا من الدلائل عليه.

(عَنِ الرُّوحِ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : هو ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل. وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو مع الأئمّة عليهم‌السلام. (٥) يعني معهم يسدّدهم ويحدّثهم.

(عَنِ الرُّوحِ). عن ابن عبّاس وجماعة أنّ اليهود سألوه عن الروح الذي في بدن الإنسان ، ولم يجبهم لأنّهم كانوا متعنّتين في السؤال. وقيل : إنّ المشركين سألوه عن الروح الذي هو القرآن كيف يلقاك به الملك وكيف صار معجزا و [كيف صار نظمه و] ترتيبه مخالفا لأنواع الكلام؟ وقد سمّي القرآن روحا في قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا). (٦) فقل يا محمّد : إنّ القرآن من الدلائل على نبوّتي ولا يدخل في إمكان الخلق. فالجواب قد وقع موقعه. والروح عند أكثر المتكلّمين جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان. وإليه ذهب المرتضى. وذهب المفيد إلى أنّها عرض وهو الحياة التي يتهيّأ بها المحلّ

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٧٣.

(٢) الكشّاف ٢ / ٦٩٠.

(٣) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣١٧ ، ح ١٦٣.

(٤) الاحتجاج / ٣٤٩.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٦.

(٦) الشورى (٤٢) / ٥٢.

١١٦

لوجود القدرة والعلم. (١)

(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : تفسيرها في الباطن أنّه لم يؤت العلم إلّا أناس يسير ، فقال : وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا منكم. (٢)

(عَنِ الرُّوحِ). الأكثر على أنّه الروح الذي في الحيوان ، سألوه عن حقيقته وأخبر أنّه من أمر الله ؛ أي : ممّا استأثر بعلمه. بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ؛ فإن أجاب عنها أو سكت ، فليس بنبيّ ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض ، فهو نبيّ. فبيّن لهم القصّتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة ، فندموا على سؤالهم. (وَما أُوتِيتُمْ). الخطاب عامّ. وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصّون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال : بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلّا قليلا. فقالوا : ما أعجب شأنك! ساعة تقول : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(٣) وساعة تقول هذا! فنزلت : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ). (٤) [و] ليس ما قالوا بلازم. لأنّ القلّة والكثرة تدوران مع الإضافة ، فيوصف الشيء بالقلّة مضافا إلى ما فوقه وبالكثرة مضافا إلى ما تحته. فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها ، إلّا أنّها إذا أضيفت إلى علم الله ، فهي قليلة. وقيل : هو خطاب لليهود خاصّة. لأنّهم قالوا للنبيّ عليه‌السلام : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة ، وقد تلوت : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) فقيل لهم : إنّ علم التوراة قليل في جنب علم الله. (٥)

[٨٦] (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦))

(بِالَّذِي أَوْحَيْنا) ؛ أي : لو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك وصدر أمّتك حتّى لا يوجد له أثر ، ثمّ لا تجد حفيظا يحفظ ذكره على قلبك. وفيه دلالة على أنّ السؤال وقع عن القرآن. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٧٤ ـ ٦٧٥.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣١٧ ، ح ١٦٤.

(٣) البقرة (٢) / ٢٦٩.

(٤) لقمان (٣١) / ٢٧.

(٥) الكشّاف ٢ / ٦٩٠ ـ ٦٩١.

(٦) مجمع البيان ٦ / ٦٧٦.

١١٧

[٨٧] (إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

(إِلَّا رَحْمَةً) ؛ أي : إلّا أن يرحمك ربّك فيردّه عليك. وعن ابن مسعود : انّ هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء ، ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب. (١)

(إِلَّا رَحْمَةً) ؛ أي : لكن رحمة من ربّك أعطاك ما أعطاك وأثبت القرآن في صدرك وصدور المؤمنين. (كَبِيراً) إذ اختارك للنبوّة. (٢)

[٨٨] (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨))

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ) ـ الآية. في أعلام أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر من الدهريّة اتّفقوا أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن ، وكانوا بمكّة وتعاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل. فلمّا حال الحول واجتمعوا في مقام إبراهيم ، قال أحدهم : إنّي لمّا رأيت قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ)(٣) كففت عن المعارضة.

وقال الآخر : لمّا وجدت قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)(٤) آيست من المعارضة. وكانوا يسترون ذلك إذ مرّ عليهم الصادق عليه‌السلام فقرأعليهم : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ) ـ الآية. فبهتوا. (٥)

(بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ). أي في فصاحته وبلاغته وتهذيب معناه. وفيه تكذيب للنضربن الحارث حين قال : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا). (٦)(ظَهِيراً) : معينا على ذلك. (٧)

[٨٩] (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٦٩١.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٦٧٦.

(٣) هود (١١) / ٤٤.

(٤) يوسف (١٢) / ٨٠.

(٥) نور الثقلين ٣ / ٢٢٠.

(٦) الأنفال (٨) / ٣١.

(٧) مجمع البيان ٦ / ٦٧٦.

١١٨

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) ؛ أي : رددنا وكرّرنا. (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ؛ أي : من كلّ معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. (١)

(صَرَّفْنا) ؛ أي : بيّنّا لهم الأمثال. (إِلَّا كُفُوراً) ؛ أي : جحودا للحقّ. (٢)

[٩٠] (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠))

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ). النزول : قال ابن عبّاس : إنّ جماعة من قريش اجتمعوا عند الكعبة فبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلمّا أتى إليهم قالوا له : يا محمّد ، إنّك أدخلت على قومك ما أدخلت ؛ شتمت الآلهة ، وفرّقت الجماعة. فإن كنت تطلب مالا ، أعطيناك. وإن كانت لك علّة ، طلبنا لك الأطبّاء. قال : بل بعثني الله إليكم رسولا وأنزل كتابا. فإن لم تقبلوا أصبر حتّى يحكم الله. قالوا : فإذن ليس أحد أضيق بلدا منّا. فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال ويجري لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق وأن يبعث لنا من مضى ـ وليكن فيهم قصيّ ، فإنّه شيخ صدوق ـ لنسألنّهم عنك أحقّ أم باطل. فإن لم تفعل ، فاسأل ربّك أن يبعث لنا ملكا يصدّقك ويجعل لنا جنّات وقصورا وكنوزا من ذهب. فإن لم تفعل ، فأسقط علينا السماء كما زعمت أنّ ربّك قادر على ذلك. وقال قائل منهم : لا نؤمن لك حتّى تأتي بالله والملائكة قبيلا. وقال عبد الله بن أميّة المخزوميّ ابن عمّته عاتكة : لا أومن لك حتّى تتّخذ سلّما إلى السماء ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك وكتاب يشهد لك. فنزلت. (حَتَّى تَفْجُرَ). قرأغير أهل الكوفة بضمّ التاء وتشديد الجيم. (تَفْجُرَ) ؛ أي : تشقّق من أرض مكّة عينا ينبع منه الماء. (٣)

[٩١] (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١))

(خِلالَها) ؛ أي : وسطها (تَفْجِيراً) حتّى يجري الماء تحت الأشجار. (٤)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٦٩٢.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٦٧٦.

(٣) مجمع البيان ٦٧٧ ـ ٦٧٩.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٦٧٩.

١١٩

[٩٢] (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢))

(كِسَفاً). ابن كثير بسكون السين. (كِسَفاً) ؛ أي : قطعا قد تركت بعضها على بعض. (كَما زَعَمْتَ) ؛ أي : كما خوّفتنا [به] من انشقاق السماء وانفطارها. (قَبِيلاً) ؛ أي : كفيلا. أي يكون كلّ واحد كفيلا ضامنا لنا حتّى نشاهدوه فيشهدون لك. وهذا يدلّ على أنّهم كانوا مشبّهة. (١)

[٩٣] (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

(فِي السَّماءِ) ؛ أي : معارج السماء. فحذف المضاف. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام (كِتاباً نَقْرَؤُهُ) يقول : من الله إلى عبد الله بن أبي أميّة أنّ محمّدا صادق وإنّي أنا بعثته ويجيء معه أربعة من الملائكة يشهدون أنّ الله هو كتبه. فأنزل الله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً). (٣)

(كِتاباً نَقْرَؤُهُ) فيكون فيه تصديقك. (سُبْحانَ رَبِّي). تعجّبا من اقتراحاتهم ، أو تنزيها لله من أن يأتي أو يتحكّم [عليه] أو يشاركه أحد في القدرة. (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً) كسائر الناس (رَسُولاً) كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلّا بما يظهره الله عليهم على ما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكّموا على الله حتى يتخيّروا. وهذا هو الجواب الجمل. أمّا التفصيل ، فقد ذكر في آيات أخر كقوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ)(٤)(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً)(٥). (٦)

(مِنْ زُخْرُفٍ) ؛ أي : من ذهب. (أَوْ تَرْقى) ؛ أي : تصعد. (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً). معناه : انّ هذه الأشياء ليست في طاقة البشر أن يأتيها وأن يفعلها. فلا أقدر بنفسي أن آتي بها كما يقدر من

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٦٧٧ و ٦٧٩.

(٢) الكشّاف ٢ / ٦٩٣.

(٣) تفسير القمّيّ ٢ / ٢٧.

(٤) الأنعام (٦) / ٧.

(٥) الحجر (١٥) / ١٤.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٨٢.

١٢٠